الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: النهر الرابع

دلور ميقري

2023 / 9 / 26
الادب والفن


1
كتبَ ميخائيل في تذكرته: " إغفاءتي المُبتسَرَة، المُضطربَة الحُلم، اوقِظتْ على هديل الحَمام، المُتناهي ترتيله من الأبراج المُشيّدة على سطح الدور الأعلى للقصر. إنّ هؤلاء المصريين، فكرتُ دونما نيّةٍ سيئة، مُغرَمونَ بتدجين شتى أنواع الطيور، الصالحة للأكل؛ حتى لو كانَ لحمها من الندرَة والشحّ ـ كما في الفصيلة اليماميّة، المَبخوسَة الفأل: هذه الفكرة، إذاً، طرأتْ لذهني في ذلكَ الفجر الفجّ؛ المُعقب سَهرة ً أنيسَة من تلك السهرات المُتواترة، التي دأبَ مُضيفنا على الإحتفاء بها في بيته الكبير، المُعتبر ".
لقد لاحَ مما سبق، وكأن ميخائيل غير آبه للحدث الجلل، المتمثّل أولاً بسقوط عكا بيد الغازي المصري، الذي لم يشأ الإستراحة بالرغم من أشهر الحصار الممضة، فإندفع شمالاً بإتجاه دمشق. منذ نحو عامين، كان معروفاً للجميع تقريباً بنيّة محمد علي باشا في الإستيلاء على بلاد الشام. على ذلك، نفهم لِمَ إستهل صاحبُ التذكرة هذا الفصل بحديث أكثر خصوصية، متواشج مع إقامته الطارئة في قصر القاروط. في حقيقة الحال، أن إقامته ثمة كان لها سببان. الأول، أن قوة كبيرة من عسكر الولاية، قد إتخذوا أماكنهم وراء أسوار الحي المسيحيّ، وذلك في حالة إتيان جيش الغازي المصري من ناحية جنوب دمشق. أما السبب الثاني، فإنه كانَ من باب الإحتياط ما لو فكّر الوالي الجديد، " علو باشا " بإعتقال ميخائيل وبحري بك، على خلفية علاقتهما بالأمير بشير، المتعاطف مع المصريين. ومع أن القاروط كانَ محسوباً على هؤلاء الأخيرين، لم يجرؤ الوالي على المس به لكونه وكيلاً لأعمال محمد علي باشا أو ربما صدّق زعمه بقطع الصلة معه ـ كما سبقَ وأكّد لمجلس العمومية في إبان عودته من مصر مع الآغا العطّار. على أية حال، كان علو باشا في غاية الإضطراب، طالما أنهم لم يظهروا أبداً، عيونه المرسلين لمعرفة الطريق، الذي سيسلكه المصريون بإتجاه دمشق. وإذا هم قد أضحوا على أبواب الحاضرة، بمرورهم من البقاع مع ما حشدته الإمارة اللبنانية من رجال. في تلك الناحية، كانَ يُعسكر شمّو آغا مع بضعة مئات من رجاله الأكراد مع من إنضم إليهم من الدالاتية واللاوند، بقيادة آغا يقيني. وقد دهش هؤلاء لمرأى المدفعية الثقيلة والآلات الحربية الأخرى، المحملة على العربات. فما أن تساقطت أولى القنابل على المعسكر الشامي، إلا وولى أكثر أنفاره الأدبار. كانَ من المفترض أن ينسحب شمّو آغا والدالي باشا إلى حمص، أين يُرابط الجيش الرئيس، المحشود من لدُن الولايات المجاورة. لكن أحدهما ذهب إلى داره، الكائنة في صالحية الأكراد، بينما الآخر عاد إلى القلعة كي يقول للوالي ببساطة: " لا تأملنّ بمجابهة المصريين، المدججين بأحدث الأسلحة، بعساكرك المعتادين على السلاح الأبيض وعلى النهب والسلب قبل كل شيء! "
" لو لم يكن الوضع بهذا الحَرَج، لكان لي شأنٌ آخر معك أنت وذلك الخائن، شمّو آغا "، هتفَ الوالي وهوَ يتميّز غيظاً. إلا أنه، في آخر الأمر، عمل بنصيحة آغا يقيني، فسحب قواته من دمشق وسار بها إلى حمص. ما لم يُدر بخلده، أن عباس باشا، حفيد عزيز مصر، كانَ قد سبقه إلى تلك الأنحاء كي يُحكم الكمّاشة. هكذا تاه علو باشا مع عسكره لعدة أيام في أطراف البادية، فلم يصل إلى مدينة حماة إلا بشق النفس. في هذه الأثناء، إنتهت مسيرة إبراهيم باشا في دمشق عقبَ تبادل أعيرة نارية متفرقة مع بعض الأنفار، المتحصنين وراء الأسوار. فما لبث أن دخل إلى القلعة، ليتربع في دوانها وينصت لقصائد الشعراء، الذين هُرعوا إليه مع الأعيان والأشراف ورجال الدين. فكم كانت دهشة هؤلاء الأخيرين عظيمة، حينما وجدوا رجال الدين المسيحيّ قد سبقوهم في الحضور. تلك، كانت سابقة لم تحصل في الشام ربما منذ إستيلاء المسلمين على المدينة.
" ليكن بمعلوم الجميع، أنّ أحمد بك سيكون نائبي في الولاية السورية. ومن يعصى أوامره، أعدّه خصماً للدولة ويشنق دونما محاكمة بما أننا في حالة حرب "، قال إبراهيم باشا بنبرة هادئة وحازمة في آنٍ معاً. إتجهت الأنطارُ عندئذٍ إلى المعنيّ، القاروط، وكانَ منتحٍ عنهم وأقرب إلى مجلس الغازي. هؤلاء، كانوا يديرون في أذهانهم أيضاً، تعابيرَ يسمعونها لأول مرة؛ نظير " النائب "، و" الولاية السورية "، و" المحاكمة ".
ثم أردف الغازي المصري، الذي كانَ يتكلّم بالعثمانية: " سمعتُ أنكم إنتخبتم مجلساً لإدارة أمور المدينة، وذلك في أعقاب ثورة الأهالي على الوالي السابق. هذا تصرفٌ معقول، لكن الحاجة إليه إنتفت الآنَ. على ذلك، أرغبُ أن تساعدوني في إختيار أعضاء لمجلس جديد كي يعين نائبي في إدارة المدينة ". لم يكن أيّ من أعضاء مجلس العمومية حاضراً، بإستثناء القاروط، وكانَ قد عيّن غبّ إيابه من مصر مؤخراً. وعلى أية حال، فإن من بقي من المجلس عداه، كانَ الزعيم الشاملي وكبير حي العمارة، المعروف ب " العريان "، علاوة على شمّو آغا والدالي باش واليرلي باش وصاحبنا العطّار.
كانَ هذا الحديث في أوج شهر حزيران/ يونيو، وحرارة الصيف شديدة. لذلك كانَ واضحاً تأثّر الغازي بالجو، علاوة على التعب. قبل أن يأمر بفض الإجتماع، أبدى ملاحظة عابرة؛ لكنها وقعت كالصاعقة على رؤوس ممثلي المدينة: " المجلس سيكون من سبعة أشخاص، تنتخبون خمسة منهم وأنا أعين إثنين. شريف باشا، مساعدي، أحدهما، والآخر هو الدكتور ميخائيل ". كانت هذه أيضاً، المرة الأولى، يتسنّم فيها رجلٌ نصرانيّ هكذا مسئولية في إدارة الولاية. هكذا أمر، ولا غرو، كانَ ليتسبب في ثوران العامّة لو حصل فيما مضى. لكن الأيام مرت، وأكتفى المُغتاظ بكبت مشاعره داخل نفسه مع التمتمة بأننا نعيش في أوان قرب يوم القيامة.

2
مرهقاً مما تنزّه عن سَهرة الأمس، تناهض ميخائيل مُتمطياً بكسلٍ عريق، داجاه مذ إنصرافه عن مهنته إلى الإنشغال بأمور الساعة. أسقط عنه الملاءات الحريرية، المُوافقة نصاعتها تلبيسَ السرير، الفضيّ، علاوة ً على طغرائه المَشغولة من المَعدن عينه والمُصوِّرَة شكلَ الجعران. حينما أزاحَ السَدائفَ السميكة، المُدبّجَة، المُنسَدِلة على نافذة الحجرَة، فإنّ عينيه أعشيتا بنور مُبهر، مُتسلط عبْرَ الزجاج الملوّن. كانَ حلقه جافاً، تأثراً بالصَهباء الناريّة، المُتكرّم بأقداحها المُضيف خلل الأمسية المُنقضية. على ذلك، فإنّ الحركة التالية ليَده، كانت مُتجهَة ولا غرو نحوَ الخوان القريب، الموضوع فوقه إبريق الماء العذب.
" آه، ذلك الخنجر اللعين.. "، هتفَ سرّه مُشوّشاً ومُرتبكاً. كان عندئذٍ ساهِماً يلتقط شواردَ نقوش الجدار المُقابل، حينما حط بصره على قطع الأسلحة، المَنذورَة للزينة، والمُتدلّية ثمة بوساطة سلاسلها المُذهّبَة أو المُفضضة. نعم. لقد شاءَ أحدُ القطع تلك، المَعلومة، أن يُذكّره بسميّه ذاك؛ الذي سبَقَ أن عثر عليه، بمَعيّة بحري بك، هناك قربَ مَخرَج المَمرّ السرّي، المُتصل بمنزل الزعيم. اسمُ هذا الأخير، كانَ مَنقوشاً بأحرف عربية، بيّنة، على مَقبض الخنجر، المَصنوع من مادّة العاج. إذاك، لم يكن منه سوى التعجيل بلقاء صاحِبهِ، بغيَة الاستفهام منه، شخصياً ،عن جليّة الأمر المُحيّر، المُلغز. وها هوَ ذا، هنا، في قصر القاروط، يستعيدُ ما كانَ قد جرى قبل يومَيْن، ثمة في دار عبد الطيف أفندي؛ أين أقام صهرُهُ وحفيدتهُ بشكلٍ مؤقت: في واقع الحال، فإنّ شمس أيضاً كانت مَدعوّة للإقامة هناك، وربما تحت ضغط إلحاح صديقتها العنيدة، نرجس.

كانَ الشاملي، وبمَحض المُصادفة، هوَ أوّل من وقعَتْ عينُ ميخائيل عليه ثمة، قدّام بوابة المنزل، المُنيفة. ويبدو أنه انتهزَ سانحَة انحسار شمس الهاجرة، للمُبادرَة بسقي أحواض الأزاهير، القائمة عند ذلك المدخل، والمُتوّجَة بمليكتها؛ زهرة القرطاسيا. شتلات هذه الأخيرة، القصيرة القامَة، كانت تحتمي بشجيرات الدفلى، الحارسة. وحقّ للدفلى تلك الصّفة؛ هيَ من تتسامقُ بأغصان دقيقة على طرَفيْ درَج باب المنزل، الرئيس، مُشرعَة ً رماحَ المَنظر الفريد لأوراقها الخضر، الداكنة، وأزاهيرها المونقة، الزاهيَة الألوان. عمودا الدرَج الرخاميان، المُتوّجان بدورهما على النمط الصقليّ، كانا مُتلازميْن بعموديْن آخرَيْن، نباتييْن؛ ونعني بهما النخلتيْن العملاقتيْن، اللتيْن يحملُ كلّ منهما عناقيد البلح، غير الناضجَة بعدُ.

" سعيدٌ برؤيتكَ عندنا، يا آغا "، خاطبه الزعيمُ بلهجة ودّية. مَلمحُ الدهشَة على قسماته، كانَ قد اُشفِعَ بابتسامَةٍ عَريضة، ما كانَ لها إلا أن تثير امتعاض القادم، الخفيّ: " إنه يعتقدُ، على الأرجح، إني أحملُ له خبَراً ما، جديداً، من طرَف القاروط "، قال في نفسه. بيْدَ أنّ شعوره هذا، المَوصوف، سرعانَ ما تبدّدَ حينما تفكّر بسبب زيارته لمنزل حمي الزعيم.

" ها هيَ همّتكَ، يا سيّدي، ما فتأتْ موطوءة بشغفِ العناية بالجنائن "، أجاب ميخائيل تحيّة كبير الأعيان متبسّماً بدوره. فقالَ له مُلاحِظاً : " إننا نردّدُ، يومياً، في الدَعوَة للصلاة، هذه الجُملة البليغة: " حيا على الفلاح ". كذلكَ، فإنّ مُفردَة " الجنينة " ، بالعربية ، مُشتقة من مصدَر " الجنّة " ـ كما عَلِمتُ مرّة ً من أحد العارفين باللغة "

" أما مُفردة " الجنّ " ـ بحَسَب ما أفادَني به مُعلّمي النطاسيّ ـ فإنها دخيلة على العربيّة؛ وأصلها مفردة أعجميّة " جان " ؛ وتعني " الروح " : وعلى ذلك ، يُدرك المرءُ مغزى أن تكونَ ثمة أرواحٌ شريرة وأخرى خيّرة "، أوضحَ لمُحدّثه. عندئذٍ أشارَ الزعيم إلى ناحيَة الحَوض، الأقرب إلى موقفهما، قائلاً : " إنّ أسماءَ الزهور العربيّة، مُعظمها أعجَميّ المَصدر، أيضاً. فالعَرَبُ كانوا بُداة ، وأهلَ بجدَة رعيَ الإبل بدرجة أساسيّة ". إذاك ، خطرَ لميخائيل تلقائياً عَبَثُ تعريب اسم " شمس " ، الأصليّ ( روشين ) ، فيما أنّ ابنتيْ الزعيم نفسه؛ موسومٌ كلّ منهما باسم زهرة من أبدال لغاتِ العَجَم: هذه الفكرَة، العابرَة، كانتْ سبيله إلى المَضيّ قدُمَاً في الحديث مع كبير المجلس؛ ما دامَ ذِكرُ تلكَ المُدرّسَة، السابقة، قد ذكّرته بذلك العشّاب، العجوز؛ الذي وقعَ صريع طعنات خنجرٍ قاتل ٍ، مَجهول.

كانَ مُحدّثه يتأمّلُ زهرةَ قنديل، مَزهوّة بقمْعِها الليلكيّ اللون، حينما سأله ميخائيل بنبرَة بريئةٍ : " لا بدّ أنكَ تحنّ إلى تلك الحديقة، الحافلة، التي خلّفتها وراءكَ ثمة؛ في مدرسة الحديث البرّانية؟ ". تطلعَ إليه الزعيمُ بنظرةٍ خاطفة، قبل أن يُجيبَ باقتضاب وبشيء من الفتور: " أجل، ولا شك ". ثمّ ما لبثَ أن أضافَ: " ربما نزورها بمعيّتكَ، لو شئتَ يا آغا. وذلك نشكر كبيرَة الحافظات "
" بكلّ سرور، يا سيّدي، ولو أنه محظورٌ دخول النصارى إلى هكذا أماكن "

" أهوَ الحنينُ، ما دَفعَ صاحبنا العطّار للعودة إلى منزلي في القنوات، المُدمّر والمَهجور؟ "، ندّتْ عنه بلهجةٍ مُظهَّرَةٍ بالشجَن. وحينما نشدّد على الظاهر في جُملة الرجل، فلأن الملاحظ أنها تتبطنُ الاهتمامَ، والتوجّسَ ربما. بيْدَ أن ميخائيل، أوضح بالقول: " لم يكن العطّار معي، وإنما بحري بك. لا أدري أكنتُ مَحظوظاً، حقاً، حينما عهد إليّ العطّار بمتابعة تقصّي القاتل، كون سفره بات وشيكاً؟ "
" إنها مهمة مقدّسة، لو أفضت للإيقاع بالقاتل سواء أكان شخصاً واحداً أو عدة أشخاص. لأن ذلك، كما المأمول، سيرأب الصدع في مجلس العمومية ويعيد القول إلى جانبنا بعدما خاصمونا على أثر مقتل آمرهم مسموماً "، قال الزعيم. لقد وفرَ على ميخائيل جُهدَ تحيّن سانِحَةٍ، مُناسِبَة، لكي أيِج في الموضوع الخطِر، المُستطير، الذي كان مُهتمّاً به بشدّة؛ ألا وهوَ موضوع الخنجر.
من جهته، فإنّ الزعيمَ بذكائه وفطنتِهِ حَدَسَ أنّ موضوعاً ما، على جانبٍ من الأهمية، عالقٌ على طرَف لسان الضيف. فما كانَ منه، مُشيراً بيده، إلا دَعوَته للجلوس على كرسيّ خشبيّ، مَجدول بالقنب. فلما قعَدَ بدوره، أضحى فضولهُ بيّناً. ولكن الضيفَ، مُتحفظاً من امكانيّة سوء الفهم، فضل أن ايُشرع بصَرهُ أولاً باتجاه ما يُحيطه من مناظر الجنينة هذه، الأماميّة، المُغرّد في أرجائها ألفُ طائر من طيور الجنّة.

" إنّ الجرائمَ، المُدبّرَة، شفعَتْ وجود صاحبنا العطّار في منزلكم العامِر، كما في دار الحديث تلك، على السواء "، بدأ يقولُ للزعيم. مُنتقياً كلماته بدقة، أضافَ من ثمّ: " علمتُ أنك لم تتفق معه في حقيقة، أنّ ثمة رابطاً يَجمَعُ بين تلك الجرائم؛ خصوصاً، ما يَخصّ تسميم المرحوم قوّاص آغا ". أجابَ الرجلُ إثرَ هنيهة من التفكير: " كانَ ذلك الرأيُ مَشروعاً، حينما تعلّقَ الأمرُ بدسّ السمّ للمرحوم آغا أميني؛ بما أنه أدى إلى انفجار الخلاف في مَجلس العمومية وتمرّد القول علينا. أما ما جرى فيما بعد، فإنه أمرٌ مُختلفٌ تماماً: فمن له مَصلحة، بالله عليكَ، بالتخلّص من آمر عسكريّ، سابق، أو من عشّابٍ عجوز؟ "

" أنتَ قلتها بنفسك، يا سيّدي. أعني، أنكَ وَسَمْتَ ذلك بالجريمة؛ ما دامَ الفاعلُ كانَ يبغي التخلّص من الرَجليْن "

" صحيح، ولكنّ هذا لا يَعني أنّ دافعَ القتل، هنا وهناك، كانَ واحداً. وبالتالي، فليسَ ثمّة ما يُبرّر الاعتقاد بأنّ مقتلَ العشّاب، مثلاً، تمّ على يَد القاتل ذاته؛ الذي صَرَعَ وصيفي "

" اسمح لي، أيها الزعيم، بمُخالفتكَ في الرأي هنا، في هذه النقطة. فحينما يكون موتُ قوّاص آغا قد تمّ بالسمّ، كما تبيّن قطعاً، فعلينا أن نربُط ذلك بمصرَع العشّاب؛ هوَ من كانَ يَحتفظ ببعض أنواع السموم، المُركّبَة، بُغيَة استخدامها في عَمَلِهِ "، قالها ميخائيل وهوَ يحدّقُ مَلياً في ملامح مُحدّثه. وكانَ هذا، مثلما أفصَحَتْ عنه ملامحِهِ، قد بدأ يتأثر بما قدّمَ من برهان. على ذلك، ما عتمَ أن تململَ في جلسته، ليُبادرَ بعدئذٍ بالقول: " إذا كنتُ قد فهمت كلامكَ بشكل صائبٍ، فإنكَ تبغي البرهنة على أنّ المُتورّط بتلك الجرائم، الأربع، هوَ أحدُ أفراد بيتي. وأنّ ذلك القاتل، المُفترَض، كانَ خالي اليَد من مادّة السمّ، عندما حَضرَ إلى مدرسة الحديث. فما كانَ منه، إذاً، إلا مُحاولة تدبّرَ المادة من حجرة العشّاب العجوز. حتى إذا أحسّ هذا به، فإنّ القاتلَ تخلّصَ منه بطعنة خنجر. أليسَ كذلك؟ "
" أجل، ولكن بشكلٍ جزئي. فأنا لم اسَمِّ أحداً من أهل بيتكم، المُحترمين، بكونهِ القاتل المُحتمَل. وعلى كلّ حال، فإنّ تسميمَ آمرَيْ الانكشاريّة، السابقيْن، قد تمّ كلّ منهما بحضور أركان المجلس وآخرين، أيضاً "
" سأفترضُ معكَ، أنّ ثمة علاقة بينَ مَصرَع العشّاب وبين دسّ السمّ للمرحوم قوّاص آغا. فماذا عن مَصرَع وصيفي نفسه؟ "، تساءل الزعيم. إذاك، كانت اللحظة سانحَة، كما قدّر ميخائيل، لكي يمدّ يَده إلى الحزام الجلديّ، الذي يَشدّ سرواله.

3
" إنّ وصيفكَ، يا سيّدي، صُرعَ بهذا الخنجر "، خاطبَ ميخائيل الزعيمَ بهدوء فيما يعرضُ على ناظرهِ تلك الأداة القاتلة. ما أن وقعَ بَصَرُ الرجل على الخنجر، حتى تغيّرَ لونهُ بشكل واضح ٍ، لا لِبْسَ فيه . فبادرَ بحَرَكة مُسَرْنم ٍ، غائبَة، إلى تناول غرَضِهِ، ليَعمُدَ من ثمّ إلى تفحّصِهِ عن قرب. عند ذلك، كانَ الصّمتُ المُتواطيء، المُريب، قد بدأ يَسعى حثيثا إلى المَكان. من جهته، حادّ الضيفُ ببصَره عن سِحنة الزعيم، كيلا يُضافر من حَرَج الموقف. عندئذٍ، تنبه إلى تصرّفه غير اللائق عندما لم يطلبَ اعلام عبد اللطيف أفندي بحضوره إلى منزله. إذ تناهى لسَمَعه وقعُ خطواتٍ على الأرضيّة الحجريّة، الضيّقة، التي تفصِلُ بين حَوضيْ الحديقة الأماميّة هذه، الرئيسَيْن.

" أهلاً وسهلاً ، يا حكيم "، حيّاه الأفندي بلطفه المأثور، المُتواشِج باسمِهِ. بعدما استلّ لمحَة ً من الخنجر، الموضوع على المنضدة الصغيرة، فإن بَصَرَهُ المُتنقِلُ بينَ ضيفيْه ما عَتمَ أن راحَ يُشكّلُ علامَة استفهام ٍ بيّنة. من ناحيته، كان ميخائيل سعيداً بحضور الأفندي، ومُتأملاً بالتالي أن يُشارك في حمل وزر هذه المعضلة، بما عُرفَ عنه من عقل كبير، مُتنوّر. لم يكن لديه شكّ، وقتئذٍ، ببراءة الزعيم ؛ وأنه ليسَ ذاكَ الشخص الساذج، الذي يَرمي أرضاً أداة قتل، مُفترَضة، نقش على قبضتها اسمُ وجاهتِهِ، المَعروف. مُدركاً ، بطبيعة الحال، أنّ الزعيمَ قد سبقَ وأفضى لحَميه بتفاصيل وافيَة عن الأمر، فإن ميخئيل توجّه لهذا الأخير قائلاً : " لنا الشرف، يا سيّدي. واعذرني ما لو أهملتُ واجبَ إعلامكم بمجيئي. فالحقيقة، أنّ ذهني كانَ مَشغولاً مذ لحظة وصولي لداركم العامِرَة ". فما أن قال ذلك، حتى بادرَ الأفندي إلى رفع الخنجر إلى مستوى عينيه، ثمّ أخذ يَتفحّصَهُ باهتمام. وعلّقَ الصهرُ على كلام الحكيم، فيما كانَ وجهُهُ ما فتأ مُكفهراً : " إنه أحَدُ قطع الأسلحة، التي أملكها، والتي يَحمِلُ كلّ منها العلامة عينها: نقشُ لقبي ". قالها، وما لبثَ أن أشفعَ ذلكَ بمدّ يَدِهِ إلى وَسَطِهِ، ليُخرجَ خنجرَهُ الشخصيّ. مُحرَجاً بشدّة، تناول الحكيم السلاحَ من يَد الزعيم ، ليقرأ من ثمّ النقشَ المَحفور على قبضتِهِ الخشبيّة، المُلبّسَة بالجوهر الثمين.

هكذا، عَرَضَ على الحاضرَيْن موجَزاً عن واقعَة اكتشافِ الخنجر، حاذفاً منها ولا غرو أيّ تلميح ٍ عن النقش ذاك؛ الذي يُصوّر الذكر المُصنّع، والمَحفور بدورهِ على جذع التينة القائمَة قربَ مَخرج المَمرّ. غبَّ فراغه من الكلام، التفتَ الأفندي نحوَ صهره مُتسائلاً: " ألم تؤكّدَ لي، ذاتَ يوم، أنّ مفتاحَيْ بابَيْ الممرّ ذاك، السرّي، كانا نسختيْن عن الأصل، حينما عثرتَ أنتَ عليهما قربَ جثة وصيفكَ؟ ". لمّا اكتفى الزعيمُ بايماءةٍ من رأسِهِ، مُوافقة، فإنّ حَميه أردفَ من فورهِ: " فأنا أفترضُ، إذاً، أنّ أحدهم قد استعملَ النسخة الأصل من المفاتيح تلك، حتى يتمكنَ من النجاة بنفسِهِ في وقت الواقعة، المَعلومَة؛ حينما دَهَمَ أفرادُ الأورطات منزلكم ". فرضيّة الأفندي، كان قد نقشها في ذهنه قبلاً، بصَبر ورويّةٍ. فلا ريبَ أنه شعر بالفرح لأنّ ذهناً مُتوقداً بالذكاء، يُشاركه في الاستنتاج نفسه.

" بهذه الحالة، يَجوزُ لنا الافتراض بأنّ قتلَ الوصيف كانَ مُدبّراً. أيْ أنّ من استعملَ المفاتيحَ تلك، الأصلية، هوَ من تخلّصَ من الرجل حينما التقى به، اتفاقا، قربَ باب الممرّ، خشية َ أن يَفضحَ أمره "، واصلَ الأفندي كلامَهُ. رفعَ الزعيمُ رأسَه أخيراً، بعدما كانَ مُطرقا طويلاً. مُتنحنحاً كعادَتِهِ، ما لبثَ الرجلُ أن أظهرَ الرغبة بالتعقيب على ما سَمِعَهُ من رأي، وعلى ذلك قالَ دونما انفعال: " أعترفُ لكما، يا صديقيّ العزيزيْن، أني أكثر حيرة من غيري، فيما يخصّ مَغامِض هذه الجريمة، المُفتتحَة سلسلة القتل ذبحاً وسُمّا. ويبدو لي أنّ الآغا، العطار، كانَ مُحقا منذ البدء؛ لما افترَضَ أنّ الجريمة مُرتبطة بلغز كناش البرزنجي، المَفقود. وكانَ لي مُبرري، بطبيعة الحال،عندما سبقَ وأوحَيتُ بأنّ موتَ قوّاص آغا كانَ مَسألة عارضة، مُدبّرة من لدن إحدى جواري مُنافسِهِ؛ المرحوم آغا أميني. إذ كنا وقتذاك في غمرَة الانشغال بترميم مجلس العموميّة، فخشيتُ أن يُحبط مَسعانا إذا ما تركنا عملنا جانباً ورُحنا نتقصّى أمرَ تلك الجريمة الجديدة، خصوصاً ما لو دَخلَ في أذهان الأعضاء أنّ ثمة قاتلاً ما فتأ طليقاً، يتربّصُ بهم واحداً بأثر الآخر ". سكتَ الزعيمُ وهوَ يلهثُ قليلاً، ثمّ مدّ يَدَه إلى إبريق الماء، الزجاجيّ، ليصبّ منه في قدَح بمُتناوله. وكان الحكيم يرقبُهُ بتأثر، طالما أنه أبدى إلى النهاية ثقته في التحريات. عندئذٍ عادَ الرجلُ إلى استئناف حديثه: " إنّ الشخصَ الذي استعملَ المفاتيحَ، في ليلة الأورطات تلك، ربما يكونُ هوَ ذاته من ادّعى، فيما بعد؛ بأنه تاهَ ليلتئذٍ في أزقة حيّ القنوات، لدى هرَبهِ من الدار: إنه ذاكَ المَملوك، الروميّ ".

" سامحني، يا وَلدي "؛ هذه الجُملة، كانت زوجة الزعيم الراحلة قد خاطبَتْ بها يوماً مَملوكها، الروميّ. وكانَ على ميخائيل استعادَتها مُجَدّداً؛ هنا، في قصر البك المَصري. وكانَ عليه، أيضاً، أن يتخيّلَ مَشهَدِ المملوك التعِس، حينما وَقفَ أمامَ ضرّة أمّه تلك، الضاريَة؛ التي كانت هيَ، على أغلب تقدير، من أمَرَ الوصيف باخصائِهِ، قبلَ ذلك اليوم ببضعة أعوام. وهوَ ذا عَقدٌ من السنين، على كلّ حال، شاءَ أن يَمُرَّ على جُرح ٍ غير مُندمِل، أوثجَ صاحِبَهُ بعِقدَةِ الإنتقام، الوثيقة العُرَى.

كذلكَ كان ميخائيل يفكّرُ، مُشتت الذهن؛ وهوَ هنا، في قصر القاروط ، وكانَ قد ترادَفَ على اقامته فيه اسبوعاً أو نحوَه. فالألغازُ راحَتْ تترى، مُذ أن فاجأ المضيفُ العطّارَ، خلال سَفرهما معاً إلى القاهرة، بأنّ الأوراق المُنتزعَة من كناش البرزنجي تضمّ سرّ الكنز. وما تبعَ ذلك من العثور على أداة القتل تلك، المُستعمَلة في قتل الوصيف، التي شاءَ سيّدُه، الشاملي، أن يُضافِرَ في مَعمياتها حينما وجّهَ إشارة إتهام، بيّنة، إلى المَملوك الروميّ. هذا الأخير، كانَ يُقيم مع رفيقه، الصقليّ، في منزل عبد اللطيف أفندي. وعندما كان ميخائيل قد توجّه إلى ذلك المنزل، فلأنه كانَ في نيّته اجتلاءَ تلك الألغاز، المَعلومة. علاوة ً طبعاً على ما سَبقَ من لغز علاقة شمس، المَزعومة، بالعشّاب؛ الذي قتلَ بنفس الطريقة، تقريباً، التي استخدمها المجرمُ، المَجهولُ، عندما جَندَلَ وصيفَ الشاملي.
من ناحيَة أخرى، علينا التنويه بأنّ المُضيف المَصري، لم تفتهُ وسيلة َتسليّةٍ، كانَ من المُمكن لها أن تجعل ضيفيه يسلوان ما كانا فيه من قلق ٍبيّن، مُقيم. ونعني بهما، الدكتور ميخائيل وصديقه، المَدعو حنا بَحري.

بدَورهِ، كانَ المُضيف يُعاني من عوارض القلق، مُذ الوقت ذاك، المُتجهّم، الذي آذنَ بانطفاء اسمِهِ رويداً بعدما سبقَ أن أسنى ساطعاً في سماء المدينة، المَنكوبَة بشتى ضروب الفوضى. وكانَ الخلقُ، سواءً من العامّة أو الأعيان، قد تداولوا عن القاروط جملة ً وافرَة من المآثرـ كما في مثال تحويل الأورطات إلى الوقوف في جانبِ المجلس، بُعيدَ هجوم أنفارهم على منزل الزعيم.
ولكن منذ أن عُرفَ دَوْرُ القاروط في تلك الرسالة، المشؤومَة، التي أرسلها مُوَكّلهُ، عزيزُ مصر، إلى أعيان الشام الشريف مُهدّداً إياهمُ ومُتوعّداً، فإنّ الحالَ قد تغيّرَ ولا غرو. بيْدَ أنّ القاروط، وإن كفّ أن يكونَ مَرجعَ أعيان المدينة، فإنّ علاقته بهم، وبالتالي بمجلس العمومية، ما جازَ لها أن تبترَ نهائياً. فكبيرُ الأعيان، الشاملي، من جهَتِهِ، كانَ يُدرك بأنه قريبٌ للغاية؛ ذلكَ اليوم، الذي سَيَطرقُ فيه عسكرُ العزيز أبوابَ البلد، السَبعة، غير المَحميّة بَعْدُ بنجوم آلهةٍ سَبعة، وَثنيّة.

" هَلمّ بنا، إلى حديقة الدار الأخرى، الخلفيّة، كيما تعينني في اجتناءِ أعشاب السَلطة "، هتفَ عبد اللطيف أفندي بلهجتِهِ المَرحة مخاطباً الحكيم. وكان هذا الأخير ما أنفك معه هناك، في القسم الأمامي من الحديقة بعدما انسَحَبَ الصهرُ، الزعيمُ، إلى هدوء بال حجرتِهِ الخاصّة، الكائنة في الدور الثاني. إذاك، كانوا قد أنهوا للتوّ مُناقشة موضوع الجرائم الأربع، الذي شاءَ اشغالهم ثانية ً إثرَ مُهلةٍ من الوقت، يَسيرة، تداولوا خلالها موضوعاً آخر؛ وهوَ رسالة العزيز، سالِفة الذكر.
من ناحيته، كان الحكيم مَحْروراً بهاجِس حِزمَة أوراق الكناش، التي سلّمها العطّارُ للأفندي، عندما كانا ثمة في إمارَة جبل لبنان. لقد كانَ بودّه، إذاً، الانفردَ معَ المُضيف، لكي يبثّ له ما كانَ القاروط قد أخبر به العطّار، بخصوص سرّ كنز الكنج؛ الموجود بحَسَب زعمِهِ طيّ تلك الأوراق. وكان الحكيم على ريبة بخبَر القاروط، لأنه سبقَ وقرأ ما كتبَه مؤلف الكناش، الشيخ البرزنجي، فلم يَستوقفه من سرّ الكنز شيئاً؛ اللهم إلا إشارة مُبهَمَة، لا تكادُ تعني شيئاً، عن إجتماعه في المدينة المنورة بإمرأة الكنج؛ " غوليزار "، والدة القاروط. وبما أنّ المُضيف، الأفندي، قد شارَك أيضاً في الاطلاع على مُحتوى حزمة الأوراق، المُنتزعَة من الكناش، فكانَ لا بدّ للحكيم أن يستفهمَ منه، مُجدّداً، فيما إذا كانَ قد عثرَ فيها على أمر ما، يَخصّ سرّ الكنز.

" لقد لحظتُ قبلاً أنّ كُمْنة أجفانِكَ، المُحمرّة، تفصِحُ عن نصَبِ ليلةٍ سابقة، مُسهِدَة "، قالَ له الأفندي ثمة في مَسكبَة الأعشاب اليانعة. إذ وفيما الحكيم مُتحفزٌ للانحناء على خيراتِ المسكبة، دهمه الدوّار على غرّة. وعلّقَ المُضيف على ذلك، بأن دَعاه إلى المضيّ، بدَوره، كي يحصلَ على نصيبه من الراحة مُشيراً بيَدَه إلى ذلك القسم من دارهِ؛ أينَ كانَ صهرُهُ مُقيماً. إلا أن الضيفَ طمأنهُ بأنّ هذا العارض، العابر، يَعوده أحياناً في فتراتٍ مُتباعِدَة. فما أن أنهى هذا الأخيرُ انتقاء المُراد من تلك الأعشاب، العَطِرَة، حتى رأيته قد لحَقَ بأثر الأفندي في المَمشى المُحجّر، المُفضي إلى مَطبخ دارهِ.

4
على الرغم من أنّ الشمسَ كانت قد غربتْ منذ سويعة، فإنّ الجوّ الفائض بالحرّ، هناك في المطبخ، كانَ ما فتأ يُذكّر المرءَ بحضور سَعادتها. على ذلك، مَضى به المُضيف نحوَ حجرَة مكتبهِ، المُقيمة في مكانَ ظليل، رَطِب، في الدور الأرضيّ. خلال مرورهما في الفناء الداخلي، لاحظ الحكيم بأنه خلا بعض الخدَم، الذين كانوا في حَركةٍ دائبَة هنا وهناك، فإنّ الدارَ كانت تبدو كأنها مُقفرَة من قاطنيها الآخرين. في واقع الحال، فإنه كان يتفكّر عندئذٍ بنرجس وصديقتها تلك، الحَميمة، ومَغزى اختفاء حضور كلّ منهما، مع أنّ وقتَ القيلولة قد فاتَ ولا رَيب. إنّ رغبته بلقاء شمس، المُلحّة، تتصلُ بمَغامِض مَصرع العشّاب العجوز .

شعورٌ بالندَم، مُتماهٍ بالاحباط، كانَ إذاك يَنتابه، طالما كان قد فوّتُ سانِحَة َ استلال أجوبَةٍ مُهمّةٍ، مُباشرةً من فم شمس؛ حينما كانا معاً ثمة، في بلدة دير القمر. أحياناً،فكّر ميخائيل، بأنّ الحاجَة الجَسَديّة، المُتعَطِشة، هيَ السببُ في تفويت المَرء، الشرقيّ، لحاجاتِهِ الأخرى، الأكثر أهمّية. فلا غروَ أن يغبط الأوروبيين، بما أنّ تلك الحاجَة غير مُحرّمة بعُرفهم: " وربما أنّ هذا هوَ سببٌ، أساسُ، من أسبابِ رُقيّهم وعلوّ شأنِهم ".

" أتشعُر بأنّ حالكَ أفضل، نوعاً ؟ "، سأله المُضيف فيما كانَ يمدّ كأساً من شراب الورد البارد. أومأ ميخائيل برأسه إيجاباً. وما لبثَ، طارحاً عنه همّ التفكير، أن أقبل على نهل جَرعاتٍ كبيرةٍ من الشراب، مُجيلاً عينيه بينَ رفوف الكتب العديدة، المُتناسِقة في خزانتها القائمَة خلفَ المكتب العريض، الغربيّ الطِراز، الرائع في تصميمِهِ ومادّتِهِ. شاعراً بالحيويّة، قال للمُضيف مُلاحِظاً: " أرى أنّ الكتبَ العربيّة، هنا في مَكتبتكم، أقلّ من ندّاتها المُدوّنة بلغات الغرب ". بدوره، تطلّعَ الرجلُ إلى الناحيّة تلك، المُتجوّل خللها بَصر ضيفه، قبلَ أن يُبادرَ بالاجابة : " لأنّ اللغة العربيّة، للأسف، توقفتْ منذ عدّة قرون عن الإبداع أدَباً وبَحثا. فيما أنّ الأوروبيين، على العكس من ذلك، واصلوا الإبداعَ في شتى ضروبِ الفكر والمَعرفة والعِلم ". ثمّ أضافَ بُعيدَ هنيهة تأمّل: " حتى أدب الرحلات، أهملَ المسلمون شأنه، خلال تلك القرون الظلاميّة، المَعلومة. مع أنهُم همُ الذين جعلوا له أساساً، مَكيناً، لدرجَة أنّ تآليفِه كانت مَعروفة من لدن الغرب، بفضل الترجمَة إلى لغاتهم. واليوم، فإنّ الغربيين يواظبونَ على الإهتمام بالتراث الإسلاميّ. ففضلاً عن الرحّالة والقناصل والمستكشفين، فإنّ جامعاتهم أيضاً تفتحُ المَجال لطلبتها كي يختصّوا بلغات المسلمين وآدابهم وثقافاتهم "

" عَجَباً لأطوارهِم الغريبَة، أولئك الغربيين: فإنهم يُبدون الإهتمامَ بآدابنا، في نفس الوقت الذي لا يَخفون فيه مَطامِعَهم، حدّ أن يَقتطعوا في كلّ فينةٍ قِسْماً من أراضي السلطنة "، قالها الحكيم ودونما أن يتنبّهُ إلى كونِ الأفندي من أرومَة أولئك القوم. ارتسَمَتْ بَسْمَة على شفتيّ الرجل، الرقيقتيْن. وكانَ يَهمّ بإجابة مُلاحظة ضيفه، عندما راحَ أحدُهُم يَطرق بابَ المَكتب، مُستأذناً في الدخول.

" يا عصمان أفندي، عليكَ أن توقظ من قيلولتيْهما شقيّتيْ الدار، الكسولتيْن "، خاطبَ المضيفُ كبيرَ خدَمِهِ بنبرَة مَرحة. ثمّ أضافَ بنبرَةٍ أخرى، جدّية: " افعل ذلك دون أن تخبرهما بوجود جناب الحكيم؛ كيلا نزعَج بحضور فضولهما غير المُحتمَل ". عادَ المُضيف وأغلقَ بابَ المَكتب، ثم آبَ إلى مكانه مُحَملاً بصينيّة فضيّة، تراصَفتْ فوقها عدّة القهوة المُرّة وآنيَة الحَلوى. إنّ تبَسّطهُ في الحديث عن الفتاتيْن أمام الضيف، وَجَدها هذا الأخير سانِحَة مُناسِبَة، لكي يبادِرَهُ بالقول مُتسائلاً: " وإذاً فإنّ المُدَرِّسة تلك، شمس، أضحَتْ الآنَ وحيدة ً تماماً في هذه الدنيا، طالما أنّ أقاربها جميعاً قد فقِدوا؟ ". المضيف، المُتحرّر الفكر ولا جدال، لم يَبدُ عليه أنه فوجيء بالسؤال. بَيْدَ أنه استلّ من ملامح ضيفه نظرة خاطفة، قبل أن يفتحَ فمَهُ: " آه، أجل ويا للأسف. إلا أنها عثرَتْ في شخص حفيدتي على أختٍ حقيقية. وستبقى لدينا، في هذا المنزل، ما طابَ لها الإقامَة فيه ". ثمّ ما عتمَ أن أردَفَ: " إنّ شمس هذه، فنانة موهوبَة حقاً. ولو قدِّرَ لها أن تحيا في فرنسا، مَثلاً، لانصاحَتْ زهرَةُ موهبتها وأينعَتْ. إلا أنها، لسوءَ الفألِ، بقيتْ إنسانة مغمورَة، ضائعَة، طالما أنها تحيا في بلدٍ مُسلم، تحرّمُ فيه تقاليدُهُ على المرأة مُزاوَلة أيّ عمل؛ ناهيكَ بحِرفة التصوير، المُكفر أصلاً من لدن عقيدته "
" اعذرني على تطفلي، يا سيّدي. ولكن، كيفَ تمكنتَ من تقدير موهبة المُدرّسة، مع أنّ تصاويرها، المُنجَزة، بقيَتْ خلفها ثمة؛ في المدرسة البرانية؟ "، تساءل الضيفُ. فقالَ له الأفندي ببساطةٍ وزهو في آن: " لأنها تمارسُ الرَسمَ هنا، في داري، بعدما منحتها حجرَة ًوسيعَة، جيّدة الإضاءة، لتكونَ بمثابَة المُحْترَف. كما أنّ كبيرَة الحافظات، ذات القلب الكبير فعلاً، كانت قد سَمَحَتْ بأنْ يُنقلَ إلى منزلي كلّ ما كانت المدرِّسة قد أنجزته هناك، في دار الحديث، من رسوم وتصاوير، مُكتفيَة ً بالاحتفاظ بتلك النقوش، المَنذورة للآيات القرآنيّة "

" وإنّ قلبكَ لكبيرٌ، أيضاً، أيها الأفندي المُبجّل "، هتف الحكيمُ بالمُضيف مُتأثراً. فأحنى الرجلُ رأسَه بحرَكة مُتواضِعَة، تليقُ بخلقِهِ الدّمِث، قبلَ أن يَدعوه إلى ما بتناول اليَد من قهوة وحلوى. ثم بدأ يقولُ للمُضيف، مُستهلاً بذلكَ تمريرَ ما كانَ في ذهني من هاجس لغز مصرَع العشّاب: " على أني، لو سَمَحتَ لي، أرغبُ باثارَة مسألة أخرى، حَسّاسة، تخصّ هذه المُدَرِّسة ". أحنى الرجلُ رأسه ثانيةً، دلالة على الإهتمام. فما كانَ من الضيف إلا أن عَرَض على مَسمَعِهِ موجزاً، مُقتضباً، عما كان يعلمه عن سيرة شمس. ومن ذلك، مزاعم علاقتها العاطفيّة، العتيقة، باالعشّاب القتيل. أصغى الأفندي بانتباه. ولكن ، بالمقابل ، لم تظهرَ على قسماتِهِ ما يُنبي، بشكل أو بآخر، عن أنّ ثمة جدّة في تلك المعلومات. غير أن الضيف، لم يستسلم لشعور الاحباط. على ذلك، فقد أجاز لنفسه مُساءلة المُضيف عما يَعتقدُهُ من احتمال وجود علاقةٍ بين مصرَع العشّاب وجرائم القتل الأخرى، المُرتكبة من قبل ذلك القاتل، المَجهول.
" سأقولُ لكَ رأيي، بصراحَةٍ وصِدْق. إلا أني، منذ البدء، أودّ ألا تفهمَ من كلامي أني أتهمُ ذاكَ المَملوك، القبرصيّ، بكونِهِ القاتل المُفترَض. كلّ ما هنالك، أني أضعُ شكوكَ سيّده، الشاملي، مَوْضِع المُناقشة "، افتتحَ الأفندي حديثه، إثرَ مهلة تفكير، وما لبثَ أن استأنفه على الفور: " إنّ القبرصيّ كانَ بالكاد قد تعرّفَ على شمس، حينما وَقعَتْ جريمة قتل العشّاب العجوز. فليسَ ثمّة من مُبرّر لكي يَقوم باقتراف فعل القتل، بناءً على ما تناهى إليه من أمر اغواء العجوز للبنت، حينما كانت صغيرة بعد. اللهمّ إلا إذا كانت لدى مَملوكنا عِقدَة ما، نفسانيّة، تدفعه للإنتقام من أيّ شخص ، كائناً من كان، يُمكن أن يُذكّرَهُ بالوصيف ذاك، المأفون؛ الذي سبَقَ له أن اخصاهُ واعتادَ على اغتصابهِ ". لما سكتَ الأفندي ليَستردّ أنفاسَهُ، فإن ضيفه بادر إلى التعقيب على كلامِهِ : " وإذاً، فإنّ هذه الفرَضيّة، على ضِعفها، تبيحُ الاعتقادَ بكون الانتقام من الظلم والحَيْف هوَ دافِعُ قتل كلّ من آمرَيْ الانكشاريّة، السابقيْن ". وأراد أن يستطردَ فيُسمّي كلاً من نرجس وياسمينة، كونهما عانيا من ظلم هذيْن الرَجليْن، بصورةٍ ما، ولكنّ لسانه لم يُطاوعه.

رمَقه المُضيف بنظرَة مَليّة، مُتأمّلة، فيما بدا أنه أدرَكَ سرّ تحفظه المُباغت. وقالَ له، أخيراً: " أصَبْتَ، يا حكيم. لقد فهمتُ ما تقصِدُهُ بكلامكَ. وإني أتحدّثُ معكَ صراحة، كما قلتُ آنفاً، وأيضاً مُجرّداً من العواطف الخاصّة، الأبويّة ". وإذ نطقَ الأفندي المُفرَدة الأخيرة، فإنه صمَتَ قليلاً فيما أخذ بالتنهّد. نعم. كانَ الرجلُ يعتبرُ نرجسَ إبنته، وليست حفيدته حَسْب؛ طالما أنها رُبّيَتْ في حجْرهِ مذ أن كانت رضيعاً، فلم تعرف لها أباً غيرَه إلى أن أضحَتْ في سنّ الرشاد. ولكنّ ذلكَ، حديثٌ آخر.

" بهذه الحالة، إذا كانَ المَملوك القبرصيّ مُشتبَهاً بفعل الانتقام، فمن الانصاف أن نشركَ في التهمَة رفيقه الآخرَ؛ المملوكَ الصقليّ. فكلاهما لديْه الدافعُ نفسه للقتل، سواءً موضوع الاخصاء أو فقدان الأهل. إنّ الصقليّ، في واقع الحال، لم يَفقدَ أمّه حَسْب، قبيل استعباده، وإنما فقدَ كذلك من كانَ بمثابَة الأبّ، بالنسبة له؛ أيْ التاجر المَغربيّ، الذي ربّاه كأنما هوَ من صلبه. لقد ارتبط مَصرَعُ هذا التاجر على أيدي الأورطات في طريقه من بيروت للشام، بموضوع حسّاس للغايَة في عُرْفِ شابّ كانَ وقتئذٍ في سنّ البلوغ وربما كانَ متحصّلاً أيضاً على تجاربٍ جسديّة؛ وأعني به موضوع الاخصاء، الشنيع " ، تابعَ الأفندي كلامَهُ.

فما أن وصلَ إلى تلك النقطة، حتى هبّ ميخائيل، مُتسائلاً بارتياع : " وإذاً، علينا أن نحتسِبَ الدالي باش، آغا يقيني، كما لو أنه هَدَفٌ مُرجّحٌ للقاتل المُفترَض؛ بما أنّ الدالاتيّة همُ من قتلوا والدَ المملوك الصقليّ بالتبني؟ ". فأجاب المضيف مُتبسّماً ودونما حاجة للتفكير: " على رُسلِكَ، يا عزيزي. إنّ مَملوكاً من العلوج، غريباً، لا يكادُ يَعرف شيئاً عن الفرْق بين الفِرَق العسكريّة، الشاميّة، من السّهل عليه الخلط بين القول والأورطات واليرلية وغيرها من أصناف الجند، النظاميّة والمُرتزقة. وعلى كلّ حال، فإني وَسَمْتُ المملوكَ الصقليّ بصِفة القاتل، على سبيل المُقارنة والإفتراض فقط "

" أصارحُكَ، يا أفندي، بأن صاحبنا العطّار لطالما اشتبه بهذا الصقليّ. واعتماداً على مُعطياتٍ عديدةٍ، كان قد فكّر بها خلال الفترة المُنقضيَة. وإذا أهملنا جانباً دوافعَ القتل، وعلى الرغم من أهمّيتها البالغة، فإنّ احتمالَ أن يكونَ الصقليَ، لا الروميّ، هوَ رَجلنا المَطلوبُ، له ما يُسنِدُهُ؛ سواءً تعلّقَ الأمرُ بالسلوك أو بالدليل "

" أنا مُتفقٌ معكَ هنا، في مسألة السلوك: فالصقليّ بعكس رفيقه، هوَ فتىً مُجرّبٌ وشديدُ المِراس، علاوة ً على كونِهِ أقلّ رهافة وحساسيّة. ولكن، أيّ دليل هذا، الذي تملكه ضدّ ذاك المَملوك، المُشتبه به؟ "

" إننا نتكلّمُ، بطبيعة الحال، عن الجريمَة الأخيرة. وأفيدكَ على ذلك، بأن العطّار ضبط الصقليّ في حجرَة العشّاب العجوز، قبيل مَصرَعه ببضع ساعاتٍ. قبلاً، كانَ المملوكُ مفقودَ الأثر، وكانت كبيرة الحافظات قد أمَرَتْ رفيقه، القبرصيّ، أن يَبحثُ عنه في أرجاء الدار.. "

" مَهلاً، مهلاً. أعذرني لأني قطعتُ حديثكَ، يا حكيم "، هتفَ المُضيف بنبرَة خافنة الجرس. ثم راحَ يُشنف أذنيْه إلى ناحيَة نافذة المكتب، المُحاذيَة لمَجلسِهما. وما لبثَ أن نهضَ بسرعةٍ، لكي يهمّ بفتح دَرفتيْ النافذة تلك، قائلاً : " أظنّ أني لمَحتُ شبَحَ شخص ٍ ما، كانَ يَمرقُ بعجَلة من ذلكَ المكان؛ وكأنما كانَ يَتجسّسُ علينا " .

5
منزلُ عبد اللطيف أفندي، وبما أنه كانَ في عمارته على الطراز الغربي، فإنّ أبوابَ حجراته، الكائة في الدور الأرضيّ، كانت مَفتوحة على الفناء الداخليّ. بالمقابل، كانَ لكلّ من الصالون والمَطبخ بابه الخلفيّ، المُفضي إلى الحديقة. ولأنّ مكتبَ الأفندي كانَ بدوره مُتصلاً بالصالون، عن طريق الفناء الفرعيّ، فلا غروَ أن يكون ذا بابٍ واحدٍ حَسْب، داخليّ. على ذلك، فما أن هُرعَ المُضيف ليقتفي أثرَ الشخص المَجهول، الذي تجرأ على التجسّس، ثمة خلف نافذة المكتب، حتى رأي الضيفُ نفسه يجري وراءه دونما وَعي.

" عليكَ بالتلبّث في الحديقة، لمُراقبَة مَدْخليْ الصالون والمطبخ "، هتفَ المُضيف. كانَ في الأثناء يَجري إلى ناحية السلّم الحَجريّ، المؤدي إلى الدور العلويّ. هنيهة أخرى، ورأيتَ جَمْعَ الخدَم، المتواجدين في المَكان، يُشاركونهما في تقصّي خطى الشخص ذاك، المَجهول، وكانَ في المقدّمة كبيرهم. نحوَ هذا الأخير، اتجهَ المُضيف بقولِهِ ، بعدَ فترة من البَحث غير المُجدي، مُتسائلاً : " يا عصمان أفندي، هل لمَحتَ قبل قليل أحداً من مَملوكيْ الزعيم هنا، في الدور الأرضيّ ؟ ". فكانَ جوابُ كبير الخدَم النفيَ، ودونما تردّد. إلا أنه، واضعاً يَدهُ على جبينه، ما عتمَ أن أضافَ: " ولكن، نعم، لقد تذكرتُ شيئاً. إنّ المَملوكَ الصقليّ كانَ يَتجوّلُ في الحديقة، حوالي فترة القيلولة. لقد رأيته عبْرَ نافذة حجرة الطعام، وكانَ ما فتأ هناك عندئذٍ. إلا أنه اختفى عن ناظري، على غرّة، وكأنما ابتلعتهُ الأرضُ "

" كيف، تبتلعُهُ الأرضُ ؟ "، تساءلَ الأفندي في حيرَةٍ ُستطرَفة. بحُكم المُعاشرَة، المَديدة، كانَ كبيرُ الخدَم، على ما يبدو، قد ألِفَ طبْعَ سيّدِهِ، الإفرنجيّ المُحتدّ. وإذاً، كانَ جوابُهُ لا يَقلّ طرافة ً: " لم أعن ِ حضرَة الجنّ، المَسكونين في باطن الأرض؛ وإنما القصدُ أنّ المَملوكَ غابَ عن عيني، فجأة، في مكان ما من الحديقة ". وبما أنّ الآخرين من الخدَم لم يؤيّدوا ما سبقَ ورآه كبيرهم، فلم يكن أمامَ الأفندي غيرَ أن يأمرهم جميعاً بالانصراف إلى أعمالهم ومشاغلهم.

" لا شكّ عندي بأنه الصقليّ؛ من كانَ يَكمُنُ خلف النافذة، مُتجسّساً علينا "، قالَ المُضيف للحكيم بنبرَةٍ حانقة. فلحَظ هذا الأخير، أنه كانَ من المُفترَض أن يُبعثَ أحدُهم لجَلب المَملوك من حجرَتِهِ، الموجودة في الطابق العلويّ. فما كانَ من الأفندي، المُنفعل على غير عادتِهِ، إلا إجابته فيما هوَ يُشير بيدِهِ نحوَ سقف حجرَة المكتب: " بل نحنُ من سيَصْعَد إلى ذلك الصقليّ، الأرعَن "، قالها بالنبرَة ذاتها الحانقة ـ كما لو أنّ ثمّة ثأراً ما، تليداً، بينَ البَنادِقة والصقالِبَة.
إنها المَرّة الأولى، التي وجِدُ فيها الحكيمُ هنا، في هذا القسم من المنزل، الذي يَضمّ حجرات نوم أهلِهِ.
" هيَ ذي الحجرة، المَطلوبة "، هَمَسَ له الأفندي لمّا توقفَ قبالة الباب المُوارَب. علوّ مَرقى المَملوك الصقليّ، المُتجلّي بتفرّدِهِ بحجرة نوم خاصّة به، ضافرَهُ مَسلكُ المُضيف الأكثر مدعاة للدَهشة؛ حينما بادَرَ إلى الاستئذان بالدخول: لاحقا، خلال اليوم نفسه، سيعلمُ الحكيمُ سرَّ الأمر من فم المَملوك الآخر، الروميّ؛ حينما قالَ له ببساطة أنّ الزعيمَ اختارَ الصقليّ ليحلّ بمكان حاجبهِ، الراحِل.

وعلى أيّ حال، فما هيَ إلا هنيهة انتظار، قصيرة نوعاً، وكانت سِحنة المَملوك ، المَنحوس، تطلّ عليهما خلل صفق باب الحجرة، المُنفرج. " العفو منكم، سيّدي. لقد كنتُ نائماً، فلم أسمَع الطرقة الأولى على الباب "، قالَ الصقليّ مُخاطِباً السيّد باحترام بالِغ. ثمّ ما عتمَ أن أومأ للحكيم برأسِهِ مُحيّياً، فيما كانَ يُفسِحُ له المجالَ للمرور عبْرَ عَتبَة الحجرة. ولم تكُ آثار النوم مُرتسَمَة حينئذٍ على قسمات المَملوك، بل هيَ خطوط الخبث من كانت مَنحوتة ثمّة بدقة ومَهارة.

" هل قضيتَ وقتاً طيّباً هناكَ، في الحديقة؟ "، بادَرَ المضيفُ المَملوكَ بالسؤال المُباغِتْ فورَ جلوسِهِ على الديوان المَركون في احدى زوايا الغرفة. لونُ وَجهِ المُخاطَب، الناصع، تغيّر للتوّ إلى الصفرة الخفيفة. إلا أنه كانَ أكثر ثقة بالنفس، حينما أجابَ مُخاطِبه وهوَ يَتصنعُ المَرَح : " أجل، ولا شكّ. وكانت الجَولة، من ناحيّةٍ أخرى، ضروريّة لمَن يَجد صعوبَة في نيل حظِهِ من القيلولة "

" آه، ولهذا السبب تأخرتَ أنتَ في نومِكَ "، ندّتْ عن الأفندي بنبرَة اهتمام مُتماهيَة بالتهكّم الخفيّ. ثمّ أردَفَ قائلاً وهوَ يتفحّصُ أثرَ عباراتِهِ في ملامِح ِ المَملوك: " وربما أنتَ تتساءل، لِمَ نحنُ هنا، في حجرَتِكَ؟ ". فأجابَ الصقليّ بأدَب وعلى الرغم من تلجلج لسانِهِ : " إنني خادمكم، يا سيّدي، وبأمركم دائماً ". إذاك، تلطفَ المُضيف مع الفتى فأشارَ له بالجلوس. فانتبذ هذا إلى حيث السرير الضيّق، لكي يَقتعِدَ عندَ طرفِهِ. ومن موقفهِ ثمّة، راحَ الصقليّ يُنقلُ بَصَرَهُ في أرجاء الحجرَة وخلل نافذتها، المُطلّة على مناظر الجنينة. وإلى تلكَ الناحيَة، المُخضوْضرَة، أشارَ الأفندي بيَده.

" الظاهرُ، أنّ لدَيكَ شغفاً بالحَدائق "، قالها المُضيف مُخاطباً المَملوكَ من جديد ومُضيفاً من فورهِ: " لعلّ حديقتنا هذه، الصغيرة، تذكّركَ بشكلٍ ما بتلكَ الحديقة، الكبيرة، المُلحَقة بمدرسة الحديث البرّانيّة ؟ ". وإذا كانت العينُ، كما يُقال، هيَ مرآة وَجهِ الإنسان؛ فإنّ الصقليّ، الماكِرَ، كانَ عندئذٍ مُفتضحَ السريرَة بفضل عينيْه. ولكنه، بصِفِة مَكرهِ نفسها، استعادَ زمامَ عزيمتِهِ سريعاً، ليُجيبَ مُحدّثهُ مُتبَسِّماً : " أجل، يا سيّدي. فمَنْ مِنا، نحنُ مَعشر البشر، لا يَجدُ ذوْقهُ بين أكوار الورود والأشجار والخمائل "

" ومَساكِبِ الأعشاب أيضاً، المَنذورَة للعَطارَة "، قالَ للصقليّ مُقاطِعاً. ولم يُمهِل مُخاطِبَهُ أيّ مُهلةٍ للإجابَة، حينما عادَ الأفندي ليسأل : " وإذاً فأنتَ كنتَ تعرفُ، ولا رَيْب، ذلك العشّاب العجوز، المَبخوس الفأل، الذي وَقعَ صريعاً بخنجر قاتل، مَجهول بعدُ ؟ "

" لم أعرفه عن قرب، كما أني لم أعرف حتى الآنَ كيفيّة مَقتله "، أجابَ المَملوكُ بشيءٍ من القِحّة ودونما حتى أن يَذكر اسمَ العشّاب بِصفتِهِ مَرْحوماً. هنا، التفتَ الأفندي إلى ميخائيل، ليسأله مُتكلِّفاً الدَهشة: " بهذه الحالة، يا حكيم، فإنّ سببَ موتِ العجوز ما فتأ في عِلم الغيْبِ ؟ ". من جِهته، كان المُخاطَبُ يتحيّنُ سانحَة ً للكلام، مُناسِبَة. وعلى ذلك، قال للمُضيف مُجيباً : " إنه كما تفضلتم، يا أفندي ". ثمّ استطرَدَ بلهجةٍ مُداورة " ربما ماتَ مُنتحراً، والله أعلم. إذ قيل في حينِهِ، أنّ علاماتِ الكآبَة والتعاسَة كانت جليّة على وجهِ المَرحوم، في الفترَة التي سبقتْ وفاته ". وحينما استأنف القولَ، فإنّ سَهَمَ نظرَته، المُسدّد نحوَ الصقليّ، كانَ على ما يَبدو قد راشَ هَدَفه في الصّميم.
" عَجَباً، وماذا كانَ يأمَلُ من الدنيا، بعدُ، من كانَ بمِثل عُمْر العشّاب ذاك، العجوز ؟ "، هتفَ المُضيف وهوَ يُحِث الحكيم مُوارَبَةً على المضيّ في الكلام. ولكنّ المَملوكَ، تولّى بذاتِهِ عبء الجواب : " إنّ تلكَ المُدرِّسة، التي تقيمُ هنا في كنفِ جنابكم، هيَ من باستطاعتها تفسير هذا اللغز ". لقد قالها باستهتار وبنوع من الغطرسة. عندئذٍ ما كانَ من المُضيف، المَصدوم نوعاً، إلا التلبّث صامِتاً، مُطرقا. بيْدَ أن الحكيم لم يشأ تركَ المَملوكَ، المُتفرعِنَ، يَتمادى في وقاحتِهِ، فخاطبه بقسوَة : " دَعْ عنكَ هذا الكلام، الجدير بالنسوة الثرثارات ".

" اعذرني، يا سيّدي. إلا أني لا أجِدُ سبباً لانزعاجكم، موجَبَاً؛ طالما أنّ الخِصْيَ، في عُرْف الجَميع، هوَ بشكل ٍما من صِنف النسوة نفسِهِ "، أجاب الوصيفُ ماضياً في استهتارهِ إلى الحدّ الأقصى. إذاك حَسْب، أدرك الحكيم أنه يَتقصّدُ إثارَة مُخاطِبهِ كيما يتهرّب من اعطاء الأجوبَة الصريحَة، المطلوبَة. وربما أنّ المُضيف، بدوره، انتبهَ إلى هذه الحيلة الفجّة، فما كانَ منه إلا التبسّم بتسامح في وجهِ المَملوك، قائلاً له من ثمّ : " على أنكَ تعلمُ، ولا غرو، أنّ ثمة نسوة صالحات، تماماً كما أنّ هناكَ رجالاً صالحين. فإننا لن نسألَ شمس، أو غيرها، عن ذلك اللغز. فكلّ ما في الأمر، أننا نتبادلُ حديثاً شيّقاً، مُمتعاً، بينما أعيننا تجولُ خللَ النافذة تلك، مُستمتعةً بدَورها بمَنظر الجنينة، الغنّاء ".

بمُجرّد ما أكملَ الأفندي عبارَتهُ، فإنه التفتَ نحو ميخائيل ليَرمقه بنظرَةٍ من عينيْه، داعياً إياه لمُغادرَة الغرفة. وقبلَ أن يظهر هذا الأخير ما يُنبي عن تردّده، كانَ الرجلُ قد قامَ فعلاً مُبدياً رغبَته بالانصراف. تصرّفه المفاجئ، ما كانَ له إلا أن يثيرَ التساؤل لدى الحكيم وهما على السلّم: " لقد كنا على وَشكِ الامساك بخناق المَملوك الماكر، المَشبوه، وإذا بنا ندَعَهُ يَفلتُ من المَصيدة بكلّ يُسْر؟ "، قالها في نفسه وهوَ يتأثرُ خطى المُضيف في الطريق إلى الدور الأرضيّ. ثمّة، أمامَ مَدخل قاعة الصالون، الجوّاني، كانَ كبيرُ الخدَم بانتظار سيّده.

" إنّ رجلاً من طرَف سَعادة قبَجي مَولانا الباديشاه، المُعَظم، قد وَصلَ الآنَ طالِباً لقاءَ الزعيم "، خاطبَ عصمان أفندي مولاهُ. نعم. أدرَك عندئذٍ ميخائيل سببَ تصرّف المُضيف، الغريب، هناك في غرفة الصقليّ. فإنه كانَ قد مَيّزَ جلبَة العربَة، الواصِلة للتوّ، فخمّنَ إذاك أنّ ثمّة زائراً ما في سبيله إلى الحضور للمنزل. ولكن ميخائيل ، على كلّ حال، لم يلتق ذلك الزائر. إذ ما أن أنهى الحَبَشيّ كلامَهُ وانصرفَ، حتى التفتَ عبد اللطيف أفندي إلى ضيفه، قائلاً بصوتٍ خفيض: " أرجو أن تتكفلَ باستنطاق المَملوك الآخر؛ القبرصيّ. ربّما تجدُهُ في حجرتِهِ ثمّة، في قسم الخدَم ".

بطبيعة الحال، كان ميخائيل يجهل مكانَ ذلك القسم، علاوةً على أنه لم يُتح له المَجالُ للسؤال عنه؛ بما كانَ من مُغادَرة المُضيف من فوره لكي يَستقبل مَبعوثَ القبَجي، الجديد. وإذاً، ارتأى التوجّهَ إلى المَطبخ، في سبيله إلى ذلكَ الهَدَف. فلم يَمض إلا نزر من الوَقت، حتى كانَ برفقة أحد الخدَم أمامَ ذاكَ القسم من الدار، المَطلوب، والكائن في بناء صغير، مُستقل، مُطلّ على الحديقة. ومن حُسن الحظ أنّ الروميّ كانَ وقتئذٍ في حجرَتِهِ؛ وهوَ من فتحَ بابَها: " أهلاً وسهلاً، يا آغا "، هتفَ المَملوكُ بحبور مُتمَثلاً لهجّة سيّدِهِ. ولكنها كانت لهجَة ترحيبٍ، على أيّ حال، وصادِرَة من قلبٍ نقيّ. إنّ حسابَ المَشاعِر، كانَ عليه دوماً أن يُعيقَ تقصّي أثر القاتل، المَجهول؛ طالما أنّ المَوضوعيّة هيَ من أسباب نجاح الساعي للبحث عن الحقيقة: كذلكَ كان ميخائيل يتفكّرُ، لحظة جلوسه على الطوطيّ المُتهالك الهَيكل، الخلِق البطانة، والذي لم يَجد غيرَه في الحُجرة، البائِسَة.

" هل أنتَ مُرتاحٌ هنا، في هذا المنزل الغريب ؟ "، سأل الفتى بنبرَة تعاطف فيما كنتُ اجيلُ ببَصَري عَبْرَ حجرته شِبْه العاريَة. ولم يُدهِش، في الواقع، ما عَبّرَ عنه المَملوك من رضى بحرَكة رأسِهِ؛ هوَ الذي كانَ قد تخلّصَ من كوابيس بيت سيّده الأول، ثمّة في حيّ القنوات. على ذلك، عبّر له ميخائيل عن التعاطف مُلاحِظاً: " إنّ هذه الحجرة، وبالرغم من ضآلة حجمِها، ذاتَ موقع ٍمُمتاز. فإنها تشرفُ على الحديقة من قرب، فضلاً عن بُعدها عن الزرائب ". فأجاب الفتى باقتضاب، مُتبسّماً : " أجل، بكلّ تأكيد "

" إلا أنها المرَة الأولى ربما، التي تفصَلُ بها عن رفيقكَ ذاك؛ الصقليّ "، قال له ميخائيل مُبتسماً بدَوره. عندئذٍ بَسَط الفتى يَدَيْه بحَركة تسليم، قائلاً : " هكذا شاءَ سيّدنا، الزعيم ". ثمّ إذا به يُفاجأه، حينما استطردَ القول : " هذا حَصَلَ، بعدما اختيرَ ليَخلِف الوصيفَ ذاك، المَقبور ". لِوَهلةٍ، لم يستوعب ما عناهُ، فسأله مُحتاراً : " مَنْ اختارَ مَنْ ؟ "

" الزعيمُ عيّنَ الصقليّ حاجباً له؛ هذه هيَ المسألة "

" قد يكونُ صاحِبُكَ قد خدَعَكَ، أو أنه أرادَ مُمازحَتِكَ ؟ "

" لقد بلِغتُ بذلكَ مُباشرَةً، وعن طريق سيّدنا نفسه "، أكّدَ المَملوك الخبَرَ. لبَث ميخائيل صامتاً لفترةٍ، فيما كانت الهواجسُ تتناهَبه. إنّ كبيرَ الأعيان، فكّرَ مَهموماً، لم يَختر الصقليّ كونه يُجيد اللغة العربيّة قراءة وكتابة، حَسب؛ بل لأنه أرادَ التكفير عن ذنبه: فهوَ من سبقَ وأمَرَ باخصاء الفتى، وبالرغم من تيَقنه آنئذٍ بأنه مولىً مُسلِمٌ، ومَختونٌ فوقَ ذلك.

" المَعذرة، يا سيّدي. كأنما أمرُ تعيين الصقليّ قد كدّرَ خاطِرَكم؟ "، تساءلَ المَملوك المَلول. رفع ميخائيل بَصره نحوَه، مُتأمّلاً إياهُ بشفقة، قبل أن يجيبَ صراحَةً: " بعض الشيء، في الحقيقة ". ثمّ أضاف مُضافِراً التعاطف معه: " إنّ أخلاقكَ المُستقيمة، كما ونباهتكَ، كانا كفيليْن بأنْ يُقنعا الزعيم باصطفائكَ وصيفاً. بيْدَ أنكَ لم تنل نصيباً، ولو ضئيلاً، من مَعرفة القراءة والكتابة بالعربيّة أو العثمانيّة؛ مما فوّتَ عليكَ الفرصَة ". ولحظ ميخائيل أنه ما أن نطقَ كلمَة " الوصيف "، في جملته الفائتة، حتى تجهّمَ وجهُ الروميّ: " لقد ذكّرته، ثانيّةً، بذاكَ الوصيف المأفون؛ الذي دَعاه بالمَقبور "، فكّرَ في سرّه. ولكنه مَضى في تفكيره: " لم آتِ إلى مُقابلة الفتى، لكي أنشغل بموضوع تعيين رفيقه، المَنحوس ". وإذاً، غيّرَ الحديثَ فوراً، حينما توجّه للمَملوك بهذا الطلب، الذي سبقَ وأعده في ذهنه خلال طريقه إلى قسم الخدَم: " دَعَنا من سيرة الآخرين، وانصتْ إليّ جيّداً. عليكَ أن تساعدني في مسألة مُهمّة، حقاً "، قال له وأردفَ مُشيراً بيده إلى سقف الغرفة : " أريدكَ أن تجلِبَ شمسَ إلى حجرتكَ هذه، لكي أتحدّث معها على انفراد ودونما عِلم أحد من أهل الدار ".

6
خلالَ سانحَة السويعَة تلك، المُنشغلُ فيها المُضيفُ وصِهرُهُ مع مَبعوث القبَجي، كانَ ميخائيل بدَوره مُنفرداً بشَمس؛ ثمّة، في غرفة مُحترَفِها. إنّ هذا المُحترف، الكائن في مكان ناءٍ على طرَف حديقة الدار الخلفيّة، كانَ يبدو مثلَ عين حَسناءٍ يَحفّ بها الأهدابُ الطويلة، الظليلة. وعلى ذلك، فإنّ عبَق الورود والأزهار، المُنتشر في الأجواء، كانَ عليه أن يَتسللَ إلى داخل المَرسَم هازماً الرائحَة المُزعجة، المُنبعثة من الأصبغة والألوان والزيوت.

إنها شمسُ، على كلّ حال، من اختارَتْ مكانَ الخلوة في غرفة مَرْسَمِها. كانَ اختياراً صائباً، ما دامَ قسمُ الخدَم موطوءٌ على مَدار الوقت من لدن مُريديه، المَعروفين بلجاجة الفضول والتقوّل. فعلى الرغم من مَظهر الحريّة، المُتسِم به مَسلكُ صاحب المنزل، إلا أنّ وجودَ صهره العتيّ، الزعيم، كانَ عليه أن يُبلبلَ، دوماً، أيّ فكرةٍ خرقاء تطرأ في خاطِر الفنانة، الجَسورة. وإذاً لم تكن هيئتها حَسْب مُحتشمَة، بل وحرَكتها داخل المنزل كانت كذلك؛ مَحدودة ومُقيّدة.
" أشعرُ كأني انتقلتُ من سجن إلى آخر "، هَمَست شمس بشيء من الحنق. هوّنَ عليها الأمرَ مُشيراً بيده إلى عديد اللوحات ، المُتناثرَة هنا وهناك: " ما دمتِ تبتدعينَ أشياء جديدة، يوميّاً، فهذا دليلٌ على أنّ سجّانكِ انسانٌ على جانب كبير من رهافة الحسّ والذوق "، قالها بنبرَة مَرحة فيما بَصَره يتنقل باعجاب بين التصاوير والنقوش والمُنمنمات. معظمُ المُشخصات تلك، المَصبوغة بألوان حارّة ووَحشيّة في آن، كانت تمثلُ نسوةً مُجرّدات تماماً من أيّ مَلبس. إنّ احداها، المُخططة بالفحم، كانت مُلوّنة جزئياً، مما يوحي بأنها في طور التشكّل: كانت اللوحة تصوّر بنتاً عارية تمتطي حصاناً أبيضَ وهيَ في وضعيّة ركوب، مُتدابرَة، تتطلعُ نحوَ السماء عاقدةً يَديها وراء رأسها، في حركةٍ تبرزُ نهدَيْها الناهضيْن،الثرّيْن، كما وفخِذيْها المُرَبْرَبيْن، الصقيليْن. في خلفيّة الرَسم ظهَرَ ما يُشبه الملائكة، المُتهاويَة أرضاً، سانِدَةً بأجنحتها طفلاً صغيراً، مُروّعاً. وقد لفتت هذه اللوحة، الكبيرة نوعاً، نظره لأنّ وَجه صاحِبتها يتأثلُ ملامِحَ نرجس.

" لِمَ جَعلتِ الفتاةَ بهذه الوَضعيّة الغريبَة، الشاذة، شكلاً وحرَكة على السواء؟ "، سأل باهتمام الرسّامَة الجَميلة والجَريئة. عندئذٍ، وكانت عيناها أيضاً مُثبتتيْن بالرسم عَيْنِهِ، فتحَتْ شمسُ فمَها المُنمنم على بَسمةٍ مُقتضبَة لتجيبه: " كلّ عُرْي ٍ، نسَويّ، يَنبَجسُ خارجَ حائط الحريم، المُصَمَّت، هوَ غريبٌ وشاذ في عُرْفِكم، أنتم مَخطرُ الذكور. وكانَ الحريّ بكَ، أيضاً، أن تبدي الاستنكار نفسه، إزاءَ رَسم هذا الطفل، العاري، والذي من المُمكن أن تكونَ حرَكته مُستمدّة من تجديف الإفرنج؛ طالما أنّ تجسيدَ ملائكة الرَحمن، وأبالِسَته، هوَ شيَمة عَريقة في فنونِهم "

" سبقَ وحدّثتكِ في جبل لبنان، على ما أذكر، عن اعتيادي على مُعايَنة رسوم النصارى، المُشخِصَة أشكالَ الكائنات الحيّة، حينما كنتُ أزورُ منازل وكلاء القناصل الإفرنج، الذاخرة بتلك التصاوير. علاوةً على أنّ بعضَ أولئك الوكلاء، أو زوجاتهم، كانوا بأنفسهم من مُحترفي الرَسم أو من هواة مُمارستِهِ. وبما أني كنتُ صديقاً للآغا العطّار، فلا غروَ أن أمدّ هؤلاء الناس أحياناً بخامات مواد الصباغة، المُتوفرة في الأعشاب "، قال لها ذلك فيما كانَ نظره يَغشى خللَ ما توافرَ من تلك المواد، المَوسومة، المُتناسِقة فوق طاولة عملها. ولكي يدللُ على ما يَربط بين الحِرفتيْن، المَعلومتيْن، فإنه استطردَ مومئاً إلى كلّ لون على حِدَة: " على الأرجح ، فإنّ أوّل الألوان التي استخدَمها الإنسانُ، كانَ الأحمر والبنيّ؛ بالنظر لبدائيّة مصدرَيهما، الترابيَيْن. ثمّ تطوّر الأمرُ إلى استعمال الألوان الأخرى: فكانَ الأسوَد من فحم الكروم أو من ثقالة النبيذ. أمّا الأحمر القاني، فمن الزنجبيل ". إذاك قاطعته الرسّامة، مُردّدةً بشكل آليّ: " والأصفرُ من زيت البليْحاء؛ البرتقالي، من قشارَة الخشب الحَرجيّ؛ الأخضر ، من صلصال الزبَرْجد ؛ الأزرقُ الغامق، من صلصال اللازوَرد؛ والأزرقُ السماويّ، من خام النحاس. أما اللون الأبيض، الأكثر أهميّة للرسّام في المزج بين الألوان، فإنه أيضاً يُستخرج من احدى أعشاب العطارة؛ وهيَ المَنعوتة بالاسفيداج "

" حتى الهاونُ والمِدَقة، المُعتبَران من أدوات العطّار، الأساسيّة، أراهما عندكِ ثمّة "، قال لشمس مُتضاحِكاً. وبالشعور ذاته من التفكّه، أجابته هيَ: " وكيفَ إذاً سنسحَقُ موادَ الأصبغة، لولا الأداة تلك، العتيدَة. وللمَزج بين هذه المواد، المَعلومة، فإننا بعيدَ سَحقِها نعمدُ إلى خلطها بالماء ومحّ البيض، فتصير مُتماسِكة وسَهلة الاستعمال حينما تصبغ قماشَ اللوحة، الكتانيّ أو الكرتوني "

" على ذلك فإنّ العشّابَ، رَحِمَهُ الله، هوَ من كانَ يَمُدّكِ بتلكَ الخامات ولا غرو؟ "، قال لشمسَ بنبرَة عاديّة، مُتكلّفاً عدَم الاكتراث. وبالرغم من أنّ تساؤله بدا بريئاً، ظاهِرياً على الأقل، إلا أنه كانَ صادِماً لها وباعثاً لكدَرها. إذ رَمَقته بنظرَةٍ غير طيّبَة، قبل أن تجيب باقتضاب: " هوَ ما قلتَ ". ثمّ أضافتْ فوراً، مُفاجئةً إياه بدَورها: " ولقد اعتادَ المرحومُ أن يَمدّني، أيضاً، بشيءٍ آخر لا يَقلّ مُتعة وفائدة ". وبما أنّ مُفردَة " شيء "، في اللغة العربيّة، تعني فيما تعنيه ذكرَ الرجل؛ فإن ميخائيل لبثتُ صامِتاً، عاجزاً حتى عن النظر في عينيّ الحسناء، المُظللتيْن بخِصَل شعرَها ـ كما جوهرَتيْن من لازوَرد في حقّ من العقيق. ولكن، من ناحيَة أخرى، رأى أنّ ذلك الجواب الجريء قد مَهّدَ طريقه إلى خبيئة الفتاة. وكنتُ يتفكّرُ، مُحتاراً قليلاً، بطريقةٍ ما، مُناسبة، لحثّ محدّثته على الاعتراف بخفايا علاقتها مع ذلك العشّاب العجوز، عندما بادرَتْ هيَ تلقائياً وببساطة إلى استئناف كلامها.

" كنتُ على توْق، دوماً، للإفضاء لكَ، أنتَ بالذات، عَما كانَ يَجعلني مَريضةً من فينة إلى أخرى. وربما أنتَ تتذكر جُملة البَوح، التي قلتها لكَ خلال لقائنا الأول، ثمة في دير القمر، حينما كنتُ أنا طريحَة الفراش وأتوا بكَ لكي تحَكّمَني: لقد أشرتُ عندئذٍ إلى قلبي، قائلةً أن عقارب مُعششة فيه ولا تدَعني أهدأ "، نطقت كلمتها فيما كانت تضعُ يَدَها على صَدرها. وسكتتْ عند هذا الحدّ، مُرسِلة ً بَصَرَها نحوَ الفضاء الخارجيّ، الكليّ الضوء، وعبرَ نافذة المُحترَف، العريضة للغايَة، والمُتبدّيَة كأنها شمسيّة هائلة الأبعاد في قاعَة كبرى.

" ها أنا ذا، ويا لعبَث المَقدور، أمثلُ دورَ راهبٍ يُمارس طقسَ الإعتراف مع أفراد رعيّته الواحد بأثر الآخر "، خاطبَ ميخائيل نفسه مُتهكّماً.

حينما ودّعَتْ " روشين " أمّها واخوتها، مُتوجّهةً مع والدها إلى الشام، فإنها لم تكن تدري بأنها لن تراهم ثانيَةً، أبداً. آنذاك، كانت البنت البَهيّة، ذات الشَعر العقيق، قد خلّفتْ وراءها خمسة عشرة عاماً من العمر؛ من ذكريات طفولتها وشِقوَتها في بلدَة الزبداني. ولم يكن عليها ثمّة، في مدرسة الحديث البرانيّة، أن تنسى أسرتها وذكرياتها حَسب؛ بل واسمها، أيضاً: فإنّ كبيرَة الحافظات، المَرأة البَدينة والصارمَة، كانت على ما يبدو قد ازدردَت بصعوبة اللفظ الكرديّ " روشين " ( أيْ: الشمس الحزينة )؛ فما كانَ منها إلا أن أعطتْ صاحِبَتهُ اسمَ " شمس "، المُوافق للترجمَة العربيّة، حاذِفة ً منه الصِفة الحزينة. بيْدَ أنّ الصفة هذه، عليها كانَ ألا تفارقَ طالبة العلوم الدينيّة، المُبتدئة، وهيَ ثمّة وراء الأسوار الحجريّة، الكامِدَة: فإذ لطالما حَلمتْ البنتُ بمَرأى الشامَ، فإنها لم تحظ سوى بالمرور عبرَ أرباضها ودروبها؛ هيَ المَدينة المُقدّسَة، التي كانَ أهلها وأقاربها قد سبقَ لهم وهاجروا إليها من اقليم الجبل بُغيَة نيل نعيم الدنيا والآخرة.
" ألم تبعَث المُشرفة بطلبكِ، بعدُ ؟ "، سألتها إحدى البنات الثلاث، اللواتي كنّ يُقاسِمْنها السكنى في الحجرة. وبما أنّ شمسَ لم تفهمَ سَبباً، موجباً، لتضاحك أولئك البنات من سؤال زميلتهنّ، فإنها لزمَتْ الصمتَ بعدما أجابَتْ بالنفي. في اليوم التالي مُباشرةً، حقّ لطالبتنا الجديدة أن تدركَ باعثَ مَرح زميلاتها، المُتخابثات: فما أنْ وَقعَ عليها عينُ تلك المرأة، المُشرفة على شؤون الردهة، حتى بدا جلياً أنها بُهرَتْ بفِتنة قسَماتِها كما وبرشاقة قوامِها. يَومان آخران على الأثر، وحانُ موعدُ الحمّام، الأسبوعيّ، المَنذور للمُقيمات في دار الحديث؛ من حافظات ومُشرفات ومُدرّسات ودارسات. كانَ ذلكَ في ظهيرة يوم جمعة، مُبارك، ربيعيّ الطقس، عندما شهِدَ مَبنى الحمّام، الكائن في الدور الأرضيّ، تجَمُّعَ الطالباتِ المُبتدئات، المُتمتعاتِ بعطالةٍ رَخيّةٍ سبقَ وأسلمَتْ أجسادهنّ لهناءة نوم أكثر طولاً في ساعاتِهِ. وإذا بالمُشرفة تلك، المَوسومة، تتجه فجأة ً نحوَ شمس طالبَة ً منها أن تتبَعَها إلى حُجرَتها. في هذه الحجرة نفسها، المَركونة عند طرَف السلّم في الدور العلويّ والتي سُيقدّر للدارسَة أن ترثها من مُدرّستها بعدَ هذا اليوم بحوالي الستة أعوام، كانَ على الأولى أن تتلقى من الثانيَة الدروسَ التمهيديّة، البكر، في امتحان البَدَن.

" أمّا العشّاب ذاك، فقد كانَ آنذاك خليلَ المُشرفة، الخفيّ "، قالت شمس لميخائيل بنبرَة أخرى أكثر شفافيّة. ثمّ استأنفتْ روايَة اعترافاتها: " وعندَ عشيقته تلك، كانَ على الرجل، المُقارب ختام الخمسين من عمره، أن يَتعرّفَ عليّ وأن يتسلّمَني منها، فيما يُشبه الصفقة. ومن المؤكد، أنني لم أكن البنت الأولى، في دار الحديث، التي تطوى في تصاريف العلاقة تلك، المَشبوهة، بين المُشرفة والعشّاب. بيْدَ أني، بالمقابل، كنتُ آخرَ بنتٍ يُقدّر للرجل أن يَستمتع بها "، قالتها بتشفّ و غِلّ.

بدا لميخائيل مما عَرى مَلامِحُ الراويَة، من عوارض المِحَن والشدائد، أنّ علاقتها مع العشّاب ذاك، كانت هيَ الأمضّ مَرارة في مُخلّفاتِ نفسِها. وعليه كانَ، من ناحيَة أخرى، أن يتذكّر توصيف عبد اللطيف أفندي للعِقد النفسانيّة؛ حينما ميّز بخبرَتِهِ وفطنتِهِ حالة َ المَملوك الروميّ: الحقّ، فإنّ اشارَة شمس للجرح البليغ، المُنغص سيْرَ حياتها الطبيعيّ؛ هذه الاشارة، أجَازتُ لميخائيل أن يحيلها إلى حالة ذلك المملوك، المَعلومة. إذ كانَ العشّابُ، ومذ خلوَته الأولى بالبنت، قد جَعل جَسَدَها مَطيّة لرغباتِهِ ونزواتِهِ الأكثر شذوذاً وفحشاً ـ كما لو أنه جَسَدُ جاريَةٍ قد تملّكه بدراهمِهِ.

" سنجرّبُ الآنَ طريقةً جديدة، مُمتعة، مِنْ طرُق المضاجعة. مع أنها طريقة قديمَة، وكانت مَعروفة للأولين من أسلافنا "، هَمَسَ العشّابُ في مَسمَع البنت، فيما كانَ يَقلبها على ظهرها. فإذ اعتادَ الأخرَقُ، قبلاً، على اختراق عشيقته الصغيرَة من وراء، مثلما يُفعَلُ بالغلام، إلا أنه أرادَ يومئذٍ أن يَجعلها في مُنقلبٍ آخر، حينما كانَ دِبْرُها يُدَبَّرُ كيما يَبدو مَكشوفاً من أمام لعينيْه النهمَتيْن. فما أن تمّ له ذلك، حتى وَجّهَ ذكرَهُ الغليظ، القائم كالساريَة، نحوَ موضع اللذة ذاك، المُحرّم، الذي كانَ مُنمنماً مثل حلقة الأذن وضيّقاً مثل خاتم البنصر. ومع صرخة البنت، المُنبَعثة على غرّة في سكون الليل، ما كانَ من العشّاب سوى التلبّث بلا حرَكة وقد شلَّ الوَجلُ كيانهُ. في الهنيهة التاليَة، ومع تصاعد الرائحَة الغريبَة، لم يكن من البنت، بدَورها، إلا أن دَفعَتْ عنها الرجلَ بركلةٍ شديدة من قدَمِها، حانقة. مذاكَ الحين، حاولَ العشّابُ بكلّ السُبُل اعادة علاقته مع شمس، دونما أيّ جدوى. ثمّ مَضتْ فترة أخرى، قبلَ أن يتسنى لها مُصادَفة العشّاب لديها في الردهة ، القائمَة هيَ على إدارتها؛ وكانَ قد تمّ استدعاؤهُ لتطبيب احدى الطالبات: لِوَهلةٍ، لم تتعرّف المُشرفة، الجديدة، على العشّاب العجوز، الواقف على بُعد خطواتٍ منها. وحينما مَيّزتْ شخصَهُ، أخيراً، حقّ لها أن تعجبَ من فعل الزمان بهذا الرجل المُتهالك، المُتهدّم البنيان؛ الذي كانت تعلمُ ولا غرو أنه أصغر من سن الشيخوخة، المُتلبّس جَسَده و روحه على السواء.

على الرغم من صِلة ميخائيل بشمس، الحَميمة نوعاً ما، فإنه لم يجرؤ وقتئذٍ على الاستفهام منها، عن سرّ استسلامِها للرجل؛ مع أنها لم تكُ تشعر بأيّ لذةٍ خلال مَرات مُضاجَعَاتِهِ لها، العديدة ـ كما شدّدَتْ هيَ مِراراً وبمَرارة. على أيّ حال، فإنّ مُختتمَ تلك العلاقة السرّية، المُحرّمة، قد شاءَ أن يَحلّ عندما أضحَتْ الفتاة امرأة ناضجَة، كاملة الأنوثة، مُشارفة على العشرين من سنيّ عمرها. وإنها تلك السنّ المُتأخِرَة، المَشئومة، التي كانت فيها البنتُ، المُسلِمَة، تدرك العنوسَة ولا رَيْب.

" لقد اُخبرتُ من ذاكَ المَملوك، الصقليّ، أنكَ شعرتِ بالانهيار لدى عِلمِكِ بنبأ موت العشّاب؟ "، سألَ ميخائيل شمس باهتمام. فما كانَ منها، على دَهشته، سوى اطلاق هأهأة مُتهكّمَة. ثمّ ما عَتمَتْ أن كفتْ عن شعور المَرَح، لتجيب بسُخط: " يا لهُ من خِصْي ٍ مأفون ومُزعج؛ الصقليّ هذا. ولقد سبقَ أن عَبّرتُ صباحاً عن استغرابي ، لمّا أخبرَتني نرجس بعَزم والدِها على اصطفاءِ مَملوكِهِ ذاكَ وَصيفاً ". فما أن أنهَتْ الفتاة ُ جُملتها بذكر الزعيم، حتى أتى مرسالاً من لدنه. فالمَملوك الآخر، الروميّ، المُتكفل أمرَ الخلوة بشمس، ما لبثَ أن ظهرَ على عتبَة باب المُحترَف، ليقول لميخائيل بصوتٍ مُنخفض أنّ سيّدَهُ يَطلبه في الحال.
" حَسَنٌ أنكَ ما زلتَ بَعْدُ في كنفِنا ، يا حكيم "، خاطبه الزعيمُ بترحاب. ثمّ أردَفَ بنبرَة أخرى، فيها ما فيها من قلق وتوَجّس: " لقد بَعثتُ أيضاً في طلب أركان مجلس العموميّة، علاوةً على أعيان البلد الآخرين، وبضمنهم طبعاً صاحبنا الماكر؛ القاروط. إنّ المسألة في غاية الأهميّة والخطورة، على ما فهمته بنفسي من كلام مَبعوث سعادة القبَجي؛ الذي شرَفني بزيارته قبل قليل: فإنّ مولانا السلطان، حفظه الله، قد قرّرَ أخيراً تسييرَ وال ٍ جديد للشام الشريف. ويبدو أنّ هذا الباشا المُكلّفَ، على أغلب الاحتمالات، هوَ في طريقِهِ فعلاً لمدينتنا، وربما يَصلها براً مع جيشٍ جرار، لرَدْع أطماع عزيز مصر، المَعلومة ".

7
عِمارَة قاعَةِ الاستقبال، كما كشفَ المُضيف ذاتَ مرّةٍ عن حاصِلِها، كانت مُدجّنة. إذ تناوبَ في بنيانها الطرازيْن، الغربيّ والمَشرقيّ: فكانت للأول، تلك العضائد البرّانية، الصقليّة المُحتدّ، الداخِل تحتَ رقها المرمرُ البندقانيّ للأرضيّة والمُشقف بأشكال وخيوط هندسيّة، علاوة ًعلى زخارف الجدران، المتبتلة تبتيلاً بيزنطياً.
أمّا الثاني، فإنّ صِفة مَحلّيتهِ، المُستحَبة، كانت يَتجلّى في الفسقيّة الرخاميّة، المَحفورة بعروق نباتيّة، مُذهّبة، إلى سِحْر الطزر الوحيد في القاعَة، المُتطبّع بالأثاث الشاميّ، والمَفصول عن شقيقيْه، الافرنجييْن، بقوس حجريّ تمّ تلبيسه بالخشب المُرقش بالنقوش المُلوّنة.

ولنقل أنّ مَكانَ ميخائيل كانَ إلى جانب القاروط ومُباشرَةً على يَمين الزعيم، المُتصدّر الجلسَة. وبمَحض المَشيئة، وَجَدَ أنيساً لدى صديقي المَلول؛ الآغا العطّار، الذي كانَ شاردَ الذهن بالنظر لتفكيره في السَفر. ولم يكن مُصادفةً، في المقابل، اختيار ميخائيل الجلوسَ بمقابل الآغا الآخر، آمر الدالاتيّة: فمذ اللحظة تلك، التي اُخبرَ فيها من لدُن المُضيف عن العِقدَة النفسانيّة، المُتأصلة في داخل القاتل، المُحتمَل، فإنه وَضعَ آغا أميني في الحلقة التاليَة من حلقات سلسلة الجرائم، المَشئومَة. لقد أجازَ لنفسي هذا الاعتقاد، على خراقتِهِ، طالما أنّ ذلكَ المَملوك المَنحوس، الصقليّ، قد شاءَ أن يُضافِرَهُ الآنَ؛ حينما راحَ يَتبخترُ رَواحاً ومَجيئاً بصفتِهِ، الجَديدة ـ كوَصيفٍ لكبير الأعيان.

إنّ الزعيمَ، فكّرَ ميخائيل، قد أحسَنَ صنعاً عندما أشرَكَ بقيّة الأعيان في هذا الاجتماع المَنذور لغايَةٍ في غاية الأهمّية والخطورة. فمَجلس العموميّة، في واقع الحال، كانَ قد أفِلَ نجمُهُ من زمان؛ وتحديداً بُعيدَ انقلاب الانكشاريّة وسيطرَتهم على المدينة القديمة. فمنذ ذلكَ الحين، تناقصَ عددُ أركان المَجلس، الأصليين، فلم يَتبقّ منهم اليومَ سوى الشاملي والعريان والعطّار. على ذلك، فلم يكُ قرارُ الزعيم الاحتفاليّ، باعادَة تشكيل المَجلس، ليَخدَعَ أحداً. لقد كانَ القرارُ مُجرّد رفعٍ لمَعنويات الخلق، إثرَ دَحر الانكشاريين على أسوار المدينة القديمة وتسلّم القلعة منهم.

لم تهدأ وساوسُ ميخائيل، بطبيعة الحال، حتى حينما أشارَ الزعيمُ لوَصيفه، المَنحوس، بترك المكان والانسحاب مع الخدَم الاخرين. ثمّة في مَطبخ الدار، فكّر ميخائيل على الأثر، ربّما تحَضَّرُ القهوَة المُهيّلة، المُختلطة بمَدقوق السمّ القاتل. فما أنْ أنهى جُملة شكّه، حتى تصاعدّتْ على غرّة تلاوةلإ من الذِكر، الحكيم، بصَوت شيخ الشام، الحَسَن اللّحْن.

" أيها الأكابرُ، الأفاضل. أنتم مُجتمعونَ هنا، في دار أخينا عبد اللطيف أفندي، لبَحث مَسألة مُستطيرَة الشأن. وأرجو ألا أكونُ مُبالِغاً لو استطرَدتُ بالقول، بأنّ الشامَ الشريف، مَدينتنا المُقدّسة، هيَ الآنَ في هذا المَساء راقِدَةٌ على سرير القلق والفرَق، ولا تدري ما إذا كانَ الصبحُ سَيشرقُ عليها غداً أمْ لا "، استهلّ الزعيمُ خطبَتهُ المؤثرَة. ثمّ ما عتمَ أن استأنفَ الكلامَ، شاملاً الحضورَ بلمحَةٍ خاطِفة من عينيْه، العميقتيْ الغور: " أعلمُ، ولا غرو، أنها ليسَت المرّة الأولى، التي يَتهدّد فيها ولايتنا أطماعُ الغير، وأنها كانت تتخلّص منهم بعَون الرحمن وقدرتِهِ الجبّارة. بيْدَ أنّ الأمرَ أكثر حَرَجاً، في هذه المرّة. فالباب العالي، كما اُبلِغتُ بذلكَ اليومَ على لسان سَعادة القبَجي، استنفرَ قوات الولايات الأخرى، الشاميّة، فضلاً عن عسكره الخاص، المَجلوب من جهات الأناضول والروملي. إنّ هذا لدليلٌ، دامِغٌ، على كون الخطر المُتأتي من لدن عزيز مصر، هوَ على جانبٍ كبير من الجدّية؛ خصوصاً، وأننا ندركُ مَدى قوّة جيشِهِ وتسليحِهِ، والمُدَعَّم بخبرَة الفرنساويّة الكفرَة ". بُعيدَ هنيهة صمت، مُبتسَرَة، أنهى الزعيمُ كلامَهُ قائلاً: " إلا أنّ بونابرته بنفسه، كما هوَ مَعروف، سبقَ أن دُحِرَ على أبواب ولايتنا؛ حينما عجزَ عن اقتحام أسوار عكا، المَنيعة. وإنّ مولانا الباديشاه، أدامَ الله عزّه، قد مَنّ على الولايَة بتوكيل سَعادة القبَجي بتصريف أمورها ولحين وصول الوالي الجديد. على ذلك، فعلينا أولاً واجبَ إبداء الطاعَة للفرَمان العَليّ. علاوةً على المُبادرَة، بما أمكنَ من السرعة، إلى تنظيم القوى وحَشدِها على أبواب الشام الشريف صَدّا للغازي، المارق ". نطقَ كبيرُ الأعيان تلكَ المُفردَة، المُنتهيَة بها خطبَتهُ، فيما كانَ يَرمقُ القاروط بطرْفِهِ. وهذا الأخيرُ، على كلّ حال، كانَ هوَ أوّل من بادرَ لإبداء الرأي في كلام الزعيم، طالما أنّ الآخرين من الحضور طفقوا واجمين.

" لقد شرّفني أخي المُبجّل، الزعيمُ، بالدَعوَة لحضور خلوَة هذا المَخطر، الكريم "، بدأ في الكلام البكُ المصريّ ذو السِحنة الخاليَة من التعبير. وما عتمَ أن أضافَ مُسدّداً نظراتِ عينيْه، الماكرتيْن، إلى مَن يَعنيه القصدُ: " وبما أني، أيضاً، مُتشرِّفٌ بالتوكيل من لدن سَعادة عزيز مصر، فعليّ واجبُ نقل ما سَمِعتهُ منهُ، شخصياً، حولَ الوَضع الحالي، المُتأزّم ". قالها القاروط، ثمّ مَدّ يَدَهُ نحوَ كأس الماء ليَنهلَ منه جَرعَة كبيرة. في الأثناء، فكّرَ ميخائيل، بأنّ الماكرَ أنهى جُملته مُختاراً مُفردة ًغريبة نوعاً، كيما يُشيع البلبلة في الحضور. وها هوَ القاروط، يواصل القولَ بالهدوء عَيْنِهِ: " وكنتُ فيما سلفَ من الأيام، قد شدّدتُ مِراراً على سوء الفهم، الحاصل، إثرَ تلقي مَجلس العموميّة رسالة َسعادة الوزير.. العفو، أعني سَعادة العزيز "، نطقَ القاروط كلمَة اعتذارهِ، فيما كانَ يَتصَنعُ التلعثمَ.

" آه، يا لكَ من رجل داهيَة! لقد شئتَ تذكيرَ الحاضرين بصِفة " المارق "، التي تلبّسَت مَقام المَرحوم الوزير "، خاطبَ ميخائيلُ الرجلَ في سرّه. ويبدو أنّ سهمَ المَعنى، المُلتبس، أصابَ هدَفهُ. فالتململُ بدا على الآخرين، وكما عبّرَ عنه كبيرُ العمارَة، العريان، المُتناهض لبتر كلمة المُتحدّث: " إنّ تلكَ الرسالة، المَوْسومة، كانت موجّهة لأعيان المدينة وليسَ لمجلس عموميّتها "

" هذا صحيح، يا آغا. والمَعذرة، مرّة أخرى، لتشتتْ عِبارتي ـ أو ذاكرتي، بالأحرى "، أجابَ القاروط ثمّ أضافَ من فوره: " والمهمّ أنّ سوء الفهم، المَوصوف، قد أجازَ للبعض سوءَ تأويل مَضمون الرسالة؛ والتي لم تكن في حقيقتها سوى كلمات عامّة، عن ضرورة تقديم العَون للعزيز في صراعِهِ مع خصمِهِ، العنيد؛ والي عكا. وحاشى جناب الزعيم، المُبجّل، أن يكونَ من ذلك البعض. فإنّ أصوات الدَهماء، خصوصاً في داخل المدينة القديمة، هيَ التي ارتفعتْ مؤخراً بصخب وجلبَة كيما تشوّش على صَوت العَقل والحِكمة. إنّ أتباعَ أبن وهّاب، الأشرار، كما لا يَخفى على اللبيب، همُ من كانوا وراء تلك الضجّة؛ طالما أنّ حِقدَهم على عزيز مصر، المُتأصّل، يَعود لكون سَعادته من دَحرَ زعيمهم في عقر داره وخلّصَ الخلق من شروره، ولو إلى حين. وإذاً، فلا غروَ أن يَستغربَ المرءُ من دَعوَة بعضنا لِطِغام تلك الجماعة، علاوة على حُماتهم الانكشاريين، للإنضمام إلى الجُهد المُشترك، المُفترَض أن يُوجّهَ ضدّ محمد علي باشا. وأقولها دونما مواربَة، أنّ من الخطل الوثوق بمَبعوثي جلالة مولانا الباديشاه. فقد سبقَ لنا أن جرّبنا سلفَ القبجي الحالي، ورأينا سوءَ تصرّفِهِ طوال وجوده هنا في ربوعنا والمُنتهي، مع الأسف، بمَصرَعه على أيدي أولئك الدَهماء أنفسهم ".

" إنّ المُستغربَ حقا، يا بك، أن يُطلِقَ جزافَ القول من هوَ بمقامكَ "، هتفَ العريانُ بقوّة مُحدّقا بعينيّ مُخاطبهِ. ثمّ استطردَ بالنبرة ذاتها: " وإذا أهملنا، جانباً، تقوّلكَ غير المُناسب بحقّ سَعادة قبجي مولانا السلطان، فكانَ الحريّ بجنابكَ أن تدركَ بأنكَ تخاطب أكابرَ البلد لا فتيَة من الأغرار. فعن أيّ سوء فهم، تتكلّم أنتَ؛ ورسالة حاكم مصر ما فتأت لدينا، بمفرداتها التي تبوحُ بنيّة مُرسِلِها المُبيّتة، العدوانيّة؟ ". هزّ البكُ رأسَهُ بخفة، ثمّ أجابَ المُتحدّثَ: " أمّا عما دَعَوتهُ حضرتكَ، بالكلام غير المُناسِب، فعليّ التذكير بخلق موظفي الباب العالي؛ المُتسِم بالأثرَة والنميمَة والطموح. وإنّ القبجي السابق، رحمه الله وغفر له، كانَ من هذه النوعيّة من الرجال؛ وكانَ لا يَخفي طموحَهُ باستخلاف الوزير على رأس الولاية الشاميّة. وها أني أقدّمُ اعتذاري، سلفاً، فيما لو عمّمتُ الوَصفَ، مُتمنياً أن أكون على خطأ بخصوص سَعادة القبجي، الجديد. بيْدَ أنّ الوقائعَ، مع الأسف، تبرّر شكوك المَرء: وإلا، فما مَعنى استنكاف مبعوث السلطان هذا، المُبجّل، عن الاجتماع مع مَجلس العمومية؛ أو بالقليل، معَ أعيان المدينة الآخرين؟ وأينَ هوَ فرَمانُ الأمان، المُفترض أن يُطمأن أهلَ الشام، في الوقت الذي يُطلبُ منهم أن يَقذفوا بأنفسهم إلى مَهلكة المُواجهة مع عسكر عزيز مصر، العتاة؟ وأيضاً، مَن يَضمُنَ أنّ الجيشَ الجرّار، القادِم بمَعيّة الوالي المُكلّف، لن يَعمُدَ إلى الانتقام من أهالي المدينة، عقاباً لحرَكة العصيان العموميّة، المُنتهيَة بمَصرع الوزير والقبجي؟ ". وكما السِّحْر، فإنّ كلمَة البك فعلتْ أثرها في مُعظم الحضور. فها همُ أولاءُ، مُحتارين مُبلبلين، يتناهضونَ على غرّةٍ ـ كما جوقة من دندنة تقاسيم، مُوَشَّحَة. عند هذا الحدّ، شاءَ كبيرُ الأعيان التدخلَ بعدما تريّثَ في إجابَة الحُجج، التي قدّمَها الرجلُ الداهيَة: " على رُسلِكم، يا سادَة. لنَرْكنَ لحِكمَة الرأي، ونحنُ في هذا الوقت العَصيب بأمسّ الحاجَة للآراء السَديدة. لقد قدّمَ جنابُ وكيل العزيز، المُحترم، ما تيسّرَ له من مُبرارات سَعياً لتبرئة سيّدِهِ من شُبْهَة المُروق والطمَع. وبحَسَب ما فهِمتهُ، فإنه يَدعونا إلى التزام جانب والي مصر في صراعِهِ مع والي عكا. وإذاً، فنحنُ بحاجةٍ، قبل كلّ شيء، لهنيهةٍ من التفكير والتأمّل، تتيحُ للأفكار رخاءَ البال ولحين إكمالنا مُناقشة الوَضع "، قالها الزعيمُ ثمّ أومأ بعينيه للمُضيف في حرَكةٍ مُعيّنة. لحظات على الأثر، وأطلّ الوَصيفُ، الجديد، مُضمّخاً بعُرْف القهوَة، المُهيّلة، كما وبانحناءات الخضوع.

الفوحُ الأليفُ للقهوَة، المُنبَعثُ من بُخار الدِلّة الضخمَة، المُظهّرَة بالنحاس، عليه كانَ أن يَتماهى مع أبخرَة الريَب، المُتصاعدَة من داخل ميخائيل: " هيَ ذي سانِحَتكَ، التي يا صديقي، لكي تقبضَ على القاتل، المَجهول "، خاطب الآغا العطّارَ بصوتٍ منخفض فيما كانَ يراقبُ الصقليّ بانتباهٍ شديد. نعم. كانَ ذلكَ المَملوك المَنحوس، المُترقي حديثاً إلى مَصاف الحجّاب، قد وقفَ جنباً لجنب مع عصمان أفندي كيما يُشرفَ مَعَهُ على شؤون الخِدمَة والضيافة. فما أن انسحبَ الخدَمُ، بعدما تناوبوا دَفعةً وراء دفعة على حمل الحلوى والفاكهة والنقل، حتى أقبلَ عبدٌ حبشيّ، فارعُ الطول ومَرحُ السِحنة، مُحمّلاً بدَورهِ بعدّة القهوة. كعارفٍ بمَقامات الضيوف وترتيبها، باشرَ العبدُ شأنهُ مُستهلاً بوَسَطِهِ المُحزّم بزنار مَعدنيّ، عريض، مُستلاً منه أحدَ الفناجين المُذهّبَة: " تفضلوا، يا مَولانا "، خاطبَ باحترام وتبجيل فضيلةَ الشيخ سراجَ العابدين النقشبنديّ. راحَ هذا يَرشفُ قهوته بتلذذ، فيما بصَره يتأمّلُ القمقمَ النحاسيّ، الموضوع على الطاولة في مُنتصف القاعة. كانَ القمقم على شكل امرأةٍ حسناءٍ، برونزيّة الجلد، مُتناسقة القوام؛ بخصر أهيفَ وردْفٍ عريض؛ على شكل المرأة ذاتها ربما ـ فكّرَ ميخائيل ـ التي كانت فيما مَضى تأمُر بدسّ السمّ لهذه أو تلك من غريماتها وأبنائهنّ.

" أرجوكَ، يا سيّدي، أن تأمروا في الحال برَفع دِلّة القهوة تلك، والتحفظ عليها "، هَمَسَ العطّارُ في أذن الزعيم مُومئاً بعينيه نحو الغرَض المَطلوب. لقد إستلهمَ تواً نظراتِ صديقه ميخائيل، وفهم معناها. بدَوره، أرسلَ الزعيمُ نظرَة إلى تلك الجهة من عينيْن عميقتيْن، مُلتمعتين ببوارق الفِراسَة. وكانَ على مُثلثُ العِلم أن يَكتملَ، باشراك المُضيف في المَوضوع الطارئ، المُستطير. على ذلك، نهَضَ ميخائيل بسرعَة إلى المكان ذاك، في أقصى القاعة، المَشغول من لدُن عبد اللطيف أفندي، لكي يُسرّ أيضاً في سَمَعِهِ: " من بعد اذنكَ، يا أفندي. سِرْ بنا إلى المَطبخ في الحال ". دونما نأمَة، قامَ المُضيف مُتعجّلاً، مُتأثراً خطوَ الآخر المُتجه نحوَ مَدخل القاعة. دبّ شيءٌ من الهرَج بين الحضور، بملاحظتهم غرابَة ما يَجري هنا وهناك: إذ كانَ بعضُ الخدَم قد بدأوا فعلاً بنقل الدِلّة النحاسيّة من القاعة، مُستبدلينها بمَنقل كبير، من المَعدن نفسه، يتصاعدُ منه دخانُ الجمَرات المُعدّة للنراجيل. فما أن أتمّوا رَكنَ المَجمر في مَحلّه، حتى التفتوا هذه المرّة نحوَ الصقليّ، الغارق في مُستنقع الحيرَة، ليحيطوا به في حَلقة مُحكمَة.

" أعتقدُ، يا حكيم، أنّ الوقتَ الآنَ غير صالح للتدقيق في جليّة الأمر "، خاطبَ الزعيمُ ميخائيل بنبْرَةٍ مُعاتبَة فيما كانَ يَهمّ بالعودَة إلى صالون الضيافة. وكانوا قد اختبروا، عَبثاً، مُحتوى عدّة القهوة؛ من دِلاء وفناجين. وعندما شرَعَ الرجلُ بالتحرّك، فإن الحكيمَ استلّ لمْحَة ً أخرى، مُتأنيَة، من مَلامِح المَملوك المَنحوس. عندئذٍ، انتبه إلى حَرَكة هذا الأخير، الغريبَة: إذ كانَ ما فتأ في وَضعيّة الوقوف عَيْنها، مذ لحظة احضارهِ إلى المَطبخ؛ بيَديْه المَعقودتيْن إلى أسفل ظهرهِ.

" ابْسُط يَديْكَ إلى الأمام، أيها الوَصيف "، اتجَه إليه الحكيمُ بالأمر وبلهجَةٍ صارمَة. ثمّة، عند عتبَة المَطبخ، تجمّدَتْ خطى سيّدِهِ. ومن ذلك المَكان، النائي نوعاً، كانَ على عينيّ الزعيم، المُتفرِّسَتيْن، أنْ تعينا ذِهنهُ المُتوقِد. كذلك من جهته، أدركَ الأفندي مَرمى الأمر لذاك للمَملوك، المَشبوه؛ فما كانَ منه إلا أن تقدّم منه كيما يَتفحّص راحَتيْ يَديه.

في بنصر الوَصيف، المُستدَق الحَجم، كانَ ثمة خاتم فضيّ نحيل. ولكنّ فصّ الخاتم، اللازوَرديّ، كانَ بالمقابل على جانبٍ من الضخامَة. وحينما اُمِرَ الوَصيفُ بخلع الخاتم، فإنّ سِحنتهُ أضحَتْ كما لو أنها لشخصٍ مَحكوم بالمَوت. وعلى أية حال، فإنّ قاعدَة الفصّ، العريضة،عولِجَتْ من قبل أصابع الأفندي الصَبورة، الماهِرَة، إلى أن اُمْكنَ تحريكها: إذاك، وما أن تبَدّى للأبصار ما يُشبه حفنة من المِلح، يَسيرة للغايَة، حتى انتفضَ صاحِبُها بعنفٍ مُباغتٍ، وكما لو أنه أصيبَ بمَسّ. حَرَكة الوَصيف تلك، المًوْصوفة، عليها كانَ أن تفضحَهُ لا أنْ تنقِذهُ. إذ وبالرغم من انتثار الحفنة أرضاً، إلا أنه سُرعانَ ما جُمِّعَتْ ذرّاتها بعنايَة من لدن الخدَم، المُتواجدين.

" إنه مَدقوقُ السمّ، ولا رَيْب "، قالها الآغا العطّارُ بيقين فيما كانَ يتفحّصُ تلك المادّة المشبوهة. قبلاً، كان قد طلبَ من الخدَم، حينما همّوا بحَصر الحفنة من أرضيّة المطبخ، ألا يَلمسوا ذرّاتها. وحينما سأله المُضيف عن نوعيّة هذا المَدقوق، فإنه أجابَ قائلاً: " إنه مُستخرَجٌ من إحدى الأزهار، النادرة، التي كانَ المرحومُ، العشّابُ العجوز، يَستنبتها في مَسكبة حديقة دار الحديث ". ثمّ أضاف مُحدّقا في عينيّ المَملوك : " قد تكونُ زهرَة اكليل الجبل، أو ربما زنبق الوادي. بيْدَ أني أرجّحُ، والله أعلم، أن تكونَ زهرة الاقونيطن، الزاهيَة بلونيْها الأزرق أو البنفسجي، والتي دأبَ الأقدمونَ على جلبها من الجبال، كيما يُزينوا بها حدائقهم، المَنزليّة، ومنهم من كانَ يَعمُد إلى تجفيفها سَعياً لتحضير مَدقوق السمّ، القاتل ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب


.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز




.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم