الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة العقل الأحادي في تناول العلاقة بين الوطنية والديمقراطية

سلامة كيلة

2006 / 11 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


عادة ما يتوه العقل السياسي بين ثنائيات، يحاول أن يمسكها فيرفض واحدة ويتبنى الأخرى، وكأن لا إمكانية لتأسيس ترابط فيما بينها. وكأن واحدتها تنفي الأخرى. وأن لا إمكانية إلا لهذه الواحدة وإلا ضاع الكل. هذا العقل ينطلق من سذاجات البساطة، ويقوم على منطق بدئي تأسس منذ خمسة وعشرين قرناً، يبدأ بالشكل ويتوقف عنده، ويتعلق بالسكون دون مقدرة على تجاوزه. لهذا يتأسس على ثنائية "إما، أو"، وبالتالي: خير/شر. ويبقى يراوح فيها دون لمس التداخل بين هذه الـ "إما" وتلك الـ "أو". ولاشك في أن البقاء عند حدود الشكل يفرض هذا الفصل العنيف، لأن الشكل هو التميز والتضاد والاختلاف، بينما المضمون (العمق) هو التداخل، التركيب، التفاعل. بمعنى أن العقل السياسي لازال عقلاً شكلياً، وشكليته فظة.
لهذا فرضت الحرب الصهيونية ضد لبنان معادلة أربكت ذاك العقل، الذي كان يدافع منذ سنوات عن الديمقراطية كونها الأولوية المطلقة (وبالتالي الوحدانية)، والخطوة الأولى الوحيدة، رغماً عن ممكنات الواقع وتحولاته، وتغير الأولويات فيه. ولقد إنبنى هذا التصور على رؤية تهمّش الفعل "الخارجي"، أو تجد فيه نصيراً "نتيجة تقاطع المصالح". لكن الحرب أوضحت بأن كل ما هو داخلي معرّض للتدمير بفعل "الخارج" (الذي هو هنا الكيان الصهيوني المدعم من قبل الدولة الأميركية). وبالتالي طُرح السؤال: كيف يمكن أن نقيم الديمقراطية والوطن كله مهدد؟
البعض تراجع عن ديمقراطيته ودعم المقاومة، أو أنه إعتبر أن المقاومة أولوية. والبعض الآخر حاول الدفاع المستميت عن أولوية الديمقراطية، وحاول الهجوم على المقاومة، لكن في وضع كانت الحرب فيه قائمة وليس من الممكن تجاهلها. وبالتالي تاه العقل السياسي في الأولويات، وعانى من أزمة الفهم.
طبعاً إنبنت أولوية الديمقراطية على أن "المجتمع الديمقراطي" هو وحده القادر على المواجهة. وربما في ذلك بعض الصحة (لأن مجتمعات غير ديمقراطية إنتصرت في الحروب كذلك)، لكن المسألة ليست إرادية، أي ليست خاضعة لرأي هذا الطرف الذي يصرّ على أولوية الديمقراطية، بل هي خاضعة لجملة عوامل تتعلق بأطراف أخرى. حيث أن المشروع الامبريالي الصهيوني ينفّذ أجندته الخاصة، وهو يقتحم وضعنا إنطلاقاً من أجندته كما فعل منذ بداية القرن العشرين في فلسطين والوطن العربي، وكما فعل منذ سنوات في العراق. وهنا ستصبح المواجهة أولوية رغماً عن رغبات الديمقراطيين. لكن هل يعني ذلك التخلي عن المطلب الديمقراطي وعن تأسيس نظم ديمقراطية؟ بكل تأكيد لا. أو هل يجب الهروب من المواجهة نتيجة أولوية الديمقراطية؟ أيضاً لا.
لكن الليبراليين العرب يهربون، رغم أن المعركة كانت قائمة في لبنان لأكثر من شهر. وهي قائمة في العراق منذ سنوات. و هي أيضاً قائمة في فلسطين. أكثر من ذلك فإن هؤلاء يبحثون عن كل المبررات التي تدين المقاومة، وبالتالي تبرر الاحتلال، لأنهم لا يعرفون غير الديمقراطية ( وبالتالي فهم لا يعرفون الديمقراطية).
المشكلة التي لا يفهمها هؤلاء هي أن العمل السياسي معقد ومتشابك ومتعدد، ومن غير الممكن أن يخضع لأحادية مفرطة (هي أساس الاستبداد أصلاً). فالسياسي يدافع عن الوطن، وعن مصالح طبقة ما. واليساري يدافع عن الوطن وعن مصالح الطبقات الشعبية، ويعمل على تأسيس نظام بديل، الديمقراطية هي أحد عناصره الجوهرية، لكنه كذلك يعبّر عن مصالح الشعب. وهو يسعى لضمان إستقلال الوطن وسيادته لكي يضمن بناء نظام سياسي ديمقراطي. هذا التعدد في المهمات هو نتاج تعدد الواقع، وتعدد المشاكل، وليس من الممكن القفز عنه. والعمل من أجل تحقيق كل هذه المهمات متساوق. فإذا كانت المسألة الوطنية توحد قطاعات واسعة من الشعب، فإن المطالب التي تطرحها الطبقات ضروية من أجل ضمان قبولها العمل في الإطار السياسي، كما أن الديمقراطية –التي تخدم كلية المجتمع- هي مطلب لدى فئات وسطى. ودون توحيد كل هؤلاء بمطالبهم المتعددة ومشاعرهم تجاه المسألة الوطنية، ليس من الممكن لا تحقيق الديمقراطية ولا تحقيق المواجهة، و لا تحقيق المطالب الشعبية كذلك. بمعنى أن الديمقراطي "المحض" هو خارج السياسة، أو علة هامشها، لأن السياسة هي التعدد في المهمات كذلك.
الديمقراطي "المحض" هو الذي يرتبك ويتشوش حين دخول عناصر جديدة في الصراع، لأنه بنى تصوره على فكرة أحادية هي فكرة "الاستبداد/الديمقراطية"، وليس من عنصر آخر داخل هذه الخطّية. وليس من الممكن تصور عنصر آخر فيها. وبالتالي فالصراع هو صراع ضد الاستبداد ومن أجل الديمقراطية فقط. لكن الواقع أكثر تعقيداً من هذا التبسيط، لأن عناصر الصراع متعددة، والتحكم فيها ليس ممكناً من أجل ضبطها في هذه "الترسيمة" المبسطة للاستبداد والديمقراطية. وبالتالي فإن الأولوية هي للعنصر المتفجر في الصراع، وليس لما يحدد ذهنياً، وبشكل مسبق. لهذا فالأولوية متغيرة وليست ثابتة. الأمر الذي يجعلنا نقول بأن الواقع هو الذي يحدد الأولوية، أو أن رؤيتنا للواقع هي التي تحدد الأولوية. ولما كان الواقع متغير فالأولوية متغيرة كذلك.
هذه الإشكالية حكمت التيار الليبرالي في الوطن العربي، لكنها طالت أكثر ما طالت التيار الليبرالي في سوريا، الذي بنى كل خطابه منذ ست سنوات على أساس أن المشكلة الأساسية هي الاستبداد، وأن الديمقراطية هي الأولوية بالتالي، هذه الأولوية التي تتحول إلى وحدانية، وبالتالي تُسقط كل المهمات الأخرى. ويصبح التذكير فيها تشويش على المهمة الوحيدة.
ولهذا قاد هذا التحديد إلى مسألتين:
الأولى: غض النظر عن مشكلات الطبقات الشعبية، والتفكير فقط بضرورة إنهاء دور الدولة الاقتصادي (إلغاء القطاع العام) لأنه الأساس المتين للاستبداد كما يعتقد هؤلاء، وبالتالي تجاهل أن هذه الخطوة تفضي إلى إتساع مشكلة البطالة وتزايد أعداد المفقرين، ومن ثم نشوء أزمات إجتماعية تصبح لها الأولوية. والثانية: غض النظر عن المسألة الوطنية (والمسألة القومية العربية)، وبالتالي تجاهل احتمالات الأخطار التي يمكن أن تنتج عن وجود الدولة الصهيونية، وعن المشروع الامبريالي الأميركي للسيطرة والاحتلال. أكثر من ذلك، أصبح يجري البحث عن تقاطعات مع السياسة الأميركية (والرأسمالية عموماً، الأوروبية خصوصاً)، بعد أن أصبح "نشر الديمقراطية" هو الخطاب الأساسي فيها، بغض النظر عن زيفه، وكونه المدخل للسيطرة والاحتلال.
وبالتالي فهذه القوى تعزل نفسها في اللحظة التي تعتبر أن الديمقراطية هي التي تجعلها توحد "أوسع طيف". حيث تقودها أحاديتها إلى اتخاذ موقف خاطئ، سواء فيما يتعلق بالمطالب الشعبية أو فيما يتعلق بالمسألة الوطنية. لتنعزل وتتهمش بدل أن توحد "أوسع طيف".
هنا نلمس خطأً معرفياً يمكن أن يفضي إلى مصلحة طبقة مضمرة. حيث أن الليبرالي معني بـ "الحرية" بمعناها السياسي كما بمعناها الاقتصادي. وهو من هذا الأساس يتوافق مع الدول الرأسمالية، وبالتالي يغض النظر عن مصالحها ومشروعاتها. كما أنه يحرص على اللبرلة الاقتصادية، مما يجعله في تناقض مع الطبقات الشعبية. وهو هنا يكون غير معني بهذه الطبقات أصلاً. لكن المشكلة تتحدد حينما يسكن اليسار هذا الخطأ المعرفي، فيقاد إلى متاهات الليبرالية. فاليساري متناقض مع النمط الرأسمالي، وبالتالي فهو مناهض لكل المشروع الامبريالي، ويعمل على التصدي له. لكنه أيضاً ديمقراطي ويسعى لتأسيس دولة ديمقراطية. وبالتالي فهو ضد الاستبداد، وضد المصالح الطبقية التي تتخفى خلف الاستبداد. وهو أساساً ينطلق من تعبيره عن مصالح الطبقات الشعبية. وهو من ثم ينطلق من هذه المسائل الثلاث. وإذا كانت الأولوية هي لتأسي نظام ديمقراطي، فيمكن أن تصبح الأولوية للمسألة الوطنية لحظة نشوب صراع الوطني. وهذا ما غاب عن البعض لحظة الحرب الصهيونية على لبنان. والتي أبانت عن عمق "الإختراق" الليبرالي لدى قطاعات من اليسار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي