الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسنة

أمير الحلو

2006 / 11 / 14
الادب والفن


زرت في الاسبوع الماضي المدينة التي ولدت فيها ، وقادتني قدماي الى زقاقنا القديم والى اطلال البيت الذي رأيت (النور) فيه، وعندما عدت كانت هذه السطور (التذكارية)
كل شي اصغر مما كان عليه في الماضي واضيق مما رأيته بنفسي قبل اكثر من اربعين سنة.... هذا هو الزقاق الذي لعبت فيه سنيناً مع اصدقائي ابناء وبنات الجيران، وهذه هي دار جدي الذي ولدت وقضيت طفولتي فيها ، ترى ما الذي حدث لتصغر الاشياء ؟
ولكن هل الاشياء هي التي صغرت ام انا الذي كبرت عليها ، فالزقاق لايمكن ان يضيق عن مساحته السابقة الا بفعل فاعل وذلك لم يحدث ، والدار لايمكن ان تصغر الا اذا كانت قد خضعت الى تقسيم اثر (ازالة شيوع) من قبل الورثة ، وذلك ما لم يحدث ايضاً فالمتهم (بالكبر) انا اذن، ويكفيني ان اطرق باب دار (حسنه) التي تعرفني منذ ولادتي وحتى الخامسة عشرة من عمري لاسألها مختبراً ذاكرتها: من انا ؟ من المؤكد لن تتعرف علي بشكلي الحالي ، فهي لا تعرفني بشيبي وشواربي ولا بما فعلته السنون بوجهي ، ولكن هل سأرى (حسنه) كما كانت عليه آنذاك ام انها هي الاخرى صغرت او كبرت او ضاقت ؟ اجبت نفسي بان هذه الاوصاف لاتطلق على الانسان فهو ليس زقاقاً او داراً حتى يضيق او يصغر بل يكبر في العمر والمظهر، قد يتضاءل جسده وتتغير ملامحه ، ولو رايت حسنه خارج دارها لما عرفتها، لذلك فليس من العدل ان اطرق عليها باب دارها التي اعرف تفاصيلها ، والتي لا اتوقع وجود غيرها فيها منذ ان توفي زوجها نتيجة عضة غادرة من كلب مسعور خلال عودته اليومية من بستانه القريب من المدينة بعد غروب الشمس.
قلت لاطرق الباب الان والا لماذا جئت لهذا الزقاق بعد غيبة طويلة وانا لا اعرف احدا فيه سوى (حسنه) ؟ ومع كل ما وصلت اليه البشرية من تقدم تقني وخصوصاً في عالم الالكترونيات والكهرباء فان باب الدار خالية من الجرس الكهربائي ، وبقية المطرقة الحديدية التي اعرفها كما هي وسيلة (للاعلان) ، ويحدد عدد طرقاتها مدى الاستعجال في دعوة حسنه الى فتح الباب ، ولكن هل لازالت درجة السمع لديها على المستوى الذي تسمع فيه صوت طرقة واحدة ؟ لاادري ، وبأدب شديد طرقتها مرتين على سبيل الاحتياط ، ومع انتهاء الطرقة الثانية بلحظات ولقرب المسافة التي اعرفها بين غرفة الجلوس والنوم والخطار (معاً) فقد فتح الباب وظهرت طفلة لا تتجاوز الخامسة من العمر ، نظرت الى باستغراب فانا غريب حقاً بشكلي ومظهري عن الزقاق وطبائع رجاله الطيبين ، وسألتني بسرعة وتوجس . ماذا تريد ؟ قلت متصنعاً بابتسامة : هل حسنه هنا ؟ بهتت الطفلة واستدارت راكضة الى الوراء من دون ان تغلق الباب بوجهي ، ورأيتها تدخل (الغرفة المشتركة)، ثم خرجت امرأة تجاوزت الثلاثين من العمر ، لااستطيع ان اقول انها محجبة او (سافرة)، تقدمت باتجاهي وابتسامة طبيعية ترتسم على شفتيها ولم تسألني شيئاً وانتظرت ان ابدأها السؤال فانا من طرق الباب عليها . قلت : السلام عليكم . بدلاً من صباح الخير (الافندية) ، اجابتني : وعليكم السلام . قلت بعد ان تأكدت انها ابنة حسنه من بقايا ملامحها : هل سمعت بحياتك عن امير جواد ؟ فكرت قليلاً. وقالت : اذا كنت من منطقتنا فانت تعلم باننا نتعرف على الشخص من اسم امه . فما هو اسم ام امير ؟ استعدت كل ذكرياتي في لحظة واحدة . فكل اطفال وصبيان الزقاق كانوا ينعتون باسماء امهاتهم لا ابائهم ، لا لسبب سوى لحميمة العلاقة بين الامهات ، فتطلق احداهن اسم جارتها على ابنائها وبناتها . فأمير ابن (حياة) مثلاً وذلك ما قلته للسيدة الماثلة امامي . صمتت قليلأً وكأنها تحاول ان تتذكر شيئاً خافياً عنها منذ سنوات . قالت هي فجأة : هل تقصد اموري ابن حياة ؟ تذكرت ان هذا هو اسمي في الزقاق وليس كما طرحته عليها ، اجبتها : نعم هو ، قالت : كنت صغيرة عندما تركوا المدينة وذهبوا الى بغداد . بعد ان انتقل ابوهم الموظف الى هناك سألتها متعمداً : اين حسنه ؟ بهتت وتساءلت : وهل تعرفها ؟ قلت : نعم انا أموري ابن حياة ، وبدلاً من ان (تسفر) اكثر من بعد ان عرفتني ، حاولت ان تسحب بقايا غطاء رأسها الى الاعلى ، وهي تقول بارتباك : اهلا ، اهلا ، تفضل ، انا ابنة حسنه . لقد ماتت قبل سنوات ، وضعت كفها امامي لتشير الى عدد السنوات التي مضت على وفاة والدتها ، اعتذرت لها عن الدخول ، فقد شبعت الدخول في الماضي بدون أستأذان او دعوة الى دارهم التي لم تكن بابها تقفل حتى وصول الاب بعد غروب الشمس وبدء الليل عند سكان الزقاق كله، سألتها ضاحكاً : هل لازالت (حلانة التمر) في المطبخ ؟ فاجأها السؤال ولكنها ردت بسرعة : نعم ، نعم ، تفضل انها هناك، ولدينا اكثر من (حلانة) فهل تريد احداها ، بل كلها ، فنحن نملك بستاناً كما تعلم ؟
قلت : كلا فقد اعتدت في الماضي وعند عودتني من المدرسة ان ادخل الى داركم واذهب الى المطبخ مباشرة واجد (حلانة) مفتوحة حتماً ، فأقطع منها صماً (قبضة) من التمر ، اتناوله قبل ان ادخل دارنا ، ولا يهم انذاك ان استأذن حسنه او حتى ان احييها ، وكأنني املك حقاً مشروعاً في تمركم ، لذلك فانا اريد ان تعطيني (صماً) من التمر ، قالت لي بعفوية وبطريقة بريئة لو قالتها اية امرأة في المدينة لحملت معها معاني لا يمكن التغاضي عنها : ارجوك ادخل واخذ الكمية التي تريدها ، اجتزت عتبة الدار العتيقة ، ولم تكن هناك صعوبة في معرفة مكان المطبخ المفتوح من غير باب دائماً ، رأيت (الحلانة) اياها مفتوحة من احد جوانبها وقد بقي نصفها تقريباً كما مددت يدي واخذت (صماً) لاشك انه الاكبر في حياتي لان كفي قد كبرت والحلانة على حالها ، شعرت انها تاثرت من الموقف فقد رايت الدموع في عينيها وهي تقول لي : ارجوك خذ ، خذ اكبر قلت لها : اكملي العبارة كما كانت تقولها حسنه ؟
سألتني : ومذا كانت تقول ؟
قلت : يا أموري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-