الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوّة

دلور ميقري

2023 / 10 / 2
الادب والفن


جاثية فوق ركام منزلها لليوم الثالث على التوالي، لا تكاد ترى ما حولها. لا تشعر بحرارة الشمس نهاراً، ولا بالبرودة القارصة ليلاً. إنها تحفر وتحفر، بإصرار وعناد ـ كمجنون بكنزٍ موعود أو موهوم. إسمها " تالا "، ويعني بالأمازيغية: المُعين العذب. وبهذه اللغة، عُرفت بلدتها " أمزميز " وكل القرى في هذا الجزء من الأطلس. لكن البلدة، كما والقرى في محيطها، أمحا وجودها الزلزالُ إلا من الخارطة. وتالا لم تأبه بالخرائط، ولا بأيّ شيءٍ خلا التنقيب عن أحبائها لإخراجهم من تحت الأنقاض.
" يا ولد، آتِ بكوز الماء من تحت "، كانَ رَجُلها قد أمرَ الابنَ الأصغر المناهز سن السابعة. كونها هيَ من سلت أمر الماء، المتوجّب وجوده مع وجبة العشاء، فإنها نهضت لجلبه من المطبخ، الكائن في الدور الأرضيّ. وكانوا يتناولون العشاء في صالة الدور الثاني، وذلك عقب عودة رَجُل البيت من جولته على البغل وهوَ يسرح مع بضائعه، المنذورة غالبها للسيّاح إن كانوا أجانب أو محليين. بمجرد أن أمسكت بالكوز، المشغول من الفخار، وهمّت بمغادرة المطبخ، إهتزت الأرضُ فجأةً. وأخذت ساعة الحائط تتمايل بشدة، قبل أن تقع فوق أريكة الصالة الأرضية، المقابلة لجهاز التلفاز. بالرغم من الدمدمة العظيمة، تناهى إليها أصواتُ أولادها، الفزعين والمروّعين. بالكاد خرجت منها صرخة، بجملة وحيدة تخاطب زوجها: " إنزل بسرعة مع الأولاد! ". مع سماعها لوقع الأقدام على الدرج، وتساقط خشب السقف وأحجاره فوق رأسها، إندفعت بكل ما فيها من الرعب بإتجاه باب البيت. وما لبثَ أن غابت عن الوعي، لحظة رؤيتها إنهيار المنزل مع دور الجيران الأخرى. منذ أن إستعادت الوعي في ساعةٍ متأخرة من الليل، بفضل من نجوا من البلدة، هُرعت بجنون نحوَ منزلها. فلم تستطع تمييز المنزل إلا بأجمة أشجار التوت، التي كانت أكبرها سنّاً يُعلق عليها القرويون قطعاً من القماش ـ كنذور من أجل إستجلاب الحظ.
في اليوم الثالث، إرتضت تالا التبلّغ ببعض حبات الزيتون مع كسرة خبز وقدح شاي. لقد سمعت بالأمس هديرَ طائرة هليكوبتر، أخرجوا منها المؤن والبطانيات والأدوية، ومن ثم عادت لتحلّق مع الجرحى. ولكنها لم تعلم، أن من عُثرَ عليهم من الموتى، قد أهيل عليهم التراب في خنادق جماعية مع صلاةٍ مرتجلة. الآنَ ترقدُ تالا تحت شجرة التوت المباركة، شبه الأسطورية، تحاول إستعادة وعيها. لقد لاحت لمن حولها، أنها تعاني من العته. كانوا بأنفسهم مضطربين، وأعصابهم تالفة. خاطبتهم بصوتٍ كامد، لكنه يشعُ أملاً: " أحمو لم يأتِ أمس من جولته، ولعله ما زال في ستي فاطمة ". كانت تتكلم عن زوجها، وكأنها فطنت فقط لمسألة عمله كبائع جوّال. ثم نهضت، قائلة أنها ستمضي للبحث عن الرجل. عبثاً حاولوا تهدئتها، وإقناعها بالبقاء كي تمضي مع طائرة الهليكوبتر لتتلقى العلاج. كانوا يعنون وضعها النفسيّ، كونها لم تصب سوى بجروح بسيطة جرّاء الزلزال. لكنهم سبقَ أن عقموا تلك الجروح، وأيضاً لفوا أصابعها بالضماد والتي تقرّحت بسبب الحفر لمدة أيام ثلاثة.
غبّ مسير طويل، وصلت فيه الليل بالنهار، بلغت للّا تالا بلدة ستي فاطمة، وكانت الشمسُ تغمر واديها الكبير. لم تنتبه إلى حال البلدة، التي تضررت قليلاً جراء الهزة الأرضية، وإنما عجبت من ندرة الخلق. المقاصف، المتداخلة مع مياه الوادي، كانت مهجورة تماماً. لم يُنبئ عن وجود حياة سوى بعض الكلاب، التي كانت تتهارش مع الهررة أو مع الديوك. ثم مر صبيّ صغير، راحَ يتطلع إليها بفضول. سألته عندئذٍ، ما لو صادفَ البائع الجوّال. لكنه أطلق ساقيه للريح، متجهاً إلى ناحية البلدة، المستلقية على السفح. ألقت تالا نظرة على الجانب الآخر من الوادي، المتصل مع هذا الجانب بجسور من الحبال أو الأخشاب: " لا بدّ أن أحمو في تلك الجهة، يُساوم الكَاوري ". المفردة الأخيرة، تعني النصارى الأجانب. بهذا الشعور من الثقة، بدأت تالا بإجتياز أحد تلك الجسور. فما أن أحتوتها الضفة الأخرى من الوادي، المتكاثف فيها الأشجار، إلا وأخذت ترتقي المعبرَ الضيّق، الذي تحف به الصخور. إلى أن تناهى سيرها إلى معبر آخر، لا يبلغ عرضه نصف متر، ولكن في الوسع إجتيازه بخطوتين لا غير. المعبر يحدّه من اليمين الجدار الصخريّ، ومن اليسار هوّة بعمق يقارب الأربعين متراً. مع أنه المعبر الوحيد لمنطقة الشلالات، فإن السلطات لم تقم بتوسيعه؛ طالما لم يسقط أحدٌ حتى الآن في الهوّة. في اللحظة نفسها، التي أقدمت فيها على الخطوة الأولى، سمعت للّا تالا أصواتُ أحبائها وهم يصرخون رعباً وفرقاً. وإذا أحدهم يهتف بها عن قرب: " لا تخافي، يا أختاه! خطوة ثانية وتجتازين المعبرَ! ". إلتفتت إلى مصدر الصوت، لترى رجلاً متوسط العُمر، يقف في المكان الذي غادرته تواً.
ذلك الرجل، وكانَ الشاهدُ الوحيد على الواقعة المفجعة، كانَ يعمل دليلاً للسياح؛ فيمضي معهم إلى الشلالات، لقاء مبلغ صغير من الدراهم. بسبب إنعدام وجود السيّاح على أثر الزلزال، كان هذا اليوم يتسلى بذرع الدرب ذهاباً وإياباً. وقال في شهادته لمحقق الأمن الوطني، بنبرة أسف وحزن: " ظننتُ أنها في رعب من إجتياز المعبر، فمددت لها يدي. لكنها دفعت كلتا يديها بالجدار الصخريّ، لتسقط من علٍ في الهوّة. لقد صرخت بهذه الجملة، قبل سقوطها: " ليذهبَ الكوزُ إلى الجحيم، يا أحمو! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في