الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


((وقود التنافس السياسي))

محمد ساجت قاطع

2023 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


في فترة حكم المماليك* في العراق الممتدة زمنياً ما بين عام ١٧٤٩ إلى عام ١٨٣١، صارَ تعيين والي بغداد أو حاكمها لا يتم بالطريقة العثمانية التقليدية، وهي طريقة إصدار الفرمان من الباب العالي كما كان يحدث في السابق، يأتي فيه التكليف لأحد الأشخاص بولاية بغداد، وذلك لأن المماليك أصبحت لديهم قوة ونفوذ كبيران، فأصبح تعيين الوالي أو الوزير يتم من خلال ما تنتهي إليه اتفاقاتهم أو نزاعاتهم، «وحين يتم ذلك يجتمع أعيان بغداد وعلمائها فيكتبون عريضة إلى السلطان يسترحمون منه أن يصدر أمره في منح إلى المملوك الغالب» [علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج1] . خلاصة القول أن مركز تعيين الولاة قد تحول من اسطنبول إلى بغداد..

ويقول علي الوردي واصفاً دور أعيان بغداد وعلمائها في هذه العملية : «ويجب أن لا ننسى هنا أن أعيان بغداد وعلمائها لم يكن لهم تأثير مهم في هذا التعيين، فهم يجتمعون عادة عندما يُطلب منهم ذلك، وهم مستعدون أن يوقعوا على أي عريضة يضعها بين أيديهم المملوك الغالب، وقد لا يترددون أن يلهجوا بالدعاء له وبالثناء عليه. وقد ظل هذا ديدنهم حتى عهد متأخر، ولا يزال بعضهم على ديدنهم القديم حتى هذه الساعة.»[لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج1] . والوردي في هذا ينتقد رجال الدين والأعيان في طاعتهم وانبطاحهم للسلطة السياسية، وتسيّرهم لمصالحها، لغرض الحفاظ على مصالحهم الخاصة، وهذا ما تعود عليه الوردي كثيرا في نقد رجال الدين والتعريض بهم كما في كتابه «وعاظ السلاطين» الذي خُصص لهذا الغرض، لأن رجال الدين بهذا يجعلون الدين مطيّة لجميع أصحاب المطامح والمشاريع السياسية الظالمة، حينها يصبح الدين ونتيجةً لسلوكهم الدنيء هذا مقروناً بالظلم والجور والحرمان وضياع الكرامة والحقوق الذي تقترفه السلطة السياسية تحت غطاء الدين وتبرير رجاله، فيصبح الدين بذلك مكروهاً بعين فئات ليست بقليلة من الناس وغريبا عنهم، أو يتحول لديهم إلى حيثية نمطية تتمثل على شكل طقوس وعادات روتينية خالية من أي انعكاسات وقيم اجتماعية أو إنسانية أو اخلاقية..

إن الطريقة التي تم ذكرها في أمر تعيين الولاة أدت إلى نتيجة اجتماعية تلفت النظر كما يقول الوردي وهي استفحال المعارك بين محلات بغداد « فقد جرت العادة في عهد المماليك أنه حين ينشب نزاع بين فريقين منهم على الحكم تنتقل عدوى النزاع حالاً إلى سكان بغداد، فكل فريق من المماليك يستنجد عند النزاع بأصدقائه من رؤساء المحلات وأشقيائهم، وهؤلاء بدربهم يستصرخون أهل المحلة، فتهب المحلة بسلاحها للقتال إلى جانب الفريق الذي استنجد بها، وبهذا تنقلب ميادين بغداد ودروبها إلى ساحات حرب يصول فيها شجعان المحلات على خصومهم شجعان المحلات المعادية وقد تزغرد النساء تشجيعاً لهم ممّا يزيدهم حماساً وعنفاً.» [لمحات........ ج1].



ومن هذا نقول وكأن العراقيين كُتب عليهم دوماً أن يكونوا حطباً ووقوداً لتنافس السياسيين وشرهّهم في الوصول إلى السلطة والحكم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وهذه معادلة بذيئة وسخيفة لا خاسر فيها إلا هم – أي العراقيين - ، ولا رابح فيها إلا السياسيين الذين لا حدود لطموحاتهم، ومن هذا نقول أيضا أن الشعوب التي تبقى دائما – وقوداً للتنافس السياسي – لا يهنئ لها حال، ولن تُرعى لها مصلحة، ولن تُحصد لها منفعة، ولا تبقى لها كرامة، ولا تتمتع بحرية ولا بحقوق..



إن الشعوب والامم التي خرجت من دائرة «وقود التنافس السياسي» لم تخرج منها إلا من بعد مخاضات فكرية عسيرة، وثورات اجتماعية وسياسية عديدة ، صبت فيها الوعي العالي بذاتها، وزرعت فيها المعرفة بالخيارات التي تجلب لها المنفعة والمصلحة والخير والأمان والكرامة. إن الشعوب لن تخرج من عنق هذه الزجاجة إلا بعد أن تعرف نفسها وذاتها، وتعرف ما الذي ومن الذي يُريد لها الخير والمصلحة والمنفعة من الذي يُريد أن يستغلها ويسخرها في خدمة مصالحه، ويجعلها وقوداً في آتون مطامحه التي لا تحدها حدود..

يبقى السؤال متى يكفّ شعبنا الحبيب من أن يجعل نفسه وقوداً للمشاريع السياسية الفاسدة أو التي تبين فسادها، ومتى يخرُج من دائرة «وقود التنافس السياسي»، ويكتسب ذلك الوعي الذي يؤهله لمعرفة ذاته ومعرفة الخيارات التي تجلب المصلحة له أو كما يقول المثل الشعبي «الذي يجلب النار لخبزته»، ويرمي كفة التنافس إلى مضمار الأحزاب السياسية، ليجعل التنافس فيما بينها بأدوات التنافس المعروفة كالدعايات والمشاريع والرؤى التي يتم طرحها لنيل ثقة الجماهير، فتصبح الأحزاب بذلك هي وقود التنافس السياسي، فالحزب الذي يفشل في تطبيق رؤيته التي دعى لها في إدارة الدولة يحترق في آتون الرفض وعدم نيل الثقة الشعبية، ومن ينجح في تطبيق ما دعى إليه يبقى بعيدا عن الاحتراق، وبهذه الصيرورة تترسخ لدينا سلوكيات سياسية ومؤسساتية وحزبية ديمقراطية، تجلب لنا الخير والمنفعة، وتبعد عنا شبح الحرمان..

في دول الديمقراطيات العتيدة والراسخة يتم التنافس بين الأحزاب السياسية في باب وعنوان جلب المنفعة والمصلحة للبلاد، بمعنى أن أي الأحزاب التي تمتلك رؤية ومنهج يمكن من خلاله للبلاد ان تكون أكثر تطور، أكثر تقدم، أكثر تنمية، اكثر استقرار، يكسب ثقة الشعب والجماهير، هذه الثقة التي تأهله لنيل الحكم لأجل تنفيذ رؤاه وخططه، على عكس ما يحدث في بلادنا من تنافس بين الأحزاب السياسية، تنافس قائم على المصالح الحزبية، ومصالح رؤساء الأحزاب وبناء امبراطورياتهم المالية، ونتيجةً وانعكاساً لهذا التنافس الدنيء تنتفي حينها المصلحة العامة للبلاد، وتتوقف معها عجلة التقدم والتطور والتنمية والاستقرار..

يا شعبنا الحبيب، اكسب وعيك، أعرف ذاتك، أبعد نفسك عن دائرة «وقود التنافس السياسي»، وأختر من «يجلب لخبزكَ النار».


___________________________________________________________________________________________
*هي تسمية عربية يشار بها إلى العبيد. يشيع هذا المصطلح تاريخيا للإشارة إلى الجنود العبيد المسلمين والحكام المسلمين الذين يرجع أصلهم من العبيد. وهم عبيد من الشركس أو الأتراك أو القبط كان يتم جلبهم وهم صغار من بلاد بعيدة من أوربا الشرقية والقوقاز لغرض التجنيد والخدمة العسكرية، وهم لا يعرفون ابائهم أو امهاتهم فتتم رعايتهم ونشأتهم في كنف الإمبراطور أو الملك أو الأمير الذي يجلبهم ويكون بهذا ولياً لأمرهم، فيشكل منهم قوات عسكرية نظامية تدين بالولاء والطاعة له، وهذا العامل كان من أهم العوامل في تقوية الكثير من الامبراطوريات الإسلامية مثل الدولة العثمانية التي كانت تسبي الغلمان من البلاد التي تفتحها وبذا كونت منهم ما يعرف ب"الانكشارية" الفرقة العسكرية المعروفة تاريخيا..

✍️ محمد ساجت السليطي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا تحظى سيارة بيك أب بشعبية كبيرة؟ | عالم السرعة


.. -بقنابل أمريكية تزن 2000 رطل-.. شاهد كيف علق حسام زملط على ت




.. عودة مرتقبة لمقتدى الصدر إلى المشهد السياسي| #الظهيرة


.. تقارير عن خطة لإدارة إسرائيلية مدنية لقطاع غزة لمدة قد تصل إ




.. قذائف تطلق من الطائرات المروحية الإسرائيلية على شمال غزة