الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف يمكن أن ينعكس الواقع في الإدراك: الانعكاس كخاصية لكل شيء

تمارا العمري

2023 / 10 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مؤلف المقالة: فيكتور ستيبانوفيتش تيوخين*

ترجمة تمارا العُمَري

تدقيق الترجمة: مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

إن لمسألة الإنعكاس الابستمولوجي جوانب متعددة. فالابستمولوجيا والمنطق ليسا المبحثين الوحيدين الذين تُدرس فيهما تلك الجوانب، فعلوم الحياة والعلوم الاجتماعية وبعض التخصصات التكنولوجية النظرية (نظرية المعلومات وأنظمة التتبع والأتمتة ونظريات التشابه والنمذجة ونظريات القياس، وما إلى ذلك) جميعها لها تأثير مباشر عليها. عند دراسة هذه المسألة المعقدة، من المستحسن توضيح السمات الأساسية لـ "وحدة" التفكير الأساسية باستخدام بيانات هذه العلوم لتحقيق هذه الغاية. هذا أمر مرغوب به ليس فقط فيما يتعلق بالدراسات المتخصصة لمسألة الانعكاس، ولكن بسبب الاتجاه نحو الجمع بينها -أي مسألة الإدراك والعلوم-، على سبيل المثال، في الجهود المبذولة لنمذجة الوظائف العقلية في علم التحكم الآلي.
عندما تصبح عملية الإنعكاس، أي العلاقة الإدراكية بين الذات والموضوع، هي نفسها موضوع دراسة علمية، هنا تنشأ صعوبة معينة. إن مهمة معرفة الإدراك نفسها تحتوي في شكلها الأولي والبدائي على شيء من الحلقة المفرغة في المنطق؛ وذلك لأن تعريفات مفاهيم مثل "انعكاس" و"صورة" و "الذات" تحتوي على هذه المفاهيم ذاتها بشكل صريح أو ضمني.
يمكن التغلب على هذه الحلقة المفرغة في المنطق عندما يحلل المرء جوهر هذا الإنعكاس، ولكن ليس من خلال تنسيق المفاهيم، بل من خلال معرفة تبعية أحدهما للآخر، من خلال تحليل نشوئي (تاريخي أو منطقي)، ونتيجةً لذلك يظهر الانعكاس كنتيجة لتعقُّد تنظيم وتطور التفاعلات بين الأنظمة المادية.
ولكن من الضروري، في السعي إلى عزل "وحدة" الانعكاس الأولية الأبسط، النظر في خصائص أشكال الانعكاس المعروفة مُسبقاً (أشكالها العُليا)، ومن ناحية أخرى تفسير هذه الخصائص من حيث علاقتها بالسمات الأساسية للمادة. سيكون مثل هذا التحليل مفيدًا في عزل السمات العامة والخاصة للإنعكاس، وفصلها عن تلك الخصائص التي تنتمي فقط إلى الأشكال العُليا.
أدت الحاجة إلى تحديد "وحدة" الانعكاس الأولية الباحثين إلى تحليل فرضية لينين عن وجود خاصية عامة شاملة "في أساس بنية المادة ذاتها"، وهي خاصية الانعكاس التي تشبه الإحساس لكنها ليست هي نفسها هذه الأخيرة(1). تم أخذ مفهوم خاصية الانعكاس العامة والشاملة هذا في الاعتبار في كتابات العديد من العلماء والباحثين: سيرجي ايفانوفيتش فافيلوف Sergei Ivanovich Vavilov، الباحث البُلغاري تودور بافلوف، أ. كيسلينشيف، ف. أ. بافلوف، أ.ف. لابشين، ف.إ. ستراشنيكوف، أ.ن. رياكين، ب.س. أوكراينتسيف، والسيكولوجي سيرجي ليونيدوفيتش روبنيشتاين Sergei Leonidovich Rubinstein، والباحث نيكولاي بافلوفيتش انطونوف Nikolai Pavlovich Antonov، ن.ف. ميدفيدف، والفيلسوف الكسندر نيكولايفيتش ايليادي Alexander Nikolayevich iliadi، ا.ب. نوفيك، وآخرون، حيث يجد المرء مجالات من الأرضية المشتركة في تفسيراتهم المختلفة، وكذلك في خلافاتهم. مع الأخذ في الاعتبار عمل هؤلاء الكتاب، دعونا نعرض وجهة نظرنا الخاصة بشأن "الوحدة" الأساسية للانعكاس والخاصية العامة للانعكاس الموجودة في المادة غير الحية، وفقًا للنهج التحليلي المذكور أعلاه.
عندما نفحص عملية انعكاس الواقع كما يحدث عند الحيوانات والإنسان، فإننا نميز بين جانبين: الموضوع المُنعَكِس والذات التي تعكسه بمساعدة جهاز خاص (نظام المُحللات). هذين الجانبين ليسا على مُستوىً واحد: يظهر جهاز الذات كعضو فاعل نشط في العلاقة (التفاعل) بين الذات والموضوع، ويظهر الموضوع باعتباره غير فاعل (خامل). باختصار، يتمثّل نشاط الأنظمة الحية على عكس الجماد، في قدرتها على الحفاظ على الذات والتكيف. في هذه العملية تقوم الأنظمة الحيّة باستخدام الانطباعات المكتسبة من داخل العُضوية أو خارجها كبدائل خاصة أو توسّطات (إشارات نموذجية)، مما يُساهم في عمليات التحكّم لديها. إن أي شكل من أشكال الحركة، بمعناه الأساسي، هو تفاعل تشكيلات مادية مختلفة (الجسيمات الأولية والذرات والجزيئات والأجسام المجهرية والخلايا والأنسجة والأعضاء والكائن الحي وبيئته، وما إلى ذلك)، أما في الطبيعة غير الحية فإن جميع أطراف التفاعل (اثنان أو أكثر) متساوون، بمعنى أنه لا يوجد تمايز بين الجوانب الفاعلة أو النَشِطة والجوانب السلبية أو الخاملة. إن مفهوم "القوة" الفيزيائي، باعتبارها الجانب النشط، وتَغيُّر في حالة النظام باعتباره (أي النظام) خاملاً، هو نتيجة المعالجة التي تُضفي الصفة الانسانية على هذه الأقكار التجريدية. في الواقع، القوة الميكانيكية تمثل نتيجةً لتفاعل الأجسام، لكن فهم القوة كنشاط أحادي الجانب غير كافٍ في تحليل الحركات المعقدة في الميكانيكا، ناهيك عن أشكال حركة المادة عند مستويات أعلى من الميكانيكية،. أشار إنجلز مرارًا إلى هذا(2). تظهر الحالة المتساوية للأجسام المتفاعلة بوضوح في التفاعلات الكيميائية، حيث يكون تقسيم التفاعل إلى مادة نشطة وخاملة تعسفيًا إلى حد ما. سيكون من الأكثر دقة الحديث عن مستوى نشاط التفاعلات، أي تفاعلات المواد مع بعضها البعض. إن مفهوم "النشاط" في العلوم الطبيعية - المواد الفعالة في الكيمياء والعناصر النشطة في الإلكترونيات والأتمتة، وما إلى ذلك - لا يعادل مفهوم النشاط باعتباره السلوك المستقل للأنظمة ذاتية التنظيم.
بناءا على ما سبق، نطرح الأسئلة التالية: هل من الممكن الاستغناء عن الجانب النشط في التفاعل عند تحديد "وحدة" الانعكاس الأساسية التي لا تحوز بعد جميع خصائصها؟ إن نشأ الجانب النشط للتفاعل مع ظهور الحياة وأبسط الأنظمة ذاتية التنظيم، فأين يكمن جوهر الانعكاس في أشكال الحياة الأدنى من مستويات الحياة الانسانية؟ أخيرًا، كيف لنا أن نفهم جوهر خاصية الانعكاس المميزة لكل مادة؟
لنفترض أن هناك علاقة تشابه وتكافؤ موجودة بين الجسم الذي يمارس تأثيرًا (المنعكس) والجسم العاكس، أي الذي يتلقى تأثير الأول. ولكن مما يتكون هذا التشابه؟ وعلى ماذا يقوم؟ بقدر ما افترضنا تشابهًا قائمًا على اعتماد أحادي الجانب للتغيرات (الانطباعات والعلامات) في جسم واحد بسبب فعل جسمٍ آخر، فلنقم أولاً بتحديد الأساس الموضوعي (التناظري) لمفهوم الاعتماد أحادي الجانب في العمليات الطبيعية.
يوجد مثل هذا الاعتماد في أبسط أشكال الارتباط السببي(3)، عندما لا يتغير أحد الجسمين (بتعبير أدق ، يكون التغيير فيه ضئيلًا للغاية بحيث يمكن تجاهله، أو يكون التغيير قابلاً للعكس) ويتغير الجسم الآخر عندما يتفاعلان. على سبيل المثال، التفاعل الميكانيكي (الاصطدام) بين كرتين: إحداهما عظمية، يحدُثُ فيها تشوه مطّاطي قابل للتعديل، والأخرى من الشمع، تعاني من تشوه دائم والتواء يأخذ الشكل الهندسي للكرة الأُولى.
نشهد اعتمادًا آحادي الجانب لجسم أو عملية على أخرى أيضًا في ما يسمى بالأنظمة الخطية، أي في حالة يتم فيها وصف التغييرات في موضوع بواسطة معادلات تفاضلية خطية ذات معاملات ثابتة أو متغيرة. فيما يلي ما هو نموذجي للأنظمة الخطية: 1- قابلية تطبيق مبدأ التراكب superposition (أ) الذي يتميز بالجمع (الكل يساوي المجموع الحسابي لأجزائه)، ومبدأ الإبدالية commutativity، أي استقلال قيمة الكل (المنتج) عن التغيّر في تسلسل الشروط (العوامل)، 2- التناسبية بين مقدار التأثير المطبق والنتيجة، بالإضافة إلى مفهوم "وظيفة التحويل"(ب) transfer -function-.
فليكن الجسم "أ" يتغير باستمرار، وهو يؤثر على الجسم "ب" لفترة من الزمن. إذا تم قياس التغييرات في الجسم الأول على مدراج زمني، أي مُعبّرًا عنها في شكل حالات منفصلة، سنجد أن كُل حالة مُقاسة عند الجسم "أ"، ستتطابق مع حالة التغيّر للجسم "ب"؛ والعكس صحيح، سوف يتطابق التغير في حالة الجسم "ب" مع التغيّر في حالة "أ". إذا كان المجموع المترابط للحالات عند "أ" يشكل بنية محددة ويمكن وصفه من حيث الاعتماد الوظيفي المحدد، فإن بنية التغييرات في "أ" سوف تتوافق مع بنية التغييرات في "ب". يُدعى هذا التطابق التبادلي بالتماثل: تشاكلاً تقابلياً أو التشابه المُختلف isomorphism، أي (انعكاس متقابل) لبُنيتين، لكن عناصر هذه البُنى والعلاقات الموجودة في البنيتين قد تكون مختلفة أو متطابقة في طبيعتها.
عندما نتعامل مع الأنظمة الخطية وتفاعل الأجسام التي يمكن وصفها بعلاقة وظيفية خطية ، فإن علاقات (بنية) الجسم "أ" تنتقل في شكل غير متغير وتُحفظ في الجسم "ب"، هذا التطابق (المساواة، التكافؤ) للعلاقات أو لبنية الجسمين (أو العمليتين) تُميز التشابه، أو التناظر بين الظواهر المقارَنة. من وجهة النظر الشكلية، التشابه (التناظر) هو حالة خاصة من التشاكل التقابلي، حيث تكون المكونات الفردية أو خصائص النظامين المعنيين، متطابقة (مثل تساوي الزوايا في التشابه الهندسي).
نواجه استخدام الأنظمة الخطية في هندسة التحكم والاتصالات (مثل، أنظمة التتبع المختلفة وأدوات القياس)، تستخدم عمليات توليد الترددات من مختلف الأنواع على نطاق واسع لهذه الأغراض (تقلبات التيار الكهربائي، الاهتزازات الكهرومغناطيسية، النبضات الهوائية... إلخ) لأنها تخضع لمبدأ التراكب. تُستَخدَم العمليات الموجية لاستقبال المؤثرات الخارجية وكعوامل وسيطة تقوم بوظيفة الناقل بين مصدر المعلومات والمستقبِل، والحفاظ على بنية المعلومة أو الشيء المُرسَل دون تغيير. على سبيل المثال، قد يتم نقل البنية المُرسَلِة (التي تمثل لحن أغنية) في شكل خطي عن طريق التعديل Modulation وإرسالها عبر قناة اتصال، بينما يتم في الطرق المُستقبل فك ذلك التعديل Demodulation للحصول عليها في شكلها الأولي الذي كانت عليه.
تحدثنا أعلاه عن التشاكل التقابلي كما هو مطبق على الفعل أحادي الاتجاه أحادي الجانب لجسمٍ على آخر (مفهوم ما يسمى بالنظم الخطية في الفيزياء)، ولكن، بالمعنى الدقيق للكلمة، يصعُب وصف التفاعلات الحقيقية ان لم يكن من خلال العلاقات غير الخطية. يتم التعبير عن العلاقات الخطية لبنيتين متشابهتين بيانياً بخط مستقيم بميل معين، في حين أن العلاقات غير الخطية متنوعة لدرجة أنه لا يوجد نهج أو طريقة أو نظرية واحدة تكفي لتمثيلها بشكلٍ كامل. هذا يعني، بالنسبة للمهة التي أمامنا، أنه لا توجد منهجية عامة واحدة لتمييز أو (تحديد) البنية الأصلية للجسم المؤثر من خلال نِتاج تأثيره في الجسم الآخر، في العلاقة بين موضوعين. تزداد هذه المهمة تعقيدًا بسبب التشعبات (التفرعات) المحتملة للعلاقات غير الخطية، مما يؤدي إلى نتائج ذات قيم متعددة ولاتحَدُّدية بالإضافة لعوامل أخرى تزيد من تعقيد دراسة العلاقة اللاخطية. ولكن ما أن يُعرَف قانون أو شكل العلاقة (الخطية أو غير الخطية)، سيصبح من الممكن، من خلال نتيجة التفاعل، معرفة بنية العامل المؤثر، بهذه الدرجة أو تلك من الدقة. وهكذا نجد أن العديد من أجهزة القياس، تتألف من أنظمة غير خطية. ان عرفنا نوع العمليات غير الخطية المعنية، فسنكون في وضعٍ يسمح لنا، أن نختار في جهاز القياس، المدراج المُطابق من أجل قياس التأثيرات الواصلة للجهاز.
نظرًا لأن التشاكل التقابلي بين بنية النموذج والأصل هو شيء لا يمكننا إدراكه بشكل كامل بل ندركه بشكل تقريبي، فإننا في الإدراك، نتعامل فعليًا، مع العلاقة الأكثر عمومية للتماثل. ومع ذلك، من خلال تطبيق مفهوم قابلية التحقيق المحتملة، أي إذا تجاهلنا مشكلة إمكانية تحقيق الدقة الكاملة للقياس ومعالجة القياسات عمليًا، فإننا نجد أنفسنا في وضع يسمح لنا بصياغة الافتراض التالي: بفضل الطبيعة الشاملة للسببية (بتعبير أدق، بفضل الطبيعة الشاملة للقوانين التي تخضع لها الظواهر المتفاعلة)، فإن الظواهر أو البُنى المختلفة لأحد الأجسام المتفاعلة ستكون في توافق متبادل وفريد مع علاقات (بُنى) معينة للجسم الآخر، وبالتالي، فإن موضوعية هذا التوافق تستند إلى قانون السببية، قانون التفاعل، الذي يحدد بنية التغيير لكلا الجسمين المشاركين في التفاعل.
يتضح مما سبق أن العامل المهم في مفهوم الانعكاس هو العلاقات الموجودة داخل الشيء نفسه وأيضا بين الأشياء. إن مفهوم البنية، بما في ذلك البنية الرياضية بوصفها مجموعةً من المكونات التي تنتظم بواسطة واحدة أو عدد من العلاقات، هو أحد مشتقات مفهوم العلاقة(4). إن لمفهوم البنية الرياضية تطبيق واسع للغاية في جميع مجالات العلوم.
تتوافق العلاقات والبُنى الواقعية الموضوعية الموجودة في الطبيعة كجوانب مختلفة من الروابط الفعلية بين الأشياء، مع مفهوم العلاقة كما هو مطروح في تجريدنا الذهني. على سبيل المثال، يشتمل التفاعل الميكانيكي الموجود بين جسمين، أي بين جوانب مهمة منهما، على علاقات الزمان-المكان أو العلاقات الحركية(جـ) Kinematic، والتي يتم فيها تجاهل علاقة الطاقة مع الأخذ بعين الاعتبار جانب العلاقات الديناميكية (البنية). تستند مختلف أجهزة الكمبيوتر التناظرية analog التي تعيد إنتاج العلاقات والعمليات الرياضية في شكل عمليات فيزيائية، تستند على واقع العلاقات. ولكن في الطبيعة غير الحية، ولا سيما غير العضوية، لا يتم عزل هذه العلاقات بوسائل خاصة أو تحديدها في شكل خاص كما يحدث في حالة الإنسان، الذي ينتقي ويُثبّت مثل هذه العلاقات في التجريد بمساعدة أدوات رمزية. نحن نعلم أنه يمكن التعبير عن خصائص الأشياء في الإدراك من خلال العلاقات فيما بينها. هذا لا ينطبق فقط على المستوى النظري للإدراك، بل أيضا على المُستوى الحسّي وفي هندسة الاتصالات والأتمتة(5). لذلك فإن تماثل العلاقات المتنوعة يثبت أنه كافٍ تمامًا لأغراض الانعكاس الإدراكي (التعبيري) لمحتوى الأشياء.
ويترتب على ذلك أن اكتمال ودقة وعمق الانعكاس تتحدد من خلال اكتمال العلاقات المفروزة وأيضا من خلال دقة تعيينها وأهميتها. ليس من قبيل المصادفة أن المُقاربة البنيوية للمواضيع المدروسة يتطور باستمرار. تجد المُقاربة البُنيوية وبالتالي توظيف مفاهيم وتقنيات الرياضيات والمنطق الرمزي تطبيقًا أوسع نطاقا في جميع مجالات المعرفة، من الفيزياء إلى العلوم الإنسانية. نحن نرى بشكل واضحٍ ومقنع، على أساس الفيزياء، على سبيل المثال، ثمار المُقاربة البنيوية للأشياء التي يمكن إدراكها، أي اعتبارها منظمة بطريقة معينة كأنظمةٍ مستقرةٍ لعناصر المتفاعلة. يُوفّر هذا فرصاً غير محدودة لإدراك أعمق على أساس أن الكائن بأكمله وارتباطه بالكائنات الأُخرى وكذلك ارتباطه بمكوناته الخاصة وارتباط عناصر هذه المكونات نفسها، وما إلى ذلك، يمكن النظر إليها في ضوء إطار النظم الفرعية أو بشكل أكثر دقة بوصفها تسلسلاً هرمياً للأنظمة التي يحكم عملها قوانين محددة. الاستثناء الوحيد من وجهة نظر المعرفة المعاصرة هو الجسيمات الأساسية للمادة -الجسيمات الأولية- التي ربما تكون بنيتها ذات طابع مختلف.
يتم وصف خاصية وجوهر جميع الكيانات في الفيزياء والكيمياء بلغة العلاقات الرياضية البُنيوية (الوظيفية) والمنطقية، حيث يتم تسجيل مُكوّن الكيانات التي تتألف من أنظمة بشكل عام، بهذه الطريقة.
يتضمن ذلك عدد العناصر وطبيعتها (مثل الصيغ التحليلية في الكيمياء). يُعبَّر عن التنظيم الديناميكي للأنظمة بلغة العلاقات الوظيفية (معادلات الإحداثيات وأنواع متنوعة من الصيغ). للتعبير عن هذه العلاقات يتم تحديد المُعامِلات التي تُميّزها أولاً، أي المتغيرات (الخصائص) التي تُميّز هذا النظام. أخيرًا، يتم تحديد شروط وحدود تطبيق معادلات الإحداثيات (وعادة ما يتم التعبير عنها من خلال عدم المساواة). وغني عن البيان أنه يتم التحقق من تم التحقق من المُعامِلات والعلاقات المهمة وشروط وحُدود التطبيق، في التحليل النهائي، عن طريق الوسائل التجريبية.

لتلخيص ما سبق، من الممكن تحديد العوامل الرئيسية لإقامة تعريف مفهوم "الوحدة" Unit العالمية الشاملة والأساسية والمتكاملة أو "خلية" الانعكاس:

1- وجود جسمين متفاعلين (أو عمليتين). يمكن أن يعمل أيٌّ من هذين الجسمين على أنه مُنعكس، في حين يعمل الآخر كحامل أو أساس لهذا الانعكاس. يعتمد الأثر المتروك على كلا الجسمين، على الجسمين المتفاعلين معاً، وبالتالي فهو مجرد الأساس والشرط المسبق للانعكاس.

2- عزل (ومُطابقة) بنية الجسم المنعكس (الكرة العظمية في المثال أعلاه) عن طريق النظر في الأثر الحاصل، بصرف النظر عن محتوى (طبيعة) المادة التي تلقّت التأثير (الكرة الشمعية في المثال أعلاه). عندما يحصل تأثير في جسم كنتيجة للفعل الذي يمارسه عليه جسم آخر، فإن المهم ليس انتقال الطاقة أو المادة، ولكن "انتقال" البنية، أو انتقال تنظيم معين، من جسم إلى آخر (انظر أعلاه حول انتقال الوظائف في الأنظمة الخطية). في الحالات الأكثر تعقيدًا، يشكل هذا انتقالاً للبُنية وفقًا لقانون تفاعل الجسم المنعكس والعاكس (الأنظمة غير الخطية).
لذلك يرتبط مفهوم التماثل مُرتبط بانتقال البُنى وفقًا لقانون محدد ((في حالة خاصة، الحفاظ عليها). ومع ذلك، فإن الاختلاف في الأساس المادي أو طبيعة الأجسام يتوافق مع الاختلاف في بنيتها (ديناميكية أو ثابتة)، وهذا يجعل من الممكن، بمساعدة وسائط المستوى النظري للإدراك، التعبير عن سمات الأساس المادي (الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، وما إلى ذلك)، فمثلاً، يتم تصوير طبيعة ذرة عنصر كيميائي نظريًا، كبنية دائرية تُقيم رابطاً بين النواة وغلاف الالكترون.

3- ربط البُنى أو علاقات الكيانات بين بعضها البعض (وعلى المستوى النظري يعني المقارنة والتفسير)، مما يَنتُجُ عنه أنه يمكننا أن ننتقل من بنية الأثر الحاصل، إلى بنية الأصل (المُحدِث للتأثير).

وهكذا، فإن جوهر "وحدة" الانعكاس يقتصر على عمليتين أساسيتين؛ أ) مطابقة، و ب) ربط بنيتين متماثلتين، أي بين بنية الكيان الأصلي وكيان نموذجه على التوالي، لكن هذا يتطلب مزيدًا من التوضيح والتطوير.
تجتمع العمليتين عندما يؤسس أحدهما الصورة، أي عندما ينتقل الأثر إلى نموذج للكيان. تأخذ عملية ربط أثر الفعل في الوسائل العاكسة بالأشياء التي تنتجها شكل الاستبدال الوظيفي في سياق نشاط الاشارات التوجيهية عند الحيوانات والبشر(6).
نتيجة لعملية الربط هذه، يصبح محتوى خصائص الموضوع، وليس الحالة الفسيولوجية للمستقبلات والدماغ التي يتم من خلالها التعبير عن هذا المحتوى، حاضرًا في أحاسيس وإدراك الذات. وبالمثل، تنتقل علاقات الواقع وصلاته إلى الذات في مفاهيم، والتي ينفصل مضمونها عن الغلاف المادي لكلمات اللغة المعنية والتي تشكل شكل الوجود ووسيلة التعبير عن الفكر، ولكن لا تُشكّل محتواه.
في الإدراك النظري، قد تكون عمليات التحديد والربط (التفسير والمقارنة) عمليات مستقلة أيضًا، ففي كثير من الأحيان قد تتم مُقارنة البُنى المُتطابقة. مثلاً، في الهندسة التحليلية نقارن البُنى الهندسية والجبرية (الصيغ التحليلية) ونفسرها كنماذج لبعضها البعض. نقوم، في التحليل النهائي، بإجراء عملية تفسير تجريبي، مُطبقين هذه البُنية المنطقية (أو النظرية) أو تلك في الممارسة العملية.
إن وظيفة التحديد (العزل، الاستخلاص) هي عكس التفاعل، حيث تتحدد الخصائص المميزة لأحد المواضيع (المنعكس) بنتائج التغيّر في الموضوع المُتفاعل الآخر. كما لوحظ أعلاه ، فإن أحد الجوانب الضرورية للتطابق هو عملية استبعاد ما يتعلق بحامل المعلومات أو التأثيرات الخارجية.
وهكذا، نُواجه في هندسة الاتصالات، تقنية فك التعديل Demodulation، حيث يتم استخراج إشارة المُدخَل من الإشارة المعدّلة، وهي التقنية التي تسمى الاصطفاء (فصل الإشارات في الاتصال متعدد القنوات)، وأخيرًا، الفلترة، وهي تقنية لفصل الإشارات عن الضجيج الراديوي. تنشأ صعوبات خاصة في حل مشكلات الأنظمة غير خطية والتي لا يمكن تحويلها إلى خطية. على سبيل المثال، في حين أنه في القياسات المختلفة للأجسام الكبيرة يمكننا زيادة حساسية الأداة إلى النقطة التي يصبح من الممكن عندها تجاهل تأثير الأخيرة على الجسم الذي يتم قياسه، يصبح من المستحيل نظريًا القيام بذلك في التفاعلات بين الأدوات الكبيرة والأجسام الدقيقة، لأن تأثير تغذيتها الراجعة (أي الأدوات) كبيرة بحيث تؤثر على قياسات تلك الأجسام
يبدو لنا أن إحدى الآليات الأكثر شيوعًا لوظيفة التحديد التي نجدها على مستويات مختلفة هي تلك القائمة على مبدأ الثبات، التي من خلالها يتم اكتشاف خاصية العلاقة الثابتة وغير المتغيرة من خلال التحولات المختلفة التي تنطوي عليها. في الإدراك نواجه في كل خطوة مواقف تكون فيها البُنية ثابتةً ومستقلةً عن التغييرات في الذات وتتحدد على أنه موضوعية ومتأصلة في الشيء نفسه. يحدث هذا عندما تكون خصائص الكيان قائمة على أساس معرفة تمظهراته أو التحولات التي تحدث فيه(7). يحدث أيضًا عندما يتم تحديد الخصائص المهمة للمتغيرات (على سبيل المثال، يشكل فاصل الزمان-المكان ثابتاً في الميكانيكا النسبية)، وأيضًا عندما تنشأ علاقات مُهمة (مثلاً، في الفيزياء، تكون قوانين الحفظ ثابتة). يعتبر مبدأ الثبات صالحًا أيضًا للانعكاس الحسي، حيث تكمن إحدى أهم خصائصه - ثبات الادراك الحسي- في حقيقة أن الخصائص الكامنة في الكائن (ثوابته) تتحدد على أساس تمظهرات خاصة، مثل، إدراك لون الشيء نفسه بالاستقلال عن إضاءته.
في المرحلة التي تظهر فيها الحياة، تأخذ عملية استخدام الآثار أو الانطباعات كحلقة وسيطة خاصة في النشاط التكيفي أشكالًا لم تتم دراستها حتى الآن، فعلى سبيل المثال، في الطبيعة غير العضوية لا تعمل الحفازات catalysts (د) على الحفاظ على الأجسام، ولكن في أبسط المواد الحية تعتبر الحفازات البيولوجية (الإنزيمات) وسيطةً تُشارك في عمليات التنظيم الذاتي. باختصار، يبدو لنا أن تطور أشكال الانعكاس في الطبيعة الحية يمكن مقاربته بفعالية من حيث ديناميكيات ومستويات هاتين العمليتين.

***
أخيرًا، نأتي إلى مسألة الخاصية العامة للانعكاس، فهل تحدث هاتان العمليتان الأساسيتان في الطبيعة غير الحية وخاصة في الأشكال الميكانيكية والحرارية والكهرومغناطيسية والنووية والكيميائية وغيرها من أشكال حركة المادة؟
في سياق التفاعل الحقيقي للأجسام، تتزامن وظيفة (قانون) التطابق مع العلاقة السببية نفسها، طالما أن هذا التطابق لم يتم عزله في علاقة خاصة. ومع ذلك، عندما لا ننظر الى عملية التفاعل، فإن التطابق بين بقايا نِتاج التفاعل (الأثر) وصورته، تحمل إمكانية محتملة. هناك وسيلة واحدة فقط وطبيعية للغاية يمكن بواسطتها تحقيق هذه الإمكانية المحتملة، وهي تحديد الارتباط السابق بالحالي من خلال دمج الأثر أو بقايا آثار التفاعل السابقة في النظام الحالي القائم المُتكون من الروابط بين الأشياء والتي يؤدي فيها هذا الأثر (ديناميكي أو ثابت) وظيفته ودوره.
تتحقق هذه الوظيفة الخاصة في الطبيعة الحية مبدئيًا، في التمثيل الغذائي البيولوجي والحساسية الموضعية البسيطة. في وقتٍ لاحق، تبدأ الكائنات الحية باستخدام نتائج التأثيرات الخارجية وتوظفها كوسائط وبدائل خاصة بين الكيانات المتفاعلة. إلى جانب عملية تمايز الأنسجة والأعضاء وتخصصها، تصبح الآثار تدريجياً وسيلة لتوجيه نشاط الإشارة فيما يتعلق بالبيئة. في سياق تطور الحياة وظهور الجهاز العصبي البدائي، تمايزت القدرة الانعكاسية عن التفاعلات بين الكائن الحي والوسط وأصبَحَت نشاطًا مستقلاً نسبيًا، وإلى مختلف مراحل التفكير وأشكاله.
إن وظيفة التطابق، التي يصبح الأثر بموجبها نموذجًا، هي في الوقت نفسه أبسط شكل من أشكال عملية النقل من الأثر أو الانطباع (المعلوم) إلى أصله (المجهول)، والتي على أساسها يطبق الحيوان في بيئة جديدة خبرته السابقة في اتصالات الإشارات ويصححها عن طريق ردود الفعل ويستكمل البحث عن العوامل غير الموجودة بعد والتي يحتاجها. ويشكل النشاط في صورته المتمايزة والمتطورة الذي ينعكس من خلاله الواقع حل مشكلات حيوية سلوكية محددة (إيجاد الحيوان لشيء يحتاج إليه نتيجة الاستفادة من الخبرات السابقة وردود أفعال الصيد)، أو مسائل نظرية (مثلاً، يستخدم الباحث عظمًا وجده لإعادة بناء الكائن الحي بالكامل، بالإضافة إلى معرفة ظروف وأسلوب حياة الحيوان المعين).
في الطبيعة اللاحية، بغض النظر عن شكل الحركة التي نتحدث عنها، لا يتم تنفيذ وظيفة الربط، وتبقى نتائج التفاعل - الآثار والتغيرات في الحالة - "ميتة" بمعنى أنها لا تستخدم بأي شكل من الأشكال من قِبَل حاملاتها (أي المتأثرة بها) للحفاظ على سلامتها ولا تحوز، إذا جاز التعبير، أي دور وظيفي مُساعد. لكن هذه الآثار المتماثلة مع الأجسام والعمليات التي كانت فاعلةً في السابق، تشكل الأساس الموضوعي والشرط المُسبَق ونماذج وصور مُحتملة، بالمعنى الدقيق للكلمة. وبدون عملية الربط والاستبدال (وعلى المستوى البشري دون المقارنة والتفسير)، فإن هذه الانطباعات والآثار تحمل معلومات عن نفسها فقط؛ فهي لا تشكل نماذج أو انعكاسات لأشياء وعمليات أخرى، وقد عرضنا هذا الموقف وأوضحنا دلالاته في عدد من الكتابات(8). إن مفهوم الانعكاس وما يشكل نموذجًا، هو في غاية الأهمية لفهم خصوصيات نشاط الكائنات الحية مقارنة بالأجهزة الأوتوماتيكية اليوم، وذلك ما هو خاص بالإنعكاس المعرفي الذي يختلف عن خاصية الانعكاس في الطبيعة غير الحية، وتوليد الاشارة في التكنولوجيا الحديثة.
الانطباعات أو الآثار "الميتة"، أو تمظهرات خاصية الانعكاس التي تمتلكها كل المادة، يتم توظيفها أولاً من قبل أنظمة قادرة على السلوك بالمبادرة، أي أنظمة قادرةعلى حفظ الذات من خلال عمليات التنظيم الذاتي المميز والتكيف الذاتي والتعلم والتكاثر الذاتي، وبمعنى آخر، إن هذه الأنظمة قادرة على الاستقلال الحقيقي للسلوك أي أنها "تملك من تلقاء نفسها قوة استجابة" على حد تعبير إنجلز(9). تمتلك الكائنات الحية (من أبسط الأشكال وحتى الإنسان) القدرة على هذا النوع من النشاط بدرجات متفاوتة، وبفضل مبادرتها، تستطيع تطوير معايير عامة جديدة للاختيار أو تقييم ردود الفعل لوضع الأهداف والمهام وتقييمها، وبالتالي قادرة على أداء النشاط الإبداعي والتجارب العاطفية.
يأخذ التعبير المحدد عن العلاقة النشطة بالبيئة عند الحيوانات، شكل حالات موضوعية عن الاحتياجات العضوية والموجهة والتي تشكل العامل المحفز للسلوك، والحافز للبحث عن التكيف فيما يتعلق بالمشاكل السلوكية والتوجه العاطفي. للإنسان احتياجات جماعية ومجتمعية (معرفية وجمالية وأخلاقية) بالإضافة إلى احتياجات عضوية. وإن اكتشاف طبيعة احتياجات وعمليات الكائن المنظم ذاتياً يعتمد بشكل رئيسي على كشف أسرار الأشكال الأولية للحياة حيث أن الأيض البيولوجي يعد من أبسط أشكال التكيف الذاتي والتنظيم الذاتي.
لا تمتلك الأجهزة الآلية اليوم الخصائص المميزة للأنظمة الحية المذكورة أعلاه. يستخدم الانسان من خلالها الشرط المُسبق المشترك عند عناصر الطبيعة كلها – خاصية الإنعكاس العالمية- في عمليات الإشارة (نقل المعلومات والتحكم) وفي هندسة الاتصالات وفي الأتمتة والتحكم عن بعد والتي تُشكّل امتداداً ليديه ومستقبلاته ودماغه، كما تزيد هذه الأجهزة من إمكانية وكفاءة الأنشطة العقلية للإنسان، فمثلا تزيد من حساسية المستقبلات ودقة وسرعة الاستجابات والعمليات العقلية؛ فهي توسع نطاق استقبال المعلومات التجريبية ونطاق الذاكرة وغيرها.
إن الخاصية العالمية للانعكاس، على المستوى المعرفي، هي الأساس الطبيعي العام للحصول على المعلومات الأولية من خلال الإحساس، وأساس المعرفة الوسيطة المُشتقة. تشكل التفاعلات الوسيطة ومنتجاتها، التي تمتلك خاصية عالمية للانعكاس، الأساس الانطولوجي للاستنتاجات الوسيطة المتعلقة بالخصائص والعلاقات المخفية وغير المعطاة بشكل مباشر بما في ذلك العلاقات (قوانين) الهامة للأشياء. توجد الروابط الوسيطة في التجارب (على سبيل المثال، غرف ويلسون السحابية وغرف الفقاعات تمكننا من رؤية مظاهر سلوك الجسيمات الأولية) وفي المعالجة المنطقية (نستخدم بيانات غير مباشرة للحكم على الخصائص الحقيقية للجسيمات) وفي البراهين أيضاً.
يواجه المرء أيضًا تفسيرات للانعكاس كخاصية للمادة، في أدبنا، والتي لا تقدم أي توقعات لتفسيرات ناجحة، وقد تؤدي إلى طرق مسدودة، وتتداخل مع تفسير نظرية الانعكاس وتطبيقاتها.
في السعي للتأكيد على موضوعية خاصية الانعكاس في الطبيعة غير الحية، غالبًا ما يتم تفسيرها كما لو أنها موجودة هناك مُسبقاً وليس كشرط مسبق وأساس محتمل للانعكاس بالمعنى الدقيق للكلمة. وهكذا يبدو أن أي تغير هو نموذج أو صورة عندما نعرف ما هو الإنعكاس، وهكذا يتم في هذه التفسيرات تهريب طرف ثالث ، أي الذات، وهو الذي يربط التغير بالموضوع المعني. وللقيام بذلك يجب أن تكون هناك دائمًا درجة معينة من الموثوقية والكفاية (الاكتمال والدقة) في الانعكاس. إن هذه الأنسنة، أي تصور المرء نفسه كوسيط بين الأثر أو الانطباع والأصل، هو نقل غير واعٍ لما يميز التفكير العقلي الى مجال الطبيعة الغير عضوية. وإذا تحدثنا عن "الانطباع-الأثر"، بصرف النظر عن استخدامه النشط كنموذج، فإنه سيكون دائمًا مطابقاً تمامًا للمصدر الذي اشتُق منه. لكن هذا التأكيد يشير فقط إلى عالمية السببية التي تكمن وراء المعرفة والتفكير ولكنها في حد ذاتها ليست انعكاسًا. هذا التأكيد الذي يُطابق الإمكانية بالواقع، والأساس المحتمل للانعكاس وتحققه، لا يمكن أن يكون مثمرًا من الناحية العلمية.
هناك محاولة أخرى لتفسير "وحدة" الانعكاس في الطبيعة غير الحية كشيء موجود بالفعل، تتمثل في مُطابقة نشاط الطبيعة غير الحية بنشاط الأنظمة الحية ذاتية التنظيم(10). إن نسب النشاط الى الطبيعة غير الحية يؤدي بشكل أساسي إلى مطابقة الانعكاس الابستمولوجي مع الانعكاس في الطبيعة غير الحية، في هندسة الاتصالات وفي الأجهزة الآلية الحديثة. ولكن بقدر ما لا يمكن تصور الانعكاس والإشارة دون وظيفة التحكم، فإن هذا يعادل أيضًا إسناد القدرة على التحكم إلى الأشياء ذات الطبيعة غير العضوية. وكما يشير الأكاديمي ترابيزنيكوف، "لم يكن التحكم موجوداً قبل ظهور الحياة؛ لقد ظَهَرَ إلى الوجود مع الحياة"(11).
إن محاولات تقديم تفسير واسع للتحكم على أنه يعني أي تفاعل وأي اعتماد وظيفي هو انتقال إلى نظرية أوسع من علم السيبيرنتيك؛ أي ما يسمى "نظرية النظم العامة" ولكن هذا التوسع لا يؤدي إلا إلى تحويل مشكلة التحكم بالمعنى الضيق للمصطلح والتي يتطلب حلها مبحثاً علميًا خاصًا، وقد ظهر هذا المبحث إلى حيز الوجود اليوم في شكل علم السيبيرنتيك.
يتم تقديم تفسير ثالث واسع النطاق للخاصية العامة للانعكاس من خلال مُطابقة مفهوم الانعكاس مع عملية ونتيجة أي تفاعل، أي رد فعل لجسم غير عضوي أو كائن حي. يُمكننا العثور على مفهوم الانعكاس باعتباره القدرة على الاستجابة للمؤثرات الخارجية في كتابات مؤلفين كُثُر(12). تم تقديم هذا التفسير بأكبر قدر من التفصيل في كتاب من تأليف أ. ن. رياكين (الانعكاس باعتباره خاصية عالمية لجميع (1958، يحاول المؤلف فيه تحديد السمات المميزة للانعكاس في الأشكال الفيزيائية للحركة وفي المجالات الكيميائية والبيولوجية للطبيعة، لكنه في الواقع يصف فقط سمات التفاعلات والروابط السببية المميزة لهذه الأشكال من الحركة، إنه يستخدم فقط مصطلحات نظرية الانعكاس لكنه لا يرى ما هو خاص بالنشاط الانعكاسي. إن وضع مُصطلح الانعكاس مكان أي تفاعل مهما كان (ونتاجه)، بالإضافة إلى التوسيع غير المبرر لمعنى مفهوم الانعكاس، لا يسهل على الإطلاق تطوير نظرية الانعكاس، في حين أنه كما ينطبق على المسائل الملموسة على سبيل المثال، تحليل نمذجة الوظائف الذهنية في علم السيبيرنتيك غالبا ما يؤدي إلى التشويش والفوضى.
وبالتالي، فإن قدرة أي جسم على إحداث تغييرات (انطباعات، آثار) متماثلة الشكل (أو متجانسة) في البنية، نتيجة تفاعله مع كائن آخر هي جوهر خاصية الانعكاس العامة، أو باختصار، هذا هو "إعادة إنتاج شكل آخر من سمات النظام الأول في سمات النظام الثاني"(13).
إن الانعكاس، باعتباره خاصية لكل المادة، هو الأساس المادي والشرط النشوئي للانعكاس الذهني. الخاصية العالمية للانعكاس هي الأساس المشترك لكل الطبيعة (الأساس المادي) في عمل الجهاز العاكس (الدماغ، المستقبلات، قنوات الاتصال العصبية). من الناحية الابستمولوجية، تقف الخاصية العالمية للتفكير هي بمثابة الأساس-كما هو في الطبيعة كُلها- للانعكاس المباشر والمعرفة المشتقة الوسيطة للخصائص والعلاقات المخفية وغير المعطاة بشكل مباشر - أي أنها تمثل حجة أساسية لصالح قبول مبدأ إمكانية معرفة العالم معرفةً صحيحة. وأخيرا، يستخدم الإنسان خاصية الانعكاس العالمية في تكنولوجيا الاتصالات وأنظمة السيبيرنتيك.


* فيكتور ستيبانوفيتش تيوخين 1923-1988، فيلسوف ماركسي سوفييتي، تخرّجَ بعد الحرب العالمية الثانية من كُلية الفلسفة التابعة لجامعة موسكو الحكومية. دافَعَ في نفس الجامعة عن رسالته في الدكتوارة عام 1957، ثم صارَ مُحاضر أول في قسم المادية الدياليكتيكية في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا. عَمِلَ منذ عام 1961 في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، وترأسَ القسم منذ عام 1977.
دافَعَ عن رسالته في الدكتوراة عام 1970 بعنوان (مسائل نظرية الانعكاس في ضوء أنظمة المُقاربة والسيبيرنتيك). كان مُختصاً في مسائل الانعكاس والسيبرنتيك.
من مؤلفاته الرئيسية: (مسألة الصورة-حول طبيعة الانعكاس) 1962، (حول طبيعة الصورة-منهاج للثانوية العامة) 1963، (المُحتوى والشكل في الفن) 1984، (نظرية التطابق التلقائي والابستمولوجيا) 1976، (المسائل الفلسفية للعلوم الطبيعية الحديثة-منهاج فلسفي جامعي) 1974،، وغيرها.

1- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم 1981، ص36، ص92
2- see The Dialectics of Nature, Russ ed., 1955, pp. 55-56, 58-59, 129, 183, 184, etc
3- see G. A. Svechnikov, The Category of Causality in Physics [ Kategoriia prichinnosti v fizike] , Sotsekgiz, 1961, pp. 62- 68
أ- ينص مبدأ التراكب، أنه بالنسبة لجميع الأنظمة الخطية، فإن نتيجة تأثير الحوافز هي مجموع نواتج تأثيرها كُلٌ على حدة، بحيث انه اذا كان المُدخَل أ يُنتِج الاستجابة 1، والمُدخَل ب يُنتِج الاستجابة 2، فإن مجموع التأثيرات الناتجة تُساوي (1+2).
ب- وظيفة التحويل، وهي النسبة القائمة بين المُدخلات والمُخرجات في النظام الخطي، بكلمات أُخرى، النسبة بين العكس Reflection والتأثيرالحاصل.
4- for fuller detail see N. Burbaki, ‘The Architecture of Mathematics” Arkhitektura matematiki] , Matematicheskoe prosveshchenie, 1960, No. 5, pp. 104-105
جـ- وهي العلاقة التي تتضمن الموقع والسُرعة والتسارع، وهي لا تتضمن القُوى المُسببة لهذه الحركة، بل تتضمن فقط الحركة نفسها.
5- see V. s. Tiukhtin, The Nature of the Image (Cognitive Correspondence in the Light of Cybernetics) [ O prirode obraza (Psikhicheskoe otrazhenie v svete idei kibernetiki] , Vysshaia shkola Press, 1963, pp. 17-26
6- see op. cit.,”On the Nature of the Image,” Sect. 6
7- see Max Born, “Physical Reality,” 9 -UFN Vol. LXII, No. 2, June, 1957, pp. 133-138
د- مواد كيميائية مُتنوعة تضاف بكميات قليلة للتفاعل الكيميائي بهدف تسريع التفاعل دون أن تتغير خواص المواد الكيميائية بمعنى أنها قادرة على أن تزيد سرعة التفاعل الكيميائي عن طريق خفض طاقة التفاعل أو تنشيطه دون أن يحدث بها تغيير كيميائي دائم. يسمى الحفاز أيضا بالعامل المساعد والمحفز، وهو ذو أهمية في الكيمياء والبيولوجيا. ويعرف بأنه قادر على تغيير معدل التفاعل تسريعه أو إبطائه دون أن يـُستهلك، أو يحدث به تغير كيميائي. الأنزيم هو نوع من الحفّاز البيولوجي، يُسرّع ويُحفّز التفاعلات في الخلية والجسم الحي.
8- Analogous views are held by A. A. Zinov ev and I. I. Revzin (Voprosy filosofii, 1960, No. l), F. P. Tarasenko (Voprosy ffiosofii, 1963, No. 4, p. 83), N. N. Brodskii (Vestnik LGU, 1963, No. 17, pp. 73-74, 761, and other authors.
9- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص289
10- see, for example, A. N. Iliadi, The Practical Nature of human Cognition [ Prakticheskaia priroda chelovecheskogo poznaniia] , Vysshaiashkola Press, 1962, pp. 16-17, 22-26
11- V. A. Trapeznikov, ”Automation and Remote Control,” Avtomatika i telemekhanika, Vol. XXIII, 1962, No. 3, p. 279
12- A. Kiselinchev (The Marxist-Leninist Theory of Reflection and Pavlov’s Concent of Higher Nervous Activity [ Marksistsko-leninskaia teoriia otrazheniia i uchenie I. P. Pavlova o vysshei nervnoi deiatel’nosti]), IL, 1956, pp. 44, 49), V. A. Pavlov (Physiological Sensitivity and Its Forms [ Razdrazhimost’ i formy ee proiavleniia] , Sovetskaia nauka Press, 1954, p. 9), 0. V. Lapshin (Voprosy filosofii, 1958, No. 4, and others
13- see B. S. Ukraintsev, “Information and Reflection” [ Informatsiia i otrazhenie] , Voprosy filosofii, 1963, No. 2, p. 17

- مُلاحظة من مُحرري مجلة Voprosy filosofii:
نُشِرَت هذه المقالة كمُساهمة في النقاش الذي سيدور في المؤتمر الفلسفي الرابع القادم.

ترجمة لمقالة:
V. S. Tiukhtin (1964) How Reality can be Reflected in Cognition: Reflection as a Property of All Matter, Soviet Studies in Philosophy, 3:1, 3-12








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي