الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوظيفة الحكومية ... تسلط أم خدمة

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2023 / 10 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


عرف الإنسان مفهوم الحكومة عندما تطورت البشرية من عصر الرعي والصيد , إلى عصر الزراعة والإستيطان في مجمعات بشرية في قرى صغيرة , لتتطور بعدها إلى مدن حضرية يتبادل فيها الناس البضائع والسلع التي ينتجونها زراعيا أو صناعيا . لذا دعت الحاجة لإيجاد شكل من أشكال التنظيم المؤسسي لإدارة مجتمعاتها وحفظ أمنها وإستقرارها والدفاع عنها ضد خصومها الخارجيين . عرف هذا التنظيم بالحكومة التي هي شكل من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات على وفق نظم وقوانين تحدد مهامها وصلاحياتها, بممارسة تلك السلطة لصالح مجتمعاتها , بدون تعسف أو هدر لحقوق الناس وصون كرامتهم .تنفذ الحكومة وظيفتها عبر موظفيها المعينيين لأداء نلك الوظائف طبقا لقوانين الدولة وطبيعة نظامها السياسي , ويتقاضون تلقاء ذلك أجورهم .
تشير المصادر التاريخية إلى أن الدولة الأكدية في بلاد الرافدين كانت أول تنظيم حكومي عرفته البشرية بنظم قانونية وسلطة عسكرية لبسط سلطتها وفرض هيبتها , تعاقبت من بعدها الدولة البابلية الأولى في عام 2460 قبل الميلاد , التي بلغت أوج مجدها في عهد الملك حمورابي سادس ملوكها، وصاحب أقدم مدونة تشريعية عرفها التاريخ. تضمنت ألمدونة (282) مادة , لتنظيم ألأحول الشخصية والعقود المدنية والتجارية ووسائل الاثبات والمسائل الجنائية وسواها , تلتها الدولة الآشورية في نينوى بشمال العراق . وأسهمت كثيرا حضارات أخرى , أبرزها الحضارة الأشورية والحضارات المصرية القديمة واليونانية والرومانية والفارسية وحضارة الصين القديمة , بتطوير النظم الحكومية التي إتخذت شكلها الحالي بفضل الحضارة الأوربية بالدرجة الأساس .وفي عصر تطور تكنولوجيا المعلومات والإتصالات تشهد الحكومات في مختلف دول العالم تحولا سريعا نحو ما بات يعرف بالحكومات الألكترونية التي يتم التعامل فيها عبر شبكات المعلومات والإتصالات دون الحاجة إلى مراجعة الدوائر الحكومية وجها لوجه لإنجاز المعاملات الرسمية .
وحبث أن لكل مهنة طقوسها وأعرافها وأخلاقياتها التي تحتكم إليها , ولها طبيعتها التي تنظم العلاقة بين جميع أطرافها من منفذيها والمستفيدين من خدماتها , إلاّ أنه يلاحظ غياب المعايير واخلاقيات المهنة لدى شاغلي الوظائف الحكومية في العراق بمختلف مستوياتهم , إذ ترى الكثيرين منهم يتصرفون وكأنهم سادة ,وعلى العباد تقديم فروض الطاعة لهم عند مراجعتهم لتمشية معاملاتهم على وفق القوانين والأنظمة المرعية , متجاهلين تماما طبيعة عملهم التي تقتضي منهم حسن أداء وظيفتهم بإتقان دون مقابل أو منة .
يعّين الموظف الحكومي في العراق عادة بدون إختبار حقيقي لقدراته وفحص مؤهلاته ولياقته الوظيفية , إذ يكتفى بشهاداته الورقية , وقد لا يكون أفضل المتقدمين لشغل الوظيفة , حيث تلعب العلاقات الشخصية والتاثيرات الإجتماعية والعائلية والسياسية , وربما دفع الرشى دورا مهما بهذه التعينيات بحسب أهميتها . تقتضي إجراءات التعيين أن يكون على سبيل التجربة لمدة عام , يثبت بعدها بوظيفته إذا ثبتت صلاحيته للعمل . والمفارقة هنا أن جميع المتعينين الجدد يثبتون بوظائفهم بعد قضاء عامهم الأول في جميع الأحوال, حيث لا يخضع أي منهم لأي تقييم ذا قيمة إطلاقا, ذلك أن ثبيته تحصيل حاصل . ويتدرج الموظف بوظيفته في سلم الترقية الوظيفية المصحوبة بزيادة راتبه بمرور سنوات وظيفته بشكل عام . وبذلك يكون الموظف قد ضمن وظيفته قانونا مدى الحياة لا يزحزحه منها أحد , فالوظيفة الحكومية في العراق أشبه ما تكون بالزواج الكاثوليكي الذي لا يجيز الطلاق , إلاّ قضى الله أمرا كان مفعولا.
لذا ليس غريبا أن لا يكترث معظم الموظفون الحكوميون لمهام وظائفهم كثيرا , وتسود أوساطهم المحسوبية والمنسوبية والوجاهة وتلقي الرشى مقابل تمشية معاملات الناس , وبخاصة في الدوائر الخدمية ذات التماس المباشر بحياة الناس اليومية .وحالات التسيّب هذه تزداد وتنخفض بحسب قوة النظام السياسي في البلد , ومدى حزمه بتشريع القوانين وتطبيقها لصالح الناس , وجديته بمحاسبة الفاسدين كبيرهم قبل صغيرهم , وإجتثاث الفساد من جذوره والقضاء على كل أشكال البيروقراطية , وإقامة الحكم الرشيد بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب بحسب قدراته ومؤهلاته وخبراته , وسيادة القانون ولا شيئ آخر سواه .
وقبل هذا وذاك ينبغي أن تسود المجتمع قيم الفضيلة والأخلاق الحميدة والحرص على المال العام قبل المال الخاص , ذلك أن المال العام ليس مالا مجهول الهوية كما يدعي ذلك بعض فاقدي الذمة والضمير بهدف إستباحته حلالا زلالا , فالموظف الحكومي إبن بيئته ونتاجها . فلا عجب أن نرى إستشراء الفساد في جميع أجهزة الدولة, بعد أن إستشرى في جميع مفاصل المجتمع بدءا بنهب وسرقة جميع موجودات الدوائر الحكومية وتحويلها إلى مبان خاوية صماء بعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 ,على مرأى ومسمع القوات الغازية دون تحريك ساكن وربما بتشجيع منها , وإستيلاء القوى السياسية المتعاونة مع قوات الإحتلال على الكثير من المباني الحكومية والقصور الرئاسية دون وجه حق , وإستغلالها لمصالح زعماء تلك الأحزاب وعدم إخلائها حتى يومنا هذا , مما أعطى إنطباعا أن نهب المال العام وسرقته بات أمرا طبيعيا ولا يعد أمرا جنائيا , بل قد يراه البعض حقا مكتسبا كثمن مناسب لخدماته الجهادية التي يدعي أنه قد قدمها لهذا الشعب المنكوب بهم, الذي لم ينال منهم سوى الخراب والفقر والبؤس والدمار, حيث طالب بعضهم بمنحه مخصصات خدمة جهادية دون حياء. فإذا كان رب الدار في الدف ناقر فشيمة أهل الدار كلهم الرقص , فلا عجب أن يشتشري الفساد وسوء الأخلاق في كل مكان بهذا الشكل المرعب .
فالموظف الحكومي يقتدي برؤسائه عادة, والرؤساء للأسف جلّهم فاسدون ولا يفقه الكثير منهم أبجديات العمل الحكومي الذي قادتهم إليه ,الصدفة ودفع الرشى والإتكاء على قوى سياسية فاسدة همها جني الأموال بكل الوسائل المتاحة , وعليهم إرضاء قادتهم بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على مناصبهم , وبذلك فقد إكتملت حلقة الفساد من القاعدة إلى القمة بإنسيابية عالية دون عوائق , فلا حسيب ولا رقيب أبدا .إهتم هؤلاء القادة بألقابهم التي ينبغي مخاطبتهم بها , أكثر من إهتمامهم بمصالح الناس , فبعضهم ينبغي مخاطبته بلقب دولة وآخر بلقب فخامة , والوزراء بلقب معالي ووكائهم ومستشاريهم وآخرين بلقب سعادة , علما أن بعض هذه الألقاب لم تكن متداولة في الدولة العراقية بعهودها السابقة الملكية والجمهورية أبدا , والألقاب الأخرى فقد ألغي إستعمالها منذ إنبثاق العهد الجمهوري عام 1958 , وحل محلها لقب سيادة بالنسبة لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وجميع المناصب الأخرى صغيرها وكبيرها على حد سواء , أسوة بما هو معمول به في دول العالم المتحضرة, حيث يخاطب رؤساء الجمهوريات والوزراء وجميع شاغلي الوظائف الحكومية والمؤسسات المختلفة , بلقب سيد أو سيدة لا أكثر ولا أقل , فالرئيس الأمريكي مثلا يخاطب من قبل الجميع بالسيد الرئيس أو بسيد ... وهو رئيس أقوى دولة في العالم وكذا الحال لجميع رؤساء الدول الأوربية ودول أخرى كثيرة , كما يخاطب رئيس وزراء بريطانيا ومستشار ألمانيا وغيرهم بلقب سيد , دون أن يقلل ذلك من ِشأن أيا منهم .
وأحاط هؤلاء القادة أنفسهم بحاشية من المستشارين والإعلاميين والمزمرين والطبالين , لإضفاءهالة من مظاهر التعظيم والتبجيل والتسبيح بحمدهم , يرافقهم حشد كبير من أفراد الحماية العسكرية المبالغ بحجمها كثيرا , ترافقهم في كل مكان في الحل والترحال , مدفوعة الثمن من خزينة الدولة العراقية المستنزفة أساسا حيث تعاني من عجز مالي مزمن , وديون متراكمة بفوائد عالية بحق الدولة العراقية التي تشهد ركودا إقتصاديا منذ عقود , حيث معامل ومصانع العراق معطلة ومزارعه وبساتينه مهملة, وموارده المائية شحيحة وأراضيه آخذة بالتصحر , دون أن يحرك أحد ساكن , إذ لا تنمية ولا تعليم ولا خدمات صحية , بل فقر وبؤس مدقع لعامة الناس وأقلية طفيلية مرفهة ,ونسب أمية متزايدة في كل مكان . بينما يملك العراق ثروات طبيعية هائلة وموارد بشرية تؤهله ليكون في مصاف الدول المتقدمة لو توفرت له حكومة وطنية رشيدة .فالوظيفة الحكومية خدمة للناس وليس تسلطا عليهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا