الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


«آيديولوجيا الغَد» عندَ علي شريعتي

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 10 / 4
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


لطالَما كانَ العَيشُ في منطقتِنا، أو مناطقِنا، العربيَّةِ باعثًا على الثَّورة. ورغمَ كُلِّ «الثَّوراتِ» التي مُنِيَتْ بها هذه البُقعةُ البائسةُ من الأرض، فإنَّ هذا الباعث كان يزدادُ إلحاحًا علينا، نحنُ العربَ، مع كُلِّ «ثورةٍ» جديدةٍ تَرمينا بها أيادٍ بيضاءُ وسوداءُ على حدٍّ سَواء. ولا كبيرَ خِلافٍ إذا قرَّرنا أنَّ هذه الحال ليست إلَّا امتدادًا طَبَعيًّا لبؤسِ العقل السِّياسي الذي بدأ مع الحُكم الأموي للمنطقة، وترسَّخَ في الحُكمَيْن العثماني والصَّفوي، ولم ينتهِ إلى اليوم.

وليسَ ثمَّةَ اختلافٌ جوهريٌّ إذا قرَّرنا أيضًا أنَّ المُفكِّر الإيراني علي شريعتي هو أحدُ أبرزِ العقولِ الثَّوريَّة التي عاشتْ في هذه المنطقةِ من الشَّرق. ويُمكنُ القَول، رغمَ بعضِ التَّحفُّظات، أنَّ المِنطقة العربيَّة لم تستطعْ بعدُ، في عصرِها الحديث، أن تُنتِجْ عقلًا ثوريًّا كعلي شريعتي. وأبرزُ ما يُمكن أن يُستدلُّ به على مِثلِ هذا الحُكم هو أنَّ شريعتي، الذي عاشَ في منطقةٍ تحتاجُ إصلاحًا سياسيًّا بقدر ما تحتاجُه من إصلاحٍ دينيٍّ، قد جمعَ الإصلاحَيْن في فِكرٍ واحد، وقدَّمَهما بجُرأةٍ وصدقٍ لا طريقَ لإصلاحٍ إلَّا بِهما.

يطرحُ شريعتي في محاضرتِه، «بناءُ الذَّاتِ الثَّوريَّة»، فِكرَه الثَّوري تحت عُنوان؛ «آيديولوجيا الغَد»، التي هي «نتيجة تجارب عديدة اكتسبتها الإنسانية بأثمانٍ باهظة، وهي رجعةٌ عن كل الطُّرق التي لم تؤدّ الى خلاص الإنسان، وهي كشفٌ لعوامل الاخفاق التي أدّت الى انكسار المثاليات الكبرى»، والتي يُقدِّمُ فيها آليَّات إعداد الذَّات إعدادًا ثَوريًّا.

الإنسانُ، بحسب شريعتي، لا يُمكن أن يبقى مُخلصًا وصادقًا في الثَّورة ووفيًّا لها إلَّا إذا كان ثوريًّا قبلَها ومُتناسقًا معها. ومنَ البَدَاهةِ أنَّ المُجتمعاتِ لا يُمكنُ أن تُربِّي «إنسانًا ثَوريًّا»، واقتضاءً فإنَّ الإنسان يحتاجُ إلى «بِناءِ الذَّاتِ الثَّوريَّة» التي يُعرِّفُها شريعتي بأنَّها «إعداد الذات ثوريًا في صورة أصلٍ وأصالةٍ وهدفٍ، أي أن يُوهَبَ الجوهر الوجوديُّ للذَّاتِ تكاملَه» لتكونَ الذَّاتُ الثَّوريَّةُ بذلك «خليفةً» للذَّاتِ الموروثةِ عن التَّقاليد والغريزة.

ولعلَّ الأصالةَ هي أهمُّ ما يَجبُ على الفِكر الثَّوري أنْ يَبحثَ عنه، إذْ أنَّ التَّقليد الذي مُنِيَ به ثَورجيُّو الشَّرق هو بذاتِه أحد موجِباتِ الثَّورة. ومِن هُنا يَعتبرُ شريعتي أنَّ أوَّل خَطواتِ هذا الطَّريق هي «تقويةُ الخوف الدّاخلي في ذواتنا من السقوط فريسة الاغتراب عن الذات»، أو الذَّات الجَمعيَّة إذا جازَ الاصطلاحُ والتَّأويل. وأعظم مصائب الاغتراب عن الذات عند المفكّر هو التقليد الذي يعرفه شريعتي بأنّه «أن يسجن المرءُ نفسَه في أُطرٍ حُدِّدت في غيبةٍ منه». وهذه الأُطر قد تكون؛ تقليديَّة فُرضَتْ على الفَرد قبل أن يُوجد بحيثُ أَوجدَها مُبتكرونَ في عصرِهم وقبلَها الفَردُ كما هي بعد عقودٍ، أو حتَّى قرونٍ، على إيجادِها. وإمَّا أن تكونَ حديثةً خاضعة لموازين القوى الآيديولوجيّة العالمية، ولعلَّ الشُّيوعيَّة والرأسماليَّة آنذاك هُما المُرادُ من كلام شريعتي، بحيثُ يشعرُ الفَردُ بأنَّه تخلَّصَ من الموروثات القديمة عبر تقليد هذه الآيديولوجيَّات، بيدَ أنَّ الحقيقةَ أنَّ الفردَ إذَّاكَ يكونُ قد انتقلَ من سجنٍ قديمٍ إلى سِجنٍ حديثٍ عبر هذا التَّقليد. وتاليًا، فإنَّ مهمَّةَ الثَّوريِّ أن يَكونَ أصيلًا في ثورتِه، وهو ما سمَّاهُ موسى الصَّدر بالـ «ثَّورةِ غير المُستوردة».

ويَلزَمُ عن هذا كُلِّه أن نَعترفَ بأنَّ الإنسانَ «صاحبُ دورٍ في مسيرتِه التَّاريخيَّة وفي تغيير نظامِه الاجتماعي»، ويُصرِّحُ شريعتي بـ «أنَّ وعي الإنسان وإرادتَه علَّةٌ في مسيرة التَّاريخ الجبريَّة والتَّطوُّراتِ الاجتماعيَّة»، إذ أنَّ الإنسان «ليسَ وليد بيئتِه بالمُطلق»، فهو رغمَ أنَّه يتأثَّرُ بالبيئة التي يولد فيها، لكنَّه باستطاعته أن يكونَ «شريكًا في بناء ذاتِه»، وهو ما يُسمِّيه شريعتي بالـ «الإنسان التَّكامُلي الحَيوي»، الساعي نحو الحُريَّة، والذي باستطاعته تغييرُ صُورتِه من كَونِه «المعلول» إلى كَونِه «العِلَّة»، اعتمادًا على إرادتِه ووعيه ومعرفتِه بالبيئة التي تتَّخذُ عدَّة أشكالٍ طبيعيَّة، إجتماعيّة، تاريخيَّة، طبقيَّة، وغير ذلك. وهكذا نرى أنَّ شريعتي يَرفضُ المَنطق الجبري، الدِّيني واللاديني على حدٍّ سَواء، الذي يَسلِبُ من الإنسانِ حُريَّتَه في الاختيار، وتاليًا يَلسبُه مسؤوليَّتَه في تحديد مسارِه ومصيرِه، وتاليًا يَنفي عنهُ إنسانيَّتَه.
وإذْ أنَّ بِناء الذَّات يَجبُ أن يَسبقَه تحديدُ الهدف من وراء هذا البناء، والذي على أساسِه يُوضعُ الأسلوب الذي به تُبنى الذَّواتُ ثَوريًّا، فإنَّ المَطلوب هو وجود آيديولوجيا، ليست جامدة بطبيعةِ الحال، هدفُها تحويلُ الفَرد من كائنٍ جَبريٍّ إلى كائنٍ حُرٍّ، من مَخلوقٍ إلى خالقٍ، ومِن حيوانٍ إلى إنسان. ويرتكزُ شريعتي في تحديدِ آيديولوجيَّته على حركةِ التَّاريخ، أو «المَسار التطوُّري النَّوعي للإنسان»، ويُحدِّدُ أهدافها وأساليبَها من خِلال ثالوثَيْن اثنَيْن. ثالوث الأهداف هو؛ الحُريَّة، العشق والمُساواة، ويُعني بالحُريَّةِ حُريَّةُ الإنسان من سجونِه الأربعة؛ الطبيعة والجغرافيا، التاريخ، المجتمع والنَّفس التي هي أصعب السُّجون ويتخلّص الإنسانُ من سجن النَّفس «عبر تبديل التراكيب الغرزية والبيولوجية فيه الى ارادة جوهرية واعية مختارة خالقة ومحددة للدافع والمثل». أمَّا ثالوث الأساليب فهو؛ العَمل، العبادة والنِّضال الاجتماعي، إذ بالعمل، الدِّيني والاقتصادي الانتاجي والفِكري والجسدي، يُحقِّقُ الإنسان حُرِّيَّتَه، وبالعبادة يَصلُ إلى العشق، وعبر النِّضال الاجتماعي تتحقَّقُ المُساواة. ويَذكرُ شريعتي أنَّ المُفكِّرَ إذا كان أوروبيًّا فعندَه ثلاثة عقول يُمكن أن يرشفَ منها؛ سارتر الذي اعتبرَ الحريَّة هي محك الخير والشَّر والحق والباطل، باسكال للعِشق والتَّسامي عن طريق عبادة القيم المُطلقة، وللمساواة عندَه ماركس الذي «استخدمَ علمَه لإثبات حقِّ الجماهير التي لم يكن لها حقٌّ في أي نظام إلَّا العمل والجوع». أمَّا إذا كان مُفكِّرًا شرقيًّا فعندَه؛ بوذا «النَّبي غير المُرسل لحريَّة الجوهر الإنساني»، وللعِشق لديه الحلَّاج وهو «بحرٌ بركانيٌّ يتموَّجُ حتَّى أعماقِه»، وللمساواة هناك مَزدَك الذي «حرَّرَ نعم الحياة من سِجن الملكيَّة الضيِّق قبل ماركس بألف ومئتَيْ سنة». وأمَّا إذا كانَ مُسلمًا «مُلتزمًا» فعندَه عليٌّ بن أبي طالب للحُرِّيَّةِ والعشق والمُساواة على حدٍّ سَواء. ويَذكر شريعتي قصَّة الإمام علي مع صاحبِه ميثَم التمَّار عندما رآه يفصل بين التمر الجيّد والتمر المعطوب فيجعلهما مجموعتين ويبيع كُلًّا بسعر فاعترض الإمام علي وأمره أن يخلطهما ويبيعهما بثمنٍ متوسّط، واعتبر شريعتي أنّ هذا تصوُّرٌ لأعلى نظام اشتراكي ممكن؛ أي التساوي في الاستهلاك. ويُعقِّبُ شريعتي بتعقيبٍ لعلَّه مِفتاحٌ لفهم الفَشل الذي صارت إليه ثوراتُنا العربيَّة؛ مأساة التاريخ الكبرى، ومظهر تشتت الوجود الإنساني كانت ليس في انفصال هذه الابعاد الثلاثة وحسب، بل في تصارعهم. وتاليًا فإنَّ المُفكِّر الثَّوري الذي يدعو إليه شريعتي هو الذي يجمع بين هذه الأبعاد، أو الأهداف، الثَّلاثة في ذاته إذ أنَّ المُفكِّر/ المُثقَّف لا يجب «أن يسعى إلى إدخال نفسِه إلى الجنَّة ويترك الآخرين في جهنَّم الحياة على الأرض»، أي أنَّه مسؤولٌ عن نفسِه بقدرِ مسؤوليَّتِه عن أبناء مجتمعِه، الوَطني والإنساني، إذ أنَّ مسؤوليَّته تجاه نفسِه تنبعُ من كونِه فردًا في هَذَيْن المُجتمعَيْن.

وبناءُ الذاتِ ليس مرحلة منفصلة عن المشاركة في بنية العصر، «فالإنسان في الإسلام عندما يصل إلى سن التّكليف يُؤمّر على الفور بمسؤولياته الفردية، ومنها بناء الذات، في الوقت نفسه الذي يؤمَّر فيه على مسؤولياته الجماعية التي تشكل رسالته الاجتماعية والسياسية». ويُقيمُ شريعتي مُفارقةً مهمَّةً مفادُها أنَّ شخصيَّاتٍ مثل جمال الدين الافغاني، عبد الرحمن الكواكبي ومحمَّد إقبال وغيرِهم، يوجد بحسب شريعتي، علماء دين أعظم من هؤلاء من الناحية العلميَّة لكن تأثير هؤلاء «العلماء» ودورهم في إحياء الإسلام وتطوير المجتمع الإسلامي «إذا لم نَقُل أنَّه صفر فهو ليس أكثر بكثير من الصفر». ومَرَدُّ ذلك إلى أنَّهم «حصروا أنفسَهم في مراكزهم الدينيَّة وكُتبِهم»، بينما الأفغاني وأمثالُه شاركوا في أحداث عصرِهم السِّياسيَّة.

إنَّ التَّحوُّلَ إلى الثَّوريَّة، بحسب شريعتي، « يستلزم قبل كل شيء ثورة ذهنية، ثورة في الرؤية وفي نمط التفكير. ثورة مقترنة بالوعي الذي هو ثمرة تجربة التاريخ الإنساني العظمى؛ هذا الوعي هو عبادة الله الذي جرّه رجال الدين الى الابتذال، وهو الاشتراكية التي بدّلها الشيوعيون الى اقتصادية حتمية عمياء مادية، وهو الحرية التي جعلتها الراسمالية نقابًا للنفاق والخداع». ومن هُنا تتبدَّى أهميَّة السُّؤال الذي طرحَه الدَّكتور وجيه قانصوه في كتابه «الانتظامُ العربيُّ العامُّ»، والذي يُمكنُ طرحُه بصورةٍ تأويليَّة؛ «هل نحن بحاجةٍ إلى ثورةٍ على الحُكَّام أم على الذَّات؟». لا شكَّ أنَّنا، نحنُ العربَ، بحاجةٍ إلى ثورةٍ حقيقيَّةٍ وأصيلةٍ على ذواتِنا بالدَّرجةٍ الأُولى، نتمكَّنُ عبرَها من إعادةِ ترتيبِ عقلِنا السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والدِّينيِّ على حدٍّ سَواء.

إنَّ مهمَّةَ «آيديولوجيا الغَد»، كما يُصرِّحُ بها شريعتي، هي أن تُدافعَ عن «الإنسان الذي لا ملجأ له وتحميه بقوّة القانون، وتدافع عنه أمام نظامٍ قد يبلغُ في جبروته أن يشقّ أجواز الفضاء لكنّه لا يملك القدرة على كسر قلم، يستطيع أن يكتسب الفلك المسيطر على الطبيعة، لكنه لا يملك القدرة على إسكات فم».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - معضلة الايديولوجين يريدون خلق انسان اخر
منير كريم ( 2023 / 10 / 5 - 00:17 )
الاستاذ المحترم نجيب علي العطار
الديانات وبعدها الايديولوجيات وخاصة الماركسية والشيوعية جميعا فشلوا لانهم ارادوا تحويل الانسان الملموس الى انسان مجرد يشكلوه حسب ديانتهم او ايديولوجيتهم فاصطدموا بالطبيعة البشرية
الانسان ذات وهو يسعى دائما لتحقيق ذاته وسلوكه يتحدد بالتعزيز
الفكر الناجح الذي يبدأ من ادراك الطبيعة البشرية والذات البشرية من حب الانسان للحرية والتملك
تنظيم ذلك بقوانين
اما الانسان المجرد فهو وهم مدمر
شكرا


2 - رد
نجيب علي العطّار ( 2023 / 10 / 21 - 04:26 )
الأستاذ منير كريم المحترم. بعيدًا عن مسألةِ أنَّ لكُلِّ منظومةٍ فِكريَّة خصوصيَّاتُها التي تحول دونَ جمعها مع سِواها، كأن نقول «الدِّيانات»، أتَّفقُ معكَ في أنَّ الكثير من الآيديولوجيات قد فشلت في تحقيق ما يُفترض أنَّها عملتْ لأجله، بيدَ أنَّ هذا لا يَعني فشلَها من حيثُ هي آيديولوجيا وإنَّما من حيثُ هي آيديولوجيا شيوعيَّة مثلًا، أو دينيَّة أو غير ذلك. ثُمَّ إنِّي لا أعتقد أنَّ شريعتي قد أرادَ من الآيديولوجيا معناها المُتعارف عليه والذي يوحي بالتَّحجُّرِ والجمود، وإنَّما أرادَها بمعنى رؤية شاملة للإنسان وللعالم وللإنسان في هذا العالم. وإذا كانت بعض الآيديولوجيات قد اصطدمت بالطبيعة البشرية فهذا يدلُّ على فشلِها هي وليس فشل ذاتِ الآيديولوجيا، إذ أنَّ آيديولوجيا الغد عندَ شريعتي تنطلقُ من الطَّبيعة البشريَّة نفسَها وتدعو إلى التَّحرُّرِ منها قدرَ المُستطاع. أختم بعبارةٍ لشريعتي معناها بتصرُّف: الإنسان هو ابن بيئتِه ولكن ليس بالمُطلق، يُمكنُه أن يتحرَّرَ من قوانين الطبيعة والغريزة ويُشارك في بناء ذاتِه. فالإنسان ليس كائنًا جَبريًا.
تحياتي لك وشُكري لمرورِك الكريم.

اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا