الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة

راتب شعبو

2023 / 9 / 28
الادب والفن


منذ الخطوات الأولى في رواية "قمصان زكريا" لمنذر بدر حلوم (مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، استنبول. الطبعة الأولى تموز/يوليو 2023) تجد نفسك محاطاً بعالم منسوج من خيطين يحاول كل منهما التحرر من الآخر، خيط الطيبة والحب والخير وخيط التسلط والعنف والإكراه. في الرواية لا يخالط أي من هذين الخيطين الآخر، وإن كانا سيشكلان معاً نسيج الرواية. كأن الكاتب، لشدة رفضه التسلط والشر، ولشدة تقديره الحب والخير، لا يستطيع قبول أن يدخل شيئاً من هذا إلى ذاك، فشخوص الرواية مندوبة بالكامل لهذا أو ذاك.
يحرص حلوم على أن يحشد، منذ البداية، وبكثافة، العناصر التي ترسم معالم مجتمع تستبيحه سلطة خفية وصريحة في الوقت نفسه. حين تهم الدخول إلى الرواية تواجهك كلمة واحدة (يختفون)، إنها الكلمة الأولى، وهي بصيغة الفعل المضارع الذي يعطي للأحداث سخونة التتالي ويحرض في القارئ التوتر. وقبل أن تفتح أول أبوابها، تقرأ (ماتت سلافة). باختفاء سلافة تبدأ الرواية، وسلافة تختفي على يد الموت، المُخفي الأعظم. الاختفاء يملأ الرواية، هو مصير التلميذة الجميلة ذات الجديلتين التي سخرت أمام معلمها من الكلام عن وجود الحاكم "عوف" على وجه القمر، وهو مصير معلمها أيضاً. وهو مصير بعض رجال العلم الذين رأوا خللاً في بناء السد (سد عوف) وخطراً في وضعه فوق المدينة وسوءاُ في تنفيذه ورداءة في مواده، ومن لم يختف منهم ارتسمت ابتسامة بلهاء على وجوههم إلى أن ماتوا. وكان الاختفاء مصير لينا ومصطفى وفادي أولاد حسين الذي كان معلم "عوف" في المدرسة، قبل أن يصبح هذا حاكماً للبلاد وقبل أن يستقر في القمر، بحسب الرواية. هكذا "يختفون"، اختفاء ملتبس على يد سلطة خفية، واختفاء صريح بالموت.
ثم تتلاحق العناصر السوداء: حمامة حية منتوفة الريش ملقاة على شرفة بيت زيدون، الأستاذ الجامعي النزيه الذي اضطر أن يستقيل من الجامعة تحت ضغط فضيحة جنسية مدبرة لا علاقة له بها. قطعة لحم مسمومة تودي بحياة بازو، كلب زيدون وصديقه الوفي. مداهمة بيت اخته سلافة في الفجر، الأمر الذي ينتهي بموتها، ليس في غرفة التحقيق في الجامعة إلى حيث استدعيتْ، بل على الأريكة في بيتها "بعد غصة وشهقة" عقب الاستدعاء. إنهم يقتلونك حتى إذا لم يقتلوك.
لا يحتاج القارئ إلى البحث أو التساؤل عمن يقوم بمثل هذه الأفعال "الشريرة". القارئ في بلداننا يعرف تلقائياً أنهم "هم"، والكاتب يكتفي بالإشارة إليهم بضمير جمع الغائب الذي يعود إلى جهة واضحة بقدر ما هي خفية. "طلبوا سلافة لمراجعتهم"، "ألقوا للكلب بقطعة لحم مسمومة"، "إذا كانوا سيرفضون منحي الدرجة بسبب دعوتي لك، فهذا وسام شرف لي"، ... ضمير جمع الغائب معروف الدلالة هنا، إنه ضمير غائب ولكن ثقل حضوره يقض مضاجع الحاضرين، تماماً كما يتفاهم الناس في الإشارة إلى مرض السرطان دون استخدام اسمه.
تنطلق الرواية من صراع لا يحتاج في مجتمعنا إلى نقطة بداية، إنه صراع ثابت إلى حدود البداهة، ولا يحتاج إلى شرح، صراع بين محكومين مغلوبين وبين حاكم مستبد لا يتورع عن فعل شيء لقهر محكوميه وتطويعهم. هذه خلفية ثابتة في وعينا العام، ذلك أن بلداننا لم تعرف في تاريخها سوى الاستبداد، أكان على يد أجنبي أو على يد أبناء البلد. استبداد أبناء البلد هو هاجس مقيم لدى صاحب "أولاد سكيبة"، ففي معظم أعماله تجد انقلاب متسلق السلطة انقلاباً جذرياً على أهله ومجتمعه وتنكره للصداقات والقيم المشتركة التي تنظم الحياة والكرامات بين الأهالي. على هذا تكون أجواء أعمال حلوم ثقيلة على القارئ، ولا يمكن اعتبار قراءة رواياته نزهة ترويح عن النفس أو قضاء وقت جميل ورائق، إنها تحفيز على الفهم وإثارة القلق بالأحرى، كما يلاحظ بحق الشاعر منذر مصري، صديق كاتبنا، في تعليقه على رواية حلوم الأولى "سقط الأزرق من السماء". لنلاحظ مثلاً، في روايتنا، هذا الوصف الذي يثقل على القلب، "هبط الضباب وسكن الهواء واختفى الحمام وملأت سماء المدينة الغربان وليل شوارعها الجرذان".
تنفتح في الرواية العوالم على بعضها البعض، عوالم الناس والجان، البشر والحيوانات، الأحياء والأموات. الكثير من الناس يختفون على يد رجال "عوف"، وهكذا يتحول المختفون إلى فئة جديدة في الواقع، إن لهم أسماء في سجلات النفوس، ولا وجود ظاهراً لهم. قد يكون هذا ما دفع حلوم إلى المضي أبعد. وربما اقتبس من ظاهرة المختفين الذين يوجدون بين الموت والحياة، هذه الظاهرة التي نمت إلى حد فظيع في سنوات ما بعد ثورة 2011 في سوريا، فكرة فتح السبيل بين عالمي الموت والحياة عير التقمص وعبر الحلول والأحلام.
البطش الرهيب يحيل الناس إلى فئتين، مختفين أو خائفين، ولذلك يؤكد زكريا في حديثه مع زيدون "ما عاد أحد يستطيع قول الحقيقة سوى الأموات"، زكريا الذي يفكر، على نحو غريب، بانطلاق ثورة أموات. ورغم أن الرواية تتوسع في الحديث عن الأموات وعن قوانين عالمهم وعن الانتقال المستمر بين العالمين، إلا أن في الرواية ما يدعو للاعتقاد أن حلوم يستخدم الموت للدلالة على نقيضه. حين يتحول الأحياء إلى "موتى على الدروب تسير"، فإن من يرفض هذه الحياة و"يموت" يكون أكثر حياة. هذا ما يمكن فهمه من قول زكريا إنه يبحث "عن طريقة لجعل الموتى يحلون في الأحياء". ألا يعني هذا أنه يريد أحياء أكثر حياة؟ الفكرة نفسها تظهر في الرواية في غير مكان، منها ما يرد في فصل "ثورة الموتى"، حين يتقاطر الموتى عبر الشوارع من أطراف المدينة "حاملين فروعاً أخذوها يابسة ميتة مثلهم فاخضرت في أيديهم". إنه الموت الذي يبعث الحياة إذن.
هل يختار حلوم لشخصيته الرئيسية اسم زكريا اعتباطاً؟ زكريا هو إسماعيل وقد عاد بعد الموت بقميص جديد، فهل للأسماء مدلول؟ لا نعتقد أن حلوم اختار الأسماء اعتباطاً. إسماعيل هو جد العرب، إنه إذن الكناية عن قوم بلغ بهم الضعف والانحطاط والتشتت كل مبلغ، وزكريا هو الكاهن الذي تحققت له بشارة الملاك، ورزق، رغم شيخوخته وعقم زوجته، بولد "لم نجعل له من قبل سميا". فكان اسمه يحيى، مشتقاً من الحياة. كأن في اختياره الأسماء، يؤكد كاتبنا على الضوء الكامن في قلب العتمة، فيقول أن ما يبدو مستحيلاً (ولادة العاقر) سوف يتحقق، وما يبدو موتاً إنما يكتنف الحياة ويضمرها.
تخترع "قمصان زكريا" عالماً يجمع العوالم، كما أشرنا، عالماً لا يطابق ما نألفه من العالم، ولكن عالم الرواية يحافظ، في الوقت نفسه، على ما يطابق عالمنا المعاش، وعلى ما يشكل عصب الرواية، نقصد لا محدودية الشر الذي يجسده "الحاكم" والسلطة المستبدة، ولا محدودية الحب في قلوب الناس. سيلاحظ القارئ كيف يتغلغل الحب في كل مفاصل الرواية، وكيف ينتصر الكاتب للحب بلغة وإحساس عاليين.
يصل الشر إلى حدود القضاء على فقراء المدينة بطوفان ناجم عن انهيار سد عوف، ومحو حارة الجورة، حي الفقراء الذين "جمعهم الفقر خارج مللهم وطوائفهم وعشائرهم". ولكن قسوة عوف ورجاله وتمادي شرورهم، لا تتمكن من الحب، فيبقى ضوءاً ثابتاً يخفف من كثافة ما يشتمل عليه واقع الرواية من أجواء قاتمة.
ورغم القدرة اللافتة لكاتبنا على رصد وتصوير جوانب القسوة والبؤس المتراكم في واقعنا، فإن الرواية يملأها الإيمان بقدرة الحب على اختراق الظلم مهما تراكم، تماماً كقدرة الضوء على اختراق العتمة مهما أظلمت. يعبر هذا الإيمان عن ذاته في العبارات الأخيرة في الرواية حين يرقص المشلولون و"السنديان ينشر الضوء بلا نار، والصنوبر يرسل رائحة البخور إلى بيوت الأهلين، والنارنج يوقظ حنينهم ... وأيوب يخرج من مزاره، ويعبر عتبة مقامه، نحو شروق الشمس".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا