الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: الفصل الخامس

دلور ميقري

2023 / 9 / 30
الادب والفن


1

" نهضتُ باكراً، نوعاً. وها أنا ذا بصَدد اعداد أعشاب الفطور "، قال ميخائيل للمُضيف. كانَ مُتحَفزاً لإنحناءةٍ أخرى على المَسكبة، المُونِقة، كيما ينتقي عروق مُناسِبَة لسَلطة الفول المدمّس؛ التي تعتبَرُ من ضروريات الوَجبة الصباحيّة، في هذا القصر. بالرغم من أنّ البك، المصريّ، يُحبذ قضاءَ أوقات راحَتِهِ في الحديقة، إلا أن كانَ يأنفُ من مُلامَسة أدواتها. إذ كانَ في مَسلكِهِ اليوميّ، قدَرٌ من وسواس النظافة، مُنفِرٌ. هذا الوسواسُ، في عُرْفِ صاحِبِه، يَكلأ المرء من عَدوى الأوصاب والأوبئة: " إنّ الأكابرَ، عادةً، لا يَموتونَ من الجوع بل من المَرَض "، قالَ لميخائيل ذاتَ مَرّةٍ مُتفكّهاً.

إلا أنّ تواضِعَ المُضيف الكريم، ما لبثَ أن ارتفعَ درجاتٍ لمّا تنازلَ وشارَك في كِفافَ الفطور، ثمة في مَنظرة الحديقة. فضلاً عن ميخائيل، فإنّ ذلك الرجل، المَدعو حنا بَحري، كانَ عندئذٍ في المَعيّة. أمّا مَن تعَهّدَ الخِدمَة، فلم يكن سوى العشّاب، القائم على شؤون المَبقلة والمُختبَر معاً. إنه رجلٌ عجوز، ذلق اللسان، مُحبّ للحياة وأطايبَها. تعليقاته الطريفة، خلال تناول الطعام، كانت تقابل في كلّ مرّةٍ ببَسمة من طرَف فم سيّده، مُشجعَة. من جهته، كان ميخائيل قد توالف مع طبع العجوز، بما كانَ من طول ساعات مُعاشرة صحبته في المُختبَر والحديقة على السواء. إذ كانَ المُضيف، بلطفه المأثور، قد أمَرَ العشّابَ بتقديم أيّ شيء يحتاجه الضيف، فيما لو هَفتْ نفسه لذكرى مِهنته الطبيّة. بلى، كانَ ميخائيل قد تفرّغَ لوظيفته في مجلس الولاية، وذلك مذ أن تم تأسيسه من قبل إبراهيم باشا.

" خِزياً لشيْبَتكَ، أيها اللاهي عن الآخرة بعَفارة العَطارة "، خاطبَ ميخائيلُ العجوزَ ردّا على احدى دعاباتِهِ المُعتادَة. وكانَ الآنَ معه في حجرَة المُختبَر، يُنصتُ لذيول هأهأته بينما رائحَة القوارير، الزخمَة، تحلّق بدَورها في الجوّ المُحيط. طاولة ميخائيل، التي وقف العشّابُ بالقرب منها، كانت مَرصوفةً بكلّ ما تطيقه مساحَتها الفارهة، المُستطيلة، من أدواتٍ مُعينة؛ من أوان وقموع ومَراشِح ومُكثفات وانبيقات. أما القاروط، فكانَ غيرَ حاضر، كونه قد اصطحَبَ إلى الدور العلوي ضيفَهُ الآخرَ، بَحري بك، للتباحث بشأن ما يَخصّهما.
صاحِبُ القصر، من ناحيَتهِ، كانَ أيضاً على دِرايَة بعلوم الأعشاب، مُواظِباً على استجلاب كلّ ما يَتصل به من أدواتٍ وأجهزةٍ، حتى صارَ لديه منها مَخطرٌ في المُختبَر، مُعتبَر، يُعين العشّابَ على تركيب شتى أصناف العقاقير والدهون والزيوت والأصبنة والطيوب.

كونه صبيحة يوم جمعة، بدا العجوزُ مُتململاً بينما هوَ ينتظرُ حلول مَوعد آذان الظهر، لكي يَتوجّه للمصلى. على ذلك، تركهُ يالحكيمُ َيتمادى بتقليب أوراق مُجلّد في المؤانسَة، من وَضع الشيخ العلامَة، " الرازي "، وراحَ يستعيدُ ما كانَ من وقائع الأسبوع المُنقضي، المَهولة، المنتهية بدخول الغازي المصريّ إلى دمشق.

" رأيتُ مَقعَدي في الجنة، وقد استبْدِلَ بآخر في النار "، كذلكَ افتتحَ الوَصيفُ اعترافاته حينما ضُبط، أخيراً. كانَ من سوء الحال، مَظهراً وباطِناً، أنه بدا وكأنما يَهذي في بحران من الحُمّى. قبلاً، كانت له سِحنة المُنتصِر، عندما اُفرغ مُحتوى دِلّة القهوَة في طبق من الحشائش، المُقدّمَة لأحد أرانب الدار: فالمُضيف العلاّمَة، كانَ قد اقترَحَ إطعام ذلك الحيوان بالذات، كونَ ضغط دَمِهِ مُشابهاً لضغط دَمِ البشر. ولكنّ شكلَ صاحبنا، الصقليّ، انتهى إلى مُنقلبٍ آخر، ما أن اكتشِفَ أمرُ الخاتم الفضيّ، المُتوّج بفصّ اللازوَرد؛ والذي كانَ يَخفي حَفنة ًمن مَدقوق السمّ، القاتل. فما أن لفظ الأرنبُ التعِس أنفاسَه الأخيرة، بُعيْدَ الاختبار المَطلوب، حتى ظهرَ المملوك المَنحوس كمَن حانَ أجَله أيضاً. على أنّ خبَرَ الواقعَة هذه، الشنيعَة، كانَ له مُبتدأ ولا غرو ثمة، في قاعة الضيافة؛ في مَساءٍ حارّ، مُنار بقمَرٍ شاهِدٍ.

" هيَ ذي دِلّة القهوَة، المَنذورة لآغا يَقيني، مَحمولة من لدُن الوَصيف بنفسه "، أسر ميخائيل لصديقه العطّار. عليه كانَ أن يرتاب بالأمر، بالنظر إلى أن العادَة في بيوت السراة، تقتضي أن يتكفلَ الخدَم بهكذا عمَل. قبلاً، ومذ بدايَة الاجتماع، كانَ ميخائيل يراقبُ خفيَةً مَسلكَ الصقليّ. فجاءتْ حرَكته تلك، المَوصوفة، لتفاقمَ من ريبته. فما كانَ منه إلا المُبادَرة بتنبيه سيّده، الزعيم، ومن ثمّ صاحب البيت. هذا الأخير، من جانبه، ما عتمَ أن توجّه إلى ضيوفِهِ، المُنتظرين في قاعة الصالون، طالباً منهم مواصَلة التمتع بفترَة الراحَة، التي سبقَ واقترحَها عليهم الزعيمُ. إلا أنّ الحضورَ، على ما بدا من ردّة فِعلِهم، رأوا في ذلك نوعاً من المُواطأة على صَرفِ بالِهم عن أمر ما، مُستجَدّ: في واقع الحال، فإنّ أحدَ الخدَم، مَمن شهدوا واقعة القبض على القاتل، كانَ قد افلتَ عباراتٍ طائشة قدّامَ أولئك الضيوف، حينما سُئلَ ثمّة عما يَجري. وإنه خلقُ الأفندي، صاحب البيت، من كانَ يُتيحُ للخدَم حُريّة القول، جِهاراً أو هَمساً؛ ما داموا على يَقين بأنّ ثرثرتهم لن تجزى بالعقاب الصارم ـ كما هوَ الحالُ مع أندادهم، ثمة في دور السراة الأخرى.


" قهوَة مُثلى؛ طيبُ عبَقِها مَنعوتٌ بكرَم البيتِ وصاحِبهِ "، هكذا أثنى الشيخ النقشبندي على قهوَةٍ تناول مَراشِفها من الفنجان المُذهّب. أما وقد باحَ ذاكَ الخادمُ ، الثرثارُ، بسرّ الهرَج المُعتمل في مَطبخ المنزل، فإنّ الجَزعَ شاءَ أن يُضيء ملامح الشيخ أكثرَ مما كانت تفعله تلك المسرجَة، العظيمَة، المُتدلّيَة من سقف قاعة الضيافة. وكانَ كبيرُ الأعيان قد عادَ إلى قاعَة الضيافة، بعدما تناهى إلى عِلمِهِ ما كانَ من جَلبَة المُجتمعين. إذاك، حاولَ تهدئة مَخاوفهم مُداوَرَة ً. بيْدَ أنه، إلى الأخير، اضطرّ للإجاية الصَريحة على سؤال شمّو آغا: " ليَسمَح لي، جنابكم، بهذه المُساءلة. هَل صحيحٌ ما اُخبرنا به، تواً، من أمر مَملوككَ ذاك؛ من أنه كانَ يَهمّ، قبل قليل، بدَسّ السمّ لأحَد الحاضرين هنا؟ ". فأجابَ الزعيمُ وقد مَحَق الحَرَجُ، المؤقتُ، علاماتِ هَيبتهِ، الراسِخة: " أجل، يا آغا. أعتقدُ أنّ مَغامِضَ الجرائم تلك، المَعلومة، قد قارَبتْ الآنَ على الانجلاء. ولكني، من ناحيَة أخرى، أريدُ من حضراتكم التأكدَ، بأنّ أحدَ الحاضرين في مَعيّتنا لن يُمسّ بأذىً إن شاء الله. لأنّ ذلك الشخص، المَشبوه، قد تمّ التحفظ على حركتِهِ في الوقت المُناسب "، قالها مُتأثراً بدَوره.

" إنّ موجبَ التكتم، إذاً، من المُفترَض أنه انتفى مع القبض على القاتل. أمْ أنّ الأمرَ ما فتأ، بَعدُ، مَحض شُبهَةٍ ؟ "، توجّهَ شيخُ الشام بسؤالِهِ للزعيم وكانَ أكثرَ الحضور قلقا ولا غرو. وفهمَ الشاملي داعي توَجّس الضيف، النقشبنديّ؛ طالما أنه كانَ الوحيد، بينَ أولئك الأكابر، من تناولَ القهوَة المُهيّلة، المَشئومة. " هوَ ما تفضلتَ ، يا مَولانا. إنّ وَصيفي ذاك، التعِس، ما زالَ يُنكر التورّط بتلكَ الأفِعال القبيحَة "، أجابَ مَغموماً مُخاطِبَهُ. ثمّ أضافَ قائلاً: " لقد تهددته بأني سأسَلّمهُ لسَعادَة القبجي، المُقيم في القلعة. إلا أنّ التعِسَ ما فتأ يُصرّ على الزعم، بأنّ ذلك الخاتم، المُحتوي على مَدقوق السمّ، قد اُهديَ إليه منذ صِغرَه مِنْ لدُن أبيه بالتبني؛ التاجر المَغربي ". ندّتْ الكلمات الأخيرة من فم الزعيمُ فيما كانت عيناه ترشقان جارَهُ، القاروط ، بنظرةٍ مُعيّنة، مُحيلةٍ على الأغلب لِصفة الربيب ذاك.
" يبدو لي، أيها الزعيم، أنّ حظكَ من الوصفاء ليسَ سَعيداً "، تدَخلَ القاروط بدَوره وبنبْرَةٍ مُتخابثة. فإذ كانَ هوَ، أحمد بك المصري، في مَوضِع الريبَة مذ بعض الوَقت، فها أنّ الأمرَ أضحى على مُنقلبٍ آخر؛ حينما باتَ كبيرُ الأعيان في مَوقفٍ غير مَحسودٍ، بسَبب كشْف سِتر وَصيفهِ. على ذلك، هزّ الزعيمُ رأسَه علامَة ً على المُوافقة، قائلاً للقاروط بخفة: " معكَ حق، يا بك. إلا أنه من السابق لأوانه الجَزم بدوافع هذا الوَصيف، وما إذا كانَ دَسّه السمَّ لهذا وذاك إنما كانَ بتحريض من أحدهم، وربما لقاءَ مال ٍ مُجْز ٍ".

على الرغم من بروق ورعود الموقف الراهن، بقيَ ميخائيلُ غائباً ـ كرأس الكمأة ـ فيما تبقى من المشهد. بالمُقابل، فقد كان يتسلّى بُعيدَ عودته من المَطبخ بالنرجيلة، المَوضوعة بتصرّفه، المُوشى بلّورها بتلاوين فيروزيّة وياقوتيّة، أخاذة. استمتعَ بين فينة وأخرى بسَحب أنفاس من دخان التنباك، الليلكيّ، المُتصاعِدَة مَثاقيلُ عَبَقِهِ من رأس النرجيلة، المُتوّج بالجَمر. " إنّ الزعيمَ، قد سَدّدَ الآنَ للقاروط لطمَة ً قاسيَة ولا رَيب؛ كذلكَ يبدو، من ناحيَةٍ أخرى، وكأنه ما زالَ يَتهمُ وَصيفه القديم، القتيلَ، بكونه الشخص المُتورّط بدسّ السمّ للمرحوم آغا أميني وبتحريض من البك المصري "، خاطبَ نفسه. وكان في تلك الهنيهة، الحَرجَة، تائقا للإنتهاء بسرعَة من أمر الموقف الراهن، لكي يُتيح انصرافُ الضيوف التفرّغ للوَضع الخاص، الذي جدّ على أثر كشفِ خبيئة المَملوك ذاك، المَنحوس. ومن حُسن الحظ، فإنّ كبيرَ العَمارة هوَ من بادرَ إلى حلّ المُعضلة، حينما توجّه للحضور بالقول: " لندَعَ مَسألة المَملوك جانباً، لأنّ حلّها، على الأرجَح ، باتَ بمُتناول اليَد. إننا موجودون هنا، أيها الأكابرُ، بُغيَة استباط حلّ لمَسألة أخرى، أجلّ وأخطر. فعلينا جميعاً واجبُ ايجاد مَخرَجٍ لهذا الوَضع، العَسِر، الذي تتخبّط فيه ولايتنا؛ وهيَ تكادُ تكون مَسحوقة من جانب ثِقليْن، جبّارَيْن، ناهيكم عن فقدان الأمان وشحّة الرزق ".
رأى الآغا العريانُ أعينَ الحضور، المُتسائلة، تتطلّع نحوَه حاثةً إياه على الإيضاح والبيان، فأضافَ قائلاً: " الرأيُ عندي، ألا نخرجَ من هذا المَنزل، المِضياف، إلا بعدما نكونُ قد اتفقنا على مَوقفٍ مُوَحّد وحَكيم في آن؛ مَوقف مُشرّف، حتى لوَ كانَ سَيكلفنا حَياتنا ". وكأني بالمُتحدّث، الجَسور، كانَ يتنبأ في تلكَ اللحظة. مثلُ ذلكَ الشعور، شارَكه فيه شمّو آغا، الرجلُ المُتمرّس والشديدُ البأس. فقد أظهِر رَغبَته بإدلاء الرأي في المَسألة: " إذا كانَ الأمرُ يَتعلّق بحيواتنا، فقد جُدْنا بها مِراراً على حدّ سيفِ مَواقف أخرى سابقة، مُشابهَة "، استهلّ الرجلُ قولهُ ثمّ تابَعَ: " بيْدَ أنّ الأمرَ، في الساعَة العصيبَة هذه، إنما يَخصّ مُستقبلَ الولايَة بأسرها. ولنقلها صريحَةً! أنّ قوّة عزيز مصر، القاهِرَة، قد تجلّتْ مَرّاتٍ عديدة في الأعوام الأخيرَة؛ سواءً عندنا في تخوم السلطنة المَشرقيّة، أو ثمّة عندَ تخومها الغربيّة، المُواجهَة للإفرنج الكفار. فلو اتفقنا على مُجابَهة تلكَ القوّة، المُتحدّيَة الآنَ إرادَة َ مولانا الباديشاه المُعَظم؛ فعلينا دونما ابطاء أو تردّد، أن نجهّز تحصينات المَدينة القديمَة، المَنيعة. حتى إذا ما سَقطتْ مَدينة عكا، لا قدّر الله، فإنّ الغازي سَيُصدّ هنا على أسوار الشام الشريف ".

" ولكنّ ذلكَ، يا آغا، يَعني المُجابهَة مع وجاق الانكشارية، المُسيطر على المدينة القديمة "، قالَ آمرُ الدالاتية مُلاحِظاً. فشدّ زعيمُ الصالحية على نواجذهُ، بحرَكةٍ فيها ما فيها من تصميم وعِنادٍ، مُجيباً تساؤلَ صاحِبهِ: " لا مَندوحة أمامَ أولئكَ الانكشاريين، الأوباش، سوى القبول بالأمر الواقِع. فإما أن يَنضمّوا طواعيَة ً إلى جهودِنا، الراميَة لصَدّ الغزاة، أو أن يُخرَجوا بالقوّة من المدينة القديمة؛ خصوصاً، وأنّ جيشَ الوالي الجديد، المُكلّف، باتَ اليومَ على مَقربة من حدود الولايَةـ بحَسَب مَعلومات سَعادة القبجي، المَوثوقة "

" ليسَ جيش والي مصر، ولكنه جيشُ الوالي ذاك، المُكلّف، مَن يُهدّد حقاً مدَينتنا المُقدّسَة "، هتفَ القاروط مُنفعلاً على غير العادَة. شمّو آغا، فوَّقَ رمْحَ نظرَتِهِ الصارمَة باتجاه المُتكلّم، وذلكَ قبلَ أن يَنهض للردّ عليه بالقول: " كفى مُداوَرَةً، أيها البك المُحترَم. إنّ ابراهيم باشا، سَرْدارَ جيش والي مصر، قد بعثَ إلى المير بشير، حاكم جبل لبنان، طالباً منه ارسالَ رجالِهِ إلى عكا، بُغيَة المُساهمَة في مُحاولة اقتحام أسوارها. إنّ رسالتهُ للمير، المَعلومة، والتي وَقعَتْ اتفاقا بيَد أعوان عبد الله باشا، تحضّ جَهاراً على عصيان جلالة السلطان، أعزهُ لله ونصرَه، بل وتدعو للخلاص مما تزعمُ أنه طغيان العثمانيين وظلمهم وجهالتهم وتخلفهم ". فما كانَ من البك المصري سوى التبسّم بوَجهِ صديقه هذا، المُقرّب، مُتسائلاً بتهكّم: " وإذاً، أليسَ الأتراك على تلك الصِفات، المَوسومة، وربما ما هوَ أسوأ؟ وإذا كانَ الأمرُ بخلاف ذلك، فلِمَ حَصَلتْ الثورة ضدّ الوزير، والمُوديَة بحَياتِهِ إلى الأخير؟ ولِمَ كانَ تشكيلُ مَجلس العموميّة ـ كبديل ٍعن سُلطة السلطان، المَفقودة؟ ". فما أن أغلق القاروط شَدقهُ، حتى راحَتْ كلماتهُ، المُستهترَة، تدوّم فوق رؤوس الحاضرين ـ كما لو أنها بوم الشؤم. الصمتُ المُريب، المَديد، شاءَ أن يُبترَ مع كلمَة الآغا العريان، المُتصيّدة طيورَ البك، المَشئومة: " وأقولها لجنابكَ، بدَوري؛ أنْ كفى خِداعاً للرجال الأكابر، الذينَ سبقَ لهم أن مَنحوكَ الثقة، فاختاروكَ ركناً من أركان مجلس العموميّة، ثمّ أرسلوكَ بهذه الصِفة، تحديداً، لكي تجتمعَ بالمير بشير وتَضعهُ بصورَة الوَضع الذي جدّ هنا، بُعيْدَ مَصرَع الوزير والقبجي على أيدي الرعاع ". ثمّ سكتَ المُتحدّثُ بعضَ الوقت، قبلَ أن يُشيرَ بيده نحوَ الجلوس، مُضيفاً: " فماذا فعلتَ أنتَ بثقة هؤلاء الأعيان، المُبجلي المَقام؟ لقد هَدَرتها في مَهبّ طموحاتِكَ الشخصيّة. وها همُ هنا، وفي هذه اللحظات المُتوَجّسة، عليهم أن يخططوا للقادِم من الأيام، لا أن يُضيّعوا وقتهم في الانصات للمُخاتلة والإخبات. أجل، يا سيّدي. علينا أن نتدبّرَ أمرَ إصلاح ما أفسدته حضرتكَ؛ حينما أجزتَ لنفسكَ التفرّد بقرار الاتصال بحاكم مصر ودَعوَتِهِ إلى ضمّ ولايتنا لسُلطتِهِ رُغماً عن إرادَة مولانا السلطان ".

" ولا يَقلّ سوءاً، أيضاً، ما كانَ من توريط أخينا؛ الآغا العطار "، قالَ زعيمُ الصالحية مُعقباً على كلِمَة كبير العَمارة. ثمّ أردَف شمّو آغا، مومئاً نحوَ المعنيّ بطرَف عينه: " لقد اُوهِمَ صَديقنا أنّ المجلسَ، بتفويضٍ مَزعوم، قد أجازَ الاستنجاد بذاكَ الوالي، الطامِع ". عندئذٍ التفتَ القاروط بدَورهِ إلى العطّار، مُستلاً لمحَة ًسريعَة من مَلامحه. كانَ يُريد استنفاضَ دَخيلة نفس الرجل، وما إذا كان مُتفقاً مع الآراء تلك، الثقيلة المَحمل، التي قيلتْ في حَقهِ ـ كوكيل لعزيز مصر. وبما أنّ اسم العطّار، في آخر المَطاف، قد تمّتْ الاشارة إليه دونما مُوارَبة، فكانَ لِزاماً عليه التكلّمَ.

" أيها الأخوة، الأكارم. أجدُني حقاً في وَضع ٍلا اُحسَدُ عليه، بعدَ كلّ ما قيلَ بشأن سفارتنا إلى مصر، بمَعيّة أخينا المُبجّل؛ أحمد بك "، افتتحَ القولَ مُتقصِّداً الإطنابَ بمَقام القاروط لعلّة ما. هذا الأخير، كانَ قبل حين يبدو مُتهيئاً لِمُغادرة الاجتماع، مُستاءاً من الإتهامات المُكالة له تِباعاً. إلا أنه، إثرَ فاتحَة الكلمة تلك، ما عتمَ أن استعادَ بعضاً من الثقة بالنفس ـ كما بيّنتْ عنه ابتسامَتهُ، المُقتضبَة. وعلى أيّ حال، فإن المتكلّم لم يعمَد إلى تبرير مُهمّة الاتصال بعزيز مصر، مثلما كانَ يأملُ القاروط. على ذلك، استأنف الرجلُ حَديثه مُواربَةً: " قد يكونُ حَصَلَ، فعلاً، نوعٌ من سوءِ الفهم فيما يخصّ سفرتنا إلى القاهرة لتسليم رسالة المير بشير للوالي المصري. ولكنها، كما تعلمونَ، كانت رغبَة سعادَة حاكم لبنان، بل وإلحافه علينا شخصياً. وبهذا الشأن، استميحُ لذاتي العذرَ من أخينا المُبجّل، عبد اللطيف أفندي؛ إذا ما أشهَدتهُ على حقيقة ما شدّدتُ عليه آنفاً ". بكلّ تواضع وأريحيّة، أحنى المُضيف رأسَهُ علامَةً على التصديق.

" إنكَ، أيها الأخ العزيز، غير مَلوم بشيء في كلّ ما يَتصل بالمَوضوع. وأنا أتحَمَلُ ، لوَحدي، مَسؤوليّة حَمل الرسالة تلك؛ المُوجّهة من حاكم الجبل لحاكم مصر "، قالَ القاروط بهدوء مُحدّقا بعينيّ العطّار. نحنحَة الزعيم، المألوفة، عليها كانَ أن تختتمَ الجدَل المُتفاقم حولَ موضوع المهمّة المصريّة: " آنَ أوانها، صلاة العشاء. فلنؤجل الحَديث إلى ما بَعد أداء الفرض. وآملُ أن نعودَ من المصلى بقلوبٍ نقيّة، أزالتْ أوشابَها وأوصابَها مَغفرَةُ الخالق عزّ وجلّ "، قالها بنبرَةٍ مُتسامِحَة. توجّه الجميعُ إلى المصلى، فبقيَ ميخائيل لوحده في صحن الدار. إن دعوته لحضور الإجتماع، وهو النصرانيّ، كانت وحدها كفيلة بالتأمّل. ليسَ ذلك فقط بسبب الثقة الممنوحة إليه، المتجلية سابقاً في طلب المجلس منه السفر للإمارة اللبنانية، بل وأيضاً كونه أدى خدماته ـ كطبيب ـ للعديد من الأعيان وعوائلهم بعدما كانوا مكتفين من قبل بالتداوي عند العطّارين.

2

دأبه كلّ صباح ، مذ حلوله ضيفاً على البك المصري، ضرَبَ ساعةً في أرجاء هذه الجنة. كلفه بالمكان، لم يكن مَرهوناً، حَصراً، مع اهتماماته المَنذورة للأعشاب والزهور، المثستعملة طبياً. إذ لطالما استهوى الجَمالُ نفسه، بمَذاهبهِ كافة. وها هيَ صُنعة الخالق، الجَميل، تتجلّى باهِرَة ً في خطط الحَديقة هذه، المُلحَقة بالقصر. وإنها لتتبَدّى على أكمل وَجه، ما لو شهدَها المَرءُ من الترّاس: إذاك، فإنّ مَشهَدَ الحديقة ليُماثل هيئة قرص الشمس؛ مَركزهُ البركة الدائرية الشكل، المُحوّطة بالأقحوان الأصفر؛ فيما المماشي المُتناهية إليها تتألقُ بالرَمل الخشن، المُفضض، والذي يبدو بدَوره على شكل أشعّة لألاءة. ثمة تماثيل مَرمريّة، مَجلوبَة من أوروبا، لِسباع تتحلّق مُتدابرَة وبركة الحديقة تلك، المَوصوفة. إنّ صانع هذه التماثيل قد بثّ فيها الروحَ، حدّ الايهام بأنها دوَيْباتٍ حيّة تسعى إلى رزقها.

تنحَى ميخائيل عن قرص الشمس الأرضيّ، المُخضوضر، لكي يستقبلَ أصله السماويّ، المُذهّب، المُترامي السبائك على الجوانب الجنوبية للحديقة. مَوعِدُ حُضور العشّاب، لم يَكن قد آنَ بعدُ. وكانَ في نيّة ميخائيل الاستمرار في التجوّل هنا، خلل الخضرَة المُونِقة، حينما فوجيء بصوتُ سُعالِهِ، المألوف. تطلع نحوَ جهة الخدَملك، ليرى العجوزَ مُقبلاً بمَشيته الوَئيدَة، المُتبخترَة. بادَر بتحيّة الصباح، فيما ابتسامتهُ المُتغضِنة تنفرجُ عن الفم الأدرَد.

إنّ هذا العشّاب، العجوز، كانَ مُختلفاً تماماً في طبْعِهِ عن ندّه ذاك، المَرحوم؛ الذي أجبرت شمس على إقامة علاقة جسدية معه، أثناء فترة وجودها في مدرسة الحديث البرّانية؛ بما تمتع به الأول من ظرافة جمّة. فضلاً عن ذلك، كانَ عشّابُ القصر حَفيلَ الحَصافة والنباهَة. إنّ سِعَة مَعرفتِهِ بمواضيع الانبات والتشجير، جَعلتْ سيّدَهُ يَستغني عن إنابَة بُستانيّ خاص لشؤون الحديقة. ثمّة خِصْلة في الرَجل، جَعلته مُقرّباً إلى الحكيم؛ وهوَ كونه مُتفرّداً بأصله الشاميّ، بينَ الأتباع الآخرين، المَجلوبين جميعاً من مصر.

" إنّ قطيعَ أعوام عُمْركَ، كما يُخيّل إليّ، ضاعَ أكثرُهُ في مَفازة الشهوَة "، قال الحكيمُ للعشّاب العجوز المُنهمِك في شؤون قواريرهِ. الإنشراحُ، بدا على سِحنة الرجل، المُتخمَة بخطوط الزمَن، حينما شاءَ الإجابة مُتماجناً كعادَتِهِ: " ولكنّ خيالكَ، يا قاموسَ الوَطيس، لم يَخطر له اختصار اُثال الطبابة في صِفة واحدَة "
" أيّ صِفة لدَيك، يا رَهينَ الخِصيتيْن ؟ "

" هيَ في حقيقة الأمر، تعازيمٌ مُختمَة في حِجاب "، أجابَ بجدّية هذه المَرّة. وبالرغم من لهجته، المُلفقة بالعَبث، فإنّ اصرارَهُ على تحدّي ما يكتنزهُ الحكيمُ من علوم الأعشاب، كانَ ما يَفتأ يُثير الحنق. على ذلك، تطلّع إليه مُتحدّياً بدَوره: " أطلِقْ من إسارهِ، إذاً، حِجابَك المَوصوف "، قالها الحكيمُ مُستخِفاً. عندئذٍ حدّق فيه العجوز بتمَعن، ثمّ ما عَتمَ أن عَرَضَ كفه الأيمَن: في بنصَره، كانَ ثمّة خاتمٌ كبيرٌ نوعاً، من مَعدن حائِل للفناء، مُتوّجٌ بالمُقابل بفصّ، زاهٍ، أزرَق السِمَة؛ فصّ، يَمتّ ربما لحجَر اللازوَرد. ولم ينتبَه الحكيمُ لِمُراد العجوز من حَرَكته تلك، إلا بعدما أجاب بغموض: " إنّ زمَنَ نيابَتِهِ، خاتم الطلاسِم هذا، مَوقوتٌ بكوكب عطارد؛ المَنذور ليوم السَبت ". وكان اليومُ جُمعة. إذاك ندّتْ عن الحكيم آهةُ دَهْشةٍ، عندما اقتحمَ ذاكرته طيفُ المَملوك الصقليّ. بيْدَ أنه سُرعانَ ما طرَده من خاطِره، حينما طرأتْ صورة أخرى، مُغايرَة تماماً.

" هل تناهى لِعلمِكَ، أيها الشيخ، خبَرُ قرينٍ لهذا الخاتم، يَزعمُ إزالة حُجُب الإشارات، المُرَمَّزة؟ "، توّجه الحكيمُ بسؤاله لدَعيّ المَعرفة. وكان في هذه الهنيهة مُهتماً بأمر خاتم مَولانا؛ الذي فقِدَ من صديقه العطّار. عينا العجوز، المُؤرَثتان بجَمرات المَكر، ما لبث أن تألقتا ببوارق الزَهو. إلا أنه شاءَ أن يَطرق برأسه، مُتفكّراً مَلياً، قبل أن يَفتحَ فمَهُ: " كلّ مُجدّ في طلبِ شيءٍ، لا بدّ أن يَعرض من مَطلوبهِ إشارة "، قالها بإلغاز. فما أن طرقَ سَمعُ الحكيم المُفردة الأخيرة من الجملة الفائتة، حتى ألمّ بذهنه وَميضٌ مُباغِتٌ: " آه، يا لي من غبيّ! إنّ ذلكَ المَملوك، المَنحوس، هوَ من سلبَ صديقي الخاتم، إضافة ً لِحِزمَة الأوراق تلك، التي انتزعَت من كناش الشيخ البرزنجي "، خاطب سرّه. وإذ وَصل بفكره إلى تلكَ النقطة، القاطِعَة، تناهضَ فجأةً ليغادرَ المُختبَر مُتوجّهاً بخطو مُتماهل نحوَ قاعة المكتبَة ـ كما لو كان في سبيله ليجمّ ذهنه، استعداداً لجَولة جديدةٍ من الجَدَل.

حينما كان يستعيدُ صورةَ الصقليّ، كانَ هوَ قد أضحى نزيلاً في احدى زنازين القلعة، الرَهيبة. جرى الأمر، في واقع الحال، بالضدّ من إرادَة سيّدِهِ. إذ وبالرُغم من أنّ الزعيم سبقَ وتهدّد مَملوكه بتسليمِهِ لقبضة القبَجي، الماحِقة، إلا أنه ما كانَ ليَفعلَ ذلكَ، حقاً: إنّ خبيئة المَملوك، المَشبوه، هيَ بمثابَة كنز مَعلوماتٍ، سرّية، كانَ السيّدُ أكثر حِرصاً على ابقائها بعيداً عن عِلم أهل الفضول.
ولكنّ المَسألة شهِدَتْ تطوّراً مُستطيراً، عندما تدخلَ آمرُ القابيقول فيها. وكان ميخائيل، من جهته، شاهِداً على حضور الرَجل إلى مَنزل عبد اللطيف أفندي، بُغيَة المُفاوضة مع مَجلس العموميّة، كما وأعيان المَدينة الآخرين، بشأن التصدّي للغازي المصريّ. فما أن اُبلِغَ بأمر المَملوك، وأنه هوَ من دسّ السمّ لسَلفِهِ، حتى التفتَ آغا باقوني إلى كبير الأعيان قائلاً له: " لا مَظنة لدَينا من جهَتكم، أيها الزعيم. وإذاً، أتمنى أن تتفهّموا طلبي هذا على حقيقتِهِ؛ وهوَ أن نتسلّم مَملوككم، المُشتبَه بأمرهِ، لكي نحقق معه بأنفسنا ثمّة، في القشلة "

" هل تعتبرون ذلكَ، شرطاً؟ "، ردّ الزعيمُ من فورهِ. تلقى الانكشاريّ السؤالَ بهزةٍ من كتفِهِ، مُستهتِرَة، ثمّ أجابَ بغلظة: " نعم، إنه كما تفضلتم ". هنا، تدخلَ آمرُ الدالاتية: " أصبَحَ أمرُهُ فرْطاً، ذلكَ النزاع بينكم؛ طالما أنّ قاتلَ المرحوم آغا أميني قد كشِفَ سِترُهُ في نهاية المَطاف "، قالها بنبرَة مُحايدَة وأضافَ: " ليكنْ المَملوكُ، في هذه الحالة، بعِهْدَة مُمثل مَولانا السلطان المُعظم؛ ثمة، في القلعة. إنّ جلادي سَعادة القبجي، ولا غرو، همُ الأقدَرُ على سَحب الإعترافات من المُتهم. فلنطو تلكَ الصفحَة السوداء، ولنفتتحَ صفحة أخرى، ناصِعَة، من التعاون والإخاء والإخلاص ". وبما أنّ آغا يقيني هوَ أحدُ أركان مَجلس العموميّة، فإنّ آمرَ القابيقول لم يأخذ اقتراحَهُ على مَحْمَل كبير من الجدّيةٍ. عندئذٍ ما كانَ من الشيخ النقشبندي، إلا أن يَدخل بدَوره على خط المسألة: " فليَكنْ الأمْرُ شورى بيننا ، بحَسَب الكتاب الكريم "، قالها وما عتمَ أن أردَفَ مُوَضِحاً: " إنّ اجتماعنا هذا، كما ترون، يَضمّ مُعظمَ أعيان المدينة. وإذاً، لا مَجال هنا سوى لصَوت الضمير، حَسْب ". أمامَ إرادَة الأكابر، المُوحّدة، اضطرَ الانكشاريّ للإذعان أخيراً. وكذلكَ فعَلَ، على كلّ حال، حينما تمّ بَحثُ المسألة الأخرى، الأكثر خطورة؛ أيْ توحيد القوى بوَجه الغازي المصريّ.

كذلكَ كان ميخائيل يتفكّر، وهوَ مُعتكِفٌ في حجرة مَكتب المُضيف، الفارهَة، مُطوَّقا بلفيفٍ من المُجلّدات، المطبوعَة بلغاتٍ مُختلفة. ثمّة أقرانٌ لجند المَعرفة أولئك، قد تراصَفوا بانتظام فوق الطاولة المُستطيلة، المَشغولة من خشب ثمين ونادر: فنجان بورسلين للقهوَة؛ علبة مُفضضة للتتن؛ قارورة عطر، كريستاليّة؛ ومُنمْنمَة إسلاميّة من فنّ فارس، مؤطرَة بالعاج المُصدّف، الشاميّ؛ منمنمة، مُوشاة بآياتٍ من كتاب الله، موضوعَة فوقَ مكتب البك، المُشهر إلحادَهُ.
" إذا صحّ حَدَسي، فإنّ أكثرَ ما يُمكن أن يَخشاهُ الزعيم، هوَ احتمال أن تكونَ ابنته، نرجس، مُتورَطة مع المَملوك الصقليّ بشكل ٍما. فهذا المملوك، ليسَ من نوع البشر، المَهووسين بنزعَتيْ الإنتقام وسَفك الدّم، المَجانيتيْن. إنه، بالمقابل، شخصٌ طموح للغايَة، كانَ يتحيّنُ الفِرَصَ دوماً، لكي يثأرَ من ماضيه الأليم عن طريق تبوّأ سِدّة ما، عُليا. ولا أعني بذلكَ، سَعي المملوك لِشغل وظيفة الوَصيف؛ بل ما هوَ أبعد، بطبيعة الأمر. فلو أنه، حقا، ذلكَ القاتل، المَجهول، فإنّ تلك الجرائمَ، المَعلومة، المُقترَفة بالسمّ والخنجر سواءً بسواء، إنما كانت قرابينَ طموحِهِ، المَوصوف: ربما كانَ المَنحوسُ يأمَلُ بتملّك الكناش ( أو الأوراق القليلة، المُنتزعَة منه )، وُصولاً للعثور على كنز الكنج، المَنشود. من يَدري؟ إنه كانَ يُريد إعادَة دَور ذاكَ الخِصي، المَشهور في التواريخ؛ المَدعو كافور الاخشيديّ "، قال ميخائيل في سرّي ساخِراً بمَرارة. في المقابل، كانَ ما فتأ على ريبَةٍ بيّنةٍ من أمر المَملوك؛ ريبة، مُحالة هذه المرّة إلى كون الجرائم تلك، الأربع، تبدو مُستحيلة الارتكاب بيَدِهِ لوَحدِهِ.

أقبلَ ميخائيل إلى المَكتب عَبْرَ مَدْخلِهِ الوَحيد، المَوصول بقاعَة الضيافة، وكانَ صديقه، بحري بك، في إنتظاره. اختارَ كلّ منهما مَجلسَهُ على أحد الكرسييْن، المُظهَريْن بالجلد الفاخر، والمُتقابليْن عند قاعدَة مَدخنة المَوقد، الزاهيَة. زجاجُ نافذةِ الحُجرَة، الشديدُ الشفافيّة، كانَ يَكشف سِحْرَ الزّهر والثمَر والشجَر، المُحتفية به حديقة القصر. وكانت نظرات كلّ منهما، تتناهى إلى تلك المَناظر، المُترائيَة خلل بللور النافذة.

" يَدُهُ خضراء بقدَر ما لسانه لاذع؛ ذاكَ العشّاب العجوز "، قالَ ميخائيل. تطلع البك نحوَه مُتأملاً إياهُ، قبلَ أن يعَقِبَ بالقول: " إنّ لهجَتكَ، بدَورها، تتبطن التوَترَ بقدَر ما تظهر المَرَح ". لم يَتكدّرَ الآخرُ من تلكَ المُلاحَظة، المُفصِحَة عن مَبلغ فضول صاحبها. إذ اتسَعَت حَسْب مَساحة ابتسامتهِ، السَمِحَة. وما عَتمَ أن نهضَ على غرّةٍ، ثمّ همّ بذرْع أرضيّة الحُجرَة، المُرَخّمَة، بخطاه المُتمهّلة والساهِمَة. ثمّة، قربَ الرسوم العديدة، المؤطرة بالوَرق المُقوّى، والمُثبّتة في الجدار الخالي من خزائن الكتب، راوَحَتْ قدماه، الدقيقتيْن.

" أظنّ أنّ ذلك الرحّالة، التوسكانيّ الأصل، الذي أبدَعَ هذه التصاوير، لا بُدّ أنْ يُنكِرَ أصولها ما لو قدّرَ له أن يُبعَثَ ثانيَة ً إلى الحياة "، قالها مُعلّقا على احدى الرسوم، المُجَسّدَة منظرَ القلعة الدمشقية. من مكانه، المَعلوم، راحَ البك يعاينُ ذلكَ الرّسم المُتقن، المَوضوع بقلم الفحم. فما لبث أن علّق على كلمَة مُحدّثه بالقول: " فإنّ نجمَهُ مِنَ السّعدِ، ذلكَ الرحّالة، أنه لمّ يَهلّ في ليل زمَننا، المَبخوس الفأل "

" تعالَ وانظرْ هنا "، هتفَ فيه ميخائيل بشكل مُباغتٍ. أطاعه صديقه، ونهض كي يقترَب من مَوقفِهِ. كانت يَدُ ميخائيل ما فتأت تشيرُ إلى الرّسم: " عليكَ التدقيقَ في هذا البُرج، المُشرف على سوق الأروام ". ترك الآخرُ بَصَره تائهاً في فلواتِ تلك الناحيَة، المَوْسومة، قبلَ أن يؤوبَ به ثانيَة ً إلى حيث صاحبِ المُلاحَظة المَلولة. وقال البك، مُعترفاً بقلّة حيلة ذهنه: " لم أجد غرابَة ما، مُلفتة، في هذا التصوير "

" بلى، إنه الغرابَة عينها. بل أجدُني أجزمُ، بأنّ سرَّ البرج الثالث عشر، المَفقود، إنما يَكمنُ هنا "، أجابَ ميخائيل بنبرَةٍ قويّة فيما كانَ يُطرقُ بكفه على مَوضع مُعيّن في الرّسم.

" صَدّقني، ليْسَ ثمّة برجٌ مَفقودٌ؛ وبالتالي، فلا كنز هناكَ أيضاً "، قال البك لميخائيل بلهجة جازمَة. ثمّ أضاف على الفور: " لقد تأكدنا، أنا والأفندي، بأنّ حِزمَة الأوراق، المُنتزعَة من الكناش، خاليَة ٌ من أيّ إشارَةٍ، أو خِطةٍ، تتعلّقُ بكنز الكنج، المَزعوم ". هزّ ميخائيل رأسَهُ، علامَة على تصديقِهِ للمَعلومو، ثمّ ما عتمَ أن طرَحَ رأياً في مَغامِض المَوضوع: " وإذاً، نحنُ أمامَ احتماليْن، مَعقوليْن: أولهما، أنّ مُضيفنا، القاروط، قد حاوَلَ إيهامِنا بعدَم استفادَتِهِ من الكناش، المَسروق من منزل الزعيم. أما الاحتمال الثاني، فهوَ أنّ المَملوك الصقليّ، المَشبوه، كانَ قد انتزعَ بدَورهِ وَرَقة من الحِزمَة تلك، مُتضمّنة سرَّ الكنز ". كان ميخائيل قد أعمَل فِكره قبلاً في هذه القراءة للمَعميّة تلك. وما أسرع أن أظهرَ مَيله إلى الإحتمال الثاني، قائلاً بيقين: " منذ البدايَة، كانت رَيْبتي مُوجّهة نحوَ المَملوك: لأنه هوَ من كانَ قد بدَل ثياب صاحبنا العطّار، حينما كان بعدُ غائباً عن الوَعي؛ ولإنه كذلكَ يُجيد العربيّة بشكل ممتاز. وكانَ قد سبقَ له أن إدّعى أمامي، كذباً على الأرجح، بأنه لم يتسنّ له الوقت لقراءة الكناش، حينما تمّتْ سَرقتهُ بأمر من الوَصيف القتيل "

" ولكننا، بطبيعة الحال، لن نهمِلَ شأنَ الاحتمال الآخر؛ وهوَ أنّ صاحبَنا الآخر، القاروط، قد يكونُ كذبَ علينا بزعمِهِ أنّ الكناشَ المَوجود لديه، كانَ خال ٍ من سرّ الكنز "
" نعم، ولو شئنا مُراجَعَة أفعال الرّجل، منذ عَودتهِ من القاهرة، للحظنا بسهولة أنه كانَ يُخطط بصَبر و رُويّة لهذا الأمر: أن تصِلَ أوضاعُ ولايتنا إلى ما هيَ عليه الآن من الفوضى والفرَق واليأس؛ ومن ثمّ حضّ محمد علي باشا، الطموح، في عدَم التردّد بانتهاز ذلكَ سانِحَة ً لتحقيق حُلمه في ضمّ الشام لأملاك ولايتهِ "، قالَ ميخائيل. من جهته، تابَع الآخرُ تقليبه في مَدارج سيرَة البك المصري، الماكر، قبلَ أن يجيزَ لنفسه طرحَ السؤال التالي: " أتعني أنّ هَدَفَ القاروط، في نهايَة المَطاف، هوَ إيجاد موطئ قدَم له ثمة، في القلعة؛ عن طريق احتلالها بالقوّة من لدُن عسكر صديقِهِ، إبراهيم الباشا المصري؟ ". وقبلَ أن يهمّ مُحدّثه بالإجابَة، إذا بحَمْحمة المُضيف، المُعتادَة، تتصاعَد على غرّةٍ من وراء صفق بابِ الحُجرَة المُوارَب.

3
بَرْزخُ رسوم، أصليّةٍ، تصوّرُ مَناظرَ من بُلدان عثمانيّة التِبْعَة، كانَ يَكسي الجدارَ المُقابل للمَجلسِ؛ الكائن قربَ مَدخنة المَوقد، المُلبّسَة بدَورها بالقرميد الزاهي الألوان. حينما أضحى المُضيف داخلَ حُجرة مَكتبتهِ، كانَ ميخائيل ما يفتأ مُتسَمّراً ثمّة، قدّام جدار التصاوير؛ أينَ الرّسم ذاكَ، المَعلوم، المُجَسِّد واجهة القلعة من ناحيَة سوق الأروام. ايماءةُ رأس البك، المُحيّية، سَبقتْ خطى قدَمَيْه، المُتحرّكة ببطء نحوَ الكرسيّ الشاغر، المُظهّر بالجلد الطبيعيّ الفاخر، والذي يَحُفّ بطاولة المَكتب الأنيقة. إلا أنه لم يَشأ الجلوسَ، بل مدّ يَدَهُ إلى طنف الكتب، المُثبّتْ بالجدار بوساطة حَلقة خشبيّة، عَريضة، مُتطاولة من الأرضيّة وحتى السقف.

" كما ترون، إنها رسومٌ من وَضع رحّالة غير مُحترفين. إنها مُتمَثِلة بمَناظر من بيئتنا المَحلّية، مَطبوعة بطريقة مُبتكرَة؛ يَدعونها بالفرنسويّة " ليتوغراف ". إنّ عدداً من الرّسوم مُستلّ من هذا الكتاب، المُحتوي تذكرات بعض الرّحالة الأوربيين من القرنيْن السابع عشر والثامن عشر مِمَن جابوا المَشرق، مَسحورين بأساطيرهِ وعجائبهِ "، قالَ القاروط فيما كانَ يَعرض الكتابَ على عَيان ضيفيْه. ثمّ ما لبثَ أن هَمَدَ فوقَ الكرسيّ، مُستأنفاً حديثهُ: " لقد حَصلتُ على هذا المُجلّد، النادر، من صديق فرنسويّ يَعمَلُ في خِدْمَةِ سِرّ عَسْكر مِصْر. أمّا تلك الرسوم، المُزيّنة جدارَ المَكتب، فإني جَلبتها بنفسي من باريس قبل حوالي العامَيْن ". نبْرَة كلام المُضيف، بالرغم من غموض مَراميها، فإنها اُشفِعَت بوَميض عينيه، الذي يَعرض لهما كلّما كانَ يَهمّ بقراءة أفكار الآخرين. على ذلك، لم يستبعِدَ ميخائيل احتمالَ تنصّتَ الرجل على ما جرى من حديث في المكتب، أو على نتفٍ منه على الأقل، قبلَ وُلوجهِ الحُجرَة.

" أشهَدُ بأنّ تصويرَهُ هذا، يُشافِهُ على أجلّ ما يكون مَشهَدَ أبراج القلعة، المُشرفة على الجهة الجنوبية الغربية من المدينة القديمة "، قالها ميخائيل مُقرِّظاً. رَمَقَهُ المضيف بنظرةٍ مُتمَعّنة من عَينين، مُتوَقدَتيْن. إلى ناحيَة الرّسمَة تلك، المَوصوفة، ما عَتِمَ بَصرُ المُضيف أن اتجَهَ هذه المَرّة، ليلبَثَ هناكَ هُنيهَة تأمّل، مُطوّلة نوعاً.

" أحسَبُ، يا سيّدي، أنه تسنى لكَ فيما مَضى زيارَة القلعة؟ "، سأل ميخائيلُ المُضيفَ على غرّةٍ، وبشكل مُتقصّد. فما كانَ من هذا الأخير إلا التنبّه إلى نفسِهِ، قائلاً دونما وَعي: " القلعة الدمشقية؟ آه، أجل. إنها مرّة واحِدَة، حَسْب؛ وكانَ ذلكَ عندما توَسّطتُ لدى آمِرها بخصوص تاجر من مَعارفي، اتهِمَ باحتكار الحبوب ". فما كانَ من سِرّ الآخر، الساخِر، سوى مُخاطبة ربيب الكنج مُتسائلاً: " احتكار الحبوب أمْ الصابون؟ ". لكي تكون مُساءلته ذاتَ مَظهر، بريءٍ، فإنه أتبعها بأخرى: " وعندي أنّ توأمَها، قلعة القاهرة، أعظمُ عِمارَة وتحصيناً. ما قولكَ في ذلك؟ "

" إنهما توأمٌ، كما تفضلتَ. وعلى الرغم من حقيقة أنّ عقداً من الأعوام، يَفصل بين ولادتيْهما. وجواباً على سؤالكَ، فإني أوافقكَ الرأي. وربّما أنّ عَظمَة القلعة تلك، القاهريّة، تكمنُ في مَوقعها الفسيح، المُنعزل عن المدينة؛ مما كانَ يُتيحُ المَجال للبناء فيها باستمرار. وكذلكَ، لأنّ القاهرَة صارَتْ هيَ تخت السلطنة في زمن المماليك، وعلى العكس من الشام؛ التي تراجعَ مَركزها إلى مُنحدَر المُدن الاقليمية، التابعَة، ومُباشرَة ً بعيدَ سقوط دولة بني أيوب العظيمَة "، أجابَ البكُ وهوَ يتأمل محدّثه عن كثب. عندئذٍ أجازَ ميخائيل لسؤالِهِ، المُريب، أن يُريّشَ نحوَ الهَدَف المَطلوب: " ألديها أيضاً، تلك القلعة القاهرية، ما يُماثل أبراج قلعتنا الثلاثة عشر ؟ ". المُضيف لحَظ نبْرَة الإهتمام، التي غشَتْ المُساءلة الفائتة. فإنه عادَ إلى التطلّع مَلياً في عينيّ ميخائيل، قبلَ أن يَتكرّم بالإجابَة: " بل إنّ أبراجَها، ولا غرو، أكثر من هذا العدد. إلا أنكَ، إذا لم أكن مُخطئاً، زدتَ قليلاً في عدد أبراج القلعة الدمشقية ". فسأله مُحدّثهُ، مُتكلفاً السذاجَة: " كيفَ ذلك، يا سيّدي؟ "

" إنها اثنا عشر برجاً، بكلّ تأكيد؛ طالما أنّ عددها موافقٌ لعدد أشهر السنة. وعلى أيّ حال، فإنّ ذلكَ الكتابَ، المَوسوم، المُستلّ هذا الرّسمَ منه، يتضمّنُ أيضاً مُخططاً للقلعة، يُكرر الخطأ نفسه "

" فلا رَيْب، والحالة تلك، أن يكونَ ثمّة برجٌ ما، زائدٌ عن الحاجَة؟ "، تدَخل بحري بك في الحديث. نبْرَة التهكّم، المُختتمَة تلك الجُملة، جَلبَتْ بعضَ المَرَح إلى مَلامح المضيف، الكامِدَة. قالَ له، فيما البسمَة تومِضُ خلل عينيْه: " ربما وُجدَ البرجُ، يَوماً. ولكنهُ مَفقودٌ في آونتنا هذه. أو هوَ، على الأقل، مُختفٍ عن الأنظار خلفَ العَمائر العاليَة، التي استحدِثتْ في سوق الأروام، مؤخراً ". لما نطقَ القاروط اسمَ السوق، فكأنما لفظ مُفردةً، مَسحورة. إذ شاءَ الصّمتُ، المُريب، أن يُحلّق في جوّ الحُجرة، مُوْدِعاً كلاً من الحاضرين إلى مَساربِ دَخيلتِهِ. إنّ المُضيفَ، فكّرَ ميخائيل، يؤيّدُ بلا مُواربَة الإشارَة السالِفة الذِكر، التي تعيِّنُ مكانَ البرج المَفقود عند جهَة سوق الأروام: إنّ ذلكَ النتوء الهيّن، المُتبَدّي في الرّسم على شكل البرج، قد يَكون من إضافة الكنج الكرديّ؛ والي الشام الأسبق. فمما هوَ مَعروفٌ، أنّ اضافاتٍ كثيرة، مُتنوّعة الأغراض، جدّتْ على عِمارَة القلعة على مَرّ السنين. فمن المُمكن أنّ البرجَ كانَ إحدى تلكَ الاضافات؛ وأنه شيّدَ لكي يكونَ مَذخراً لثروَة الكنج، القارونيّة.

كان ميخائيل يهمّ، فِعلاً، بالتلميح إلى مَوضوع الكنز، حينما خرَقَ المضيف الصمتَ على غرّةٍ: " على ذِكر ذلكَ الكتاب، الفرنسوي، المَوضوع في القرن السابع عشر. فإنه يَعطينا خبَراً طريفاً عن كيفيّة تمكن الرّحالة، صاحِب التذكرة، من دخول القلعة ودونما عوائق، مانِعَة: فبما أنه كانَ مَحظوراً على الإفرنج، كما هوَ مَعلوم، ارتيادَ مثل تلك الأمكنة الرّسمية، فقد عَمَدَ الرجلُ إلى التنكّر بزي أولاد البلد، مُستغلاً مَعرفتهُ الجيّدة بمَحكيّتنا المَحليّة "، قالها مُتبسّماً من جديد. عندئذٍ، أجَاز ميخائيل لنفسه هذه المُلاحظة: " ولكنّ البك، الفخور بأصلِهِ الدّمشقيّ، ما فتأ يتكلّم مَحكيّة َ أهل مصر، الطريفة ". بيْدَ أنّ الضيفَ الآخر، هوَ من شاءَ التعقيب على كلام القاروط:" لا بُدّ أنّ الترحالَ، بعُرْف أولئك الأوربيين، وسيلة ٌ لتحقيق مآربٍ علميّة أو أدبيّة "

" أو دينيّة، أيضاً "، قطعَ المُضيف جُملة ضيفه. ثمّ أضافَ، مُوضحاً ما يَعنيه: " إنّ بعضَ الرّحالة الإفرنج كانَ يأتي إلى بلادنا، بهَدَف الحجّ للأماكن المُقدّسة في فلسطين. ومنهم، أيضاً، من كانَ يُولي عنايَته للتبشير ". فلاحظ ميخائيل مُتسائلاً: " أليسَ ذلكَ، على أيّ حال، هوَ عَمَلُ الإرساليات الإنجيليّة، المُنتشرَة بكثافة في زمَننا؟ ". وقالَ القاروط مُوافقاً: " أجل، بشكل عام ". وأردَف مُتهكّماً: " ويُقال في هذا الشأن، أنّ لدى تلك الإرساليات من الأتباع والأعوان، خصوصاً في ولايات كردستان العثمانية، ما جعلَ حكّامها على جانبٍ من القلق والريبة والإستياء. أما لدينا هنا، في الشام الشريف، فالأمر مُختلفٌ ولا شك. فكانَ مُجرّد عَزم ذلك الوزير، المَنحور، على تثبيت القنصل البريطانيّ، كافياً لهبّة غاضبَة من لدُن الأعيان والعامّة على حدّ سواء ".

" سيّدي، إنّ جنابَ آمر الدالاتيّة بَعثَ من يُخبّر بنيّته في التشرّف بالحضور "، قالَ الوَصيفُ للبك مُنحنياً بأدبٍ جمّ. وكانَ قد استأذنَ بالدخول مُتقدّماً الخادم المُحمّل بطبق ٍ من لُجَيْن ناصِع، نضّدَتْ فوقه أصنافُ الفواكه. الثمارُ الصيفيّة هذه، المُنتقاة من حَديقة الدار، كانَ على حضورها أن يُسَجّلَ فاصِلة ً رَطيبة في صفحَة جوّ الحُجرة، المَشحون بحرارَة المُجادَلة. الوَصيفُ، المُتأنق مثل غندور، كانَ فتىً أمردَ، ليّن القدّ ـ كما هوَ شأنُ أقرانِهِ من مَماليك الكرَج..


ما عتمَ المضيف أن التفتَ نحو ميخائيل، قائلاً بنبرَة غير مُكترثة: " أعتقدُ أنّ سببَ زيارَة صديقنا، آغا يقيني، يُداور في نتيجَة التحقيق مع مَملوك الزعيم، المُتهم بالقتل ". حدّق الآخرُ بمُحدّثه، حاثاً إياهُ على توضيح ما يَقصدُهُ، فلم يتأخرَ في الاستطراد بالقول: " إنّ الآمرَ ، كما نعلم، هوَ من كانَ قد سلّمَ ذلكَ المَملوك إلى سجّاني القلعة. ومن المُحتمل أنّ مَعلوماتٍ حولَ المَوضوع، جَديدة، قد تسرّبتْ إلى صديقنا من طرَف سعادة القبجي ".

" وأنتَ، يا سيّدي. هل تشارك الآخرين يَقينهم، بأنّ المَملوكَ هوَ القاتلُ؟ "، توجّهَ ميخائيل بسؤالِهِ للبك. فأومأ هذا رأسَه بحرَكة غامِضة، دلالة على المُوافقة أو الإهتمام. ولكنه أجابَ مُتفلسِفاً: " أرى حِرفة التحقيق، الخاصّة بالجرائم المُلغزة، مَعدومة لدينا في المَشرق مع الأسف. بينما هيَ مُزدَهرة ثمة، في الغرب؛ حدّ أن تؤلفَ في مَواضيعها القصص الطويلة، المُسلّية، من قِبَل أدباء معروفين، فتلقى رواجاً مُنقطع المِثال ". عند ذلك أدارَ بحري بك رأسَهُ نحو ميخائيل، ليقولَ له مُمازحاً وجاداً في آن معاً: " ها هيَ ذي فرصَتكَ، يا حكيم، لكي تضحي بدَوركَ أديباً مَرموقا. إنّ لدَيكَ، للحق، مَوهبة التعبير الشفاهيّ، حينما تقصّ حكايَة ً ما. وأعتقدُ أنّ لغتكَ العربيّة، هيَ على مُستوى الجودَة نفسه. فإنها جاهزة الآنَ، حكايَةُ الجرائم تلك ؛ وإنها لمُثيرَة ٌ ومُشوّقة. فما عليكَ، والحالة هذه، سوى التفرّغ لاستنباط مُفرداتٍ مَكتوبة، مُناسِبَة "

" اللغة وَحدَها، يا عزيزي، لا تكفي بطبيعة الحال "، قالَ القاروط لضيفهِ، ثمّ أضافَ مُوَضّحاً " إنّ فنّ القصّ المُستحدَث، يَحتاجُ من مُبدِعِهِ أسلوباً خاصاً، مُتفرّداً، لا يُشبه قط أساليبَ أندادهِ من الكتاب الآخرين ـ كما قرأتُ، ذاتَ مرّةٍ، في إحدى المجلات الفرنسويّة ". لم يكترثَ ميخائيل بالمَديح المُثني على مَوهبته في القصّ، المُفترضة، إلا أنه استفهمَ من المُضيف عما يَعنيه بالأسلوب. فما كانَ من هذا الأخير سوى النهوض من مقعَدِهِ، ليتوجّه مرّة أخرى نحوَ الجدار، الذاخر بالتصاوير. ثمّ ما لبَثَ أن أشارَ تباعاً إلى رَسمَيْن ، مَفصوليْن عن بعضهما البعض: " لنتمَعنَ جيّداً في هذا الرّسم، المُصمّم من لدُن رحّالة من القرن السابع عشر. ثمّ لنقارنه مع ذلك الرّسم، الموضوع بدَورهِ بريشة رحّالة آخر من القرن الثامن عشر. فماذا نستنتج من الخطوط، المُعتمَدَة هنا وهناك؟ "، قالها القاروط مُتسائلاً. وأجابَ بنفسِهِ على الأثر " إنّ كلا الرّسمَيْن ، على رأيي، يعطيان إنطباعاً للناظر إليهما وكأنما صاحبهما واحدٌ. لماذا؟ لأنّ كلا الرّسامَيْن كانَ هاوياً لا مُحترفاً. وبالتالي، فبالرغم من أنّ قرابَة القرن يَفصل بين المَنظرَيْن ، إلا أنّ أسلوبَ رّسامَيْهما كان على السِمَة عَيْنها "

" أنا مُتفقٌ مَعَكَ ، يا سيّدي "، قال ميخائيل لمُحدّثه على سبيل المُجاملة. وأعقبَ من ثمّ، مُتوَجّهاً له بالسؤال: " ولكن، لِمَ برأيكَ وُجدَ فنّ القصّ عندَ الغربيين، بينما هوَ مَعدومٌ لدينا في المَشرق ؟ ". وعادَ البكُ، ثانيَة ً، إلى خصلة التفلسف حينما أجابَ: " في بدء وَعي الإنسان، كانَ على الخرافة أن تفسّرَ للرجل البدائيّ ما يُحيطهُ من أمور الطبيعَة، المُلغزة. على ذلك، فإنّ القصّ استهلّ آنذاك بروايَة خرافاتٍ عن صراع الإنسان مع ظواهر بيئتهِ وكائناتِها. ثمّ تطوّرتْ مَواضيع تلك الأقاصيص، مع تبلور العقائد القديمَة وما تبعَها من نشوء الأديان المَعروفة ـ كالزردشتية والبوذية والهندوسية واليهودية والنصرانية والإسلامية. وإلا، فما مَعنى أن يكونَ القرآنُ، على سبيل المِثال، عِبارَة عن سلسلة من قصص الأنبياء، المُسجّلة بلغةٍ مُترَفة؛ لولا أنّ البَدَويّ بطبعِهِ كانَ شغوفا بالخيال والبلاغة على حدّ سواء؟ "

" ليسَ الأمر يتعلّق بالأعراب، وَحدهم. فإنّ العهدَ القديم، أيضاً، اعتمَدَ بشكل رئيس على قصص الأنبياء "، قالَ ميخائيل مُلاحِظاً. فوافقهُ القاروط ببَسمةٍ مُقتضبَة، ثمّ استأنفَ النبشَ في خبيئة الأسلاف: " طبعاً، ولا غرو. فإنّ الوَحي، بحَسَب إعتقاد المسلمين، هوَ رسالة مُتصلة منذ عهد ابراهيم؛ أبي الأنبياء. ولكنني هنا، أرَدتُ القولَ بأنّ بدايَة القصّ، كما الفنّ عموماً، لم تكُ جَماليّة بَحتة. بل إنها توافقتْ مع حاجاتِ الإنسان الروحيّة. إنّ توْقَ الإنسان للمَعرفة، في آخر المَطاف، لهوَ تعبيرٌ عن خوفِهِ من الفناء ".

" إنكَ، يا بك، تعترفُ الآنَ بأنّ أمورَ الروح هيَ حاجَة ٌ ضروريّة لبني آدم "، قال ميخائيل للمُضيف مُتبسّماً في شيء من الخبث. وفهمَ الرجلُ، الدَهريَ، مَعنى هَمز الجُملة الفائتة. على أنه، كعادَتِهِ، أجابَ مُتسامِحاً: " إنّ الأمورَ الروحيّة، في تعريف أهل اللغة والإختصاص، لا تشملُ العقيدة حَسْب؛ بل هيَ تتصل أيضاً بالفلسفة والأدب والفنّ ". وشاءَ ميخائيل أن يَختتم الجَدَلَ، بالقول: " لقد سَعى الإنسانُ، أولاً، لخلاص نفسِهِ عبْرَ الدين. ثمّ وَجَدَ في الفلسفة ضالّة روحِهِ الحائرَة. وها هوَ اليوم، على ما يَظهر، يرى في الأدب مُنقذاً ".

في تلك الغمرَة من المُفردات الطارئة، الغريبَة، وَجَد ميخائيل نفسه لا يعير اهتماماً لحديث الأدب، بقدَر اهتمامه المَعلوم، المُعتق، بمسألة القاتل المَجهول؛ التي دَخلتْ الآنَ في طوْر مُستطير، بتدَخّل قبجي السلطان فيها. وفي واقع الحال، فإنّ إشارَة المُضيف إلى مَوضوع الأسلوب، أدبياً، أجازت له التفكّر مَلياً بمغامض الجرائم تلك، مُحيلاً إياها إلى أسلوب القاتل، المُفترض: إنّ أسلوبَ القتل، في الجرائم الأربع، كانَ واحداً ولا رَيب. إذ تمّ تسميمُ آمرَيْ الانكشاريّة بالطريقة نفسها؛ أيْ فنجان القهوَة. كما أنّ قتلَ كلّ من الوَصيف والعشّاب كانَ بوساطة ذات الأداة؛ وهيَ الخنجر.

وكان ميخائيل في سبيل البَوْح بعبارَة تساؤله، مُصارحاً كلا الجليسَيْن بدالّة صداقته لهما، لكنه نهضَ فجأةً: " من بعد أذنكما، أيها العزيزيْن. عليّ قضاء بعض الأشغال، ثمّة في المُختبَر "، خاطبهما فيما هوَ يهمّ بمُغادرَة الحُجرة. لقد رأى أنه من الأجدى أن يُخلي الجوّ للقاروط مع الضيف القادِم؛ آمر الدالاتيّة. فما أن همّ بالمَضيّ، حتى التفتَ المُضيف إلى بحري بك، قائلاً: " وإذاً، لنهُرَع بدَورنا إلى قاعَة الضيافة كيما ننظر في أمر آغا الأورطات ". وكانت لهجتهُ، كما لحظ ميخائيل، مُتمادِيَة بتوَجّس خفيّ، طاريء. لاحِقاً، في ذلكَ النهار، أدرك أيضاً بأنّ حَدَسَ البك المصريّ، الصائب، فيما يَخصّ سبب زيارَة الدالاتي باش، غير المُتوقعَة، إنما لكون علاقتهما كانت قد أضحَتْ باردَة إثر كشف مَسألة رسالة عزيز مصر، المُوجّهة لأعيان الشام.

4
في غمرَة الصّمت، المُهيمن على الحضور، فإنّ فسْقيّة قاعَة الضيافة، المُرصّعة التلبيس بشتى الألوان المَرْمريّة، استوْفت حقّ سلسبيلها في البَوح بصوتٍ مُرَخّم.
مُحرَجاً نوعاً ما، ألقى ميخائيل بَصَره إلى الخارج خلل النافذة القريبَة، علّه يلمّ أنفاساً أخرى، مُقيلة. ثمّة، كانت أشجارُ الحمضيات، الوارفة، تتراءى مُترامِيَة ً على جانبَيْ الفناء المؤدّي إلى السلاملك، وهيَ مُتآلِفة معَ شَجْو الأطيار الساحِر.
" الأشجارُ مَعازفٌ والطيورُ قيّانٌ "، قال في سرّه مُنشَرحاً. وكان إلى ذلكَ الحين، مُعترى بشوائبَ من فتور الحديث المُقتضب، الذي تفضلَ به آغا يقيني ؛ الحديث الداهِم، المؤكّد عَزم القبجي على استجواب كلّ من له علاقة بقضيّة المَملوك الصقليّ، المُتهم بالقتل. عند ذاك ، تذكّر ميخائيل ما أخبره به العطّار عن ليلة الأورطات ومُواجَهته الأولى، العاصِفة، للدالي باش هذا. فأردَفَ قائلاً في نفسه: " إنّ رَمْية خاتم النجاة، المُرَقش باسم مَولانا، كانت مُوفقة ليلتئذٍ". فما أنْ أنهى داخله ترديدَ نواطق جُملتِهِ، حتى ارتفعَ صوتُ الأذان من الجامِع المُجاور. وفيما كانَ آمرُ الأورطات يُتمتم الشهادَة بين شفتيْه، راحَ هوَ من جِهته يتفكّر بتلك الهُنيهَة، المُماثلة؛ المُضافرَة بقرائن الصُدَف، التي رأى صديقه أن يشغله بها بدَوره: " بُعيدَ تصاعُدِ نداء المؤذن، الداعي إلى صلاة الفجر، توَقف الأورطات عن الضرب. ولقد استمرّوا في المُحافظة على الهدوء لحين انتهائنا من أداء فرض الصلاة في قاعَة السلاملك، التي كانوا قد حاصرونا فيها ".

إذاك، وعلى غرّةٍ، عادت تلك الشبهة القديمَة، تساور المتحدّث: " أليسَ مَعقولاً أن يكونَ أحدُ المُتواجدين مَعنا، مُنتهزاً سانِحَة انشغال الآخرين في الصلاة، قد تسلّلَ إلى القبو عبْرَ باب السلاملك الجوّاني، ليَقوم بذبح الوَصيف؟ ". كانت قد راوَدته هذه الفكرة، مُجدداً، لأنه تذكرَ ما كانَ قد أفاده الصقليّ عن اللحظات تلك؛ وأنه سَمِعَ صرخة ياسمينة، المُتأتيَة من القبو، بُعيدَ وقوع المَنظرة والحديقة بأيدي المُهاجمين: " فما هوَ سبب صراخ البنت، طالما أنّ هؤلاء لم يكونوا قد اجتاسوا بعدُ القبوَ؟ "

" لأنها كانت، ولا رَيْب، أوّل من اكتشفَ جثة الوَصيف "، قال له ميخائيل آنذاك مُتمَثلاً هيئة ياسمينة حينما كانت بقبضة أحد الأنفار المُهاجمين. إنّ داعي العَوْد إلى البدء، باستحضار الصّورَ تلك، إنما كانَ نتيجة ً لما فجأه به الدالي باش قبل قليل. فإنه أكّدَ على لسان القبجي، أنّ المَملوكَ الصقليّ ما فتأ مُصراً على إنكاره التورّط بجرائم القتل. إنّ هذا لأمرٌ مُحيّر، مُلغز، طالما مَضى ما يَزيد عن الأسبوع على وجود المَملوك في قبضة جلادي القلعة؛ المَشنوعي الصيت بأساليبهم الوَحشيّة، القادِرَة على انتزاع الأعترافات من أشدّ الرؤوس عِناداً. بيْدَ أنّ أقوالَ المُتهم، في آخر المطاف، أجازتْ لمُمثل السلطان أن يُوجّه الأمرَ باستدعاء عددٍ من الشهود، بُغيَة استكمال تحقيقه في الأمر ورَفده بمَعلوماتٍ أخرى، أكثر جدّة.

أخرَجَ ميخائيل ذهنه من ربقة الأفكار، المُستبدّة به، ما كانَ من دَعْوَة القاروط للدالي باش، كيما يتوجّها لمصلى القصر. وما عَتمَ أن تقدّمه بنفسِهِ، في الطريق إلى تلك الجهِة، الكائنة في مكان ظليل بالقرب من مَدخل السلاملك، المُفضي للحَديقة. بُعيْدَ أداء الفرضَ، لبَثا هنيهةً ضافيَة في ظلال أشجار صحن الدار وهما مُقتعدين الأرضيّة المُرخّمة، المَفروشة بالبسُط الفارسيّة، البديعَة النسُج والوَشي، ومن ثم أنضم لهما ميخائيل. عندئذٍ التفتَ الدالي باش نحوَ البك، الجالس إلى يَمينِهِ، قائلاً له بنبْرَة مُحتفيَة: " أعلمني سَعادة القبجي، أيضاً، أنّ مولانا السلطان، نصَرَهُ الله، قد أمَرَ الباشا المُكلّف على الولايَة الشاميّة بالمَسير إليها بعددٍ مَحدودٍ من الجند. وسبب ذلك، خشية مولانا من أن يُروَّع الأهلون من كثرَة الجيش، المُتوَجّه للمدينة بمَعيّة الباشا والمُفترَض أن تكونَ مُهمّته مَحصورة في التصدّي للغازي المصريّ ". المُفرَدة الأخيرَة، في كلمَة آغا يقيني، عليها كانَ أن تهْمُزَ المُضيف؛ البك المصري. إلا أنّ هذا، بصِفِة دَهائِهِ الراسِخة، كانَ عليه بالمُقابل أن يُظهرَ السرور بما سَمِعَه: " زاد الله قِسْمَة مَولانا، المُعظم، في الأجر والثواب. فكأنما هوَ يَنطقُ على لِسان الوَحي: { وقالوا أتجعلَ فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدكَ ونقدّس لكَ. إني أعلمُ ما لا تعلمون } صدَق الله العظيم ".

" ولكن أيّ رياءٍ ومَكر، قد وَفر الله في قِسْمَة نفسِكَ؟ "، علّق ميخائيل في سرّه على مديحَ المُضيف لعدوّ سيّدِهِ العزيز. على أنه، بطبيعة الحال، أظهرَ الغبطة لحكمته ووَرعه. أما الضيف الآخر، من جهته، فإنه سَبقَ بالتعبير عن التعاطف، المُماثل، حينما كانَ يهزّ رأسَهُ على إيقاع مُفردات مُضيفه، المُطنِبَة. على أنه، للحقّ، كانَ تعاطفا من القلب وليسَ من اللسان حَسْب. فإنّ آمرَ الدالاتيّة، العَميق التدَيّن، كانَ حتى ذلك الحين ما يزالُ يكنّ مَشاعِرَ الوفاء والصداقة لرَبيب قائده السابق، الكنج الكرديّ؛ الذي كانَ مَعروفاً في حياتِهِ بمُمالأة أهل السجادَة الصوفيّة، القادريّة.

" إنّ مَوقفك المُشرّف، المُعبَّر عنه خلال الإجتماع الأخير في مَنزل عبد اللطيف أفندي، قد لاقى الإرتياح لدى الخاصّة والعامَة على السواء "، استهلّ آغا يقيني كلامَهُ المُوّجه للمضيف. وكانَ يَقصدُ تلكَ المُبادَرَة ، العلنيّة، في قطع صِلة البك بمُوكّلِهِ، حاكم مصر، لحين توقفه عن الإندفاع في غزو أراضي البلاد الشاميّة. ثمّ أضافَ الآغا بنبرَة أخرى، تنمّ عن القلق: " ولكنني هنا، لن أخفي مِقدارَ وَساوسي لِجهَة آمر القابيقول ذاك، اللعين. إنّ الفرمانَ السلطانيّ، الذي يشمِلُ الشامَ بالعفو، مُعرّضٌ هذه المرّة لِضربَة أخيرة، مُميتة، ما لو فكّرَ آغا باقوني بلعِبِ ذات اللعبَة الخسيسة، التي ذهَبَ ضحيّتها كلّ من وزير الباب العالي ورسوله "

" أجل، يا آغا، إنني أدركُ ما تعنيه. إنّ آمِرَ القابيقول قد تراودُهُ، فعلاً، هكذا فكرة مَجنونة، مُستسهلاً الأمرَ بقلّة عدد الجند لدى الباشا الجديد. وأعتقدُ على ذلك، بأنه ينبغي التفكير باستلام المدينة القديمة من الانكشارية ". قالَها القاروط بثقة مُعرباً عن رأيهِ في كلام الدالي باش. هذا الأخير، وإذ شُمِلَ وَجهُهُ بمَسْحَة من الرضى، بيّنة، فإنه ما لبثَ أن عَقبَ بلسانه: " باركَ الله في شخصِكم، الحَصيف. لقد اعتدنا ألا يَصدُرَ من مَقامكم العالي سوى القول الصائب ". فأجابَة البكُ بابتسامَة مُتكلّفة، وما عَتِمَ أن أشارَ له بتهذيب نحوَ باب قاعة الضيافة، مُقترحاً مُواصلة النقاش ثمّة.

" ولكنّ هيكلَ اللعبة، إلى الأخير، سينهارُ فوقَ رأسِ ذلك الأخرق "، قال ميخائيل بدَوره، مُبدياً الرأي بما سَمِعته من أمر المأزق المَوصوف، المُحتمل. ثمّ أوضحَ مَرامي قوله، مُضيفاً: "إنّ آمرَ الانكشاريّة أكثرُ دهاءً، ولا غرو، من أن يَتورّط بحماقةٍ كهذه، مَجانيّة، فيما جيشُ العزيز على اندفاعِهِ المُثابر نحوَ الولاية الشاميّة ". حينئذٍ، تطلعَ إليه المُضيف بشيءٍ من الاستياء: " كيف يُمكن القول بأنه يَلعبُ، مَجاناً؟ "، تسائلَ بتهكّم ثمّ أردَف: " فما دامَ هَدَف الانكشاريين، كما نعرف، هوَ توريط مَجلس العموميّة بنزاع مرير، لا نهائيّ، مع الباب العالي، فإنهم سيفعلون ما بوسعِهم لكي يُفشلوا مهمة الوالي الجديد، حتى إذا أدى الأمرُ لِسَفك الدّماء ثانيَة ً. ولأقلها صريحَةً، أنهم نجَحوا مرَتيْن في توريط أعيان الشام، مَدفوعين في ذلك بحقدهم المُتأصّل على الباب العالي بسبب قيامِهِ فيما مَضى بتصفيَة وجاقات رفاقهم في الآستانة: المرّة الأولى، حينما حرّضوا أولئكَ الأعيان على التمرّد على الوزير، بحُجّة الرّسم ذاك، المَفروض على المَحال التجاريّة؛ والثانية، لما غدَروا هُمُ بالوزير والقبجي بتلك الطريقة الدنيئة، وكادوا أن يَجعلوا المدينة بأسرها تدفعُ ثمَن فِعلتهم، لولا أن تلطف الله بها حينما نشبتْ الأزمَة بين جلالة السلطان وواليه المصريّ ".

ونسيَ البكُ، فكّرَ ميخائيل، أو تجاهلَ بالأصح، دَورَهُ هوَ في مَصرَع الرجليْن؛ عندما سبقَ واقترحَ تسلّم القلعة من أيدي الانكشاريين: وها هوَ، الماكرُ، يَحبكُ دَسيسة أخرى؛ بحَثه الدالي باش على التحرّك في اتجاهٍ شديد الخطورَة، سيَعقبُهُ ولا رَيب سيولٌ من الدّماء: " لقد عَمِيَ آغا يَقيني، الرّجل الطيّب والمِقدام، عن استجلاء مَرامي البك، الخبيثة: إضعاف جبهَة المُدافعين عن الشام، عن طريق تأليبهم بعضهم ضد بعض، كيما تسهَلَ مُهمّة العَسكر المصريّ "، قال في سرّه.

" إنّ شخصاً بهذا الخلق، لا يَتورّعُ في سبيل مَصالِحِهِ عن التضحيَة بمَن وثقوا فيه؛ إنه من غير المُستبعَد، أيضاً، أن يكون وراء الجرائم تلك، المَعلومة "، فكّرَ مَغموماً. إذاك لاحَ له، مرّة أخرى، طيفُ المَملوك المُتهم، المَنحوس، وقد تقمّصَ اسمَاً ومَقاماً شخصيّة الوَصيف، المَنحور: " فإذ تمكنَ البكُ المصريّ، سَعياً منه للظفر بالكناش، من شراء ذِمّة ذاكَ الوَصيف التركيّ؛ فماذا كانَ يَمنعهُ من فعل الأمر نفسه مع خليفته، المَملوك الصقليّ، كيما يَضمنَ أنّ جميعَ العالمين بأمر الكناش قد انزاحوا عن طريقِهِ، المُفضي للكنز؟ ".

كذلكَ كان ميخائيل يتفكّرُ، فيما كانَ الحديثُ مُستمرّا بين الرّجليْن حولَ أمر الانكشارية. فلا غروَ أنه لم يشتغل على إجابَة حُجّة المُضيف، طالما أنّ ذهنه صارَ مَشغولاً بأمر آخر، لا يَقل أهميّة عنده. حتى جازَ لكلمَة الدالي باش، أخيراً، أن توقظه من غفلة الشرود بَعيداً: " أظنّ أننا نملكُ الآنَ رأياً سديداً، يُوفِر نوعاً من المَخرج لمأزق الساعَة الراهِنة "، خاطبَ مُضيفه مُستلهماً ذات المُفردات التي دأبَ هذا الأخير على إشاعتها في الحديث.

" وإنكَ دوماً، يا آغا، أهلٌ لِمِثل المآزق تلك؛ بهِمَتكَ وفِطنتِكَ. والرأيُ عندي، أن نهرَع من فورنا للتشمير عن ساعِدِ الجدّ، قبل فوات الأوان "، قالَ المُضيف وقد استعادَ اعتداده بنفسِهِ. بيْدَ أنّ ذلكَ الإعتداد، على أيّ حال، لم يَدُم طويلاً. فما أن غادَرَ آغا يقيني القصرَ، حتى آبَ البكُ مع ميخائيل إلى قاعَة الضيافة ليَقول له عند عتبَة مَدخلِها: " كما علمت تواً من الدالي باش، فإنّ عدداً من جند القلعة، على رأسهم آمرٌ شابّ، همُ في سبيلهم إلى الحضور في أمر يَخصّ المَملوك المُتهم "

" أطواغيتٌ اُخر في مَجهَلة هذه الجُمعَة المُبارَكة؟ "، علّق ميخائيل على الخبر بنبرَة مُتفكّهة مُحاولاً اخفاءَ جَزعه. إلا أنّ البكَ، القلِقَ مثله على الأرجح، أعرَضَ عن المَرَح قائلاً بلهجةٍ جدّية: " لقد تركتُ الدالي باش قدّام باب القصر، وكانَ يُحاول اقناعهم بالعَودَة أدراجهم إلى القلعة وأنه سيتدبّر المَوضوع مع سعادَتلو القبجي ". فما أن أنهى جُملته، حتى دبَّ البريقُ في عينيْه الماكرتيْن. عندئذٍ، التفتَ إلى الخلف، ثمّ لوّحَ يَدَهُ اليُمنى المُعتادَة على حَمل جَرَس الخِدمَة، الدقيق الحَجم. هُنيهَة أخرى، وظهرَ الوَصيفُ من جَديد. " عليكَ أن تمضي مُسرعاً نحوَ مَدخل المنزل، لكي تدعوَ إلى مائدَة الغداء كلاً من جناب آغا يقيني والزورباشي، القادم من القلعة "، أمَرَ البكُ حاجبَهُ. ثمّ ما لبثَ أن عادَ ونظرَ إلى ميخائيل، وعلى فمه ابتسامَة رضى يُحسِنُ رَسمَها: " هلمّ بنا، يا عزيزي، إلى قاعَة الطعام. أظنّ أنّ مِعدَة ذلكَ الآمر، الذي كانَ يَتحدّث مع الآغا بالكرديّة، ستدعو صاحِبَها بنفس اللغة إلى نسيان مُهمّته؛ مُؤقتاً، على الأقل "، خاطبَه وقد زايَلهُ قليلاً شعورُ الجَزع. على أن ميخائيل، إذ كان يهمّ بالذهاب إلى المُختبَر لمُحادثة العطّار، أبدى اعتذاره عن تلبيَة دَعوَة المضيف: " ليسَ لديّ شهيّة ٌ حالياً، وأفضّلُ الركونَ إلى حُجرتي بُغيَة الاسترخاء "

" كيفَ ذاكَ، يا حكيم؟ إنّ الدالي باش لا بدّ أن يَستاءَ، طالما أنه سيتساءلُ عن سبب عدَم وجودكَ على المائدَة. علاوةً على أهمّية حضوركَ ثمّة، من ناحيَة أخرى، بما أننا سنتبادل الحديث مع الآمر حولَ المُهمّة التي جاءَ إلينا من أجلها "، قال البكُ بنفس النبرَة الآمِرَة المُستخدَمة مع وَصيفِهِ.

لدى خروج ميخائيل من قاعَة الضيافة، المُكتنفة بالظلال بفضل ستائر نوافذها السَميكة، بَهَرَ عينيه نورُ الظهيرَة، الماحِق، المُسَدّدُ خلل الأشجار المُتراميَة حولَ جنبات باحَة القصر السماويّة. وكانَ خدَمُ الدار، المُهندمون بهيئةٍ واحِدَة، في حرَكة خليّة نحل، نشِطة، وهمُ يَتهاتفونَ بلغطٍ من لهجتهم المَصريّة. لا شكّ أنهم مُعتادون على ولائم سيّدهم، المَسموطة لضيوفِهِ من أكابر البلد وأعيانها. وكانَ هذا، بدَورِهِ، يَوجّهُ ملاحظاتِهِ لأولئك الخدَم المُطلّين من المَطبخ ، حينما رافقهُ الحكيم إلى قاعَة الطعام كاظِماً حنقه من مَبأسَة المَوقف الثقيل. كانت الظنونُ، ولا غرو، تدَغدغ جانبه. إذ كان الآنَ شريكاً للبك المصري، في ذنب لا يُغتفر أمامَ مُمثل جلالة السلطان؛ ألا وهوَ صلته بالأمير بشير، المُعلن عصيانه علناً. إضافةً طبعاً لكونه طرَفاً في مَوضوع آخر، كانَ على ما يبدو لا يَفتأ يَستأثر باهتمام الباب العالي؛ أيْ كناش الشيخ البرزنجي، المَطلوب: " فلنرَ عندَ لقاء ذلك الآمر، ما إذا كانت مَخاوفي في مَحلها أم لا ".

" أعتقدُ أنّ ثمّة مَعرفة، مُسبقة، بين جنابَيْكما "، قالَ آغا يَقيني للعطّار مُومئاً برأسه باتجاه الآمر. وكان هذا الأخير عندَ اقترابه من الأريكة الفارهَة، المُقتعِد عليها الضيفُ، قد أبدَى ما ينم عن الدّهشة لمرأى ذلك الدالاتي، الذي سبقَ والتقاهُ في ليلة الأورطات، ثمّة في منزل الزعيم. كانَ آنذاك قد لُبِّسَ على الرجل، أيضاً، حينَ إنتحلَ العطّارُ صفةَ قبجي السلطان.

" هذا هوَ، إذاً..؟ "، قالَ الآمرُ للدالي باش ساخِراً، مُشيراً نحوَ المعنيّ بسبّابتِهِ دونما مُراعاةٍ أو احترام. كانَ جلياً أنّ الآغا ما زال رئيساً لهذا الرجل الفظ، طالما أنه أبدَى على الأثر تأثرَهُ بما صَدَرَ عن مرؤوسِهِ من تصرّف غير لائق.

" من النافل، بكلّ تأكيد، التذكير بمآثر جناب الآغا العطار، فيما يخصّ تصريف النوائب الأخيرَة، التي ابتلِيَتْ بها حاضِرَتنا "، بادَرَ آغا يَقيني ذاكَ الآمر الوَقِح، مُثبّتاً فيه عينيْه، المُستعِرّتيْ الأوار. فما كانَ منه، الآمر، إلا إحناء رأسَهُ قليلاً وقد غابَتْ عن شفتيه المَزمومَتيْن تلك التكشيرَة الكريهَة. ثمّ ما عَتمَ أن قالَ ببطء، بُعيْدَ لحظة تردّد: " يُشرّفني لقاءَ جَناب الآغا، وكذلكَ بالطبع صاحبَ هذا القصر العامِر؛ سَعادَة أحمد بك ". بدَورهما، أحنيا له رأسَيْهما أدَباً، وطفقا ينتظران ما سيَفوه به من كلام. ولم يَتأخر الضيفُ في التفضّل بالخبَر اليَقين، الطازج: " إنّ وجودي هنا، ليسَ أكثرَ من تبليغ جنابَيْكما بضرورة تشريفنا في القلعَة، كيما نأخذ أقوالكما بخصوص مَوضوع ذلك المَملوك، المُتهم بالقتل؛ المَدعو بالصقليّ. و للعلم، فإنّ مَملوك الزعيم الآخر، المَدعو بالروميّ، قد تمّ توقيفه أيضاً بخصوص القضية نفسها. إنه مُتهمٌ بالتعاون مع رفيقه في تخطيط وتنفيذ تلك الجرائم الشنيعَة " .

5
" مَقصياً عن دارها، رأيتني في أقصى الليل وأنا أحاذي النهرَ الحالك، الطافح بجثث طافيَة، مَنفوخة كالقرب. على الضفتيْن كانَ العامّة على هياج بيّن، مُضطرم، تتصايحُ طوائفهم المُختلفة بنداء واحد: " الوباء.. ". ما أن تناهى ذلك لسَمعي، حتى انتفضتُ هلعاً، مُحاولاً انتشالَ نفسي من الزلّة المُهلكة، مُقدّراً أن أمرَ النجاة لم يَفت بعدُ. وفيما كنتُ أنحاشُ عن طوائف الزبانيَة، إذا بهيئة أليفة لما يُشبه الطيف تتطامنُ من ظلمة نهر الموت، لتهدُر فيّ بقوّة وأمل ورَجاء: " كانَ أولى بكَ، بُنيّ، ألا تفارقَ الزاويَة.. ". وبالرغم من مَغامض لهجة الرجل، فإني أدركتُ أنه أبي؛ أو روحه، بالأصح. إذاك، رحتُ أعدو بأقصى ما في قدمَيّ من طاقة، وكانَ النهرُ ما يَفتأ يُجانبني بجفنات هلاكه، ولم تكُ ثمة زاويَة نجاة في أيّ جهَة ". هذا الكابوس، رواه العطّار لصديقه ميخائيل عقبَ خروج هذا الأخير من السجن، بعدما أستولى جند إبراهيم باشا المصريّ على القلعة.

لا بدّ أنّ هزة كابوسٍ، مُشابه، هيَ من تولت إبطالَ غفوة ميخائيل. ولكن، في أيّ وقت من اليوم أجيز له الإفاقة؟ هذا ما لا يُمكن للمرء التحقق منه هنا، أبداً. اللهمّ سوى أنّ مُبتدأ الوَجبة الأولى من الوجبات اليومية، التي يتكرّم بها الحارسُ على المساجين، توحي بأنّ الوقتَ ما يني على مشارف الصباح. إنه الصباحُ، إذاً، من يَهمي على هذا القبر المُظلم ـ كليل أعمى.

هوَ ذا النورُ، في آخر المَطاف. إنه يَتسرّب على حين فجأة من نهايَة الرواق المُقنطر، ليندَسّ في تجاويف الجدار الحجريّ؛ أينَ الأجساد السَجينة، التي جُبلتْ يوماً على المؤانسة، وقد تآلفت مع الأسر والعسر والوحشة؛ أين أنات أعماقها، الخافتة، توافق قرقعة القيود والكلاليب، الصاخبة. بيْدَ أنّ ذلك النور، سُرعان ما خمدَ لسبب ما، تاركاً المكانَ للرطوبة الخانقة، المُعبقة بعفن أبدان سُوّغَ لفألها الوقوع في هكذا مَقام مُريع. إنهم مَحابيسٌ بلا ملامح أو صفات، ما داموا مَرهونينَ للمَعدن القاسي. ويبدو أنّ بعضهم أجتازَ في مكانه هذا عقوداً من الزمن، مَجهولة بدَورها، واعتادَ على هذه الحال. لعلّ الإصرار على البقاء لهوَ خاصيّة إنسانية بَحتة؛ مُطابقة للحكمة، الشائعة، القائلة أنّ المَوجودَ خيرٌ من المَعدوم.
ما أن نطقَ سرّ ميخائيل المُفردةَ الأخيرة، الفائتة، حتى اقشعرّ بدنه بفعل فكرة داهمَة: أنّ الحكم بإعدام كلّ من المَملوكيْن، الصقليّ والقبرصيّ، قد باتَ في حكم المُبرَم ـ كما سبقَ وأفاد بذلك الزورباشيُ، الفظ، المَدعو زينيل آغا. ولكي يَكتملُ حظ سجيننا من الصُدَف، فها هوَ الآغا بنفسه، الذي يَشغل أيضاً مَنصبَ آمر القلعة، يَنتصبُ قداّمه على حين غرّة: وإذاً فإنّ ذلك النور، الضئيل، الذي ترامى قبل قليل من جهة الرواق القصية، كانَ مُنبعثاً من هذه المَسرجة، التي شاءتْ اقتحامَ عتمَة المكان. في الآونة الأخيرة، تزايَد عدد المرات التي دأبَ فيها الآمرُ الفظ على تفقد المكان هذا، المَشغول من قبل حفنة سجناء، مُوصّى بهم على الأرجح من لدُن القبجي؛ القائم بمقام الحاكم.

" إنه يأتي لداع واحد، وحيد؛ لطالما أبدى هوَ اهتماماً فيه "، قال ميخائيل في نفسه وهوَ يتابعُ الحارس في انشغاله بمُعالجة قفل باب المَحبَس. فما أن رفع رأسه، حتى حدّدَ نورُ المسرجة سُبُحات الوجه الغليظ، المُنتمي لكوابيس المَنام.

" إنّ نواصي نجاتكَ، يا هذا، ما فتأتْ مَشدودة إلى يَدَيْ "، خاطبه زينيل آغا هَمساً فيما كانَ يَضعُ المسرجة في كوة الحائط. إذاك، كانَ ما يزال يقبض، عَرَضاً، على كف السجين الأيمَن. من جهته، طفق هذا الأخيرُ ساكتاً عن الجواب، مُنجذباً بالمُقابل إلى البارق ذاك، الساعي خلل عينيْ الآمر النديتيْن، الصفراويتين، الشبيهتين بعينيْ نمر. " عليكَ أن تتبعني حالاً، ودونما أيّ مُساءلة "، خاطبه مُجدداً بالنبرَة ذاتها، الجامعَة بين الوعد والوعيد. حيرة ميخائيل، لم تدُم في الواقع أكثرَ من لحظات حَسْب؛ لحظات، يَستغرقها عادة ً تحريرُ جسَد أضنكهُ القيدُ ومُتعلقاته الحديدية، الصَدئة. " هلمّ بنا، الآنَ.. "، استطرَدَ الطاغيَة وقد استبدّ في عينيْه، الوَحشيتيْن، تعبيرٌ من الجَشع والصفاقة. إنها المرة الأولى، مذ اعتقاله، يُتاح له فيها المَسير إلى مَسافة أبعدَ من حفرَة الغائط، القذرة دوماً، والمركونة على بعد خطوات من موقفه. فلا غروَ أنه راحَ عندئذ يتحرّكُ بصعوبَة بالغة، شاعراً بألم شديد في ظهره وحوضه وقدَميه. لدَهشته، فإنّ الآمر المُتبختر بخيلاء، ما عتمَ أن عَمَدَ إلى إعانة خطوه المُتثاقل، المُترنح. حتى رأيتهما يجتازان ذلك الرواق المنحوس، الشبيه بالقبر، فيمران عبرَ بابه الحديديّ، المُنفرج الصفق، إلى مَجهلة ممرّ آخر، عتم بدَوره، ما لبثت معالمه أن أضحت مَيسورة بفضل قبس نور المسرجة. " ثمة ملابس لك، مُناسبَة، في حجرة الحارس "، قالها زينيل آغا وهوَ يومأ نحوَ الجهة المطلوبة. في واقع الحال، فما كانَ للسجين قبلاً قسمَة التمتع بمُعايَنة المكان الكابوس، ما دام الحراس كانوا قد اقتادوه في يوم الاعتقال معصوبَ العينيْن.

المقدور، المُجيز لسجيننا الارتقاء صُعداً في المَراتب والمَزايا؛ هوَ ذاته من تواطأ على حَشره مع ثلة الشيطان. كان مَخدوعاً، ولا رَيب، لما أوحى إليه آمرُ القلعة في حينه بأن أمرَ الاستجواب لا يَعدو عن كونه إجراءً شكلياً. أما القاروط، فإنّ سحْرَ بَرْطيله أو ربما وظيفته، كانَ بمثابة حجاب درأ عنه رحلة العذاب والهوان هذه، غير المعروفة نهايتها. ولقد تعهّد الآمرُ لآغا يقيني ـ رئيسه السابق ـ بأن يَتعاملَ مع الطبيب النصرانيّ بكلّ احترام وأن يُعيده للقصر بأسرع ما يُمكن من وقت.
ولكنّ زينيل آغا، أفصحَ بلا مواربَة عن مُراده، ما أن توقفت الكروسة قدّام مَدخل القلعة: " إنكَ ، يا حكيم، ستكونُ ثالث المَقبوض عليهم في قضية الجرائم تلك، المَعلومة "، توجّه نحوه بالقول وعلى سحنته أمارات الشرّ. كلماته المنذرة، بدَتْ كأنما فحيحُ أفعوان، صادرٌ عن ذلك الجُحْر الحجريّ، الذي ما لبث أن دُفع فيه السجينُ بمَعونة من بعض الحراس، المُتواجدين هناك. ولم يدر ميخائيل حقيقة ما يُراد منه، سوى في اليوم التالي على الأثر. إذ جاءه عندئذ أحد أولئك الحراس، ليقوده من حجرة الحجز، المؤقتة.

" تفضلوا سَعادتكم من هنا "، قال له الحارسُ بأدب فيما كانَ يتقدّمه عبرَ أحد الممرات ، المُنتهيَة بباب واطيء. فما هيَ إلا هنيهة، ووَجد السجينُ نفسه في قاعة واسعة، قديمة العمارة ومُتجددة بالمُقابل في تلبيسها وزخرفتها وترصيعها. ثمة ديوان عظيم في صدر القاعة، بدا شبيهاً بعرش الملوك ارتفاعاً وصنعة ومادّة. هناك، كانَ يجلسُ رجلٌ متوسّط العمر، مُكتس بزيّ موظفي الآستانة العليّة: " إنه قبجي مولانا السلطان.. "، قال ميخائيل في نفسه. علاماتُ الغيظ والاستياء، كانت مُنطبعَة على ملامح الرجل، المُنفرة.

وعلى أيّ حال، فإنّ القبجي تكرّم أخيراً بالتطلع نحوه ليخاطبه بلهجة مُنذرة: " إنّ ذنباً واحداً، من ذنوبكَ العديدة، كاف للحكم بقطع عنقكَ "،. ثمّ أردَفَ من فوره " لقد تمادَيتَ في الخيانة، حدّ التواطؤ مع أعداء الباب العالي. فكانت تلك السفارة المَعلومة إلى جبل لبنان، والمُنتهيَة بعودتكَ مع ذلك الخائن الآخر، بحري بك، الذي سيلقى نفس مصيرك أيضاً ". لقد صدَقَ، إذاً، حَدَس ميخائيل. إنّ اعتقالي هنا، في حقيقته، مُتواشجٌ مع ذلك الأمر، الذي اعتبره القبجي ذنباً يستوجبُ القتلَ. وكان قد همّ بالكلام، بغيَة دفع التهمة عنه، عندما أشارَ القبجي بيَده للحارس ساخطاً، آمراً إياه بإعادة السجين لحجرة الحجز.

هكذا مَكث فترة، لم يعلم إن كانت طويلة أو قصيرة، في ذلكَ القبر الرّطب والمُظلم. وكان في الأثناء يمتارُ الفضلات طعاماً والصّديد الآسن شراباً: إنّ الآمرَ، الأرعن، كانَ إذاً قد داسَ ببساطة على وَعده لآغا الأورطات، وعليه كانَ أن يُسدّدَ ثمن فعلته، لاحقاً. بيْدَ أنّ هذا، على كلّ حال، حديث آخر.
فإنه كان إذاً ما فتأ ثمة، في القلعة، في أحد ممرّاتها الضيّقة، الواطئة السقف، يتبعُ خطى زينيل آغا نحوَ حجرة جانبية. فما أن أطاعه، فأنهى ارتداء الملابس تلك، حتى قالَ له الأمرُ بلهجة جذلة مُتماهيَة بالتهكّم: " إنّ القماش هذا، المَنذور للترَف، ربما ساءهُ التماس بجلدٍ كانَ قد اشتغل على مُهاوَشته حشراتُ ذلكَ المَحشر "

" حسنٌ. لقد غادَرنا ذاك المَحشر؛ فإلى أين ستنتهي خطانا؟ "، أجاز لنفسه جُرأة مُساءلة الآمر. إنّ اختزالَ جُملة ألقاب الآغا، ربما كانت السبب في أن يُظهرَ الحارسُ، المُتسمّر هناك أمام الباب، علامات الجَزع والرهبة. إلا أنّ الآمرَ، وبالرغم من تكشيرة سحنته، أجاب دونما تأثر: " إنّ الأمرَ بيدكَ، يا صاحبَ المَقام. بإمكانكَ التمتع بالحريّة، أو الاستضافة في المَحشر ذاك؛ أينَ كانَ كلّ من المَملوكيْن، المُتهميْن، قد حلّ فيه مؤخراً ". إنّ تشديد جُملة الرجل على الفعل الماضي، كانَ عليه أن يثيرَ قلق وهواجس ميخائيل.

" هل جدّ شيءٌ ما، على وَضع الشابَيْن، المسكينيْن؟ "، تساءل في سرّه مُرتاعاً. وكأنما قرأ الأرعنُ ما جالَ في خاطر السجين، فإنه ما عتمَ أن استأنفَ القولَ: " لا تشغلنّ نفسكَ سوى بخلاصها. وإذاً، فبعدما مُوّهتَ جيّداً بزيّ جماعة القلعة، فما عليكَ الآنَ سوى الإنصات إليّ بانتباه وحرص ". ثمّ التفتَ نحوَ الحارس، ليأمرَه بتركهما لوحدهما. إلا أنه، فجأة، عادَ واستوقفهُ: " أعتقدُ أنّ لدى الآغا الفضول، ولا غرو، لكي يرى حال صاحبيْه، المَملوكيْن. فعليكَ أن ترافقه إلى الجبّ، وأن تعيده إليّ من ثمّ وهوَ في مزاج جيّد "، قالها بالنبرَة ذاتها، الساخرة. إنّ مفردة " الجبّ "، في قاموس أهل القلعة، تعني تحديداً زنزانة السّجن، المُنفردة، والتي عادة ً ما تكونُ ضيّقة للغايَة وبالكاد تتسعُ لمقام رجل واحد.

لوَهلة، لم يتعرّفَ ميخائيل على المَخلوقيْن، المَمسوخيْن، الذيْن طالعاه خلل شذرات نور المَشعل، المُتراقصة على لحن الأنين والشجن والشكوى. كانَ كلّ من المَملوكيْن، التعسَيْن، مُنطوياً على أعضائه العاريَة، المَدميّة والمُشوّهة، مُتهالكاً إلى أسفل بفعل ثقل القيود الحديديّة الضخمة، المُثبّتة بجدار الجبّ. رائحة شواء اللحم، المُقيتة، كانت ما تفتأ مُلتصقة بجوّ المكان؛ اللحم البشريّ، المَهدور على يَد زبانية البرزخ السفليّ هذا. إنّ نظرة واحدة، خاطفة، على أدوات العذاب المُتوافرة هنا، لتجعلَ المكان جديراً بكونه بديلاً، أرضياً، لجحيم السماء المَوعود. ثمة مَجمر مَعدنيّ، كبير الحجم، تمّ رفعه على قوائم أربع، وقد نضدّتْ فوقه الكاشات الحديديّة، المُستخدمَة في سوط الأعضاء البشرية وقرضها وتقطيع أوصالها.

إنّ نظرة أخرى، مليّة، على مَشهد المَملوكيْن، الفظيع، كاف أيضاً لإدراك سبب كون المَجمر في خمود و دعَة. إلا أن ميخائيل تمالك زمام مَشاعره، طالما أنّ الحارسَ حاضرٌ هنا فوق رأسه: إنه مُكلفٌ، ولا رَيب، بنقل كلّ ما يَراه إلى سيّده؛ الذي استنيب به، على ما يَبدو، مُهمّة زبانيَة الجحيم.

" أهلاً بالحكيم؛ صديق صاحب الكرامات والرؤى "، خاطبه المَملوكُ الصقليّ بصوت واهن، مُتماه برنة التهكم المُعتادة. ثمّ ما عتمَ أن أضافَ، مُتسائلاً: " هل أرسلكَ ذلكَ الزورباشي، الوَحش، لكي تحاول أنتَ ما عجَزتْ عنه آلات العذاب هذه؟ ". تطلع إليه ميخائيل في أسى ورثاء، قبل أن يجيبه: " لا، يا صديقي المسكين. إني بدَوري سجينٌ في القلعة، ولنفس القضيّة المَشئومة "

" لا أعتقدُ، يا سيّدي، أنكَ من السذاجَة لكي تصدّقَ أنّ قضيّة الجرائم تلك، هيَ سببَ وجودنا هنا والمُتصل بعذاب لا يُوصف على مدار الساعة "، قالها الصقليّ وهوَ ينتفضُ تأثراً. نفس الفكرة، التي باحَ بها التعس، كان ميخائيل قد نقشها في ذهنه مذ لحظة وقوعي بيَد الزبانيَة. ولكنه كنتُ على حيرَة، فيما يخصّ أمر مكاشفة المَملوك قدّام الحارس، الحاضر هنا: فإنّ هذا، كونه مأموراً بسوقه ثانيَة ً إلى سيّده، لن يقبلَ أن يطولَ وقتُ المُقابلة المُبتسَر، المُحدّد. على ذلك، رأى ميخائيل أنه من الأجدى أن يحثّ المَملوك على التكلّم باختزال ومُواربَة في آنٍ معاً.

" إنّ الزورباشي آغا، لعلمكَ أيّها المسكين، قد عامَلني بكلّ احترام ولباقة "، بدأ يقولُ للمَملوك وفي نيّتي صَرف انتباه الحارس عن مَوضوع المُحادَثة، ريثما تنتهي إلى نتيجة ما، مَرجوّة. ثمّ أضافَ قائلاً: " ولو أنكَ، وصاحبَك الروميّ هذا ، قد تكلّمتما بكلّ ما تعرفانه عن القضيّة، لما لحقَ بكما أيّ أذى أو مَهانة ". وكان في سبيل إتمام كلامه، حينما رفعَ المَملوك الروميّ رأسه من غياهب الغيبوبَة، ليهتفَ بنبرَة يائسَة: " لستُ مَلوماً، يا سيّدي، في شيء من كلّ القضيَة هذه، التي حُجزتُ بسببها. لقد كنتُ مأموراً، على كلّ حال، ولم أكن أملكُ حريّة القرار والحرَكة. أقولُ ذلكَ، وأنا أعلمُ بأني على قاب خطوة من لقاء سيّد الكون؛ الذي اختبرَ بنفسه ألوانَ الظلم والعذاب والجحود ". إنّ إنهاءَ الروميّ كلماته الأخيرة، بتكرار اعتقاد النصارى بماهيّة شخص السيّد المسيح؛ هذا التكرار، كانَ فيه إصراراً على اختتام الحياة مؤمناً بعقيدة ملّته الأولى. بيْدَ أن ميخائيل، من جهة أخرى، كان مُهتماً أكثرَ بما صرّحَ به البائس عن كونه " مأموراً " فيما يَتعلق بمَجرى قضيّة الجرائم تلك، المُتهم بها مع رفيقه الصقليّ. هذا الأخير، لحُسن الحظ، بادرَ على الأثر للتعقيب على كلمة الروميّ مُتوجّهاً إليه بالقول: " إنّ صاحبَكَ، سيّد الكون، هوَ من سَمَحَ لسيّدكَ، الزعيم، برَميكَ هنا في هذا المَكان الجهنميّ ـ كقربان للذنوب التي اقترفها وأهلُ بيته ". لقد ندّتْ عنه بنبرَة السخريَة، المألوفة في نطقه. " إنها إشارة أولى، على جانب عظيم من الأهمّية. فلنرَ ما إذا كنتُ سأحظى بما يُماثلها من إشارات، فيما تبقى من الوقت القليل "، تكلّم ميخائيل مع نفسه.

" فلمَ لمْ تخبّرَ الزورباشي آغا، إذاً، بكلّ ما تعرفه عن تورّط الزعيم وأهله في القضيّة؟ "، توجّه ميخائيل للصقليّ بمُساءلته حاثاً إياهُ على البَوح بالسرّ، المَطلوب. إنّ كلمته، كما قدّرَ، استفزتْ المَملوك لدَرجة إطلاق هأهأة مَديدة، مُستهترة. ثمّ ما لبثَ أن التفتَ نحوه، مُجيباً برَصانة: " مَرحى، يا حكيم! كأنكَ تتجاهل ما سَبقَ وأكدته قبل قليل؛ من أنّ قضيّة الجرائم، المَعلومة، هيَ آخر ما يَهمّ الزورباشي الوَحش. إنه يَسعى، مثل الآخرين الذين نعرفهم أنا وأنتَ، إلى امتلاك دليل الكنوز ذاك؛ المَنعوت بكناش الشيخ البرزنجي ". فما أن نطقَ المُفردات الأخيرة من جُملته، حتى تهيأ لميخائيل أنّ أذنيْ الحارس قد تحركتا خفيَةً، ساعيَةً رويداً إلى التشنيف. هذه الحرَكة، رأى فيها نوعاً من المُواطأة، المُناسبة. إذاك، قال للصقليّ مؤمّلاً إياهُ بفرصة نجاة: " أعلمُ يا صديقي، يَقيناً، أنكَ أنتَ من استلّ الورقة تلك، من حزمة الأوراق المُنتزعة من الكناش. إنها الورقة المؤشرَة لمكان الكنز؛ أو ربما المُحتويَة على مخطط يؤدي للعثور على الكنز "

" ورقة مَسروقة من أوراق سُرقت من كناش مَسروق بدَوره: أهيَ أحجيَة هذه، يا حكيم؟ "، قالَ له الصقليّ مُتهكّماً بمرارة. عندئذ توجّه إليه ميخائيل بمُساءلة جديدة: " وكيفَ عرفتَ أنّ الورقة مَسروقة، وليسَت مًستلّة اعتباطاً، مثلاً، من الأوراق تلك؟ "

" ما من داع للإخبات، يا سيّدي. وعلى أيّ حال، فحتى لو كنتُ من سرَقَ حزمة الأوراق وأخفاها طيّ الرقّ، فإنّ ذلكَ لن يَنفعني في شيء، بَعْدُ ". حينما فاهَ الصقليّ، أخيراً، بمكمن ورقة الكنز، فإن ميخائيل استلل نظرة ً خاطفة من سحنة الحارس: كانَ الرجلُ، حتى تلك اللحظة، مُتململاً بشكل ظاهر، يتثاءبُ بين فينة وأخرى مُبدياً سأمه من الحديث المُتطاول، المُتخم بالمعميّات والألغاز.

نعم. لقد أعطاه الصقليّ، كما آملَ ميخائيل، ورقة النجاة التي سيساومُ عليها ذلك الزورباشي، الأرعن. إنّ دقات قلبه، المُتواترة الخفق بشدّة، كانَ من الممكن لوقعها عندئذ أن يَوقظ الجنّ من سباتهم؛ همُ القائمون على حراسَة مملكتهم السفليّة، القائمة تحتَ هذا المكان المُريع، المَنذور للزبانيَة والضحايا سواءً بسواء ـ بحسب إعتقاد أصحاب الملّة المحمدية.

6
إنّ عبد اللطيف أفندي، الرجل الحكيم والعلامة، كانَ عليه أن يُداوي كلوم ميخائيل الجسَدية والنفسانية على حدّ سواء. فمذ لحظة وصول هذا الأخير إلى مَدخل بيت الأفندي العامر، مُحمّلاً في كرّوسَة تابعَة لأهل القلعة، والرجلُ قائمٌ بهمّة على إعانته والتخفيف من كربته: استهلّ ذلكَ، بأن أمَرَ الخدَم بنقله إلى الحمّام وعلى جناح العجلة. ثمّ ما لبثَ أن حَضرَ بنفسه مع كيس خشن، لكي يَهرُش به جلد نزيل القلعة فيزيل الأوساخ المُتراكمَة في مَسامه.

" إنّ ذلك الزورباشي، علاوة على رعونته ووحشيّته، يَتسمُ أيضاً بخصال الطمع والطموح "، بدأ ميخائيل يقول للمُضيف. هزّ هوَ رأسَهُ علامة على التفهّم، فأضاف الضيفُ من فوره: " لم يكن ممكناً إطلاق سراحي، إلا بمُقابل شرط عليّ الالتزامَ به وإلا أعادَني إلى القلعة. ولكن من حٍسن حظي، أن عسكر إبراهيم باشا المصري قد وصلوا في الوقت المناسب ". فما كانَ من الأفندي، على دهشة ميخائيل، سوى الانتفاض من مَقعده الدقيق هاتفاً بحنق: " يا له من مُخادع ومأفون! كنتَ ستخرج من سجنكَ بكل الأحوال، بفضل كلمة الأعيان، الموحّدة والحاسمَة، التي وصلتْ للقبجي على لسان صديقنا آغا يقيني "

" ولكنكَ، يا سيّدي، لم تسألني عن ماهيّة الشرط؟ "

" لا يُمكن إلا أن يكونَ شيئاً، مُتعلقا بكنز الكنج "، أجابَ الأفندي ببساطة. وكانَ على دَهشة الضيف أن تتفاقمَ، إزاءَ ذكاء الرّجل وفطنته. وكان يهمّ بتأكيد حَدَسه، وإذا بكبير الخدَم يستأذن في الإفضاء لمَخدومه بأمر ما.
من بعد بقيَ الضيفُ وحيداً، يغوص رويداً في الحوض المُثمّن الشكل، المُلبّس الحجر بالموزاييك الزاهي. وكانَ الحمّامُ الساغبُ مُدبّجاً بمُختلف أنواع التلبيس الأخرى، الخشبية والجصية والمرمرية؛ من السقف إلى الجدران وحتى الأرضيّة. إنّ مَدخلَ مقصورة الحوض، هيَ لوحدَها تحفة فنيّة، فاتنة. إنها على صورة المحراب، يَعلوها قبّة دقيقة، مَحاريّة الشكل، سقفها يقومُ بدَوره على صفوف ثلاث من المُقرنصات. وكانت جدران المَقصورة، من جهتها، ذاخرة بتوريقات مذهّبة للسًعًف والأزهار.

" لقد انتقلتَ، ولا رَيب، من مَحشر جحيميّ إلى روضة فردوسية "، خاطبَ نفسه بصوت مَسموع. ولكنه، إذ كان يتشاغلُ بتقليب صفحات كتاب هذا المكان البديع، الرائع، فإنّ مَشاهدَ المكان الآخر، الجحيميّ، كانت ما تفتأ تداهمُ ذاكرته بقوّة وإصرار. إذاك، أجاز لتلك المشاهد بالتمادي في الحضور، صورة وراء صورة، مغمضاً عينيه عن المناظر الآنيّة، اليانعة والمونقة.

" وإذاً، ستجلب لي في ليلة الغدّ أوراقَ الكناش تلك ، فتحصل على حريّتكَ كاملة "، توجّه نحوه زينيل آغا، مُختتماً كلامه. ومُبتدأ خبر حديثه، ولا غرو، كانَ يَمتّ لوقت أسبق بكثير؛ وتحديداً، منذ اليوم التالي لحلول ميخائيل في ضيافته. ويبدو أنّ المَملوك الصقليّ، كانَ قبلاً قد اضطرّ تحت سَوْط الكاشات إلى الإفضاء ببعض ما يَعرفه عن حكايَة الكناش. عندئذ شاءَ الزورباشي، الجشع، أن ينتقلَ بالقضيّة إلى مَسار آخر لا يَمتّ بحال إلى جوهرها؛ أي مَوضوع الجرائم المَعلومة. وبحَسب ما أوهمَه به المَملوك، فإنّ شخصاً آخرَ غيرَه كانَ عليماً بمكمن الكناش، الكائن لدى البك المصريّ. وبما أن الآغا العطّار كان إسمه وارداً أولاً، ومن ثم إسم ميخائيل ـ بحَسَب إفادة الصقليّ ـ فقد بادرَ الزورباشي إلى التحرّك من فوره لكي يقبض على أقلهم وجاهة وحماية. والظاهر أنه كانَ يأملُ أولاً باستجواب القاروط في القلعة، بُغيَة ابتزازه ومحاولة الحصول على غرضه بالتهديد والوَعيد. إلا أنّ موقفَ الدالي باش، الصارم، كانَ قد فوّتَ تلك الفرصة على الآمر. فإنّ آغا يقيني، الشهم، لم يَكتفِ بإجبار مرؤوسه، السابق، على ترك البك المصري وشأنه، حَسْب؛ بل وجَعَلَه يَتعهّد بمعاملة الطبيب النصرانيّ بكلّ احترام وإعادته إلى القصر، سريعاً.

" لتحاذرنّ، يا هذا، أنّ يَلمّ أحدٌ غيرنا بمَوضوع الكناش "، قال الآمرُ للطبيب في حينه. ولما سأله حينئذ، ما إذا كانَ القبجي على علم بالأمر، فإنّ الأرعنَ استشاط غضباً وكادَ أن يَخرج عن طوره. عدا عن هذا الموقف، المَوصوف، فإنّ زينيل آغا، للحق، كانَ قد أحسَنَ التعامل مع الطبيب الموقوف. لقد شاءَ الأرعنُ أن يُفسّرَ الأمر على طريقته: " لقد جنبتكَ، يا حكيم، أدوات العذاب، المنذورة لكلّ من يحلّ هنا في ضيافتنا. كما أنكَ قضيتَ في الحجز مدّة قصيرة جداً، قياساً للمحابيس الآخرين، الذين مضى على بعضهم عقود من السنين "، قالَها بنبرَة رصينة.
" لقد مَيّزتَ ظلماً، يا سيّدي، بيني وبينَ ذينكَ المَملوكيْن، التعسَيْن. وقد آنَ أوانُ الشفاعَة والرّحمة. فلتدَعهما يذهبان في حال سبيلهما، طالما أنهما طفقا على إنكارهما التورّط في تلك الجرائم، التي اتهما بها "، توجّه ميخائيل نحو الآمر بنبرَة رجاء. بدَوره، تطلّع الرجلُ في سجينه بتمعّن قبلَ أن يُجيب: " وهوَ كذلك. سأفاتحُ سعادة القبجي بشأنهما، وأتمنى أن تفلحَ مُحاولتي ". حينما أنهى نطقَ جملته، تهيأ لميخائيل أنّ تكشيرة فمه، المألوفة، قد انقلبَتْ إلى ما يُشبه البسمَة المُتهكّمَة.

استيقظ مُتأخراً على جلبَة داهمَة، شاءتْ أن تخلط أوهام المَنام بمَقام الواقع. كانَ دويّ المدافع، البعيد الوَقع، يَصدى في سَمع ميخائيل بشكل مُتواتر. ولكن، لم يَنتبه أيّ هاجس بشأن مَصدر القصف هذا؛ ما دامَ المُضيف قد سبقَ وأفادَه باحتمال وصول فاتح الشام بين فينة وأخرى. إذاك، كانَ الوقتُ على مَشارف الظهيرَة، مثلما باحَ بذلكَ حضورُ الشمس، المائلة أشعتها على جانب نافذة حجرة النوم. من جهة أخرى، كان الضيفُ يشعرُ أنه على مزاج طيّب للغايَة، موفوراً بالحيويَة والعافيَة. وبلغ من نسيانه آلام أسبوع الاعتقال، أنه راحَ يستحضرُ سعيداً صورة شمس، البهيّة. بيْدَ أنه، بالمقابل، كان قد تساءل عندئذ عما جعلها تحتجبُ عن ناظره يومَ أمس، مُهملة ً شأنَ مُشاركة أهل البيت في استقباله. للمرّة الأولى، ربما، أستعيدُ الصورة تلك، المَوْسومة، وهيَ مُتماهيَة بظلال الريبَة والظنون: وكانَ على المَشهدَ الموجع، الفاجع، الذي سيجَمَعُ لاحقا كلاً من المَملوكيْن، المبخوسَيْ الفأل، أن يُضافرَ من أمر تلك الظلال، المُتراميَة على الصورة الحبيبَة.

على أنه كان خالٍ من أيّ فكرة سيئة، حينما مضى إلى مَقصورة الحمّام، الصغيرة، المُلحقة بحجرَة نومه، لكي يغتسل ويغيّر ملابسه. فما أن اجتازَ رواقَ الدور الثاني، المسقوف، حتى أحسّ أحدُ الخدَم بحرَكته. فما عتمَ أن أبدى استعداداً لمُساعدته في النزول عبرَ الدرَج المؤدي للدور الأرضيّ. ولكنه طلب منه بلطف أن يًجلبَ له قهوته إلى قاعة الصالون، التي كان في طريقه نحوها. هذا الخادمُ، اليافع، عليه كانَ أن يُرفقَ القهوة، المُرّة، بخبر أكثر مرارة.
" هل علمتَ، يا سيّدي، بأمر مَملوكيْ الزعيم؟ "، خاطبه الفتى بصوت خفيض، فيما كانَ ينحني وبيده الفنجان المُتصاعد منه البخار العَطر. ثمّ أعقبَ القولَ على الأثر: " لقد شنقا، معاً. إنّ جثتيْهما، المُعلقتيْن بالحبل، مَعروضتان أمامَ مَدخل القلعة ـ كما هيَ العادَة ". وكان يَعني ذلكَ التقليد التليد، في تنفيذ حكم الإعدام بسجينيْن أو أكثر، حينما يَحضرُ أحدُ الولاة، الجُدد؛ متوهّماً أن إبراهيم باشا المصريّ هوَ بهذه الصفة. وعلى أيّ حال، فما أن عَلم ميخائيل بخبر المَملوكيْن، حتى انكفأ على نفسه في صمتٍ مُطبق. بقيَ مُطرقاً طوال الوقت، يحدّقُ في الأشكال الجميلة، المُتنوّعة، المرسومة على سجادَة الأرضيّة، حتى أنه لم يشعر بما كانَ يَدور حوله. ولما أبدى للخادم، الذي آبَ من جديد، رغبته بأن يُرافقه في الكرّوسة إلى مَدخل القلعة، لكي يعاينُ منظر المَشنوقيْن، إذا بصوت نرجس يتناهى عن قرب، فيجعله يرفع رأسه.

" بل أنا، يا حكيم، من سيَقوم بمُرافقتكَ. ومن بعد إذنكَ، طبعاً "، قالت له ابنة الشاملي بلهجة الأمر، المُنطبعَة في نطقها والموروثة عن أبيها. غائباً بعدُ عما يُحيطه من كائنات وموجودات، مكث هنيهة أخرى غير قادر على الكلام. عندئذ مَدّتْ الفتاة إليه فنجان القهوة، الموضوع أمامه على الطاولة، مُردفة ً بنبرَة أكثر رقة: " أرجو أن تكونَ على ما يُرام، يا سيّدي؟ لقد كنتُ عازمة، أنا وصديقتي شمس، على الذهاب لرؤية ذينك التعسين ". تناول ميخائيلُ الفنجانَ تلقائياً، ثمّ تمتم عبارَة شكر. وإذ شعر ببعض الانتعاش، إثر رشفه القليل من القهوة، فإن ذلك كانَ بسبب ذكر إسم شمس. ثم أطلق العنانَ لعينيه، لكي تتمليا الحُسنَ الفاتن، المَبذول لهما، الذي ذكّره ولا غرو بصديقتها. نعم. لقد كانت نرجس، وعلى الرغم من خمار الحداد المُنسدل على ملامحها، تنطقُ بالملاحة والرَوعة والتألق. كذلكَ الأمر بالنسبة لبريق عينيها، الفاتك، الذي كانَ عليه أيضاً أن يخمدَ آثار الأسى في نفس وقسمات الضيف.

" سأكونُ مَحظوظاً، بطبيعة الحال، لو تكرّمتم بمُرافقتي في الكرّوسة "، خاطبها بدَوره. ثم أضاف بسرعة: " ولكن عليّ القول، بأنّه ليسَ من الحكمة أن تتواجد النساءُ خارج منازلهنّ في مثل هذا اليوم، تحديداً. فإنّ أصنافَ الجند، الغرباء، مَشهورون بفساد أخلاقهم كما وقلة اكتراثهم بأوامر رؤسائهم "

" إنّ زمنَ الإنكشاريّة قد انتهى، يا حكيم "، أجابته نرجس بقوّة وتشفّ في آن معاً. لم يدرِ وقتئذ، ما إذا كانت تلكَ الكلمة، التي فاهتْ بها الفتاة، هيَ بمثابَة نبوءة ما؛ أم إشارة لما سيَحدُث في مساء اليوم نفسه.

" هلا تشاورتِ، أولاً، مع أبيك فيما إذا كانَ راضياً على أمر ذهابك؟ "، توجّه لنرجس بسؤاله. فما كانَ منها إلا إجابته باقتضاب، قائلة: " إنّ عبد اللطيف أفندي، لعلمكَ يا حكيم، لا يَهتمّ بالتدخل في شؤون أهل بيته ". عند ذلك، حقّ له أن يستعيدَ ما سبق وعلمه عن سيرة " ماريا "ـ أمّ الفتاة هذه: شخصيّتها القويّة، المُتفرّدة؛ عنادها وجسارتها، اللذيْن أديا بها إلى المُخاطرة بالذهاب لوحدها إلى المدينة القديمة، وما نتج عنه من تغيير مسار حياتها، أبداً: أيمكن أن يكون مفتاحُ باب الجرائم تلك، المَعلومة، مَخفياً طيّ هذه السيرة؟

" سامحني، يا ولدي.. "، هكذا كان داخل ميخائيل يردد باستمرار، موافقاً مشهد المَملوك الروميّ، البائس، المَعروض على الملأ. كان يردّدُ جُملة القادين الكبيرة، التي قالتها يوماً حينما كانَ الروميّ في سنيّ حداثته: كانَ قد صدَمها، يومئذ، مشهدُ ركله من لدُن وصيف زوجها، والمُتبدّي لعينيها من نافذة حجرة الحريم.
وها هوَ الروميّ هنا، على سدّة المشنقة، جنباً لجنب مع رفيقه، الصقليّ. هذا الأخير، كانَ على قسماته تعبيرٌ غامض، مُلغز، يَجمعُ بينَ القسوَة والتعالي. أما رفيقه، المَلول، فإنّ رقته وضعفه كانا مُرتسَمَيْن بوضوح في ملامحه، كما وفي عينيْه المفتوحتيْن على الفراغ والعدَم. ولو قدّر لأحد رسّامي الإفرنج، أن يُجسّدَ وجه السيّد المسيح، وهوَ على الصليب، فلن يَحظى أبداً بما يُماثل التعبير المُفصح عنه الآنَ وجهُ المَملوك الروميّ التعس؛ التعبير، المُتماهي فيه الألم والشكوى.. وربما الحنين أيضاً؛ الحنين إلى حضن الأمّ، التي سبقته بعقد من الزمن إلى حفرة قبر مَجهول.

جموع العامّة، كانت مُتجمهرة بكثرَة تحتَ وإزاء أسوار القلعة. كان الناسُ إذاك يظهرون الغبطة والرّضا، لأنّ المُجرمَيْن ـ كذا ـ قد نالا الجزاء المُعادل لآثامهما. وكانت هذه، أيضاً، سانحًة للخلق كيما يُعبّروا عن ترحيبهم بالغازي المصريّ، الذي حَمَلَ لهم منادٍ من لدُنه الأمل بعهد جديد، بعدما أوشكوا على القنوط بحيث إعتقدوا أنه يشهدون علامات الساعة.
" ليحيا مولانا السلطان، ملكُ العرب والعجم وقاهرُ عبَدَة الصليب! "، كانَ بالأمس يصرخ هذا بحماس، فيجابُ بصراخ آخر مُماثل: " الموتُ للمارق، المصريّ؛ عدوّ مولانا السلطان! ". جند القلعة، في إطلالتهم من فوق الأسوار أو رواشنها، كانوا بمعظمهم من أهل البلد؛ من الدالاتية واليرلية، خصوصاً. أما الجند الأناضولي، الذي رافق الوالي الجديد، علو باشا، فإنه كانَ قد إختفى عقب الهزيمة ومن ثم إحتلال دمشق.

من ناحيَة أخرى، لم يُفاجأ ميخائيل بمنظر أبواب المدينة القديمة، المَفتوح كلّ منها على مصراعَيْه، والشاهد على مرور الناس من خللها طوال الوقت. فإنّ الأفندي سبقَ له، مساء أمس، أن حدّثه بالتفصيل عما جرى من أمور خلال فترة حجزه. فإنّ الإنكشاريين، وقد خدَعتهم قلة عدد الجند المُسيّر للشام، وافقوا أخيراً على تسليم المدينة القديمة لإمرة القبجي، مُشترطين إشرافهم على أحيائها وأسواقها مع أفراد الأورطات وحرس العموميّة: " وغداً مساءً سيَحضر إلى منزلي آغاوات الإنكشارية والأورطات، لكي يتسلموا مرسومَ الأمان من يَد القاروط بالنيابة عن إبراهيم باشا، وبوجود الأعيان الآخرين "، أضافَ المُضيفُ عندئذ وهوَ يتبسّمُ بشيءٍ من الغموض.

" لقد فقدتُ اليوم شقيقيَّ، الوحيدَيْن "، قالت نرجس لميخائيل والدموع ما فتأت تملأ عينيْها الحزينتيْن. ويا له من اتفاق غريب هذا؛ حينما وافق قولها ما كان قد عقده، قبلاً، من مُقارنة بين الروميّ والمسيح: أليَست أمّ نرجس تدعى " ماريا "، في آخر المطاف؟

حينما نطقتْ الفتاة كلمتها، كانت الكروسة قد وطأتْ أرضيّة مدخل منزل الأفندي، المَفروشة بالرمل الأحمر الخشن. فكم كان ميخائيل سعيداً، لما وقع بصره على هيئة الآغا العطّار، حتى أنه لم يعبأ بالتعليق على قول نرجس. إلا أنّ احترامه لمشاعرها، أوحى إليه بمسلك التحفظ عندما هم بمصافحة صديقه.
" يَسرّني أن أراك بخير، يا عزيزي "، خاطبه العطّارُ وهوَ مُكبّ على عنقه. وكان ميخائيل قد ترجل عندئذ من العربَة، ساهياً حتى عن مُساعدة رفيقتيّ الرحلة في النزول منها. ولكنّ نرجس، على مألوف طبعها، ما لبثتْ أن رَمَتْ الخمارَ داخل الكرّوسة، ثمّ غادرتها متوجّهة إلى المنزل دونما أن تلوي على شيء، تتبعها صديقتها.

" أرجو ألا تكون صحّتكَ، العليلة أصلاً، قد تأثرَتْ بالرحلة؟ "، عادَ صديقه إلى مُخاطبته. فقال مُجيباً: " أعتقدُ أنّ صحتي، الآنَ، على ما يُرام. اللهمّ إلا إذا شاءَ لها آمرُ القلعة أمراً آخر، غداً ". وبمثل هذا المزاج الرائق، المَرح، وَلجا معاً قاعة الصالون. ثمة، كانَ على ميخائيل أن يُفاجأ كذلك بلقاء كلّ من القاروط والعريان وآغا يقيني. وما هيَ إلا هنيهة أخرى، وكانَ المَجلس قد إكتملَ بحضور المُضيف وصهره، الزعيم. هذا الأخير، كانَ يوم أمس في استقبال ميخائيل لدى حضوره إلى المنزل، ولكنهما لم يتبادلا وقتذاك سوى عبارات المُجاملة، المُعتادة.
إذا كانت السماءُ، أحياناً، مرآة مُشاكلة لحال أهل الأرض؛ فإنّ سحنة الزعيم، بدَورها، كانت في هذه اللحظة على المنوال نفسه: كانت ذاته تتجلى، خصوصاً، في حركة العينيْن العصبيّة، اللتيْن ترمشان طوال الوقت تعبيراً عن قلق صاحبهما وهواجسه.

" كانَ وصولكَ بالسلامة، في وقته المُناسب "، قالَ القاروط لميخائيل من مكانه على إحدى الأرائك الفارهة. ثمّ أضافَ مُوضحاً ما يَعنيه: " أجل، يا حكيم. إننا نعوّل اليومَ، كما في كلّ مرّة، على رأيكَ الصائب وذكائك اللامع. ففي المساء، سيجتمعُ أعيانُ الشام وأشرافها مع سعادة ممثل مولانا محمد علي باشا، نصره الله، لكي يكونوا شهوداً على تسليمه فرمان الأمان لآغاوات الوجاقات والأورطات "

" الشكرُ لكلماتكَ اللطيفة، يا بك. ولكنني، مُعتذراً بقلة حيلة صحتي، أجدني غير قادر على مشاركتم مسرّة هذا المَحضر الكريم "، قال له الحكيم. حينما همّ القاروط بالكلام ثانيَةً، إذا بالمُضيف يَقطع عليه ذلك بالقول: " لنعف صديقنا، الحكيم، من مشقة حضور اجتماعنا المُقرّر. ولنأمل بأن يَهبه الله ما فقدَهُ من عافيَة في خلال فترة حجزه ". إنّ الأفندي، الثاقب النظرة، كانَ ولا شكّ قد تكهّنَ عندئذ بأنّ أمراً ما، مُستطيراً، هوَ ما جعله يستنكفُ عن المُشاركة في اجتماع على جانب كبير من الخطورة. نعم. كان ميخائيل قد خطط في سرّه، فعلاً، أن ينتهزَ انشغال أهل المنزل في أمر الضيوف مساءً؛ بُغيَة سَبر حجرَة المَرحوم، المَملوك الصقليّ، بَحثاً عن ورقة الكنز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب