الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا .. وأمي الخائنة .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 10 / 1
الادب والفن


يلاحقني شعور بالذهول والصدمة ، وأنا أرى أمي تزداد نفوراً وبعداً عن أبي ، وأن علاقتهما بدأت تفتر وتتداعى .. أدركتُ بغريزة الأنثى - وأنا ابنة الرابعة عشرة - بأن في حياة أمي رجلاً آخر غير أبي ، وأنها تعيش حياةً أخرى في السر غير حياتها معنا في البيت .
ومن تلك اللحظة بدأت معاناتي المريرة مع أمي ..
كنت دائما فريسةً للخوف والهلع خشية افتضاح أمرها بسبب لا مبالاتها ، واستهانتها بأبي ، ومراهنتها على ضعفه . كانت تنسى نفسها عندما تتحدث بالموبايل لفترات طويلة ، أو عندما تخرج أحيانا للقاء هذا الرجل الذي بقي بالنسبة لي مجرد شبح .. لا أعرف له شكلا .. رغم محاولاتي ترتيب صورة له في ذهني !
تمددتُ يوما على سريري بعد عودتي من المدرسة لأُريح جسدي من عناء يومٍ متعِب .. موزع بين المدرسة ، وبين بعض شؤون البيت التي أهملتها أمي .. عندما تناهى الى سمعي فجأةً حفيف خطوات أبي ، وقد عاد من ورشته في وقت غير وقته .. اهتز قلبي وكاد أن يسقط من بين ضلوعي ، وانطلقتْ من شفتّي دون وعي مني آهةُ دهشةٍ ورعب .. قفزتُ من سريري كأن عقرباً لدغني ، وتسابقتْ قدماي المرتعشتين الى حجرة أمي .
كان الباب موارباً .. اقتحمته دون استئذان .. صُعقت عندما سمعتها تثرثر في التلفون .. صورة وصوت بغنج رخيص مفتعل .. مستلقية دون حياء على فراش الزوجية في وضع فاضح : شعرها مفتوح يتساقط على كتفيها ، وثوبها مُشرع عند الصدر يُظهر محاسن نهديها النافرين ، وكاشفةً بالمجان عن مساحات باذخة من جسدها .. !
بدت والضوء يسقط عليها من فوق .. جميلةً مثيرة .. تسمرتُ في مكاني أبحلق فيها طويلاً كأني أكتشفها لأول مرة .. تمنيت في تلك اللحظة أن تميد بي الأرض وتلتهمني ، ولا أرى مثل هذا المشهد ، وفي لحظة خاطفة ، أخفت الموبايل بمجرد سماعها خشخشة خطواتي ، لكني لمحتُ صورته لأول مرة .. شاباً يافعاً وسيماً ربما يصغرها بعشر سنوات ..
أخبرتُها همساً بأن أبي قد عاد .. احمر وجهها ، وخمدت إبتسامتها .. أغلقتْ الموبايل على الفور ، وقذفت به فوق السرير ، ثم أطلقت زفرة استياء عاصفة أحسستُ بحرارتها تلفح وجهي .. بقيتْ ثوانٍ واجمة صامتة ، وما إن خبى أثر الدهشة في نفسها حتى عاد اليها روعها ، فحركت يدها استخفافاً ، ثم عدّلت من هيئتها ، ومسحت الأصباغ من على وجهها .. تقدمتْ بهدوء ، وبخطوات ثابتة تُحسد عليها ، وبروح أخرى غير الروح التي كانت عليها عندما كانت تُحادث ذلك الرجل .. !
أما أنا فقد أقبلتُ على أبي الذي استقبلني بوجهه السمح الطيب .. تفوح منه رائحة التبغ وشحم المكائن ، وهو يسحب بنطاله الواسع المتهدل بعد أن فقد الكثير من وزنه .. نزع نظاراته الطبية ليمسح بمنديله وجهه وصلعته من بقايا رذاذ المطر .
كان قلب أبي وعاءً كبيراً من حب ثرٍ لا ينضب :
— الله يساعدك ، بابا .. !
تمتم بصوت أنيس حنين :
— أهلاً بنتي ..
وبعد لحظات أطلت أمي .. وقفتْ أمامه دون أن تنظر مباشرةً في عينيه .. واضعةً على وجهها تعابير مناسبة ، وهي تئن وتتلاعب بملامحها ، وبرنّات صوتها .. إدعت بصوت ناعس بأنها كانت نائمة لأنها تحس بوعكة خفيفة .. كنت أشاهدها ، وأنا مأخوذة بثباتها وصلفها ، وبراعتها في التمثيل ..
كان أبي شخصيةً بسيطة متنحية تسرح به أمي كما يحلو لها يميناً أو شمالاً . أمطرها بسيل من الأسئلة عن صحتها ، وهو يلقي عليها نظرةً متأملةً قلقة ، ثم وضع يده فوق جبينها يجس سخونته ، ولما لم يلحظ أي أثر لحرارة ، قال بصوت دافيء حنون :
— والآن أتشعرين بأي تحسن .. ؟
قابلت لهفته هذه بإبتسامة زهو نسائية غامضة وقالت :
— الحمد لله .. أحسن .
كنت أحس برغبة لا توصف في البكاء أسفاً على أبي المسكين الذي بدء يشيخ رغم أنه في الأربعينات من عمره ، وحزناً على ما آلت اليه أحوالنا المضطربة ، ولكي أداري على خطيئة أمي كان علي أن أكون كالفنار الذي يُحذِّر السفن من الأهوال التي يمكن أن تتعرض لها في عُباب البحر .. !
تقرفصتُ يوماً على فراشي والكتاب بين يدّي .. أُقلب فيه دون أن أقرأ حرفاً .. تصفعني هبّات متسللة من هواء بارد ، ويخيم على الغرفة صمتٌ ثقيل لا يعكره سوى هزيز الريح ، ودقات قلبي ، وفحيح أنفاسي .. لقد مضى على غياب أمي خارج البيت أكثر من ثلاث ساعات ، والوقت قد شارف على المغرب .. وقت عودة أبي من الورشة .. لا أدري ماذا أفعل ، وماذا سأقول إذا جاء أبي في غيابها .. شعرت بهبة من كآبة كادت أن تخنقني .. ما ذنبي أنا أتعذب هكذا .. ؟ يا ربي .. رحماك .. ساعدني .. !
كانت عيناي القلقتين مصوبتين عبر زجاج النافذة المطلة على الزقاق الضيق الممتد أمامي كالتيه .. أتسقط أية حركة ، أو نأمة قد تأتي منها أو من أبي أو ربما من غيرهما ، وأنا أتضرع مخلصة الى الله أن يجنبنا الفضيحة ، وأن تعود أمي من مشوارها قبل مجيء أبي .. !
لم أكن أداري على سر أمي حباً بها ، ولا إعجاباً بما كانت تفعل ، وانما خوفاً على أبي الذي أحبه ، وعلى نفسي وأخي ، وبيتنا من التفكك والضياع . كنت أستبشع سقطتها بلا أدنى شك ، وأدرك رغم صغر سني خطورة ما كانت تقوم به ، وعواقبه المدمرة ..
لم يطمئن قلبي ، ولم تصفو روحي حتى رأيتها قادمة تحث الخطى بإتجاه البيت .. أقفز من الفرح ، وأسارع على الفور الى فتح الباب ، وأنا الهث أكاد أموت من الانفعال .. تدخل صامتة مجهدة دون أن تنطق بحرف .
على أي حال .. امتدت الأيام على هذا المنوال .. طويلة كئيبة كالحة ..
وذات يوم .. عند العصر ، إستجمعتُ كل ما كنت أملكه من شجاعة ، وواجهت أمي .. المرأة المتسلطة والشخصية المحورية في البيت التي لا يجرؤ أحد أن يصطدم بها أو حتى يقول لها شيئاً ، وهتفت في عتاب :
— ما هذا الذي تفعلينه ، ماما .. ؟ أبي رجل طيب لا يستحق منك ذلك .. لم يقصر يوماً بحقكِ ، ولا بحقنا جميعاً ..
كأنها تفاجأت بما سمعت .. تسلقت نظراتها الغاضبة وجهي .. تتفحصه كأنها تراه لأول مرة .. ثم قالت منفعلة ، وهي تجر أنفاساً ثقيلة :
— ما هذا الذي أسمعه ، يا بنت أبوها .. ؟ ( وبعد صمت قصير أكملت .. ) .. انتظري حتى تتزوجي رجلاً مثل أبوكِ ، وآنذاك ستفهمين ..
— أنا فاهمة كل شيء ، ماما .. ماله أبي .. أنه ..
وقبل أن أُكمل صاحت في وجهي صارخةً بحدة :
— أخرسي .. ! وخليكِ في دروسك ، ولا تتدخلي في أمور الكبار ..
ومن يومها وأنا صامتة صمت المقابر .
لكني بدأت ألاحظ في الفترة الأخيرة عزوف أبي عن الكلام معي .. لا يسألني كعادته عن دروسي وأحوالي ، ولا يُدخلني في أحضانه ، وفتر حديثه مع أمي ، وكف عن ملاعبة أخي عبد اللة ، وأصبح شاحباً قانطاً .. تدهورت صحته وهزل ، وأحياناً يسعل سعالاً شديداً . تمنيت أن يكون بإمكاني أن أصرخ .. أن أرتمي على كتفه وأبكي .. أشكوه وجعي وهمي وضعفي ، لكني خفت أن تفضحني نفسي المقهورة المتعبة .. ! لشد ما كان يؤلمني أن أرى صحته تتراجع .. أرجعت كل ذلك الى إدمانه العمل ، وقضاء جُلَّ يومه في ورشته ليوفر لنا عيشةً رغدة ، والى إسرافه في التدخين ..
وبعد أن انقطع حبل الوصل ، ولم تعد هناك لغة مشتركة بين الإثنين ، ولا فرصة للتقارب ، وإستحالة مواصلة الحياة مع هكذا لوثة ودنس .. حدثت المفاجأة عندما طلّق أبي أمي .. دون أن أقع على التفاصيل والملابسات التي دفعت أبي ليأخذ مثل هذا القرار الحتمي .. عقاباً لأمي التي أذنبت ، وأخطأت الطريق .. وأخيراً .. وضعت الحرب الخفية الدائرة في بيتنا أوزارها ..
عادت أمي الى أهلها .. سمعنا بأنها تزوجت .. من ذلك الشاب ، أو من غيره .. لا أدري . لقد أحرق أبي كل الجسور الهشة بيننا وبينها ، وحرّم علينا أن نتواصل معها تحت أي ظرف .. وهكذا .. افترقنا عن أمنا الى الأبد ، وتبدد كل شيء وابتعد ، وأصبح جزءً من الماضي .. !
بقينا أنا وعبد اللة نعيش مع أبونا الذي يحنو علينا ، فكان لنا أباً وأماً في نفس الوقت ، ولم يتركنا بحاجة لشيء .. أكملنا تعليمنا وتوظفنا .. توفي أبي قبل أشهر قليلة تاركاً لنا ثروةً نُحسد عليها .. !
وبعد تلك الرحلة الشاقة التي بدأتُها صبيةً في الرابعة عشرة ، وانتهت بي وحيدة في الأربعين دون زواج .. رغم العروض السخية التي لم تكف يوماً عني .. امرأة تحمل أوزار عُقدها وهمومها بين حناياها ، وتدفع من حياتها ثمن خطيئة لا يد لها فيها .
لا أدعي أني سعيدة ، لكني أعيش في الضوء ، وأتحاشى العتمة .. أتقدم في طريقي الذي أقسمت أن أصونه بخطوات هادئة متزنة .. يكفيني الآن أني بتُ أتماها مع شعور هاديء محايد هو أقرب الى : السلام ، والرضى ، وصفاء البال ، وراحة الضمير .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟