الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أقْطَعُ بيَدي دابرَ كُلَّ مَنْ يُبْكِي الأمَّهاااات

عبد الله خطوري

2023 / 9 / 30
الادب والفن


يذوب لونُ آلسماء في أفق حَدَقة عين حمئة تحملق ببَلَه في غبش غروب زُرقة أمومة تعشق بقايا آلقفار .. من أسفل الوهدة لمحتُ طيفَها يقفو خطاي المترددة تهش بشاشتها في وجهي مرحبة تنهر الكلاب تبعدها عن سبيلي ...

_آيَلَالِي آيَلَالِي سُومَا .. مَاتُوسِيتْ أتّنْيــِـيـتْ عَمْتَشْ الزهْرَا ..؟؟.. (١)

تَهُشُّ في وجهي مُهللةً مُرحّبةً فرحةً يضمني حدبُها إلى أحضانها ضمةً متينةً دافئةً قاسيةً صلبةً حانيةً غائرة .. شممتُ رائحة حنطة إكليل آلجبال وعجينَها والماءَ الزلالَ وآلترابَ ولَبَأَ الماعز والألبانَ والسمنَ آلشفيفَ وآلحائلَ وآلجُبْنَ آلمُنَسَّمَ بأعشاب (زُويْ) (زُوشَّنْ) والزعتر الحريف ودبغ جلد قربة (تاكَشُّولْتْ) (٢) وكثير من الصبر والعطاء والعناء وقليل من الجزاء .. كل ذلك في آن واحد .. استحييتُ وأنا في خضم هذا الحدب اللامحدود في كرمه أن أبُوحَ بسبب تواجدي في رحاب "اللملاما" (٣) في هذا الوقت من النهار حيث الشمس تقارب الغروب .. صَمَتْتُ مُكتفيا بنظرات مترددة حائرة تُتابع أرضيةً عامرةً بحَصوات تافْزَا تتخللها خنفساء ضئيلة تدحرج في نشاط كُرَتَها الأثيرةَ، تُحركها قوائمُها الخلفيتيْن صعودا إلى ما يشبه أَمَامًا، لا يفتُّ عَزيمتَها عَائقٌ أو كَلَلٌ أو بَرَم .. آه .. عمتي ..!!.. هاته الكينونة الأبية المعاندة المتشبتة بالحياة بأسنانها الصناعية (٤) المتعلقة بأرضها .. أرضها .. ؟؟ .. لا أرضَ لها .. (٥) فقط مزيد من ضنك تامَرَا (٦)، من كد وتعب وشقاء .. رغم ذلك، تظل عمتي عالقة معلقة كأفنان لبالبَ تغرس أظفارا وجذورا في ثنايا ومسام وأحشاء الشجر والتراب وأغوار الأرضين .. شامخة سامقة في وقفتها رغم الجو المثلج والإعصار، تجاهد تكد تكابد يخدش إباؤُها وجهَ السخام والغبار والحجر ووجع حلك الليالي، تناور من أجل الاستمرار في عيش قاس، مجرد عيش لا غير في وحدة قاهرة بمنزل بَعْلٍ لا يعمر آلمجال فهو في ترحال لا ينقطع يلهث وراء تجارة دواب لا تنقطع تاركا وراءه مسؤوليات ينوء بكلكلها جبروت الجو القارس في الليالي المديدات وصلف الحَر في الصمايم المُتْرَعة بندرة الأمواه وكثرة الشغل والشقاء، من حصاد وتذرية في البيادر وجمع للمحاصيل وتهييئ للوجبات وحلب لإناث القطيع وجر وحمل للأثقال وسعي وشقاء وعطاء قَلّ نظيرُه تنجزه عمتي بإيثار دون آنتظار لمقابل أو جزاء (٧) حتى إذا كَدَّ كَدُّها وهان عُمرُها الرّجيفُ وآحدودب البدن الضامرُ، انهارت في معزل عن العالم والعالمين تناجي أرواحا خفية ونسمات عابرة أو مقيمة، لا يبالي بلواعجها أحدٌ، حتى وُسِمت بالعَتَه ومعايشة الجنيات في مسكن رَبْعٍ خَالٍ سموه (لَمْلامَا) دون أن يلم شمل عثارها حظ أو نكد .. مكثت سنين مديدات متشظية في وهاده بمفردها دون عائل أو معين بعد هجرة الزوج وعائلته الجديدة خارج البلدة والدوار ... هي أمومة تطفح بالخير بالكرم بالعطاء بالسخاء بالحنان .. يَحينُ حَيْنُها كل يوم، كل ليلة؛ كل لحظة تقاسي تعاني، تُقْبل على الحياة بعنفوان طافح بالأمل لا يبالي بالعثرات
وعيش الضنك والجمرات ...
ولما لاحظَتْ عمتي حيرةً باهتة بادية على ملامحي آلمشوشة، والاستغراب يلفني، عمدَتْ إلى وجهي تمسكه بكلتا يديها العظميتيْن المجدورتيْن .. لا .. لَمْ أحسْ فيهما بوقع وجيب النبضات، لم أستشعر مرور دماء، لَمْ أجس تدفق حياة في حياة .. صَلبَتَيْن كانتا متخشبتيْن متشنجتَيْن كصخور هرمة لأودية تجف الأمواه في مجاريها وتبقى هي معزولة في أقبيتها المُقعرة تحرقها شموس متعاقبة حارسة متاع غيرها بسذاجة فطرية تعاند بوفاء شريدٍ ينتظر مبسم عيد جديد .. لا مباسمَ في سُحناتها، كانت كابية واهنة متعبة معقوفة الظهر تتهاوى قامتها الضئيلة المحدودة تحت ثقل حمولات صماء تقصم ظهرها، لا ينتهي وقعها الهاتكُ الكاسرُ إلا ليبدأ من جديد .. تخيلتُني وأنا أرنُو إليها كادّةً جادة عاملة تنوء تحت ثقل أوزار الآخرين، فتى شقيا مشردا مشاغبا عابسا يحاول ما آستطاع آسترجاع كرامة أمَيْمَةٍ مَهْضُومَة الحقوق في واقع مُزْر يُشهر أنيابه يَفترسُ عوائل البائسين .. رَنَتْ إلى عينيّ مباشرة وقالت بحدب ذي شجن مفعم بوجع خفي وحسرة مفجوعة ...

_ حَـتّـى تَكْبَرْ أوغَادي تفهممم آمَمِّي (٨) ...

ودون أنتظرَ الكِبَرَ يأتي على مهل أو أنتظر ما لَا تقوى على إتمامه قلتُ :

_ ماذا سأفهم؟؟

_ لا شيء .. واااالو .. آلْ تْمَقَّرْتْ آتْزَرْتْ كُولْشِي ... (٩)

وبإلحاح مُصِرٍّ، صَرختُ غير مُشفق لحالها ..

_مايَنْ غْـرَا فَهْمَااااغْ آعَمْتيييي (١٠) !!؟؟

_ .......صمت..........

_ عَمْتيييييي...!!...

_.......صمت...........

_ تكلميييييي ....

_........صمت...........

_ إينِي شَا قوووولي شيئا

_.........صمت...........

وبعد صمت ثقيل، تَنهدَتْ شَهقتْ زَفرَتْ تَنفسَتْ بعمق ثم نبسَتْ :

_غِي سُوسَمْ هَلِّلي آوْمَــااا غي سُوسَمْ (١١)...

ساعتَها فقط قررتُ أكْبُرَ بسرعة لأُعِيدَ
_ كما يفعل جميع أشقياء الدنيا _ شَهقاتِ دُموعَ الأمومة إلى منابعها أقطعَ بيدي دابـرَ كل مَنْ يُبْكي الأمهاااات ...

☆إشارات :
١_آيَلَالِي آيَلالِي سُوما : أهلااااا أُخَيِّي آلعزيز
_مَاتُوسِيتْ أتّنْيـِـيـتْ عَمْتَشْ الزهْرَا : أجئتَ تتفقد أحوال عمتك الزهراء
٢_تاكشولت : قربة جلد مخصصة لمخض الحليب ( آغِي آشَفَّايْ) قصد تحويله لبنا (آغِي آنَدُّو)
٤_الطبيعية سقطن تباعا كما تسقط أوراق شجرة يانعة قبل مجيئ الخريف
٥_(سِيفْتْ سْعِيدْ اوتْجي وَرْتَنْتْ) النساء من آلْ سْعِيدْ لا يرثن في أعرافنا .. سمعتُ والدَ والدتي يقول .. أما والد والدي فقد مات مبكرا في عز شبابه تاركا إرث سلالة نهشها الأقربون والأبعدون في أجَمة القوي يفترس فيها الضعيف
٦_تامَرَا : الشقااااء
٧_لم يك مع عمتي وهي في أوج حَمْلها مَنْ يعين أو يشد الأزر أو يسعى لخلاص .. الدار ظلت فارغة الا من صراخ حاد يقطع أمشاج النهار والليل دون يأبهَ به أحد حتى وقع الذي وقع .. سقطت الحاملة والحَمْلُ وماتت الأمومة قبل ميلادها ..
٨_حَـتّـى تكبر أوغادي تفهممم آممي : لما تكبر ستعرف تفهم كل شيء يا ولدي
٩_آلْ تْمَقَّرْتْ آتْزَرْتْ كُولْشِي : ستعرف الأشياء كلها لما تكبر
١٠__مايَنْ غْـرَا فَهْمَااااغْ آعمتيييي : ما عساي أفهم يا عمتي
١١_غِي سُوسَمْ هَللِي آوْمَــااا غي سُوسَمْ : اصمت فقط يا أُخَيَّ اصمت فقط ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان