الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: النهر السادس

دلور ميقري

2023 / 10 / 4
الادب والفن


1
رُحى المَجلس على سبع مراتب، قاعدته. وعليها تفاوتَ المُضيف عن نظائره، بما كانَ من مكانه المَركون في صدر القاعة. نعم. إنّ عبد اللطيف أفندي كانَ قد أضحى من أركان مجلس العموميّة، مُحتلاً بذلك مكانَ اليرلي باشي؛ المرحوم قوّاص آغا؛ وبمَشورة من القاروط. هذا كانَ قد جرى، حينما كان ميخائيل مُحتجزاً بعدُ في القلعة. القاروط، كانَ قد استعاد صفته السابقة في المجلس، جنباً لجنب مع الآغا العطّار، بعدما تخلى كلاهما عن وظيفته ـ كوكيل لأعمال عزيز مصر في الولايَة الشاميّة.

وكانَ قد اكتملَ الآنَ فرْط عقدهم، بانضمام شمّو آغا إليه. إذ وصَلَ مُتأخراً عن بقيّة الجماعة، قادماً مُباشرَةً من القلعة. ولوحظ على قسماته ما يُنبأ بأمر ما، جلل، يَحمله لإخوانه في المجلس. فما هيَ إلا هنيهة أخرى، حتى بدأ الآغا يَبوح لهم بجليّة الأمر، فقالَ بصوت شاءَ أن يكونَ مُنخفضاً: " لقد كنتُ في إستقبال سعادة إبراهيم باشا، أعزه الله. لقد كان مشرفاً على تفقد عسكره، المتأهب للزحف على حمص، لكي يَواجه جيشَ الوالي السابق، المُتأهب للمسير إلى الشام بأمر الباب العالي ". كانَ المتحدّث، شأن معظم قادة الوجاقات والأورطات، قد إنحازَ إلى جهة المنتصر؛ وهوَ بنفسه، كان قد إنسحب إلى حمص على أثر وصول جيش الغازي المصريّ لحدود الولاية الشامية من جهة البقاع. وقيل عندئذٍ، أن الزعيم الكرديّ سبق وتخامرَ مع الغازي بوساطة القاروط ومن ثم أقنع بقية القادة بعدم جدوى المقاومة.

" العفو، يا آغا. أأنتَ تعني سعادةَ القبجي، أم مُمثلاً آخر لمولانا السلطان؟ "، فاه ميخائيل بسؤاله وقد اختلط الأمرُ عليه. عند ذلك، بادرَ كبيرُ المجلس لإعادة الصواب لفكر الحكيم المُشوّش: " ها أنتَ ذا، يا أخي، تدركُ مَغزى إلحاف البك عليكَ للبقاء في مَعيّتنا فترة أخرى من الوقت "، قالها له وهوَ يومئ بعينيْه إلى ناحيَة القاروط. ثمّ ما عتمَ الزعيمُ أن عادَ والتفتَ نحو الحكيم، موّضحاً مَقصد كلامه: " إن إبراهيم باشا المصريّ، أضحى له اليد العليا في ولايتنا، ولم يعُد ثمة وجود لممثلي السلطان ". ثم ما عتمَ أن إلتفت إلى القاروط، قائلاً بشيءٍ من التهيّب: " تفضّل يا بك، كي تضعنا في صورة الوضع على ضوء صلتك الوثيقة بسعادة إبراهيم باشا ". تنحنحَ البك، منقّلاً بصره في وجوه الحاضرين، قبل أن يبدأ الكلام: " إن سعادة سردار العسكر، أستثنى وجاق القابيقول من العفو. وهذا يخص، بالطبع، آمري الوجاق لا الأنفار العاديين. إنه سيلقى مَصير وجاق الآستانة، ولكن دونما إراقة لدماء أنفاره ـ كما نأملُ وبإذن الله ". اتسعَ مبلغ استغراب ميخائيل، حتى أنه سوّغ لنفسه قطعَ حديث البك: " وماذا عن آغاوات القابيقول، الذين من المُفترَض أن يأتوا مساءً إلى هذا المنزل، بعدما وُعدوا سابقاً بنيل فرمان الأمان من يَد سعادَة القبجي؟ "

" إنهم سَيُجازون، بالمقابل، حَسَبَ نيّاتهم المَعروفة، الشريرة "، بادَرَ الدالي باش إلى الإجابة وكانت سحنته إذاك تومضُ بنذر التصميم والحَسم. وعلى إيقاع ذلك القول، المُدوّي، استهلّ اجتماعُ مَجلس العموميّة. وكانَ الاجتماع، كما ظهرَ تالياً، مَنذوراً لبحث خطة اعتقال آغاوات الإنكشاريّة؛ والمُقرّر أن تنفذ في العشيّة: " على ذلك، وحالما يَنبعث صوتُ الأذان، سيُدعى الإنكشاريون إلى المَصلى من لدُن الأفندي، صاحب المنزل. مكانُ الصلاة هذا، لن يكونَ سوى القبو ـ ليغفر الله لنا ولهم "، اختتمَ الزعيمُ شرحَ تفاصيل الخطة. فما أن اُحَيط ميخائيل علماً بتلك التفاصيل، حتى خاطب داخله: " إنها صورَة عن مذبحة القلعة القاهريّة، التي تخلّصَ عبرَها محمد علي باشا من خصومه الألداء؛ المماليك. وإذاً، فلا يُمكن أن يكونَ واضعُ الخطة غير صاحبنا، البك المصري ". لا غروَ أنه لم يستطع كبحَ فضوله، المُسدّد نحوَ القاروط بنظرة مليّة من عينيه. فأجابَ هذا بنظرة مُماثلة، ولو أنها أحفلُ جذلاً وغبطة.

" لقد آذنا الإنكشاريين بالحرب، وكانَ علينا أن نكسبهم إلى صفنا ضدّ الغزاة المصريين "، تناهض كبيرُ العَمارة مُعترضاً. حينما نطقَ هذا كلمته، فإنه رَمَقَ البكَ بعينيْن ملؤهما الريبَة والمَظنة. هنا، شاءَ الشاملي ردّ حٌجَة المُعترض، خشيَة ً منه أن يَتفاقمَ الجَدَل إلى أبعدَ من ذلك: " إنّ المَعرفة، يا آغا، توجبُ التأمل. وإذاً، فها هوَ مسلكُ القابيقول، طوال العامين المنصرمين، يَمدّ العارف بعلامات الغدر والخيانة. إننا اليومَ في تعويلنا على خطة تخليص الولايَة من أولئك الأوباش، نأملُ بكون ذلكَ سبيلاً لتحقيق هدَفيْن أساسيّيْن: الأول، ضمان تطبيق فرَمان الأمان. والثاني، وضع كلّ سلطات الولايَة بإمرَة الوالي الجديد، الذي سيعيّنه إبراهيم باشا "

" اسمح لي، يا سيّدي، أن أنبّه إلى حقيقة؛ أننا في المَجلس قمنا بقيادة العموميّة جنباً لجنب مع الوجاقات. فمهما يَكن من طيش آغاواتهم، فإنّ ذلكَ لا يَعطينا الحقّ بإهداء رؤوسهم للحاكم كائناً مَن كان "، عادَ العريانُ إلى المُجادلة مُجدداً. هذه الكلمة، المؤثرة، ربما جعلتْ الزعيمَ يتردّد في الإجابَة من فوره. ولما طالَ صمتُ الرّجل، فإنّ آغا يقيني أجازَ لنفسه أن يَتدخلَ مرة أخرى.

" لقد استخرنا الضميرَ، بعد الاتكال على الله "، قالَ الدالي باش وهوَ يُنقل عينيْه خلل الحضور، مُستهلاً بالمُجادل العنيد. وأتبَعَ حرَكة عينيْه بالإشارة بيده إلى الأعلى: " أجل، إننا نرجو رضا الخالق لا المخلوق. فلا حاجَة بنا، والحالة هكذا، لمُداهنة الباب العالي أو أيّ كان "، ندّتْ عنه بقوّة ثمّ أردَفَ مُخاطباً كبيرَ العمارة: " وعهدي بك، أيها الزعيم، خصماً دائماً لأولئك الأوباش؛ الذين ساموا الخلقَ طوال قرون ألوان العسف والمهانة والعذاب. فإذا أشرقَ صباحُ الغد، إن شاء الله، على حاضرتنا وهيَ خاليَة من جماعة الإنكشاريين الغاشمَة، فإنه سيكونُ يوماً مَيْموناً؛ يوماً مَشهوداً، ولا غرو، لا بدّ أن يَذكره تاريخُ الشام ". فما لبث الكثير من الحضور أن ردّدَوا، عفواً، وبصوت واحد " إن شاء الله ". وكانَ على الصوت المُعارض ، في آخر الأمر، أن يَلزمَ فمَ صاحبه. من جهته، آثرَ ميخائيل أيضاً الصمتَ وبالرغم من أنّ ملاحظاته هيَ من حرّضتْ العريانَ على مُناوئة الخطة. ويكتب في تذكرته بعدما إنطفأ شمسُ شرّة الشباب: " ليسامحني الربّ ما دمتُ أعترفُ الآن، بعدَ مضي كلّ تلك السنين، بأني كنتُ آنذاك مَشغولاً بورقة الكنز أكثر من انشغالي بذلك التدبير؛ المُحتم إنقاذ الشام الشريف من براثن الأوغاد ".

" هل كانَ المَملوكُ، المَنحوس، يهزأ فيّ؟ "، خاطب ميخائيل نفسه حانقاً. إذ كان قد آثر أن يُفاتحَ المُضيف بشأن الورقة تلك، عندما اختلى معه بُعيدَ العودة من المدينة رفقة حفيدته وصديقتها. إذاك، فإنه أكّدَ لميخائيل بأنّ حاجيات المَرحوم، جميعاً، قد تمّ تسلّمها من قبل آمر القلعة: " لقد جرى ذلك إثرَ حجز الصقليّ، ولم يكن بين أغراضه أيّ ورقة ضمنَ رقّ جلديّ "، قالَ له الأفندي عندئذ.
" أرجو المَعذرة من حضراتكم، أيها الأخوة. أشعر بالتعب والإعياء، ولا بدّ لي من فترَة راحَة قصيرة. وسأعودُ للانضمام إلى صُحبتكم، بإذن الله، حينما يَحضرُ بقيّة المَدعوين "، خاطبَ جماعة المجلس وهوَ يهمّ بالقيام من مكانه. صورة نرجس، كانت تتراءى في تلك اللحظة، حتى أنه لم يكن قد أبصر أحداً غيرها فيما الهواجسُ تتناهبه.

" ورقة واحدة من الكناش؟ ولكنني، كما تذكر يا سيّدي، سلّمتكَ حزمة من الأوراقَ؟ "، هتفتْ فيه ابنة الشاملي باستغراب. وكان قد التقى معها عند عتبَة باب المطبخ، وكانت مشغولة بدَورها بتوزيع المَهام على الخدَم تحضيراً لوليمَة العشاء المُقرّرة. وهي ذي الفتاة الحَصيفة، تنتبه إلى ما يَجولُ على ملامحه من قنوط، فتبادرَ ودونما نأمَة إلى تعقب خطواته العجولة، المُتجهة إلى الدور الثاني؛ إلى الحجرة، المُخصصة للحكيم.

" أجل، أذكرُ ذلكَ ولا رَيْب. ولكن، كيفَ سأشرحُ لك؟ "، قال لها في حيرَة ثمّ أضاف على الأثر: " ثمّة ورقة واحدة حَسْب، مَفقودة. ويبدو أنها تركتْ مَنسيّة، سَهواً، في رقّ ما، جلديّ "

" يا لي منكَ، يا حكيم! "، ابتدأت الكلام بطريقتها الطريفة ثم تابعت: " إنّ الأوراق تلك، التي استلمتها بنفسي من أختي المرحومة، كانت مَحزومة في قطعة قماش شبيهة بالصرّة. فأيّ رقّ هذا، الذي سأنسى فيه إحدى أوراق الكناش؟ "

" حسنٌ. فلندَعَ أمرَ الرقّ، جانباً. ولكنك، من ناحيَة أخرى، لم تخبريني عن كيفية عثورك على تلك الأوراق، بعدما فقدَتْ من صديقنا العطار أثناء فراركم من منزل أبيك؟ "، قال لها بنبرَة تتكلّف عدَمَ الاكتراث. بيْدَ أنّ نرجس، وقد أخذتْ على غرّة بسؤاله غير المُنتظر، ما عَتم أن رفعَتْ رأسها عن نظرة مُتشكّكة، مُجيبة ببطء: " آه، هذا هوَ مَحط اهتمامكَ إذاً؟ "، ندّتْ عنها بشيء من الخفة ثمّ أضافت: " لقيتُ حزمة الأوراق، صُدفةً، حينما كنتُ أنظفُ حجرَة النوم ؛ ثمة، في مدرسة الحديث "

" ولكن، أرجوك يا عزيزتي: أيّ حجرَة تلك، المَقصودة؟ "، توجّه إليها هذه المرّة بنبرَة مكشوفة؛ بنبرة رجاء وأمل وتوسّل. طفقتْ الفتاة صامتة هنيهة، مُتردّدة في مُصارَحته على الأرجح. ثمّ إذا بها تطلق ضحكة خافتة: " إنها حجرَة الزعيم، إذا كانَ ذلكَ له أَهمّية لديكَ؛ وإذا ما كنتَ ماضياً بعدُ في بحثكَ عن القاتل المَجهول "، قالتها وقد احتفظ فمُها بالتعبير ذاته، المُتهكّم. كاد الحكيم يصعقُ بما سمعه. إلا أنه وقد حاذر أن يَفوته الوقت اللازم، بادرها فوراً بسؤال آخر: " وهل علمَ والدك، بأمر اختفاء حزمة الأوراق تلك؟ "

" أعتقدُ ذلك، ولكن ليسَ في الحال. إذ كانَ آنذاك غائباً عن الدار "

" وفيما بعد؟ "

" نعم، لقد استفهمَ مني ما إذا كنتُ قد دخلتُ الحجرَة أثناء غيابه. لأنّ حجرَتيْنا، كانتا مُتصلتيْن بعضهما ببعض عن طريق باب داخليّ "

" إني لا ألومُ الزعيمَ، بطبيعة الحال. فالأوراق تلك كانت جزءاً من الكناش، الذي سرقه أحدهم من منزله، هناك في القنوات "، قال لها بلهجة صادقة. وعليها كانَ، بعد، أن تصدُمه مُجدداً بمعلومة أخرى: " إلا أنّ أبي، في الأسبوع المُنصرم، كانَ قد فاجأني بسؤاله عن حزمة الأوراق نفسها ". اختلط عليه الأمرُ، ولا غرو، فطفق ساكتاً مُنتظراً أن تجلي هيَ ما تعنيه. وكانَ أن استطرَدَتْ الفتاة بالقول: " يبدو أنه استعارَ تلك الحزمة من الآغا العطّار، كما فهمتُ منه ". إذاك، تنهد بعمق مُبدّداً سحابَة الهواجس، التي كانت قد بدأتْ تكتمُ نفسه: لأنه أدرك أنّ نرجس لا تعني بقولها والدَها، الزعيم؛ بل الأفندي، جدُّها. وحينما أوضح لها سوء الفهم، المُنقضي، فإنها تبسّمَتْ بمرارة فيما كانَ بصرُها يَحيدُ عنه إلى الجهة الأخرى من الحجرَة. ثمّ قالت، إثرَ فترة من الصمت: " لطالما كانَ جدّي بمقام والدي، نسَباً وشعوراً. وكم تمنيتُ لو أنّ الآيَة كانت معكوسة. أجل، كانَ الزعيمُ غريباً عني دوماً، حينما كنتُ طفلة. حتى في زياراته لمنزلنا، المُتباعدَة، كانَ يصرّ على البقاء بمنأىً عني. إلا أنّ الأمرَ تغيّر، ولا شك، عندما استعادني أخيراً إلى رعايته ومنحني اسمه ". امتدّ أمدُ الصّمت بينهما ثانيَةً. فإن ميخائيل كان عندئذ كمن يَبحثُ، عبثاً، عن خاتم ضائع في جنادل من الحصى. كان يتفكّرُ بهذا الأمر المُستجَد، الداهم: وهوَ فقدان حزمة أوراق الكناش، مُجدّداً؛ هو من كان في سبيله لاستردادها بعدما آيَس من جدوى العثور على ورقة الكنز؛ الورقة، التي زعمَ المَرحومُ الصقليّ وجودها بحوزته طيّ رقّ جلديّ. وكان تائهاً بفكره خلل الألغاز المُتواترَة، عندما تناهى صوتُ طرقات هيّنة على باب الحجرَة.

2
" سيّدي، إنّ جنابَ الزعيم يَدعوكَ إلى الصالون "، خاطبه عصمان أفندي بعجمَة لهجته الوقورة، ما أن فتحتُ له نرجس البابَ. ودونما حاجة لسؤال، أدرك ميخائيل أنّ المَدعوّين قد شرعوا في التقاطر على الدار. فما أن غادرَ كبيرُ الخدَم، حتى التفتَ نحوَ نرجس مُستأذناً منها بضرورة ذهابه. فلما هم بالتحرّك، بادرَت هيَ بالقول: " إذا ما شعرتَ، في هذا المساء، بحاجة إلى الإفضاء إليّ بأمر ما، فما عليكَ سوى سؤال الخدَم عن مُحترَف صديقتنا؛ شمس ". بيْدَ أنه ما كان في وارد الاهتمام إلا بمَوضوع واحد، حَسْب: ورقة الكنز.

" لا بدّ لي من الاستعلام عن الرّق لدى ذلك الآمر، الأرعَن "، قال ميخائيل في سرّه فيما كانَ مُتوجّهاً إلى الدور الأرضيّ. " ولكن، يا إلهي! أيمكنُ أن تكونَ رزمة الأوراق قد وَصلتْ اتفاقا ليَد زينيل آغا هذا؛ وذلكَ حينما أخذ رجالهُ يفتشون في حجرتيْ المَملوكيْن ويُصادرون ما كانوا يَجدونه ثمّة؟ إنه احتمالٌ مَعقول، طالما أنّ الآمرَ راحَ منذئذٍ يَدَعُ مَوْضوع الجرائم، مُنشغلاً عنه بموضوع الكنز "، فكّر مَهموماً.

" أهلاً بأخينا المُبجّل، الحكيم "، هكذا هتفَ آمرُ القلعة باحتفاء ما أن بادَره بالسلام. كانَ الرجلُ مُنزوياً على نفسه، ثمّة في جهة نائيَة من قاعة الضيافة. فكانت هذه سانحَة، مُناسبَة، لكي يختار الحكيمُ مُجالسته على الأريكة ذاتها؛ المُتصدّرَة تلك الجهة. فما لبث أن تصنعَ الإعياء، حالما تهالك بالقرب منه، ثمّ راح يقلّب عينيه في الحضور.

وفضلاً عن أركان مجلس العموميّة، السبعة، كانَ هناكَ ما يُماثل عددهم من آغاوات الإنكشاريّة، وكذلكَ الأمر بالنسبة لآغاوات الأورطات. إنّ الخلاف الأخير، المُتطاول، جعلَ هؤلاء وأولئك في مَجلس مُنفصل ومُتقابل في آن واحد. أما بقيّة الأعيان والأشراف، فلم يَسبق لميخائيل أن عرف أياً منهم فيما مَضى؛ اللهمّ سوى شيخ الشام، النقشبندي، الذي إلتقاه مرةً عند القاروط. ما عتمَ كبيرُ المَجلس أن نهضَ إلى تقديم الحضور بعضهم لبعض، حتى وَصلَ إلى ذلك الرّهط الكريم، المَوْسوم. عندئذ، علم ميخائيل أنهم مشايخ المذاهب الأربعة، علاوة على شهبندر التجار والقاضي: " إنّ كلاً من هذيْن الأخيريْن قد تسنمَ منصبَه، خلفاً لسلفٍ قتيل أو مَعزول "، عاد الحكيمُ يخاطبُ نفسه مُتسلياً بتأمّل المَعنيَيْن. فما أن أنهى جُملة سرّه، حتى انتابته فكرة أخرى، مُفزعة: " إنّ كلّ جريمَة من الجرائم المُرتكبَة سابقاً، قد تواشجَتْ مع غرضٍ ما، مَفقود، كما وصُحبَة مُشابهَة لهذا الإجتماع. فليُساعدنا، إذاً، واهبُ الروح ومُستردّها! ".

هذا المَخطر، المُستضاف في دارَة عبد اللطيف أفندي، كأنما كانَ عليه أن يوحي بالانتماءات المُتعددة، المُختلفة المَشارب، لأهل الخلافة الهمايونيّة العتيدَة: فالأزياء الغريبَة، الطريفة، من عسكريّة ومدنيّة، المَنعوتة بـ " الوطنيّة "، قد تجاورَتْ جنباً لجنب مع ندّاتها المُستحدَثة؛ والمَنعوتة بدَورها بـ " المُتفرنجة ". استبعادُ الدكتور ميخائيل من حضور الاجتماع، بوصفه نصرانياً، أضحى في طيّات الماضي. فإن عصراً جديداً قد أزف، بوصول طلائع التنوير صُحبة الغازي إبراهيم باشا. فإذ تمّ إقصاؤه بسبب كونه ذمّياً، فيما مضى، فإنه بالمُقابل كانَ يرضى بتفان وأريحيّة أن يَمكثَ في الظلّ؛ لكي يُقدّم خدماته ـ كطبيب مُعالج. وهذه الليلة أيضاً، فإنّ إراقة الدّماء وسقوط القتلى والجرحى، كانَ احتمالاً وارداً في ذهن جماعة المَجلس، الذين بادروا لتنظيم هذا الاجتماع.

إثرَ فاتحَة المُجاملة، المَألوفة، توجّه المُضيف إلى المُتخاصمين، قائلاً: " أنتم هنا، في هذا المنزل المُتواضع، وكانَ جديراً بالقلعة أن تكونَ هيَ المكان المأمول لاجتماعنا. لولا الظروف الآنيّة، العصيبَة، التي تعرفونها. ونأملُ أن يُصبحَ فرْطاً أمرُ الخلاف بين أطراف السلطة في ولايتنا الشريفة، تسهيلاً لمهمّة سعادَة الوالي الجديد من جهة، وتعضيداً من جهة أخرى للقوى الحريصَة على سلامة ولايتنا. أما حولَ مَوْضوع فرَمان الأمان، المُتكرّم به سعادة سردار عسكر، نصرَه الله، فإنّ سَعادته قد استنابَ جناب الزعيمَ شمّو آغا لعرضه على حضرتكم "

" ولكننا، أيها الأفندي، كنا قد اشترَطنا أن نستلمَ الفرمانَ من يَد السردار بالذات؟ "، هَدَرَ صوتُ آمر القابيقول باتراً كلامَ المُضيف. إلا أنّ الزعيمَ الصالحانيّ، على كلّ حال، كانَ قد نهضَ من مكانه عندئذ: " أجل، يا جناب الآغا. إنّ سعادَة ممثل مولانا محمد علي باشا، أعزه الله، سيجتمع معنا حَسَبَ وَعده "، أجابَ بهدوء. ولوحظ كيفَ شدّد شمّو آغا على ذيول الألقاب، مُذكّراً الانكشاريّ بضرورة اللباقة أثناء ذكر المَقامات الرفيعة. آغا باقوني، من جهته، طفقَ يَحدُج مُحادثه بعينيْه القاتمتيْن، المائلتيْن، المُنبعث منهما وميضُ المَظنة والريبَة: إنّ هذا الرّجل، كما هوَ مَعروف، لدَيه غريزة الضباع الضاريَة في تشمّم مكامن الفرائس كما وكمائن الخصوم على السواء. فلا غروَ أن يكونَ أركانُ المَجلس، الذين خططوا لضربَة العَشيّة، قد أحيطوا علما مُسبقاً بإمكانيات آمر القابيقول واحتياطاته.

" أدامَ الله عزّ مولانا عزيز مصر، بما منّ علينا من تصريف دواعي القلق والفرَق "، استهلّ القاروط كلمته فيما ابتسامة خبيثة تتنقلُ فوقَ فمه. ثمّ استطرَدَ قائلاً: " إنّ حظوتنا بلقاء السادة الأعيان والأشراف والعلماء، في هذا اليوم المُبارَك، شاءتْ الاكتمال بحظوَة الاجتماع مع أخوتنا المُبجّلين؛ آغاوات الوجاق والأورطات. ولن يَضير، في رأيي البسيط، أن يتمّ تأجيل بحث موضوع فرمان الأمان "

" وحتى ذلك الحين، نكون قد فرَغنا، بالمُقابل، من أمر تحضير مأدبَة العشاء، المُتواضعة، المَبذولة على شرف ضيوفنا، الرفيعي المَقام "، قالها المُضيف بمَرَح. كلّ من الكلمَتيْن، الأخيرَتيْن، عليها كانَ أن يُثيرَ من ثمّ انفراجاً في الجوّ المُتوتر. إذاك، فإنّ نوعاً من الارتياح بدا على سحنة الخصم ـ كما تجلى ذلكَ من تساقط جُملة جزعه، حَرْفاً حرفاً. بيْدَ أنّ آغا باقوني، بصفة خلقه المَعلومة، لم يُفارقَ الحذرَ تماماً. فقد أجازَ لنفسه، بين فترة وأخرى، استدعاء حاجبه بغيَة المُشاورة همساً. وكما عُلم، لاحقاً، فإنّ ذلكَ الحاجب كانَ على صلة دائمَة بالقشلة الرئيسَة في القيمريّة، التي كانت مقرّ قيادة الوجاق، والمَوضوعة يومئذ على أهبَة كاملة. إنّ سببَ الحَيطة كانَ بيّناً، ولا شكّ: فعلاوة على آمر القابيقول، كانَ هنا في الاجتماع ستة من مرؤوسيه؛ من القابضين على زمام الوجاق في المدينة القديمة.

ما عتمَ الضيوفُ أن انتقلوا إلى قاعة الطعام، بعدما ظهرَ كبيرُ الخدَم مُعلناً أنّ العشاءَ جاهزٌ للتقديم. وبالرغم من حقيقة، أنّ الوقتَ كانَ ما فتأ على حافة الغروب، إلا أنّ ذلكَ لم يسترع انتباه هؤلاء المُفترَض بهم أن يكونوا أكثرَ حذراً من الآخرين. حجرَة السفرَة هذه، هيَ واحدة من القاعات الثلاث، الكبرى، المُشكلة جناح المنزل الأرضيّ. من ناحيَة أخرى، فإنّ مَوقع الحجرَة في الجهة الجنوبيّة، كانَ يجعلها مُحاذيَة للمطبخ العامر، المُتصل ردهته بأحد أبوابها العديدة: وهذا لعمري كانَ هدَف المعماريّ الحاذق، الإفرنجيّ؛ الموكل أمرَ المَسيل للمنبع.

3
" ما هذا القصف..؟ "، هتفَ آغا باقوني بعينيْن جاحظتيْن حتى كادَ أن يَهوي من كرسيّه. وكانَ وقعُ دويّ بعيد، مُتتال لثلاث أو أربع مرات، هوَ باعثُ تساؤل آمر الوجاق. فكم كانَ خزيُهُ حَرياً بالتفاقم، حينما أشارَ أحدُ الحضور، من مشايخ المذاهب أولئك، إلى أنّ الأمرَ يتعلّقُ برؤيَة هلال رمضان. بيْدَ أنّ ارتفاعَ أصوات تهنئة الحاضرين لبعضهم البعض بحلول الشهر المُبارك، عليه كانَ أن يَطمسَ ما اعترى قسمات صاحبنا الانكشاريّ من تضرّج مُتأثر بالحَرَج. ثمّ افتتحتْ المأدبَة، على جاري العادَة، بتلاوة من آيّ الذكر الحكيم بصوت الشيخ النقشبنديّ، المَلحون، وما لبثَ أن أنهاها، مُتعجّلاً، بالثناء على صاحب الدار مُستزيداً أجرَه عندَ الله.

" إننا بعدُ في الحياة الأولى، أيها المُدلّس! أما أبواب الآخرة، فإنها مَفتوحة الصفق لتستقبلَ آخرين من الحضور؛ من أعداء سيّدكَ، الباب العالي "، خاطبَ ميخائلٌ الشيخَ في سرّه. على أن الحكيم ما كان أقلّ شراهة ً في حضور أطايب مطبخ الأفندي، اللذيذة. ولم يكن ذا طبعه، بل هوَ من آثار الحرمان، المُزمن، المُترتب على إقامته في سجن القلعة، المَشنوع الاسم. مع أنّ مهنة الطب، المرتبطة بعطارة الأعشاب والبهارات، كانت تجيزُ له أن يكونَ بَطناً مردودَ الرغبَة إلى صِرْف الشراب وفاخر الطبيخ. على أيّ حال، فهيَ ذي صحون ثلاثة من المالقي الفرنسويّ، الموشى كلّ منها بالأزرق الشفيف والمَحفوف بخيط ذهبيّ، مُتهيّئة لكبائر وصغائر الوليمَة: في الصحن المُقعّر، المُتوسّط الحَجم، صَب قليلاً من حساء الدّجاج، المُطوّف بشذرات من مَدقوق زهرَة الزعفران. ثمّ مالَ من بَعد فراغه من الشوربَة، الساخنة، إلى الصحن الأصغر، ناقلاً إليه بشوكتيْن كبيرتيْن خضارَ السلطة اليانعة، المُبرّدة، المُخضلة بقطرات من زيت الزيتون وعصائر الليمون والخلّ. وهوَ ذا خادمُ الوَجاهة، في آخر المَطاف، يَحمل إلى صحنه الأكبر ما تيسّر من هيكل الأطعمة، المُنوّعة؛ من رأس كبّة، مَشويّ، إلى صدر دّيك، من أصل روميّ، مُسحّب على نار هادئة، وحتى أصابع البامية، المطبوخة مع الضأن في مَرق الطماطم والمُغمّسة مع الأرز الناصع، المُحضر بدَوره بسمنة الأعراب، الأصيلة.

" آه، يا للعنة! أعليّ أن أركنَ إلى الطيرَة، المَلعونة، كلما ابتدأ طقسُ القهوَة المُرّة؟ "، خاطبَ نفسه مَتهكّماً فيما كانَ يتابعُ حرَكة الخدَم، الحثيثة. وضافرَ من الأمر، ما كانَ من استحضاره صورة كلّ من المَملوكيْن، المَرحوميْن؛ سواءً أكانت في موقف حياة الرّق البائسة أم في موقف الموت على سدّة المشنقة. نعم. كان الحضورُ قد عادوا إلى صحن الدار بعدما أنهوا تناول العشاء؛ إلى المكان نفسه، الشاهد على كشف أمر المملوك الصقليّ عندما كانَ يُحاول دسّ السمّ للدالي باش.

" أراكَ أحسن صحّة، أيها الحكيم، على إثر المأدبَة الحافلة بالأطايب؟ "، قالَ له زينيل آغا بصوته المُقيت فيما كانَ يُداعب فنجان القهوة بين أصابع يَده. وبما أن الحكيم لزمَ جيرته، مُتعمّداً، فلم يجد بأساً في التلطف بالجواب: " أتمنى ذلك، يا آغا. والشكر لاهتمامكَ، على أيّ حال ". فما كانَ منه، الأرعن، سوى القول بنبرَة خفيضة: " إنّ الكناش المَطلوب، هوَ المهمّ عندي في واقع الحال ". ثمّ أضافَ مُكشراً عن صدّيد أسنانه: " وإذاً؟ هل تبدأ الليلة سَبْرَ مكمن الكناش؛ ثمة، في منزل صاحبكَ؟ "

" لقد سبقَ لي أن فعلتُ ما طلبته مني، دونما نتيجة "

" هه! أيجوز ذلك عليّ؟ "، تساءلَ الأرعنُ هذه المرّة بلهجة منذرة. فقال له الحكيم ببساطة، وربما بجرأة أيضاً: " اهدأ، أيها الآمر. إنّ غرضكَ موجودٌ، على الأرجح، بين مَتاع الصقليّ، هناك في القلعة "

" بل إني أرجّحُ، بالمُقابل، أن تكونَ كاذباً. فاحذر، يا هذا، من أن تهزأ بي! ". وكان المُخاطَبُ آنئذ ما برحَ على هدوئه، مُقدّراً أنّ سَعيه المُخاتل سينقله منزلة إثرَ منزلة إلى مَرتبة المَطلوب. بيْدَ أنّ الآغا، إذ أنهى تشدّقه، انقلبَ فجأةً إلى حالٍ سيءٍ. فعلامات التغيّر، المُبين، ما لبثتْ أن استولتْ رويداً على سحنته، فجعلتها تتناوب بين الشحوب الشديد والامتقاع المُصفر.

" يا ربّ المحبة! إنّ هذه العلامات على وجه الزورباشي، مُماثلة لتلك التي كنتُ ألحظتها عادةً على وجوه مرضايَ: إنها علامات التسمّم، وليسَتْ شيئاً آخر "، خاطبَ الحكيمُ سرّه. ثم واصل التفكيرَ: " ولكن، لأن كُتبَ على زينيل آغا أن يَموت الليلة، فلأحاول بكلّ ما أمكن من سُرعَة أن انتزع منه خبرَ الرقّ ذاك، قبل أن يَنتزعَ ملاكُ الآخرة روحَهُ ". وكانَ الرّجلُ ما زال يُحدّق في الحكيم، مُنتظراً جواباً شافياً. إذاك، مَدّ هذا الأخيرُ يَده نحوَ إبزيم شراب التوت الشامي، ثمّ تريّث قليلاً قبل أن يستأذن في الصبّ له. فما كانَ من التعس، على دَهشة الحكيم، إلا فتح فاه عن ضحكة خافتة، مُبتسرَة. ولكنه ناوله كأساً بلورياً، مَوضوعاً أمامه على الطاولة، وهو يلوك فمه بحرَكة أخرى لا تقلّ خراقة: " هاك، يا باعث الحياة في الجساد المُدنفة! ضع هنا ما تجيد خلطه من إكسير الحياة! "، قالها بصوت مسَموع هذه المرّة. عندئذ، تطلع بعضُ الحضور إليهما وراحوا من ثمّ يتمعّنون بانتباه في هيئة آمر القلعة. على الرغم من نظرات الفضول ، المُسدّدة نحوهما، فإن الحكيم خاطبَ الآمرَ هَمساً: " لا عليك، يا آغا. سأمدّكَ بترياق ناجع. فهلا حدّثتني، إذاً، عن حاجيات المَملوك الصقليّ وأينَ يمكن أن أعثر عليها؟ "

" آه، فهمت. خدمة مُقابل خدمة "، ندّتْ عنه بصوت ضعيف ومُرتعش. قبل أن يَتداعى أرضاً بكلّ جرمه، فإنه أخذ يُردّد مُفردة واحدة، حَسْب: " الحارس.. ". ما هيَ إلا هنيهة، ومفردة أخرى أضحَتْ مُتردّدة على أكثر من لسان: " أيها الطبيب..! ". إنما كانَ الوقتُ مُتأخراً، بالنسبة للآمر التعس. ميخائيل، كانَ قد عاد إلى القاعة على جناح العجلة من المختبر وبيده الترياق: " إنه يَحتضر "، قالها بعدما فحصَ عينيّ الآمرَ ونبضه. وكانَ المُحتضر ما إنفكّ يرغي من فمه مادّة ً شبيهة بالزبَد الأبيض، المائل إلى الصفرَة. بقيَ كذلك لحظات أخرى، ثمّ ما أسرَعَ أن أسلمَ الروح.

" أمسكوا حارسَ الآمر، حالاً "، صرَخ القاضي بجنون. لقد اختلط الأمرُ على فضيلته، ولا رَيْب، عندما تناهتْ إليه كلمة المُحتضر، الأخيرة، التي بثها عدّة مرات وبصوت واضح. لحسن الحظ، فإنّ المَرحومَ كانَ قد حضرَ إلى منزل الأفندي دونما أيّ مُرافق، أو حارس.

" لنغادرَ على الفور هذا المكان المَنحوس "، صاحَ أحَدُ آغاوات القابيقول، حاثاً آمرَهُ ورفاقهُ على مغادرة منزل الأفندي. وكانَ الهرَجُ على سُعاره، لمّا أخرجتْ جثة زينيل آغا من القاعة ليتمّ نقلها لاحقاً إلى القلعة. إلا أنّ تلك الجلبَة ما لبثتْ أن هدأتْ على غرّة، ما أن تعالى نداءُ المؤذن من الجامع القريب والدّاعي لصلاة العشاء. فما كانَ من الأفندي، الفطن، إلا التحرّك وفق خطة المَجلس، المَعلومة: " أيها السادَة، الأفاضل. لنهرَع في الحال إلى المَصلى، وهناك نؤدي أيضاً صلاة الغائب على روح صديقنا آمر القلعة. فمن يعلم، ما سيحدث غداً؟ "، وجّه كلامه إلى الحضور. فتولى القاروط إجابَتهُ، مُقترحاً أن يَذهبَ آغاواتُ الوجاقات لأداء الفرض، أولاً، كونهم مستعجلين في مغادرة المنزل. الخطة الأصلية، المَرْسومة بخط مكر القاروط، لاحَ أنها نجحت حتى اللحظة. إذ انطلتْ على جماعة القابيقول، ضرورة ذهابهم قبل الجميع للمصلى. بيْدَ أن آمرهم، الذي لا يقلّ مكراً، استدعى قبلَ تحرّكه ذلك الحاجب، فهمسَ في أذنه بضعَ عبارات. فما عتمَ هذا أن غادرَ الصالون مُتوجّهاً كالعادة إلى مقرّ القشلة.

فيما بعد، عُلِمَ بما جرى خارجَ وداخل المنزل: إذ تمّ توقيف الحاجب في الدرب من لدُن حراس آغا يقيني، ثمّ أجبرَ تحت تهديد السلاح على العمل بما يُطلب منه. أما آمره، آغا باقوني، فكانَ عندئذ في طريقه إلى " المَصلى " مع مَرؤوسيه، مُتأثراً خطى خصومه المُتجهين إلى قبو الدار. آغاوات الأورطات أولئك، عمَدوا وقتئذ للمشي أمام الخصوم كي لا يشكّوا بشيء. ثم ما لبث أن هرولوا للمُغادرة بأقصى سرعة خلل مَدخل القبو، الآخر؛ وكانَ مَسدوداً بباب موصَد. إذاك، استشعرَ القابيقول باشي الخطرَ، بعدما اكتشفَ خلوّ المكان من خصومه كما ومن أيّ علامة تدلّ على كونه مَصلى. وكانَ المُضيف وكبيرُ الخدَم قد همّا بدَورهما بالإياب عبرَ باب القبو، الذي مرّ منه للتوّ آغاوات الوجاق، فما كانَ من هؤلاء الأخيرين سوى الانقضاض عليهما.

4
عدّة الاعتداد بالنفس، عليها كانَ أن تكتملَ لدى مسيحيي الشام حينَ عيّن إبنهم، ميخائيل، في مجلس الولاية وربما لأول مرة في التاريخ الإسلاميّ للمدينة. هذه كانت إحدى مآثر حكم إبراهيم باشا للشام، وأتبعها بإبطال كل الإجراءات الموجّهة لتحقير شأن هذه الملّة؛ من قبيل تمييزهم بملبس معين ومنعهم من ركوب الخيل وإلزامهم بالتكلم بصوت منخفض وجعل بوابات دورهم واطئة.
وهو ذا ميخائيل في ليلة الإنكشارية، وبصفته طبيباً، قد استبقيَ في قاعة الضيافة تحتَ إلحاح القاروط. ثمّ ما لبثَ المُعترضون على وجود الرّجل، وكانوا جلّهم من ذوي العمائم الخضر واللحى المُسترسلة، أن أخذوا بالانسحاب من المكان واحداً بأثر الآخر. حضورُ صاحبنا النصرانيّ، أو عَدَمُهُ، لم يكن في واقع الحال ليَعني أولئك المُنسحبين؛ طالما أنّ حضورهم نفسه كانَ شكلياً، وبداعي التمويه على الخطة. على ذلك، لم يَبق في القاعة من جماعة المجلس سوى أربعة، حَسْب: فإنّ المُضيف، كما علمنا، كانَ ما برحَ مَحجوزاً بقبضة الانكشاريين؛ ثمة، في القبو. أما الدالي باش، فإنه كانَ يَتحرّك داخل وخارج المنزل مع مرؤوسيه من آغاوات الأورطات، المُشرفين على العمليّة. وشمّو آغا، من جهته، كانَ قد رافقَ مع بعض رجاله جثمانَ الزورباشي، الذي تمّ نقله إلى القلعة في كرّوسة الأفندي.

" أعتقدُ أنّ الفرصة سانحَة، الآن، لإشراك الدكتور ميخائيل في مُناقشة الوَضع؟ "، خاطبَ القاروط الجماعة. وحينما رأى أنّ أحداً لم يَعترض على اقتراحه، فإنه واصلَ القول: " إننا حقاً في مأزق، أيها الأخوة. إنّ فشل الخطة، يَعني تحمّل أركان المَجلس المسؤوليّة لوحدهم. فكوننا قد تحرّكنا بمَعزل عن أمر سردار العسكر، أو حتى علمه، سيَحمله غداً على إلقاء التبعة علينا "

" هذا كانَ دأبكَ، يا بك. تضعنا في مواقف مُحرجَة، وحتى مُهلكة، ثمّ لا تلبث أن تردّد: مأزق، مأزق.. "، خاطبَ العريانُ البكَ المصري. ثمّ أضافَ كبيرُ العمارة بالنبرَة نفسها، الساخرة: " وربما أنّ جريمَة تسميم آمر القلعة ستعزى أيضاً إلينا ، بما أنها حصلت هنا وفي التوقيت ذاته؛ الذي تقرّرَ فيه، وفق خطتكَ، التخلّص من آغاوات الوجاق ". إثرَ انتهاء المُتحدّث من كيل اتهاماته، آثرَ البكُ التريّثَ في الردّ. وإذ سادَ الصّمتُ بعدئذ، فإن الطبيبَ تفكّرَ قلقاً في أمر الرّبط بينَ الجريمَة والخطة.


" كلّ من الأمرَيْن هذيْن، كانَ مُعدّاً وفق خطة مُتأنيَة، مُحكمَة "، قال في نفسه، مُنشغلاً من جديد بمَوضوع البحث عن القاتل المَجهول. نعم. هيَ ذي ضحيّة أخرى سقطتْ بعد ثلاثة أيام من إعدام المَملوكيْن، الذيْن أدينا بتنفيذ جرائم شبيهة. إنّ الآغا العريان، بإشارته عفواً إلى الرابطة تلك، المَوْسومة، كانَ قد فتحَ عينيّ ميخائيل على حقيقة لطالما راوَدته، ثمّ تعززتْ في الآونة الأخيرة: أنّ من يرتكبَ الجرائم هوَ نفسه من يَبحث عن الكناش.

" إنه مأزق، حتى لو لم تحظ الكلمة بالاستحسان من جنابكم "، استهلّ القاروط إجابته على كلام العريان. ثم صعدَ صوتُ المُتحدّث درجة أخرى، حينما أردَف قائلاً: " وسأحذف هنا، كما تشاء، صفة المَوصوف تلك، تجريداً لقصد القول. إنّ الخطة، يا سيّدي، سبقَ ووافقتْ إجماع الآراء في المَجلس. وكنا آنذاك، كما تعلم، قد احتسبنا احتمال وقوع الخطأ أو حتى الفشل. أما أمر موت زينيل آغا، فإنه قدَرٌ لا علاقة للخطة فيه من قريب أو بعيد. لقد وقعَ الخطأ، أخيراً. فعلينا وبشكل عاجل أن نستنبط مَخرجاً ما، مُناسباً، للوضع الحَرج الذي نحنُ فيه بسبب هفوة بسيطة ". ولكنّ المُجادلَ ما عتمَ أن استعادَ عنادَهُ: " هفوة بسيطة؟ فلنرَ ما إذا كانَ المَخرجُ، المُقترَح، على البساطة ذاتها "، قالها بنبرَة تهكّم. عند ذلك، شاءَ الشاملي بترَ المُجادلة قبل استفحالها، مُشيراً بيَده للبك أن يَتمهّل.

" لا يُمكن أن يكونَ المُقترح، المَأمول، سوى ثمَرة آراء الجميع "، ابتدأ الزعيمُ كلامه فيما كانَ يتفرّس بسحنات الحاضرين: " إنّ الأفندي مَحجوز ثمة في القبو، رهينة ً. وأولئك الأوباش، كما نعلمً كلنا، لن يَتورّعوا عن ذبحه ما لم ندَعهم يَفلتون من الشرك. والأسوأ، أنّ جماعتهم ستعمَد إلى التحرّك حالاً، فيما لو أنّ حاجبَ آغا باقوني خبّرَ بحقيقة ما يَجري هنا ". وبالرغم من اعتدال لهجة الزعيم، فإن المرءَ يلحظ كم من مجهود كانَ يَبذل لكي يبقى مُحتفظاً بالتوازن والحيويّة. عندئذ شاء ميخائيل لكلمته أن تفاقمَ من الجَدَل، مُذكّراً الآخرين بحقيقة كانوا قد أغفلوها: " ليسَ وجاق القابيقول حَسْب، من سيتحرّك ضدّنا على خلفية إعتقال آمرهم آغا باقوني ورفاقه. إنّ قوّة القلعة، المُواليَة للآمر الراحل، زينيل آغا، لا يُمكن أن تكونَ غير مُباليَة إذا ما عُلمَ سببُ وفاته "، قال ذلكَ ثمّ استطرَدَ من فوره: " وإذاً، فإني أستأذن حضراتكم في أن أكون أوّل من يَقدّمَ اقتراحَه ".

ثمّ شرَعَ بمُخاطبَة الحضور، ما أن أبدوا استعداداً لسماع اقتراحه: " إنّ خبرَ موت آمر القلعة، لا بدّ أنه انتشرَ الآنَ بينَ من يعنيهم الأمر. وإذاً، علينا أن نرسلَ شخصاً آخرَ، غير الحاجب، كي يُخادع جماعته بالزعم أنّ آمرهم وآغاواتهم قد اتهموا بالتورّط في قتل زينيل آغا، وأنهم سيقوا إلى القلعة بأمر من سعادَة السردار. أما الحاجب، فنجعله وسيطاً بيننا وبين رؤسائه، المَحجوزين في القبو ". سكتّ ميخائيل لكي يلمّ أنفاسه، وإذا بالآغا العريان يَفقدُ صبرَهُ: " ولكن ماذا تأمل، يا حكيم، من وراء التوغل في هذه اللعبَة الاعتباطية؟ "، تساءلَ بسخط حتى احمرّ وجهه. وبما أن المُخاطَبَ كان قد تفكّر جيّداً بالأمر، فلم يتردّد في إجابته بثقة: " مَهلاً، يا عزيزي. إننا مُورّطون، على أيّ حال. فلن يَضيرنا، إذاً، أن نمضي في مَجهلة هذه اللعبَة. وجواباً على سؤالك، أقولُ أننا نكسبُ غرضيْن من تلك الحركة: الأول، أننا باستخدام الحاجب نمدّ من أمَد المُفاوَضة مع جماعته، حتى نتدبّرَ حيلة ما تمكننا من تخليص الأفندي من قبضتهم. والغرض الثاني، هوَ جعلُ الأمور تختلط على أنفار الوجاق، لدرجة يُضحوا فيها عاجزين عن اتخاذ أيّ خطوة مُتهوّرة قبل انجلاء الليل. وفي الأثناء يكونُ أنفار الأورطات قد استكملوا تطويقهم لقشلات ومقار الخصوم، وصولاً إلى ما كنا قد هدفنا إليه في الخطة الأصليّة "

" نعْمَ الرأي، ما تفضلتم فيه يا آغا "، هتفَ كبيرُ المجلس مُبدياً الإعجابَ بما عَرَضه الحكيم. إنّ احتفاء الكبير، البيّن، عاضدَ من مَوقف القاروط، في آخر المَطاف. فأثنى هذا بدَوره على رأي الحكيم، حاثاً على التحرّك حالاً للشروع بالعمل. وبما أنّ أمرهم شورى، فإنّ المُعترضَ الوحيد آثرَ إذاك لزومَ الصّمت.

" إنني أضعُ بتصرّفكم نفسي المتواضعة، للحلول بمحلّ ذلك الحاجب "، خاطبهم ميخائيل على حين غرّة، وهوَ يحني رأسه قليلاً. ثمّ استأنف مُوضحاً ما يَعنيه: " إنّ الطبيبَ، بنظر المُتحاربين، شخصٌ مُحايدٌ. على ذلك، لن يكونَ غيري جديراً بحمل خبر موت آمر القلعة، مَسموماً، إلى مقرّ قيادة الوجاق ". وهذا الآغا العطّار يصيحُ فيه، مرتاعاً: " إنّ وحشيّة أولئك الأوباش لا توفر النساءَ والأطفال، بله مَبعوثاً من لدُن الخصوم، يحملُ لهم خبرَ اعتقال آمر الوجاق وأبرز قادته ". بيْدَ أنّ ميخائيل، على دهشة الجميع، أصرّ على ركب رأسه. فكانَ له، بالتالي، ما أراد. فهمّ بالخروجَ مُسرعاً نحوَ مَدخل المنزل، كي يَحصلَ من ذلك الحاجب على المعلومات اللازمَة، حينما استوقفه العطّارُ قائلاً كما لو كان يودّعهُ: " عليكَ بالحذر واليقظة. وإلى أن يُقدّر لنا اللقاء، ثانيَةً، ها أنا ذا أعانقكَ يا صديقي "، قالها وهوَ يضمّه بقوّة.

في الهنيهة تلك، التي مضى فيها الطبيبُ إلى وجهته مَحمولاً بكرّوسة آمر الوجاق، كانَ حاجبُ هذا الأخير قد أجبرَ على لعب دَوْر الوسيط، المَطلوب. في البدء، كادَ آغا ياقوني، الأحمق، أن يَبطش بالرجل. إلا أنه هدأ على كلّ حال، بعدما أدركَ بؤس موقفه. من ناحيَة أخرى، يَتعيّنُ الإشارة إلى أنّ موتَ زينيل آغا، مَسموماً، جعلَ أمر مُخادعة الانكشاريّ أكثر يُسراً. إذ دخل في وَهمه، على لسان الحاجب طبعاً، أنّ حجزه مع مَرؤوسيه إنما كانَ خطوَة احتياطيَة وليسَ شرْكاً مُدبّراً. إنّ ملامحَ الآمر، كما تبدّتْ لرجال المجلس خلل شمسيّة القبو، صارَتْ عندئذ أقلّ تجهّماً وكدَراً. إنّ جانباً من الخطة، مُهمّاً، كانَ قد تحقق إذاً. ولما لم َيعد ثمة حاجَة لاستمرار الحاجب في المُفاوضة، فقد تمّ حجزه بدَوره في حجرة الحديقة.

" عليكَ بأخذ قسط من الرّاحة، يا سيّدي "، قال الآغا العريان للزعيم مُشفقاً ما أن انتصفتْ الليلة. كانا يتمشيان في جوانب الرواق الخارجيّ؛ أينَ المَدخل المؤدي على قبو الدار. فلما تخلى الزعيمُ عن كبريائه، وبدأ يَخطو باتجاه المَدخل الآخر، المؤدي إلى درَج الدور العلويّ، فإنّ جلبَة مُنبعثة من ذلكَ المكان جمّدته: " ما هذا؟ "، تساءلَ باستغراب. في اللحظة التاليَة، التي وافقتْ اقترابهما من مَصدر الجلبة، كانَ يُمكن ملاحظة تجمهر بعض آغاوات الدالاتيّة ثمّة، إزاء شمسيّات القبو.

" كما ترى، أيها الزعيم. إنّ أولئكَ الأوباش يَتعاطون الخمرة، ونحن في شهر الصوم "، همَسَ آغا يقيني في أذن كبير المَجلس، مومئاً برأسه إلى المَشهد المَعروض على النظر والواضح في نور مشكاة القبو. ولكن الزعيمَ وجَده مشهداً مُحيّراً، أكثرَ منه مُنفراً. نعم. كانَ كلّ من آغاوات الوجاق، مُهوّماً ومُهلّلاً، يقبضُ بين أصابعه على قدَح بلوريّ. وقد لاحَ المُضيف المعتقل ثمة، يصبّ لهم من جرّة فخاريّة ضخمة، مَركونة في إحدى زوايا قاعَة الخزين، مُستعيناً بضوء مسْرَجة صغيرَة. إذاك، أشارَ الزعيمُ لأنفار الأورطات بالانسحاب من المكان في الحال.

" لا بدّ أنّ أولئك الآغاوات شكوا من الرطوبة، هناك في القبو، فاقترَح عليهم الأفندي الاستعانة بلظى الشراب الناريّ "، قال الرعيمُ للحضور ما أن قعدَ كلّ منهم في مَجلسه في الصالون. وعلّقَ القاروط مُنشرحاً: " لأن كانَ الأمرُ كما تخمّن، فإنه سينتهي بشكل حسن ". وكانوا يتحادثون على ذلكَ المنوال، حينما قدمَ أحدُ الخدَم لينبئ بعودة شمّو آغا. وكانَ أيضاً على صديقهم، الزعيم الصالحانيّ، أن يُضافر من سلامَة المَوقف. إذ ما أن جلسَ على الأريكة، حتى بادرَ إلى طمأنتهم بأنّ التحقق من موت زينيل آغا سيبقى مَطوياً حتى صباح الغدّ: " لقد أدخلنا جثته من باب القلعة، في وقت كانَ فيه جميعُ المسئولين هناك قد أخلدوا للنوم "

" إنّ آغاوات الوجاق، بما فيهم الآمر، سنراهم بين فينة وأخرى على تلك الحال "، قالَ آغا يقيني مُتضاحكاً. نظرَ إليه زعيمُ الصالحيّة مُستفهماً، فيما أنّ الآخرين شاركوا في الضحك. ثمّ أخذ كبيرُ المَجلس على عاتقه عناء رواية ما حَصلَ هناك، في القبو.

غيرَ أنّ آغاوات الوجاق، على أيّ حال، لم يأتهم النومُ في وقت أبكر من مَطلع الفجر. قبل ذلك الحين، كانت الخشية أن يفيقَ هؤلاء من عربدتهم مع تناهي أذان السحور، فينتبهوا إلى أنّ الوقتَ هوَ فاتحُ شهر الصيام. بيْدَ أن صرخة قوية تصاعدَتْ من جهة القبو، في آخر الأمر، وعليها كانَ أن تطردَ أطياف الغفوة، التي كانت عندئذ تداعب أجفانَ رجال المجلس.

" إنه صوتُ الأفندي، على الأغلب "، هتفَ آغا يقيني فيما كانَ يَنهض من مكانه. فما هيَ إلا لحظة وكان الآخرون يهرعون في أثر آمر الأورطات، في الطريق إلى تلك الجهة. كبيرُ المجلس، وبالرغم من وَهنه الظاهر، كانَ في المُقدّمة عند وصولهم إلى مَدخل القبو. فتلقاه المُضيف بين ذراعيَه، ثمّ أشارَ له دونما نأمَة إلى الداخل. هكذا رأيتهم ينزلون خلل الدرج، الضيّق والمعتم، مختلطة ظلالهم بعضها ببعض. ثمة، على بصيص نور المشكاة، ما لبثَ أن طالعهم مَشهدُ الانكشاريين، الرّث. إلا أنّ مَشهداً آخر، دموياً، عليه كانَ بعدئذ أن يَصدُمَ عيونهم: كانَ عصمان أفندي، كبيرُ الخدَم، مَطروحاً ثمّة على أرضيّة قاعة الخزين، وقد انبثق مقبضُ خنجر من طيّ ثوبه عند جهة القلب.

5
صلاة الفجر، أديت أخيراً في فسْحَة مُناسبَة في قاعة الضيافة. كانت سَدائفُ الليلة المُنقضيَة، المُكفهرّة، ما تفتأ مُنسَدلة على النفوس كما وعلى هذا المكان. بانقضاء الفرْض، أسعدَهم رؤية ميخائيل ثمة أمام مَدخل القاعة. كانَ صديقهم قد عادَ لتوّه من المُهمّة الخطرَة، التي أوصلته إلى عَرين الخصوم. هكذا عادوا بدَورهم إلى الجلوس في المَربع ذاك، المُتألق بأنواره المُسرَجة، كي يقايضوا معلوماتهم بمعلومات الطبيب.

" لوَهلةٍ، دَبّتْ الريبَة في باطن آمر القشلة، حينما قدّمت له إسمي وصفتي كطبيب. إذاك، أمرَ بالكشف عني ليتأكّد من ظنونه. وقد اطمأنّ الرّجلُ نوعاً، طالما أني لستُ مَختوناً بطبيعة الحال! "، قالها ميخائيل وهوَ يَبتسمُ بشيء من الحَرَج. ولكنه، بالمُقابل، بدا راضياً عما حققه هناك، لدى جماعة الوجاق. وما لم يكن ليتوَقعه الحكيم، أنّ مُهمّته اكتملتْ وفقَ اتفاق غريب، قدَريّ. عندئذ، وَجَدَ الأفندي أنّ الوقتَ آنَ كي يأخذ على عاتقه أمر وضعهم في صورَة ما جرى ثمة، في القبو.

" لحظتُ أنهم يُتمتمون فيما بينهم، مُستشعرين برطوبة القبو. فما لبث أن استأذنتهم في صبّ قدَح من النبيذ، زاعماً أنّ ذلكَ بمثابَة دواء. فما هيَ إلا فترة قصيرَة، وكانَ كلّ من أولئك الآغاوات يَرغبُ بالشراب. وبالرغم من أنّ آمرهم، اليَقظ والماكر، قد نبّه جماعته إلى ضرورة الاعتدال في تناول الخمرَ، بيْدَ أنه ما عتمَ أن بزّهم في الشراهة. ولحسن الحظ، فإنّ أذان صلاة الفجر لم يكن قد حانَ بعدُ، حينما بدأ الانكشاريّون بالتهويم تأثراً بحالة السكر التي دَهمتهم. ويبدو أنّ شدّة قلقهم وهواجسهم جعلتهم قبلاً يَسهون أمرَ ابتداء شهر الصيام "، اختتمَ المُضيف الروايَة وكانت البسمة تتيه على شاربه المَعقوف، المُختال. إلا أنّ مَرَحَهُ زالَ في الحال، ما أن استدرَك قائلاً: " إنّ مَصرع خادمي، عصمان أفندي، كانَ عليه أن يَحرمني من بهجَة الفوز. ويبدو أنّ أحدهم أفاقَ على غرّة، فعمدَ إلى طعن العجوز المسكين. هذا جرى، ولا جدال، خلال هُروعي إلى مَدخل القبو كي أنادي عليكم لتتدبّروا أمرَ أولئك الأوباش، المُتعتعين في الثمالة والنعاس ".

" لا، يا سيّدي. إنّ من دسّ السمّ لآمر القلعة، هوَ نفسه من قتلَ خادمكم "، خاطبَ ميخائيلُ الأفندي في سرّه. وإذ شدّدَ على نواطق السرّ، فلأنه كان يُراعي الوضع العصيب، المُحتم من ضرورة التغاضي عن موضوع القاتل؛ آنياً على الأقل. نعم. إنّ آغاوات القابيقول، وفي المقدّمة آمرهم الطاغيَة، كانوا وقتئذ قد أضحوا أسرى. وهذا هوَ الشيء الأساس، بحسب الخطة المعلومة.

" وأين همُ الآنَ، أولئك الأوباش؟ "، تساءلَ ميخائيل. فتولّى الزعيمُ الجوابَ، قائلاً بزهو: " إنهم في الطريق إلى القلعة، مقيّدون بالحديد ومُجلّلون بالعار. أجل، لقد راعينا أن يَصلوا إلى قبضة سعادَة السردار وهمُ في حالة مُنكرة من السّكر. إذ ما أن أيقظوا بوساطة المياه الباردة، حتى دبّ فيهم السّعار ولم يَعُدْ يُفارقهم بعدُ. أجل، هذا كانَ عزّ المأمول "

" وجثة كبير الخدَم.. المَرحوم؟ هل يُمكنني مُعايَنتها عن قرب؟ "، توجّه ميخائيل هذه المرّة إلى المُضيف. فأجابه هذا، إثر قليل من التردّد: " بإمكانك، طبعاً. لقد نقلنا الفقيدَ إلى حجرة البستاني ". حالما أبدى الآغا العطّار رغبته بمرافقة صديقه الطبيب، فإنّ عقدَ مَخطر المجلس ما لبثَ أن انفرط مُجدّداً.

على الرغم من علامات السّهاد والإرهاق، التي كانت مُتجليّة آنذاك على وجوه الجماعة، فإنهم أجمعوا بالمُقابل على أنّ الوقت المُتأخر كانَ غيرَ مُلائم لمُحاولة نيل نصيب من النوم. وإذاً آثرَ المُضيف وصهره الاستسلامَ لسكينة الصالون، طلباً للراحَة على الأقل. فيما غادَرَ البقيَة الدارَ، على الأثر. الدالي باش، من جهته، بدا أنه لن يَهدأ له مُستقرّ قبلَ أن يتأكدَ من أنّ خطة القضاء على وجاق القابيقول قد أنجزتْ تماماً. إنّ آغا يقيني، كانَ له فضل كبيرٌ في هذا الشأن.

ما كانَ لدى الآغا العطّار الفضول لرؤيَة الجثة، مرّة أخرى. إنّ رغبته بمُرافقة الطبيب، إنما كانت لبثّ ما يَعتملُ في داخله من هواجس. على ذلك، فما أن أضحيا لوحدَهما تحتَ قبّة السّماء، المُقفرَة إلا من السّحب السّود، حتى تمتمَ بصوتٍ متأثّر: " كلّ ما يَحوطنا إنّ هوَ إلا مَحض طلاسم، مُلغزة ". اكتفى صديقه بهز رأسه، دونما علامة أخرى على نيّته في الكلام. وكانا إذاك يجتازا الرواق الخارجيّ، الموصول بالحديقة عبرَ ممشى مُفترش بالحصى الصغير. ثمّة، في حجرَة البستاني، خرجَ الطبيبُ عن صمته: " كأني بكَ زاهدٌ في مُشاركتي بتفحّص جراح العجوز، القاتلة؟ "، تساءلَ وهوَ يُشير بيدَهُ إلى الجثة المُمدّدة على الطاولة. ولكنه استطردَ، مُسدّداً نظراته بانتباه وقلق: " أرجو أن يكونوا قد احتفظوا بأداة الجريمَة "

" جريمة..؟ "

" أجل، وماذا يُمكن وَصف قتل خادم عجوز؟ "، تساءلَ بدَوره. فما كانَ من الآخر عندئذ إلا التنهد بعمق. قال بُعيدَ هنيهة تردّد: " هذا ما كانَ يَجول في خاطري، مذ لحظة وقوع بصري على مَشهد العجوز التعس "

" وإذاً، فأنتَ على علم بماهيّة أداة القتل تلك؟ "

" بل إني أجزتُ لنفسي، أيضاً، سَحبها من الجثة "، قال ذلك، ثمّ دفع يَده في عبّه لكي يخرج الغرَض المَطلوب. تناولَ ميخائيلُ الخنجرَ، وراحَ ينقلُ عينيْه عن كثب خلل تفاصيله. إذاك، لاحَ أنه كانَ يَبحثُ عن نقش ما، مُحتمل؛ نقش، يَحملُ اسمَ الزعيم.

" إنّ آغاوات القابيقول، كما تعلم، لا يَحملون سوى السيوف والغدّرات "، قالَ الطبيبُ من ثمّ بلهجة غائمة. أومأ الآغا رأسه علامة على التفهّم، فتابعَ الآخرُ القول: " أقصُدُ، أنّ هذا الخنجر يُمكن أن يَخصّ أحد الدالاتيّة "

" لا، بل إنه يخصّ عبد اللطيف أفندي "

" كيف..؟ "

" لقد سبقَ أن عَرَضتُ الخنجرَ على الأفندي، فجزمَ بأنه من ضمن أسلحَة الزينة، التي يَمتلكها ". فما أن نطقَ الآغا كلمته، حتى خيّلَ إليهما بأنهما يسمَعان حَمْحمة متأتيَة من خلف باب الحجرَة الموصَد. كانَ أحدُ الخدمَ، من عَمَدَ عندئذ إلى الاستئذان في الدخول: " إني مُكلّفٌ، يا سادة، بالتبليغ بضرورة توجّه جنابكم إلى قاعة الضيافة "، قالَ بلهجة رَخوَة ومُتناعسَة. أومأ ميخائيل رأسه ببطء، علامَة على الإيجاب، يينما كان يتفكّرُ بمَغزى هذا الاستدعاء المُفاجئ. فما كانَ منه إلا التحقق من ظنونه، فسأل الخادم: " هلَ وَصلَ أحدٌ من طرَف سعادَة السردار؟ "

" السردار..؟ "، تساءلَ الخادمُ بدَوره وبسذاجة. فقال له مُوضحاً، أنه يعني ما إذا حضرَ أحدهم من القلعة. فأحنى رأسَهُ، مُجيباً: " لا أدري، يا سيّدي، ما إذا كانَ الضيفُ من جماعة القلعة ". عند ذلك بادَرَ بصرف الخادم.
وأوباً إلى قاعَة الضيافة، مضيا تلبية للدعوة. ثمّة، وحالما وَلجا المَدخل، وقعَ بصَرهما على رجل مُتوسّط السنّ، غريب الهيئة، كانَ يُجالسُ كلاً من المُضيف وصهره. هذا الأخير، هوَ من تعهّدَ التعريفَ بالضيف: " لقد شرّفنا جناب شريف باشا، المُرافق الشخصيّ لسعادَة سردار العسكر "، قالها بالعثمانيّة ثمّ قدّم له الرجلين باللغة نفسها. من جهته، أحنى الباشا رأسه قليلاً وهوَ يتفرّسَ في ميخائيل بتمعّن. وما أسرَعَ أن عرَضَ مَطلوبه بنبرَة أهل الأناضول، المُتقنة: " إننا بحاجةٍ إلى شهود، يُعززونَ أقوال الزعيم شمّو آغا، التي صرّحَ لنا بها في هذا الصباح ". لوهلةٍ، اعتقدَ ميخائيل أنّ الأمرَ يَتعلّق بجريمَة قتل الزورباشي. ولكنّ الضيفَ شاءَ أن يُضيفَ بعدَ صمت قصير: " لقد استدعى فضيلة القاضي أيضاً مشايخَ المَذاهب، ليفتوا في أمر أولئك المارقين، الذين انتهكوا حُرمَة شهر الصّيام المُبارك، بتعاطي الخمرَ وإتيان العربدَة ".

6
كانَ من المُفترض عليهما، ميخائيل والأفندي، أن يختليا بالقاضي في الجناح المُخصص لعمله؛ ثمة، في أحد الأبراج الجنوبيّة. ولكنّ هذا الأخير، كما تبيّنَ لهما، لم يَكن على عجلة من أمره. فما أن وصلا إلى مَدخل القلعة، حتى تنحّى المرافقُ مُفسحاً لهما المَجالَ ليتقدّماه في عبور المَرقى الرّخاميّ، العريض، المُفضي لجناح السّجن. وكان ميخائيل على بيّنة من طريقه، ولا غرو؛ هوَ مَن قضى في ضيافة هذا المكان ما يناهز الأسبوع. وعلى كلّ حال، ما لبثا أن انتهيا إلى ذلكَ الجناح، المَوْسوم، الهاجع في رطوبَة أحد الأبراج، الكائنة في الجهة الجنوبيّة الغربيّة. إذاك قاد ميخائيل خطواته، كما لو أنه مَسحورٌ بلحن قديم، نحوَ ذلك البرج، الدائريّ، مُرتقياً المرّة تلو الأخرى درجات سلالم حجريّة أو ترابيّة. حتى توقف مع صاحبه، في نهايَة المطاف، أمامَ باب كبير مُقوّس، خشبيّ ومُدعّم بصفائح مَعدنيّة، يَقوم على حراسته نفران من جند القلعة: " عن أذنكم، يا سادَة.. "، قالها المرافقُ فيما كانَ يتقدّمهما وبيده مفتاحٌ غليظ. ثمّ ما عتمَ أن عالج قفل الباب بعُسْر حتى تمكّنَ من فتحه. قبلَ أن يخطوَ ميخائيل إلى الداخل، استل لمحَة من حجرَة صغيرَة، جانبيّة، ليتيقنَ بأنها تحوي حراساً آخرين.

" انهضوا على حوافركم، أيها الحمير! "، صاحَ المرافقُ بصوت أصمّ. وبما أنّ عينيّ ميخائيل لم تكونا قد اعتادتا الظلمَة بعدُ، فإنه اعتقد أنّ الرجل يُخاطب بعضَ الحراس، المُتواجدين في الممرّ. بيْدَ أنّ ما رآه قدّامه، تواً، عليه كانَ أن يُنقشَ في ذاكرته دوماً: آغاوات الإنكشاريّة، المأسورون والمُقيدون بالحديد، كانوا قد تناهضوا الآنَ على عجلة مُحاولينَ تنفيذ الأمر الصادر إليهم. إلا أنّ أياً منهم، وهمُ الذين كانوا ما برحوا في ثمالة بهيمَة، قدِرَ على الاستواء على قدمَيْن صحيحتيْن. رائحَة الكحول، المُتصاعدَة من أفواه الإنكشاريين، كانت مُتداخلة بما كانَ يَنبعث من فضلات القيء والغائط. أشار ميخائيل للمرافق برغبة مُغادرَة المكان الكئيب، المُثير للغثيان، ففهمَ هوَ داعي ذلك. بدَورهما، فهم الشاهدان منه حينما أصبحوا ثلاثتهم خارجاً، أنه كانَ عليهما أن يتعرفا على سحَن أولئك التعساء، وذلكَ قبل لقاء القاضي.

طفقَ ميخائيلُ سارحاً بأفكاره وهواجسه، فيما كان يتلهى بمَنظر الإيوان العظيم، ذي القوس الحجريّ المُتطاول حتى الدور الثاني. إنّ نقوش السقف، المُعجّزة، كانت مُهجّنة بين أصلها، الأيوبيّ، وتعديلاتها الحاصلة خلال عهود الولاة العثمانيين. في صَدر المَكان، كانَ ثمّة مَصبٌّ رخاميّ يَضخ سلسبيله نحوَ الفسقيّة، الدقيقة الحَجم، المُلبّسة بالفسيفساء والمُنبثقة من منتصف الإيوان ـ كنجمَة مُثمّنة. لطالما وَجدَ ذوقه في تأمّل ما يُحيط من آيات العمارَة والزخرَفة في دور السّراة، التي سبقَ أن حظيَ بزيارتها أو الإقامَة فيها. ولكنّ الأمرَ مُختلفٌ هذه المرّة، ولا رَيْب. فما أن أنهى الإدلاء بشهادته قدّام القاضي، هناك في القسم الجنوبي من القلعة، حتى أمر من لدُن المُرافق، بأن يتبعه في الحال.

" إنّ عبد اللطيف أفندي في الطريق إلى منزله، الآنَ. أما أنتَ، يا حكيم، فستمكث لدينا لفترَة أخرى من الوقت "، قالها المرافق بلهجته الصارمَة فيما كانَ يتقدّمه إلى قاعة الضيافة. وإذ أنيبَ إلى فكر ميخائيل مثاقيلُ القلق، الهاجسَة بكنه الدّعوَة الغامضة، فإنه بالمُقابل سلا أمرَ الإنهاك والإرهاق والسّهد والمعدَة الخاويَة.
" تفضلوا من هنا، أيها الزعيم "، تناهى صوتُ أحد الحجّاب من خلف الأبواب المُواربَة. وقبل أن يتسنى لميخائيل التكهن بماهيّة القادم، إذا برأس شمّو آغا، المُعمّم بالكوفية الكرديّة، يَطلّ خلل مَدخل القاعَة الرئيس: " صباح الخير، حكيم "، حيّاه بودّ وحَفاوة. فقال للزعيم، مُتسائلاً: " خير؟ أتعتقدُ حقاً، أيها الصديق، أن هذا الصباحَ سيكونُ كذلك؟ ". بالرغم من مَسحَة المَرَح، المُظهّرة نسج الجملة الفائتة، إلا أنّ الزعيمَ انتبَه لرثاثة حاله: " ولكن ماذا دَهى، يا عزيزي، كي تكونَ مُتشائماً في صباح بمثل هذا الروعَة؛ صباح، يَعدُ بخلاص الشام الشريف، أبداً، من ربقة أولئكَ الانكشاريين؟ "، تساءلَ بدَوره وقد تكدّر مزاجه قليلاً. فلما أفضى إليه ميخائيل بمَخاوفي، فإنه تأمله لبرهة ثمّ ما عتمَ أن أطلقَ ضحكة صاخبَة.

" دَعْ عنكَ الوساوس، يا حكيم. إنّ الأمرَ هوَ على خلاف مظنتكَ "، قالَ له الزعيمُ ما أن استعادَ هيئته المألوفة، الجادّة. حينما تطلع إليه الآخرُ مُستفهماً، فإنه استطردَ بثقة واطمئنان: " مَصدرُ مَعلوماتي ليسَ سوى مستشار سَعادَة السردار عسكر. أجل، إنه على علم بكلّ ما دَبّرته أنتَ من أجل نجاح خطتنا. ومن ناحيَة أخرى، فإنّ مُحّو آغا حريصٌ على اصطفاء بعض الثقاة، المُخلصين، في هذه الظروف العَصيبة "

" ومن هوَ هذا، مُحّو آغا؟ "

" هوَ مستشارُ سردار العسكر. وكونه كردياً، فإنّ مهمته لاحقاً ستكون تأمين الإتصال بحاكم كردستان، الأمير بدرخان. أما حالياً، فيقدم العون لمجلس الولاية الشامية "، نكلّم زعيم صالحية الأكراد مبتسمَاً. سأله ميخائيل، عما يعنيه بمجلس الولاية، فأجاب وقد تلألأت عيناه: " المجلس في سبيله للتشكّل، ووصلتني معلومة بأنك ستكون في عداد الأعضاء ـ كممثل لأهل الذمّة "
" ربما المعلومة غير مؤكّدة. فمتى كانَ لملتنا ممثلاً في ديوان الولاية؟ "
" بل هيَ مؤكّدة، يا صديقي "، قالها الزعيمُ مقاطعاً. ثم أردف وقد إتسعت إبتسامته: " وتأكّد لي أيضاً، أن أحمد بك هوَ من قدّم إسمك لسعادتلو "
" وهل الأغا العطّار، صديق البك، من أولئك الأعضاء؟ "
" لا أعتقد. على أي حال، لم أسمع بذلك "، ردّ الرجل. فكّرَ ميخائيل عندئذٍ، بأن القاروط لا يرغب بأن يكون للعطّار هكذا وظيفة مهمة: " ولعله لمّحَ أمام أولي الأمر بإنتماء الآغا لأسرة من كبار أسر السجّادة النقشبندية، التي يعطف عليها السلطان. من يدري؟ ".

" كلّ ما ذكرته، يا آغا، يَجلبُ مَسرّة المرء العاقل. ولكن، هل لديكَ علم بمَوقف سعادة السردار من مَجلس العموميّة، والكيفيّة التي سيتعامل بها معه في قادم الأيام؟ "، سأله ميخائيل مغيّراً مجرى الحديث. لبثَ الزعيمُ الصالحانيّ صامتاً، فيما بصرَه يتقلّب في موجودات القاعة. ثم حوّل عينيّه إلى ناحية محدّثه، وأجابَ مُتنهّداً: " إنكَ رجلٌ حَصيف، يا حكيم. ولكنّ جوابَ هذا السؤال، على كلّ حال، ليسَ في حَوزتي "، قالها بحَذر ثمّ أضافَ: " سيتمّ استدعاؤنا، كلينا، بينَ فينة وأخرى. وعند ذلك، ربما يَجودُ سعادتلو بجواب على سؤالك "

" سعادتلو؟ وهل أنا هنا بانتظار مُقابلة سعادَة السردار؟ "، هتفَ ميخائيل بجَزع. فنظرَ إليه مُحَدّثه، وعلى قسماته الخشنة تعبيرٌ يَجمعُ بين الاستغراب والشفقة: " ومَن كنتَ تنتظر، في آخر الأمر؟ ". إذاكَ، أوضحُ له ميخائيل خجلاً: " لم يُنبئني أحدٌ قط بسبب وجودي في هذا المكان، سوى أنه لتقديم شهادة أمام القاضي. ذلكَ كان داعي هواجسي، التي بثثتها إليكَ في مبتدأ لقائنا ".

مَضتْ ساعة أخرى، دونما أن يُستدعيا إلى حَضرة السردار. ثمّ مرّ الوقتُ بعدئذ ببطء مُمضّ، حتى خيّل لكليهما أنّ وجودَهما صارَ مَنسياً. عند ذلك، خرجَ الزعيمُ الصالحانيّ إلى الرّدهة لكي يُحاول الاستفهامَ من أحدهم عن جليّة الأمرَ. وكان ميخائيل في الأثناء يتتفكّرُ بمَوضوع آخر، أبعد مَنالاً من مَوضوع مُقابلة السردار: وَرَقة مُخطط مَكان الكنز، المَطلوب. المُفردَة الأخيرَة، كانت بدءاً مَنذورَة لكناش الشيخ البرزنجي، ثمّ استعملتْ لحزمَة الأوراق المُنتزعة منه.

7
" إنّ الكناشَ، والحالة تلك، قد قسّمَ إلى ثلاثة أقسام وكما لو أنّ سحْراً فيه شاءَ أن يُشتتَ سَعْيَ من يَبحث عنه "، قال ميخائيل في سرّه. والأسوأ من هذا، فكّرَ، أنّ القاتلَ المَجهولَ قد وَجّه ضربة جَديدة، مُزدَوَجَة، ليفاقمَ من ذلكَ الإشكال، المَوصوف. وكان مَشغولَ الذهن في مَوضوع الكناش وذيوله، حتى أنه لم يتنبّه لعودَة شمّو آغا إلى إيوان الضيافة: " يَبدو أنّ سعادتلو ما زالَ يَستقبل أعيان المَدينة، القادمين للتهنئة بالمُناسبَة المُزدَوجَة "، خاطبه الزعيمُ بصَوت مُرتفع. فما كانَ من ميخائيل، ساهماً، سوى ترديد المُفردَة الأخيرَة من جملته. فعقبَ الآغا باقتضاب: " أجل، مزدوجة ". وإذ اعتقدَ أنّ مُحدّثه لم يُدرك المَقصود، فإنه أضافَ مُوضحاً: " أعني، التهنئة بكلّ من المُناسبتيْن، المُباركتيْن؛ حلول شهر رمضان ونهايَة وجاق القابيقول ". وكانَ ما فتأ ينظر إلى ميخائيل بشيء من الدّهشة، فانتبه عندئذ هذا الأخيرُ لنفسه: " عذراً، يا سيّدي. كنتُ أهجسُ بتلكَ الجريمَة، المزدوجة، التي حَصَلت أمس في منزل الأفندي "، قال له مُحرَجاً. جوابه، عليه كانَ أن يُضافرَ من دهشة الرّجل. فبادرَ إلى التساؤل من فوره: " إنّ زينيل آغا، حَسْب، قد ماتَ مَسموماً ـ كما صرّحَت أنت بذلك ليلة أمس. فعن أيّ جريمَة أخرى، تتحّدث جنابكَ؟ "

" عن مَصرَع عصمان أفندي؛ كبير الخدَم "

" آه، صحيح. ولكن، بحَسَب قول سيّده فإنّ العجوز طعنَ بيَد أحد أولئك الأوباش، السكارى "

" ربما. وعلى كلّ حال، فإنّ العجوز هوَ من قدّم فنجانَ القهوَة للزورباشي ". فما أن قال الطبيبُ ذلك، حتى فتحَ الزعيمُ عينيْه على وسعهما.

" وهل حدّثتَ فضيلة القاضي عن هذه الشبهَة، حينما استدعاكَ اليومَ؟ "، سأله الزعيمُ بكثير من الاهتمام. فطمأنه ميخائيل بالقول: " لا، بطبيعة الحال. إنّ القاضي ما أنفكّ على مَظنته الأولى، بأنّ حارساً ما، هنا في القلعة، له يَدٌ في دسّ السمّ للآمر. وبما أنّ فضيلته على علم، مُسبقاً، بكوني من كشفَ أمر المَملوكيْن، الذيْن شنقا مؤخراً، فقد سَمَحَ لي باستجواب من أشتبه بأمره في قضيّة الزورباشي ". فأظهرَ شمّو آغا رضاهُ، ثمّ علّقَ بالقول: " أفعل ذلك، يا حكيم. إنّ الله يغفرُ الآثامَ جميعاً، إلا قتل النفس البريئة ". وكان ميخائيل يعتقدُ أنه يَعني براءة المَملوكيْن، التعسيْن، فقال مُعقباً بدَوره: " ليَرحم الله ذينك المملوكين "

" بل ليُجْحَما إلى بئس المصير، معَ الكفرَة والمُجرمين "، نطقها الزعيمُ وهوَ يُشدّد على مخارج المفردات. وكان ميخائيل يتطلع إليه في حيرَة بيّنة، حينما تناهى وقعُ أقدام ثقيلة فوقَ سجادَة الإيوان الرهيفة. وإذا هوَ شريف باشا، من دخلَ عليهما عندئذ ليُخبرهما باحتفاء بأنهما مَدعوان على مائدَة إفطار سعادَة سردار العسكر: " وإذاً، أيها السيّدان المُبجّلان، بإمكانكما المكوث في ضيافتنا حتى ذلك الحين؛ أو الانصراف إلى مشاغلكما، لو شئتما ". ترك ميخائيلُ الزعيمَ ليرُدّ أولاً، فأبدى هذا رغبته بالذهاب. فيما توجّه ميخائيل إلى الباشا، بالقول: " أرجو منكم، يا سيّدي، أن تأمروا بمَن يَقودني إلى جناح السّجن ". ولمّا أبدى الرّجلُ علامات الاستغراب، فإنه عَرَضَ عليه كتاباً بخط وطغراء القاضي. نعم. لقد آنَ أوانُ التحرّك، طالما أنّ الفرصَة السانحَة لا يُمكن تعويضها: إنّ مُحاولة الكشف عن خبيئة ورقة الكنز، هيَ أمرٌ واردٌ فيما لو أنها مَحفوظة بعدُ بين مَتاع المَرحوم؛ المَملوك الصقليّ.

وكان شمّو آغا في سبيله للاستئذان من ميخائيل، قبل مُضيّه خارجاً، عندما خاطبهما الباشا بنبرَة غريبَة: " أظنّ أنكما، أيها المُبجّلان، لن تفوّتا مَشهدَ أولئك الانكشاريين، المُعلقين على أبواب المدينة ". ثمّ أردَفَ وَسَط دَهشتهما العظيمَة: " لقد كانوا قد أدخلوا على سعادَة السردار، في نفس الوقت الذي كنتما تنتظران المُثول بين يَديْه. وكانوا إذاك ما فتئوا في حالة جدّ رثة، مُخزيَة. فلم يَرد سعادَته الإنصات لتجديف سُكارى، في يوم الصّوم الحرام. فما لبثَ حراسه أن انهالوا عليهم بالسيوف، فقطعوهم إرباً ".

قاعَة الطعام، الكبرى، لم تكن في حقيقتها سوى قاعَة العرش، السلطانيّة؛ التي كانَ المَلكُ العادل، شقيق صلاح الدين، قد أمرَ ببنائها في جُملة ما كانَ قد استحدَثه في القلعة من عَمائر. أما الملامس العثمانيّة، المَحليّة، فيُمكن للمَرء مُعايَنتها في جدران القاعة البرانيّة، الحجريّة، المَرصوفة أفقياً على طريقة المَداميك الثلاثة؛ المَزاويّة والأبلقيّة والبازلتيّة. هنا أيضاً، في داخل القاعة، فإنّ تلبيس الجدران ، الخشبيّ والجصيّ، كانَ مَشغولاً وفق الطراز نفسه، المُتأخر. الطاولة المُخصّصة للمأدبَة، إذ كانت مُستطيلة الشكل وضيّقة قليلاً، إلا أنها كانت من الطول أنّ حفّ بها ما يزيدُ عن الأربعين كرسيّاً من جانبيْها. فضلاً عن رأس الطاولة، المَنذور لطوطيّ سعادتلو، المُذهّب الأطراف، كما وذيلها ذي الطوطيّ المُشابه والمُفترَض أن يَشغله سَماحتلو؛ شيخ الشام.

قبل ذلك، كان الشيخ قد أمّ مَخطرَ المدعوين لدى تأديَة صلاة المَغرب. فما أن أنهوا الفرضَ وغادَروا جامع أبي الدرداء، المُنتصب في قلب القلعة، حتى تقاطروا إلى قاعة الطعام. بيْدَ أنّ أمرَيْن، طارئيْن، سبقا ما سَبق، عليهما كانَ أن يُنغصا شهيّة ميخائيل؛ هوَ مَن كان، علاوة على ذلك، خاوي المعدَة منذ مساء البارحَة. ولكنه تمكن، بالمُقابل، من أخذ سنة من النوم، خللَ القيلولة، ثمّة في حجرَة الحارس؛ التي شهدَتْ مُسبّبيْ إرتياعه وإحباطه على السواء.

فما أنْ عاد ليصعَد المَرقى الحجريّ، المؤدي إلى جناح السّجن، حتى لفته وجودَ ثلة من الحرّاس، المُتجمهرين إزاء إحدى رواشن البرج: " أنظر هناك، يا سيّدي. إنه آغا باقوني، آمر الوجاق، مرميّ في خندق السور "، خاطبه المُرافق مُشيراً إلى الأسفل. فلما أطل ميخائيل بدَوره من فوق السّور، إذا بعينيه تصدَمان بمَشهد مَهول، فظيع. وكانَ من المُحال الجَزمَ بأنّ ذلكَ الرجل العاري، المُمزق الأوصال، هوَ الطاغيَة المُرعب ذاته، الذي يا ما بثّ اسمُهُ الرّعبَ في أوصال الخلق.

أما متاع الصقليّ، المَلموم في إحدى خزائن حجرَة حارس الجبّ، فإنه ما لبثَ أن لفظ الرقّ الجلديّ، المَطلوب. إلا أنّ الورقة لخيبة ميخائيل الشديدة، لم تكن طيّ الرقّ. وكاد أن يُعيدها للمتاع التعس، حينما أجازتْ الحكمة لحضورها بالهمس في أذنه: " بل لتحتفظ بالرقّ، كيما يُعاينه الأفندي ".

" إنّ خلاصَ الولايَة من الإنكشاريين، ليعدل حظوتها بسيف الحرب والعدل؛ إبراهيم باشا "، استهلّ القاضي خطبتهُ المُوجّهة للمُتواجدين في إيوان الضيافة. وكان هؤلاء حال انتهاء مأدبة الإفطار، قد انتقلوا بمَعيّة السردار والحاشيَة إلى الإيوان؛ ثمة أينَ اكتملتْ الحفاوَة بالقهوَة والحلوى والفاكهة. ومثلما حَظي ميخائيل بمَعرفته لاحقاً، فإنّ هناك داع، مُوْجباً، في إنابَة إبراهيم باشا للقاضي في إلقاء كلمة الترحيب بالأعيان والأشراف: فإنه لا يجيد العربية، وكان من غير المناسب التكلم بغيرها في مناسبة إفطار رمضان. الوالي العثماني السابق، علو باشا، في المقابل، لم يكن يُجيد تماماً العثمانيّة؛ وهيَ اللغة التي لا يُمكن الحديث بغيرها، رسمياً. كان سليل أسرَة دينيّة من أشراف ديار بكر، وبالتالي، كانت عربيّته مُضاهيَة ولا غرو للغته الأمّ؛ الكرديّة. إنّ العادَة، التليدَة، قضتْ أن يُوعَز أمرُ الولايَة الشاميّة، المُهمّة، إلى رجال شديدي المراس حينما يشتدّ الخطب على الدولة. فكان البابُ العالي عندئذ يَعتمدُ، غالباً، على أولئك العمال القادمين من أقاليم كردستان العثماني. وعلو باشا كانَ أحدهم . تولّى سابقاً حكم وان، فأبدى بسالة مُنقطعة المثال في تصدّيه للمسقوف، مما حدا بالسلطان أن يَرسله إلى الشام صدّاً للغازي المصري. هذه المعلومات، كانَ ميخائيل قد رُفِدَ بها من لدُن شمّو آغا.

ولكن ميخائيل كان آنئذ مُغيّباً عن خطبَة فضيلته بشاغل آخر. كان يتفكّرُ بشأن ورقة الكنز، المَفقودة، عندما تنبّه إلى ورود اسمه خلل خطبة القاضي. على أنه لم يتأكّد مما سَمعه، قبلَ فراغ الرّجل من الكلام. إذاك، تلفتَ بعضُ المُحيطين به، كي يُباركوا له في الوظيفة الجديدة ـ كأحد أعضاء مجلس إدارَة الولايَة. كانَ الوالي الجديد، شريف باشا، على رأس المجلس المُستحدَث. الزعيم الصالحانيّ، كان مُحقاً عندما بشّره بأنهما أختيرا كلاهما للوظيفة الجديدة. ولكنّ الهواجس، التي انتابت ميخائيل عندئذ، كانَ عليها أن تتبدّدَ قليلاً حينما علم بأنّ آغا يقيني ( الذي لم يكن حاضراً هنا )، كرّمَ بوظيفتيْن معاً ـ كآمر لجند القلعة وقائد عام لجيش الولايَة. هذه الصفة الأخيرَة، لم تكن مَعروفة قبلاً في التنظيمات العثمانيّة؛ فكانت من جُملة ما استلهمه محمد علي باشا من ندّتها، الفرنسويّة.

" أهنئكَ، يا عزيزي، بمَكرمة سعادَة السردار "، خاطبه شمّو آغا بودّ. إلا أن ميخائيل حينما رد تحيّته بتهنئة مماثلة، كانَ عليه أن يلحظ نوعاً من الهمّ على ملامحه. فلما غادَرَ السردارُ وبطانته المكانَ، أومأ إلى الزعيم بعينيه كي يتبَعه إلى خارج القاعة. عند خروجهما، كانَ الظلامُ المُخيّم شديدَ الوطأة بفعل السّحب السّود، ومَشفوعاً بنسائم معتدلة.

" اسمح لي، يا جناب الآغا. كأنما ساءكَ حضورنا المأدبَة فيما تمّ استبعاد بقيّة أركان مجلس العموميّة "، قال له عندئذ بصوت خفيض. فكانَ من الآغا التوقف عن السَيْر، على حين غرّة، عندما شاءَ الإجابة: " لا، يا أخي. إنّ دَعوة الباشا قد وَصلتهم جميعاً ". ثمّ أردَف يُخبره النبأ الداهمَ: " يبدو لي، بالمُقابل، أنه لم يَبلغكَ بعدُ ما جرى عندَ الظهر ثمّة، في منزل الأفندي. لقد أصيبَ كبيرُ المجلس بطلق في كتفه، أثناء تصدّيه لهجوم الانكشاريين "

" الانكشاريين..؟ "

" أجل، لقد حاولَ بعضهم اقتحام الدار مُتوهّمين أنّ آمرهم وآغاواتهم ما فتئوا أسرى في داخله. إلا أنّ قوّة الدالاتيّة، المُرابطة هناك، تمكنتْ بسرعَة من القضاء عليهم ".

" لِمَ لمْ يَتمّ إبلاغي بما حَدَث، في حينه؟ "، سأل شمّو آغا باستياء. فقالَ له هذا الأخير ببساطة: " لقد أرسلنا خبَراً بذلك للقلعة، ولكنكَ على ما يَبدو كنتَ في مكان ناء منها ". فتذكرَ ميخائيل أنه كان عندئذ يخلد لنوم القيلولة، هناك في حجرَة الحارس. وكانَ بودّه إضافة أسئلة أخرى، بيْدَ أنه فضل أن يذهبَ بذاته إلى منزل الأفندي، طالما لم يكن لديه عملٌ بعدُ في القلعة. وإذا بالآغا يُخبره أيضاً، بأنّ الزعيمَ مَوجودٌ حالياً في قصر القاروط: " لقد نقل إليه على عَجَل، في غمرَة احتدام الواقعة "، قالها مُوَضّحاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق