الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بُوابَاتُ الحُلُمِ الإنسَانِي وَأنساقُ مَظاهرِ الاِحتجاج ِالثَّوريِّ في رِوايةِ -إِلى أَنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ-

ريتا عودة

2023 / 10 / 5
الادب والفن


بُوابَاتُ الحُلُمِ الإنسَانِي وَأنساقُ مَظاهرِ الاِحتجاج ِالثَّوريِّ في رِوايةِ "إِلى أَنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ" لِلأديبةِ رِيتَا عُودة.
بقلم: د.جبَّار ماجد البهادلي | ناقد وكاتب عراقي

مَدخلُ تقديـمٍ:

(إلى أنْ يُزْهِرَ الصَّبَّارُ)، عنوان روايةٍ توثيقيةٍ عن تجلِّيات الحُلم الفلسطيني الفائر، ونكبة شعبه الصبور الثائر، لِـ (رِيَتَا عودة)، الأديبة والكاتبة الفلسطينية المثابرة، والشاعرة والقاصَّة والمُترجمة ذات الأصول (النَّصراويَّة) النشأة، و(الحَيفاويَّة)الرُّوح والهوى، والعمل والإقامة. وتُعدُّ هذه المُدونة السرديَّة الحُلُميَّة الرافدة، هيَ الرواية الورقية الطويلة الأولى للكاتبة (رِيتا عودة) بعد روايتيها القصيرتين السابقتين (طُوبى للغُرباءِ)، (2007م)، و(بَنفسجُ الغُربةِ)، (2008م). والصادرة بطبعتها الأولى عام (2018م) عن مركز الحضارة العربيَّة في القاهرة، وبواقع كمي بلغ نحو(176) صفحةً من القطع المتوسِّط. وبإهداء رمزي جمعي، وثلاثة فصول أو حكايات موضوعية رئيسة متتالية كلُّ حكاية لها أجزاؤها، شكَّلت الوحدة العضوية الكبرى لوحدات الرِّواية وروافدها الموضوعيَّة.

نصُّ عتبة الإهداء كان قصديَّاً مُوجَّهاً إلى (حتميةِ التاريخِ)، وإلى خفافيش الظلام الحالك، مهما استمرَّ الظلم والاستبداد واشتدَّ الظلم سواداً لا بدَّ أنْ ينبلج خيط الفجر وتشرق شمس الحريَّة المغيَّبة بغدٍ جديدٍ مُزهرٍ آتٍ أكثرَ إشراقًا ودفئًا ونصوعًا وحياةَ ثرَّةً. ((إلَى حَتميةِ التَّاريخِ الَّتي عَلَّمَتنَا، أنَّهُ مَهمَا اِشتدَّ اللَّيلُ حِلكَةً، فَإنَّ الفَجرَ لَا بُدَّ آتٍ)). (إلى أن يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 5)، وكما هو حُلمُ أبي القاسم الشَّابِّي، شاعر تونس الخضراء في (إرادة الحياةِ): وَلا بُدَّ لِليلِ أنْ يِنجلِي وَلابُدَّ لِلقيدِ أنْ يَنكسرْ.



شَخصيَّاتُ الرِّوايةِ الرمزيَّةُ

أمَّا الحكايات السردية الثلاث، فهي فصول الرِّواية الرئيسة التي بُنيت عليها هندسة معمارية أساسات مظاهر الرواية وجواهرها الموضوعية المتعدِّدة. إذ جاءت الحكاية الأولى بعنوان (الحكايةُ كمَا رَواها آدمُ)، والثانية بعنوان (الحكايةُ كَمَا رَوتهَا حَياةُ)، والثَّالثة بعنوان، (الحكايةُ كمَا رَوتهَا حوَّاءُ). فكلُّ حكاية تمِّثل موضوعاً سرديًا حكائيًا مستقلًا سامياً لشخصيةٍ بطوليةٍ قائمةٍ بذاتها من شخصيات الرواية الثلاث المتواشجة. فـ (آدمُ) الرمز، هو بطل الرواية الرئيس وشخصيتها الذكورية الأوحد الذي يبحث في صراعه الأرضي المرير المضني عن ضلعه المفقود(حوَّاء)، وحلمه الكوني الأول المغيَّب، والمُبعد عنه في بقعةٍ جغرافيةٍ مجهولةٍ ما من أرض فلسطين الثورة والحدث. على الرُّغم من أنَّ حوَّاء قابعة تعيش في أعماق دواخل نفسه المحبَّة للحياة والسَّلام. وفضلًا عن انشغال آدم بموقفه البطولي الثائر في مواجهته قوى الشر الكونية الباغية فكرياً وسياسياً وثورياً واجتماعياً.

أمَّا شخصية الحكاية الثانية، فكانت شخصية المرأة والزوجة الحبيبة(حياةُ)، والتي ترمز شخصيتها النسقية الظاهرة والمضمرة في قربها إلى شخصية مؤلِّفة الرواية (رِيتَا عودة) التي كانت تحلم في صراعها الحياتي الذاتي مع الغاصب المحتل، وتسعى جاهدةً إلى معاني الحُريَّة والحياة الحرَّة الكريمة والاستقلال الذاتي من ربقة ثقل القيم الاجتماعية البالية وتدني القيود المؤسساتية التالفة المستهلكة. وذلك من خلال وسائل الإصرار على التحدي والمواجهة والمقاومة الباسلة؛ لتحقيق حلمها الأزلي الذي هو حلم كلِّ امرأة فلسطينية مكافحة للظلم والجور والفساد الأرضي والوضعي.

وَتتجلَّى صورة شخصية الحكاية الثالثة بشخصية(حَوَّاء)الحبّ الأزلي الأول المجهول والضلعة الثانية المفقودة لآدم العشق والحلم الأبدي الأسطوري. هذا الرمز الأنثوي العاشق الذي يأمل ويحلم في صراعه الوجودي جليَّاً بالعودة تدريجياً إلى حضن ركنه الأول (آدم)، المركز الأسطوري التاريخي لخُرافة وجود الخليقة البشرية، ومحرك صراع خيرها وشرِّها الإنساني الرمزي البعيد.

إنَّ هذا المثلث الوجودي الرمزي لشخصيات الرواية، (آدمُ، وحياةُ، وحوَّاءُ) فضلاً عن مكملاته الفاعلية الطفلتين، (أمل وأحلام)، ابنتي الزوجين حياة وآدم، يمثِّل البؤرة الضوئية التي أثَّثتْ بها كاتبة الرواية السَّاردة (ريتا عودة) بنيتها السردية فكريًا، وأسستْ لعناصر جسور أحداثها (فِعلِياتِها) السَّردية الرابطة، وحركة شخصياتها (الفواعلية)، وأقامتْ وحدتيها (الزمانية والمكانية) المحدَّدتين معاً.

واستطاعتِ الكاتبة من خلال هذا المثلث الحكائي الدرامي التراجيدي المائز لشخصياتها الباسلة المِقدَامة، وثيمة موضوعاتها الفكرية المتعدِّدة الجوانب (السياسية والدينية والاجتماعية والمستقبلية) أنْ تنفذَ من خلال أبواب حلمها الذاتي الجمعي إلى نقل صور ومشاهد ضحية هذا الصراع الدامي لشخوصها الثقافية المهمَّشة والمؤثِّرة على فكر المتلقِّي الواعي؛ ليرى الحقيقة المُرَّة لمعاناة شعبنا العربي الفلسطيني، ونضاله اليومي المستمرِّ منذ عقود من الزمن خَلتْ، ولا سِيَّما عرب الشتات.

فريتا عودة في توجيه صور مرآتها الحداثية العاكسة لا تكتفي فقط بتجسيد صور ومشاهد هذا الصراع المعيشي الأزلي الطويل المتكرِّر للإنسان الفلسطيني الأعزل من عرب الداخل (48), بل تنقل بصدق واحترافية إبداعية عالية عبر أثير مجسَّات عينها البصرية الثالثة لقطاتٍ حيَّةً واقعيةً وصوراً (إيماجية) ومشاهد وبوستاتٍ ولوحاتٍ سرديةً عن أثر تلك المُجاهَدةِ الحقيقية والمقاومة الشرعية الشرسة الباسلة التي يقوم بها أبناء الشعب العربي الفلسطيني المسالم من خلال تتبع مسار حركة شخصياتها الدينامية المستمرة المتوثِّبة الخطى على أرض الواقع اليومي المتصاعد.

واللَّافت في رؤية هذه الحكايات الثلاث، أنَّ (آدم) نفسه شخصية الرواية الأولى يعاني -ذاته-صراعاً نفسياً وفكرياً واجتماعياً داخلياً حين جمع بين شخصية (حياة) الزوجة المستقبلية رائية الحدث الحكائي وشخصية (حوَّاء) الرمز الثاني لعشق آدم الأبدي المغيَّب. فهو على الرغم من أنه لم يتمكن من أنْ يحيا حياةً أسريةً قريبةً تجمع بين (حياة وحواء) وابنتيه (أمل وأحلام)؛ لكنَّه في الواقع حُلميَّاً استطاع أن يجمع بينهما وَيُكوِّنَ اتِّحاداً بعد إصدار المحكمة قرار الحكم عليه بالسجن المؤبَّد. هذه النتيجة الحكائية الحاصلة لواقع الحدث تحسب انتقالاً فنيَّاً للساردة ريتا عودة في تحقيق جزء من بوابات حلم بطلها الهُمام الغالب(آدم) الذي فشل في تحقيق حلمه الفردوسي الذاتي الأول.

وإذا ما أردنا أنْ نبحث سيمائياً في تفكيك شفرات مثلث هذه الشخصيات الروائية التي يزهر بها ثمار الصَّبَّارُ لاحقا في غدٍ مستقبلي بعيدٍ، فإنَّ شخصيتي (آدم وحواء) يرمزان إلى قصة الخليقة البشرية الأولى التي مهَّدت تاريخياً لصراع الخير والشرِّ الأرضي الدائر بشكل علني واضح؛ نتيجةَ غوايتهما الشَّيطانية بتفاحة آدم المأثورة، وهبوطهما الفادح من جنة الفردوس العلوي إلى مركز الصراع الأرضي السفلي القائم. وبالتالي فإنَّهما مصدر الخير، ومرجعه الأرضي في صراعهما التاريخي الفلسطيني مع شيطان الشرِّ الذي هو الآخر العدو المحتل العادي الغاصب.

ونستقرئ رمزياً من خلال حركة هذا الصراع الأزلي الطويل الذي مارسه آدم وحواء فعلياً من أجل المحافظة على جنتهما الأرضية، هو ضياع وفقدان لفلسطين، الأرض والوطن كما ضيعا جنَّة الفردوس المفقود الأولى نتيجةَ شهواتها الخاطئة. وعلى الرغم من مقاومة آدم وبسالته وشجاعته وموقفه البطولي المتوثِّب إِزاء محاولات المحتل الظالم، وفي الوقت ذاته فإنَّ شخصية حياة الزوجة تمثِّلُ رمزياً وفكرياً أرض فلسطين المغتصبة التي افتقدها شعبها ظلمًا وعدوانًا وتجاوزًا، والتي توحي حكايتها بآدم الزوج الشَّرعي مالك هذه الأرض ومُعمرِها الأصيل الذي لم يفقد الأمل زمنياً.

أمَّا شخصيتا الطفلتين (أمل وأحلام) وموحياتها الدلالية البعيدة، فهما ترمزان إلى الشعب أبناء (حياة) التي هي أرض فلسطين المعمِّرة التي يُستشرَفُ بهما مستقبل الأمل ويتحقَّق الحلم البعيد. هذا الشعب الذي فقد أرضه العزيزة وحريته وكرامته بضياع آدم وحواء رمزا فلسطين الوطن؛ لتبقى(حياة) الأرض السليبة تواجه مصيرها الحتمي بذاتها مع أبناء جلدة شعبها الثائر إلى أنْ تُزهر ثمار الصبَّار الصامدة وَتَينع أزهاره الشَّوكية (تِينَاً) يانعاً يأتي أكُلَهُ الآني في ربيع حصادها المُقاوم.

النَّسق الرَّمزي لِبُوابةِ العَتبة العنوانيةِ

يُعدُّ العنوان من أهمِّ عتبات النصِّ الأدبي الرئيسة؛ كونه يمثل عملياً المرفأ الأوحد والمحطَّة الخارجية الفناريَّة المضيئة الأولى التي تنفذ من خلال بوابتها الكبيرة مراسي النصِّ الأدبي وتُوجَّهُ أشرعةُ سُفنِهِ الداخليةِ إلى عوالم النصِّ الحيَّة، وجوهر فكرته الموضوعية الأساس. وأنَّ العلاقة بين العتبة العنوانية والبنية النصيَّة للخطاب السردي، علاقةُ أُسريَّةٌ روحيَّةٌ وثيقةُ كعلاقة الأبِّ اللَّصيقة بأبنائه وأحفاده، وكذاك كعَلاقة الأمِّ الحميمة بأولادها لا تنفصم رحاها الدائرة أبداً، ولا تنقطع عُرى استمرارية تغذية مشيمتها لها من خلال ارتباطها الوثيق بحبلها السرِّي الرابط بينها كلاً محكماً.

مَنْ يقرأ مدونة العمل الروائي (إلى أنْ يُزهِرُ الصَّبَّارُ)، لِـ (رِيتَا عُودة) ويُعيد التأمُّل -مرَّةً أخرى-بقراءتها الفكرية معنوياً، سيلحظُ مبدئياً أنَّه لا علاقة مباشرةً بين العنوان الرئيس والنصِّ الموازي لمتن الرواية الداخلي(الرسالة) من حيث المعنى الدلالي اللُّغوي القريب لتركيب الجملة العنوانية (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ). وذلك لكون (الصَّبَّارُ) معنوياً من فصيلة النباتات الصحراوية القوية التي تعيش في بيئةٍ وظروفٍ معيشيةٍ قاسيةٍ جداً تتحمَّل جرَّاء ذلك الجفاف والعطش الظامئ الشديد الذي قد يمتد أمَدهُ لأشهر أو سنواتٍ عديدةٍ طوالٍ دون أن تتوارى عن أرض الصحراء القاحلة أو تموت.

وقد ينمو بعض أنواع الصَّبَّار أزهاراً مُورقةً، وتنتج على الرغم من أشواكها العوسجية الشائكة ثماراً طيِّبةً مثل، (التِّينِ الشَّوكي) الذي يؤكل طعاماً كالفاكهة التي تقشرُ أشواكُها جيِّداً بطريقةٍ عمليةٍ خاصةٍ. ومن فوائد نبات الصَّبَّار يُعدُّ ملجاً آمناً لبعض الطُّيور البريَّة والصحراويَّة المهاجرة التي تتخذ منه ملاذاً سَكنياً حَصيناً آمناً من خطر أعدائها الطيور القوية والحيوانات الشرسة الكاسرة.

وإذ نُجيلُ الطرف بعيداً ونستغور بجلاءٍ وعمقٍ كبيرينِ تفكيك شفرات عتبة النصِّ العنواني ونجوس تَقفيَاَ وَتَعَقُباً خِلال أرضهِ البهية من خلال حفرياتنا التنقيبية لآثار دياره الدلالية البعيدة، ستنجلي موحيات المعنى الدلالي الخفي العميق المضمر لدالة (الصَّبَّار) الأيقونيّة وأزهاره الثماريّة التي لم تُزهِر بعد إلّاَ بمعادل موضوعي محرِّك لدلاتها المادية والمعنوية. ولعلَّ المعنى الدلالي البعيد المرتجى لمفردة (الصَّبَّار)، هو قصدية الوطن السليب الرمزية فلسطين العروبة والنضال.

إنَّ هذا الوطن الكبير الذي يتماهى مع الصَّبَّار في مشابهته وقوة صبره؛ كونه يعيش ظروفاً وأوضاعاً سياسيةَ واجتماعيةَ واقتصاديةَ وثقافيةَ قاسيةً شقيَّةً جمَّةً. فضلاً عن الفقد والتِّيهِ والتَّشتُتِ العائم لعشرات السنين الطوال منذ النصف الثاني من القرن العشرين. فكأنَّه الصَّبَّار في قساوة جفافه الدائم، وكأنَّ أزهاره وثماره المحمَّلة بأشواكها الموجعة الدامية هو الشعب الفلسطيني المجاهد الذي عانى وما زال يعاني منذ أمدٍ زمنيٍّ بعيد من تلك الأشواك المُدنِّسة لتاريخه وأرضه وجذوره.

لعلَّ هذا التحليل الهرمنيوطيقي التفسيري لدالة العنوان توكِّد حقيقة معاني موحياته الإشاريّة والسيميولوجيّة البعيدة كل التأكيد بأنَّ هذا الجرح (ألصَّبَّاري) الفلسطيني لم يندمل بعد، ولم تنكأ جروحه الخضراء الطريَّة، ومآسيه المؤلمة بعد. وما زال زمن الإزهار والازدهار الشعبي لم يَحِنْ نضوجه أيضاً بعد، طالما الفقد لهذا الوطن السليب والأرض المدنَّسة بعيداً عن إمكانية التَّحقُّق.

ومن دلالة هذا المعنى اللُّغوي العميق لبنية ثُريا العنوان استمدَّت الكاتبة(الريتاوية) وحدتها الموضوعية وثيمتها الفكرية بذكاء للرواية التي بنت عليها عقدة حبكة صراع أحداثها الفعليَّة، وأقامت عليها بتؤَدةٍ أبواب حركة أصوات شخوصها الفواعلية المكافحة، وجسَّدت فنيَّاً أُسَ صرحها الحكائي السردي على وحداتها الزمكانية المُحدَّدة بزمان ومكان ما معينين. وعبر هذا التجلِّي التحليلي لبوابة النصِّ العنوانيّة المضيئة، تّوحَّدت مع مسارات النصِّ الموازي، واشتبكت تلاحمياً مع واقعة أحداثه الموضوعيّة، فأنتجت لنا خطاباً سرديَّاً فنيَّاً تكاملياً متجدِّداً في محتواه نوعاً وكمَّاً.

أساليبُ أَنساقِ المُؤلِّفةِ السَّرديَّةُ

من يتتبع بِصبرٍ وَتَرُوٍّ عميقين فصول المثلث التسريدي لمدونة (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبَّار) ذات الأثر الحُلُمِي الفلسطيني القائم، سيلفت نظره ويُدهِشُهُ وقعَ الحضور الإبداعي والجمالي المكثَّف للرائية الفذَّة (ريتا عودة) في تصميم أنساق خريطة هندستها الفكرية لمعمارية الواقعة الموضوعية الحدثية للرِّواية، ورسم صور أبعادها التجريبية. بِدَأً من فضاء تخومها الخارجيّة، وانتقالاً إلى مُناخ أقانيم سرديَّات تضاريسها الأرضية الداخليّة، وصعوداً بنائياً هرمياً عُلوياً، وهبوطاً أُفقياً سطحيًا عرضيًا، وتوجيهاً بوصليًا: شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوباً في تحديد مسارات هُدى مقصدياتها القريبة والبعيدة.

مَنْ يقرأ الكاتبة الفلسطينية (رِيتَا عُودة)، الأديبة المثقَّفة، ويبحث عنها في سطور هذه الرواية (الحُلميَّة) الواعدة بالخير، سيجد بكلِّ تجلٍّ وتأكيدٍ أنَّها الأديبة الشموليّة المتعدِّدة الوجوه فهي الشاعرة، والقاصة، والمُترجمة، والمُعلِّمة الناشطة التدريسية والمُتذوِّقة للفُنُون والآداب. سيلحظ، أيضاً، أنَّها الرّائية المختصَّة والمبدعة حكائيًا التي تكتب الإبداع بعين سرديّة ثالثة ثاقبة صادقة، وتنتج بروحٍ قلبيةٍ وفكريةٍ واعيةٍ، وتعي عملياً ما لها وما عليها من حقوق وواجبات اجتماعية وإنسانية جمَّةٍ. وتُدرك ما عليها من أدوات فنيَّةٍ كتابيّةٍ ممكنةٍ، واشتراطاتٍ آليةٍ مُحكمَةٍ في ممارسة وإنتاج عناصر العمل السردي التي تفرض نفسها حتمياً على واقعة العمل الموضوعية حَدَثيًّا وشخصيًّا ومكانيًّا وزمانيًّا.

ليس كُلُّ هذا ما يُميِّز وقع الأُسلوبيِّة (الرِّيتَاويَّة) النافذة ذات البصمة الشاعرية المُذهلة الإيماض والحنكة السردية القصصية القصيرة المُتفرِّدة في إنتاج وصناعة الأدب الفكري الوجيز، وديمومة استمرارية الأدب المعرفي الإبستمولوجي الطويل الخلَّاق. فضلًا عن وقع جرأتها الأدبية وشجاعتها الأسلوبية الهُمامة في كسر الأفق وتحطيم أساسات جُدُر الواقع اليومي الحاضر المألوف المعيش.

ودونَ أيَّة مُبالغةٍ أو غُلوٍ أو مُجانبة أو مُحايدة قَصديَّة، ليس كل هذا التوصيف الإبداعي ما يميِّز وقع أُسلوبيتها الشاعرية أو السردية الكتابية التخليقيّة، بل ما تسمو به ريتا الكاتبة من معانٍ رفيعةٍ وشيمٍ إنسانيةٍ كبيرةٍ، وقيم أخلاقيةٍ تفرديةٍ استثنائيةٍ طافيةٍ ضافيةٍ على سطح نهر الكتابة الإبداعية. كونها المبدعة والإنسانة التي تعي وتُدرك تقرير الأشياء المصيرية وتستوعبها فكريَّاً وجمالياً؛ بوصفها أديبةً كما هو بائن من آثارها. والأديب ضمير الأمة الناطق النابض وشاخصها الضوئي البارز الأوحد ومرآتها الصوريّة العاكسة لمشاهد الواقع وتجلياته التمظهريّة المختلفة سلباً وإيجاباً.

وعندما نُطلِقُ على الرائية ريتا لفظ (الإنسانة) فمعنى ذلك أنَّها رمز لِحَوَّاء المرأة الشرقيَّة، الأنثى الشفيفة، في المجتمع الذكوري الشرقي. هي في الوقت ذاته الأديبة الرهيفة الهُمامة المِقدَامةُ التي كسرت التابو الاجتماعي وتخطَّت سنن واعتبارات وجسور القانون البيئي المحيطي الجمعي حين رفضت رفضاً باتَّاً بكلِّ قوَّةٍ وعزمٍ وثباتٍ لا يلين قبول الواقع الحياتي التالف المستهلك المعيش.

وَأَبَتْ بإصرارٍ كبيرٍ كلَّ الضغوط ووسائل الانصياع والاستسلام والخنوع والإذلال لإرادة الدِّين أو المذهب، وتحدَّت سُننَ موروث العرف الاجتماعي الصارم وقوانينه الحياتيّة، وإملاءات تجبُّر الأهل والمقرَّبين المتوارثة مجتمعياً بكلِّ تناقضاتها وأعرافها وسننها وتقاليدها المصيرية المعطوبة التي التفَّت عليها تحوِّلاتُ العصرنة والتطوِّر ومتغيِّرات الحداثة السريعة التي تعشق أبعاد التجديد, وترفض آماد التقليد,, وتقدِّس بمحبَّةٍ وإجلال وتبجيل كلَّ معاني الإنسانية الرافدة للمدنية الحقَّة.

فريتا عودة هي الإنسانة الشاعرية الحالمة التي تُحبُّ معاني الحياة السامية، وتهيم شوقاً وصبابةً بعناصر الطبيعة الكونية الساكنة والمتحركة التي تمدُّها بالتخليق الإبداعي، وتُلقي بظلالها الجمالية والفكرية الوارفة على أفياء روحها العشقية المتصابية هُياماً بها وبسحرها الترويحي في الحياة.

إنَّ أهم ما يميِّز (رِيتَا عُودة) المبدعة في أسلوبيتها النسقية السردية، سواءٌ أكانت الظاهرة أمْ الخفية في تجليات هذه الرواية المركَّبة (شِعراً ونثراً)، و(سَرداً وتضنصيصًا)، هو تفرُّدها الأسلوبي الابتداعي في كتابتها التخليقيّة المتزاوجة. فريتا الرائية السَّاردة تكتب قصصَ نصوصِها الحكائية التسريديّة بأُسلوب فنِّ الأديبة الشاعرة الاحترافية الفذَّة، وبروح الشَّاعرة الناقدة لنفسها في تماهيها الرؤيوي الحدثي وحضورها الموضوعي. حتَّى يتراءى إليك كَمُتلَقٍ لها في آلية عصرنة أسلوبيتها التعبيرية أنها تكتب تشعيراً سرديَّاً روائياً مُتمازجاً في سردها التضميني لوقائع الأحداث الفنيَّة وصور التقاطاتها العينية البصريّة والمخياليّة الحركيّة الانزياحيّة التعبيريّة عن توثيق معاناة جراح شعبها النازف.

فتأتي أغلب نصوص شواهدها الإجرائية -من القصائد الشعرية الحداثوية المائزة- قطعًا تفاعليّةً تعضيديّة إسناديّة مُتَّحدةَ التَّركيبِ مع مشاهد الحدث السردي ومعبِّرةً بصدقٍ عن واقع حاله ومُحاله موضوعيًا وجماليًا وفنيًّا. فضلاً عما تجود به ذائقتها السردية من سعة ثقافةٍ ذاتيةٍ كبيرةٍ واستعدادتٍ تكسبيّةٍ معرفيّةٍ عاليةٍ ومُدهشةٍ لتلك النصوص الأدبية والفكرية والمعرفية الفلسفية الجمالية. وعلى وجه الخصوص النصوص العالميَّة والعربيَّة والمحليَّة الرائدة التي تتحاكى معها، وتتماهى روحياً وأسلوبياً في تجسيد تناصاتها التعبيرية السردية التحوِّلية؛ لتأثيث وتدشين مثلثها الروائي السردي.

هذه الثنائية الأسلوبية الاندماجيّة (السَّردُ شِعريَّةٌ) في فنيَّة التعبير السَّردي لم تأتِ ثمارُ أُكُلِها الناضجة ضرباً من العرض الفني الجغرافي الطارئ، وإنَّما هي في الحقيقة ناتجةً عن تمكُّن الكاتبة (الرِّيتاويَّة) أسلوبياً من توظيف أدواتها التعبيرية المتواشجة، وتطويع لغتها التركيبة المتمازجة (شعريًا وسرديًا) شائقًا أخاذاً ليس من السهل انفكاك القارئ الحقيقي في تلقيه عنها وتركها رَتابةً.

لا شكَّ أنَّ هذه المراوحة الثنائية الأسلوبية والبسالة التعبيرية الفنيَّة والمجازية للساردة في تجلياتها التضادية الطافحة في اشتغالاتها الإنتاجية بممارسة فنيَّة ثنائيات جدلية(الإقدام والإحجام), و(الصعود والهبوط), و(المناورة والمحاورة), و(التصعيد والمهادنة), و(التشعير والتنثير)، و(التقريرية والانزياحية) في رسم مشاهدها (التجريبية والتجريدية) الصورية لتمظهرات الحدث السردي وتنامي فعل حركة تجلِّياته الفكرية المتصاعدة مَكَّنَتْ الكاتبة العليمة موضوعيَّاً وفنيَّاً في تواصها الإبداعي التخليقي مع مشاهد الحدث الواقعي وأنسنة قداسة بنائه التسريدي في توصيف كلِّ ما يُخامر النفس الإنسانية المُوَّارة, ويثير حفيضتها الثورية المتوهِّجة توهُّجاً وانسجاماً.

ومصدر هذه الإثارة النفسيّة الداخليّة ناتج عن مشاعرَ وأحاسيسَ إنسانيةٍ، وتداعياتٍ ورؤى داخليّةٍ، وتوارد مُدخلاتٍ ومُخرجاتٍ روحيّةٍ، وأفكارٍ وهواجسَ، ومواقفَ مَبدئيّةٍ، ومُتبنياتٍ وطنيّةٍ وآيدلوجيّةٍ مصيريّة تتعالق فنيًّا وشعوريًا مع جوهر الموقف الإنساني في بنية الحدث السّردي. وتنأى به خارج نطاق الحدث الحكائي قصدياً؛ لِتُسهمَ في تشخيصِ وتحليلِ وتفكيكِ بعض مرموزات منظومة الإشكاليات والأزمات والعقبات والقيم الفكرية والعادات العرفية والمفاهيم المجتمعية الراسخة جذورها التاريخية الأساسية دهرًا زمنيًا، والتي تواجه حريَّة الفكر الإنساني، وتعالج إرادة حُلُمه المستقبلي في المجتمع العربي الفلسطيني الذي هو أس المشكلة وأساسها القويم.

ويحدث كلّ ذلك التوجُّه الأُسلوبي المباشر وغير المباشر للساردة (ريتا عودة) من خلال رعاية

حلمها الإنساني وتنميته، وتصويب نزعتها المذهبية الفكرية وإرساء قواعد رؤيتها الفلسفية الإبداعية السردية في ترجمة الواقع اليومي وتدوين وأرخنة وقائعه الحدثيّة من أجل واقعٍ وغدٍ واعدٍ أفضل.

هكذا كانت ريتا عودة في أبجدة تراتيل أسلوبيتها السردية الروائية تبحث بتأنٍ وحزنٍ شفيفٍ في رحلتها الروائية الطويلة عن بوابات حلمها الإنساني المفقود، وعن أثر حَوَّاء المرأة الأنثى التي ضيَّعتْ جنتها الفردوسية العليا بتأثير رمزي من الغواية الشيطانية. يُشاركها الهمَّ الكبير صنوها الأول آدمُهَا المأسور حكماً بالقوانين الوضعية من أجل أرضه السليبّة، أرض فلسطين. تلك الأرض الأُمُّ التي رفضتْ أنْ تحمل الأمانة الكبرى خشية أنْ تُوصف بالهزيمة والخيانة والمكر والعَداء.

وتتعدَّد أبواب الحلم في حديثها التّدويني عن حبِّها المذبوح دون إدامةٍ لحياته العابرة لكل الحدود، وعن ثورتها الذاتيّة لكل تلك الأعراف والموروثات السلبيّة المنتهية الصلاحيّة التالفة. على الرّغم من حبِّها للقيم الإنسانية الراقية، وتبنيها المفاهيم الجمالية والتحرُّرية العادلة التي تحترمُ حريَّة الإنسان وتُنصِفُ رأيه. فريتا عودة تُقدِّس الجامعة الإنسانية الرابطة بين البشر جميعاً بغض النظر عن انتماءاتهم العِرقية والمذهبية الدينيَّة والإثنيّة التقليديّة التي تُكبِل ذاتية الإنسان وتحُول دون مانع.

ومن يطلع على حكايات الرِّواية الثلاث ويقرؤها جيِّداً من جديد، سيفهم بوابات ريتا الحُلُميَة الثلاث، وسيكتشف أنَّ الصَّبَّار لا يمكن أنْ يزهر أو يثمر إلَّا بتحرُّر فلسطين من سطوة قيودها الخارجية. وبالتأكيد أنَّ هذا الحُلم المنشود الذي سعت إليه الكاتبة في صومعة مشغلها الحكائي السردي لا يمكن أنْ يتحقَّق أيضاً إلَّا بتحقيق حلم آدم المأمول في أنّْ ينال حريته والتحاق حَوَّاء به لتكتمل الأرض التي هي بمنزلة حياته الزوجية الأُسريَّة، والتي هي بالتأكيد حلم ريتا في تحقيق ذاتها الفردية الثائرة من خلال مقاومتها وتحرُّرها من منظومة القيم الدينية والمجتمعية والعرفية البالية التي أكلَ عليها الدهرُ وشَرِبَ غيرَ آسفٍ، كما يُشير المثل العربي المأثور تأريخياً وزمانياً.

أمَّا الحُلم الثالث الذي هو متن الحكاية الثالثة من حكايات الرواية، فهو حُلم حَوَّاء بوابة الضلعة الثانية لآدم، وسعيها الحثيث بالعودة إلى حجر آدم الدافئ؛ لترى نور الحياة من جديد، وتسعى إلى موطنها الأصلي شوقاً ومحبَّةً وزَهواً. فهذه الأحلام البواباتيّة الثلاثة التي وضعتها الكاتبة على طبق ذهبي من السرد الماتع الحصيف؛ لتثير متلقيها الواعي النابه وقارئها المجتهد المثابر من أجل فهمها وفكِّ مُعمياتِ رموزها ومغاليق تشفيراتها الدلالية البعيدة؛ ليتمتع بمكنونات وقائع روايتها.

سَيلتمِسُ القارئ الفذُّ، والفاحص النوعي(الناقد) أنَّ (ريتا عودة) في فنيَّة انزياحاتها التعبيرية السردية الأسلوبية قد خرجت في إبداعها وابتداعها الخلَّاق في هذه الرواية عن المألوف السَّردي المعتاد الذي يتبناه كُتّاب السرد المعاصرون في صناعة الإنتاج التَّخليقي من خلال فنيَّة ومضات مفارقاتها الإدهاشيّة، ومشاهدها التصويرية للواقع الاحترافية بأسلوب تعبيري فنِّي مغايرٍ ومختلفٍ.





النَّسقُ البِنائي لِلروايَّةِ

من الّلَافت أَنَّ ريتا عندما تلجأُ جغرافيًّا وفنيًّا في مثاقفتها الروائيَّة للعمل الحكائي إلى تدوين الحدث السردي، وإلقاء الضوء النافذ على وقع مفاصل عمق مجتمعها الفلسطينّي الثائر، وكشف صور معاناته الأليمة المستمرَّة، تسعى جاهدةً في تماهيها الفكري وتلبسها الدرامي لشخصية بطلة الرواية الثانية (حياة) إلى تشخيص إحداث الواقع بعدسة رؤيةٍ فلسفيَّةٍ جمعيةٍ عينيةٍ سرديَّةٍ ثالثةٍ. وتحاول أَنْ تجد لها بعض الحلول والتّخريجات والآمال التي تخفِّف من وقع دراما تراجيدية المشهد الحياتي الدامي، وترقى به إلى سُلم النجاة بأضعف الإيمان. وهذا ما يشغلها في إيصال رسالتها.

ويدفعها مهماز حسِّها الوطني وشعورها الثوري الإنساني الدافق في مثل هكذا مواقف مصيرية مجتمعية ذات أثر شعوري وإنساني إلى اللُّجوء إلى لُغة التعبير التقريري في إيتاء أسلوبيتها السردية المتفردة إيماناً منها أنَّ هذه المباشرة التقليدية اللُّغويَّة التي تصدر منها في فنيِّة البنائي السردي، والتي لا تجد لها قبولاً تاماً في الإبداع إلَّا في حالات معينَّةٍ. وهي لا تحتاج إلى وسيط ثانٍ يترجمها إلى وعي القارئ، أو يفكِّك أضواء رموزها الواضحة تحت تأثير واقعٍ سِياسي لَاهبٍ.

هذه هي التقريرية لموضوعية المنضبطة غير المُمُلَّة وغير الرتيبة أو المبتذلة، بل هي اللُّغة الساخنة والجادة الواضحة التي تصدر مباشرةً من حرارةِ قلبٍ صادقٍ واعٍ إلى شغاف قلب القارئ مباشرةً دون توقُّفاتٍ أو انزياحاتٍ لغويةٍ أو مكابدة جهديّة أو عَناء فكري. إنها لغة المشاعر والاحاسيس الوطنية والإنسانية المُحبَّبة التي لا تعرف القوانين الفوقية. إنها اللُّغة التي تبدأ مِساحتها السردية بشآبيب نثَّاتٍ من التقريرية، وتنتهي بأمطار الشعرية الغزيرة الهاطلة على بقعةٍ ظامئة ما.

هذه المزاوجة ناجمة عن سعة ثقافتها الإبداعيَّة التي تُحلِّق في دورات الاتحاديَّة. فضلًا عن أُسلوبيتها التكثيفيَّة للتناصَّات الشِّعريَّة التَّداخلَّيَّة التي طوَّرتها وأخذت بها الناقدة البلغاريَّة (جوليا كريستيفيا) فنيَّاً وجماليَّاً. وكذلك الحال مع الآراء الفلسفية والقولية والتَّضمينات الدينيّة (الإنجيليَّة) للأسفار التي أغنتْ التعبير التَّقريري والإنشائي بكميةٍ من الشحنات الابداعيَّة التي أضفت على مهيمنات النصَّ السَّردي أهميةً تنوعيّةً اثرائيّةً تُريح المُتلقي لصفحات النصِّ الروائي وتُدهشُهُ فنيًّا.







أنساقُ الرِّوايةِ الثَّقافيَّةُ

(النسقُ)، أو المفهوم النسقي في أوجز تَعريف قَصدِيٍّ مُكثَّفٍ لمعناه اللُّغوي والدلالي، هو الخطُّ القائمُ أو (النظامُ)، أو(السِّستمُ) الذي يسير بموجبه اتِّجاه وعي المثقَّف الكاتب أو الأديب، سواءٌ أكان ذلك شاعراً أم سارداً ناثراً في التأسيس لإنتاج كتابته الإبداعية وفق خطَّةٍ منهجيةٍ مَدروسةٍ مُنظَّمهٍ.

والنسق الثقافي بوجهٍ خاصٍ، هو الذي يُسهم ويهتمُّ اهتماماً مباشراً وكبيراً بتمظهرات النصِّ الأدبي الجوهريَّة، ويحتفي فكرياً بتجلِّيات موضوعاته وروافده المعرفيَّةِ المتجلِّية والخفيَّة. ويُقدِّم له في الوقت ذاته تأصيلاً ثقافياً معرفياً جديداً مضافاً سواءُ أكان ظاهراً أم مُستتراً مُضمراً، ولا تلغي حداثته دور النقد الأدبي للنصِّ الإبداعي وأهميته الفكريَّة، أو يقوم مقامه، بل يكون دوره النقدي -رغم اختلاف مقصديات جوهره -استبصاراً واستئناساً تكاملياً عميقًا، وتعضيداً فكرياً وجمالياً مسانداً لدور النقد الأدبي المأثور لنا في مشاهد النقديَّة العربيَّة. ومن الطبيعي أنَّ هذه الفتوحات النقدية الثقافية الجديدة والكشوفات الفكرية هي التي أسس لها عربياً عبد الله الغذامي في تنظيراته الفكرية والأدبيَّة، وإجراءاته التطبيقية للنقد الثقافي في كتبه ومدوناته ونتاجاته الثقافية المعروفة.

سارت المؤلِّفة الكاتبة (ريتا عودة) في خطى روايتها (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبَّارُ) في ثلاثة محاور موضوعيَّة رئيسيَّة، أو أنساق ثقافيَّة تأصيليَّة مُتباينة ومُهمَّة لقصة الصراع الدراماتيكي المغيَّب اكتملت بها الروافد المعرفية النصيَّة لوحدة الرواية العضوية. وكلُّ محور يمثلً فصلاً من فصولها.

وإذ نُجيل البحث بصبرٍ عن مساراتِ الحدثِ السَّردي وتطوِّراتها السريعة في ظلِّ المثلث السردي الروائي الذي تتصاعد فيه أصوات شخوص الرواية الثلاثة وتتداخل دراميًا، وتعلو فنيَّاً؛ لتجسيد تشكُّلات الحدث، وتوظيف بنائه السردي بناءً عمودياً وأفقياً من خلال فنيّة تقنيتي (الاستقدام والاسترجاع) التعبيريتين، نجد تلك المِساحةَ الضوئيةَ من الحُريَّة التي تمنحها الكاتبة لشخصياتها (البوليفينية) المتعدَّدة الأصوات الفاعلية التي أقرَّها الروسي (مخيائيل باختين) داخل حكايات الرواية الثلاث. ويمكن أنْ نُجمل تلك المحاور النسقية الثقافية التي تضمنتها أحداث الرواية الموضوعية:

المُحورُ الأوَّلُ: النسق الأسطوري لوقع الخرافة نواة الواقعة المريرة للخليقة البشرية المتمثِّلة بـ (آدم وحواء)، وقصة أغوائهما الشيطانيّ، وخروجهما طرداً من جنة الفردوس الأعلى المُقدَّس، وهبوطهما المفاجئ الاضطراري القصدي المدنَّس إلى دنيا الأرض, أرض الشَّقاء والابتلاء الدنيوي الحياتي. وقد أسقطت السَّاردة ريتا فكرةَ هذا النسق الثقافي على واقع الحلم الفلسطيني المشتت. ويعدَّ هذا المحور، هو البوابة الأولى لـ (حلم آدم) برجوع (حَوَّاء) العشق إليه؛ لتكتمل دورة الحياة.

المُحورُ الثَّاني: فهو النسق الديني الاجتماعي المتوارث تقليداً عقائديًا وإثنيًا وعرفيًا عبر مراحل الزمن التاريخية المتعاقبة. وقد أسقطت الرائية تجلِّيات وقائع هذا النسق الموضوعي الخطير على الدوافع الإنسانية والنفسية العاطفية والتَّحرُّرية لِجدلِّيَّة العشق الرومانسي الذاتي الأثير الذي هو رمز لعشق أكبر هو الوطن الكبير(فلسطين)، وبوابة الحبِّ الحُلمية التي تمثَّلت بشخصية الرواية الثانية(حياة) المرأة الأنثى المتمرِّدة على سلطة الدين والعرف الاجتماعي وسطوة الأهل الجبروتية. والمحور الثاني هو بوابة الحلم الثانية؛ لتحقيق(حياة)حبِّ حلمها بالزواج من آدم رغم عشقه لحواء.

المُحورُ الثَّالثُ الأخيرُ: وقد تمثَّلت موضوعته الحكائيّة الثقافية السردية بما يمتُّ بصلةٍ مباشرةٍ بالنسق الآيدلوجي الثوري العقائدي والاحتجاجي الراسخ، والقائم تحتَ طائلة ظلال الاحتلال ونيره الغاشم. وقد أسقطت المؤلِّفة (ريتا عودة) أبعاده ومقصدياته الظاهرة والخفيَّة على وسائل المقاومة الثوريَّة، وقوى الرفض والمجابهة النضالية الكفاحية وتحدياتها الكبيرة لقوى الشرِّ الآثمة من خلال شخصيات المُثَّلث الرِّوائي السَّردي وأصواته الحركيَّة المهمَّة: (آدم، وحياة، وحوَّاء). باكتمال نهاية المحور الثالث خاتمة الرّواية تكون بوابة الحلم الثالث بمعرفة (حوَّاء) أخبار (آدم) والعودة لصدره.

1-النَّسقُ الثَّقافيّ الأُسطوريّ

وقد تجسَّدت تمثَّلات هذا النسق الثقافي الموضوعي الخرافي الحكائي الأول بقصة (آدم وحواء) ومشكلة الصراع المصيري الدائر بينهما، وبين أًسِ مصدر الغواية والإغواء الأفعوي الشيطاني المُحَرِّض على فعل الخطيئة والتكفير الإلهي الذي كلفهما ثمن ضياع الفردوس الأعلى وخسارته الباهضة التي لا تعوض أبداً. وبالنتيجة حلول الضياع والتِّيه في أصقاع مشارق الأرض ومغاربها، وبدء رحلةٍ سعي مضنيةٍ جديدة من الشقاء والبؤس والمعاناة الرهيبة في مناكب الأرض الواسعة.

تلك الرؤية الأُسطورية التراثية الدينية لبدء تنامي خرافة الخليقة الأدمية التي اتحفتنا بها ذائقة مؤلِّفة العمل (ريتا عودة) الإبداعية السَّردية المِقدامة، والِّتي من خلال موضوعيتها النسقية الظاهرة والمضمرة استطاعت أنْ تجوس خلال ديارها الشّقيَّة الرَّخوة بحسِّها الفني الواعي وحذاقة مهارتها السّرديَّة البعيدة. وتمكَّنت قصدياً وتلقائياً(عفوياً) أنْ تُقدِّمَ -في مدونتها الحكائية- لنا ولِمُتلقِّيها عَرضَاً فنيَّاً رؤيوياً مصيرياً, وكشفاً بيانياً تفسيرياً سردياً تراجيدياً شائقاً لمشاهد الحبِّ الأزلية ومحطاته العشقية الراكزة عبر فنيَّة هذا التَّراسل السَّردي من القصِّ الحكائي المترابط الأفكار والرؤى.

وقد تمَّ ذلك لها من خلال تجلِّيات فتوحاتها السردية التجدُّدية عبر كشوفات ثيمة البحث عن هُويَّة الآخر المفقودة جغرافيَّاً في أمكنة ودروب التِّيه البعيدة، ومسالك الضياع والتشظي الأرضي والإنساني البغيضة الذي ما بعده ضياعٌ أسرٌ يُدمي القلوب وينكأ الجراح الفاغرة بالألم. ((مَا زَالَ آدمُ يَبحثُ عَنْ حَوائِهِ هُنَا وَهُناكَ، دُونَ أنْ يَفطنَ أنَّها دَاخلُ ضُلُوعهِ مُقيمةً.. لَا يَكونُ العِشقُ إلَّا حِينَ تَكمُلُ الدَائرةُ بِعودةِ حَواءَ القَفص ِالصَّدريّ لِآدمَ.. حَيثُ الحَنانُ.. حَيثُ الآمانُ)) (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبَّارُ، ص 9). إذن حواء معنوياً قريبة الإقامة بحنايا آدم الداخليَّة، ودلالياً مقيمة في شتات البعد.

((كَمَا بَحث َقَيسُ عَنْ لَيلَاهِ رُحتُ أَبحثُ عَنكِ فِي كُلِّ بِقاعِ الأَرضِ لَأعيدَكِ لِقَفَصِي الحُلُمِي، لَكنَّكِ اِختفيتِ.. كَمَا البُخارُ تَلَاشَيتِ.. لَمْ أَعثُرْ لَكِ عَلَى أَثَرٍ.. ظَلَلتُ أَحلُمُ بِكِ.. مَا كَفَفتُ يَومَاً عَنْ عَزفِ سُيمفونيَّةِ العَودَةِ.. كَيفَ لَا، وَالحُلُم طاَقةَ بَقَاٍء.. أمَّا هَؤلاءِ العَاطلونَ عَنِ الحُلُمِ، فَمَا هُمُ إلَّا تُوابيتٌ بِصَمتٍ تَسيرُ إلَى المَقَابِرِ.)) (إلى أنْ يُزهٍرَ الصَّبَّارُ، ص11). الحُلُمُ عند ريتا الكاتبة الشاعرية, وبلسان (آدم) العشق طاقة بقاء معمِّرة تتجدَّد حياةً,لا حُلمَ توابيت الموتى المُسمَّرَة عند العاطلين عن تحقيق الحُلُمِ.

على الرَّغم من أنَّ ثلاثية مدونة (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ)، هي التجربة السَّرديَّة الروائيَّة الطويلة الأولى -كما مرَّ بنا سلفاً- للمبدعة (ريتا عودة) على مستوى الإنتاج والنّشر والتوزيع التَّوثيقي الورقي المنظَّم محليَّاً وعربيَّاً، وعلى الرَّغم أيضاً من أنَّ الفصل الأوَّل لحكاية آدم وضلعه الأنثويّ حواء يميلُ في محتواه الموضوعي الفنِّي إلى شيءٍ من لغة التخاطب التعبيريَّة التقريريَّة, وبعضٍ من الترهُّل اللُّغويّ الانشائيّ البسيط الجزئيّ والرّتابة والإملال السَّردي غير المُحبَّب فنيًّا، إلَّا أنَّ "ريتا عودة" استطاعت أن تُعوِّض عن ذلك فكريًا وإبداعيًا على مستوى الرِّواية النّسوية العربيّة الحديثة، وأنَّ تقدِّمَ لنا عملاً فنيًّا سرديًّا نوعيًّأ مُتكاملًا وفق آليات واشتراطات عناصر الفنِّ السَّردي.

وقد أحدثتْ دونَ مُجاملةٍ كتاباتُها النوعية التجدُّديّة لمفاصل هذه الرّواية طفرةً فنيَّةً تحوليَّةً متوثِّبةَ الخُطى في المشهد الأدبيّ السَّرديّ لمسارِ الرِّواية العربيَّة المعاصرة من خلال تحكُّمها اللَّافت بفنيَّة تقنياتها السَّردية المتراتبة، وتطويعها لحركة لغتها التكثيفيَّة إلى لغة حيَّةٍ تثويريَّة مائزة الصُنعة:

آه.. حَوَاءُ، أَينَ أَنتِ الآنَ حَبيبتِي

آهٍ.. أَيَّتُّهَا المَعشوقةُ وَالعَاشقةُ..

العَاطِفَةُ كَرَويَّةٍ..

ذَهَبتِ غَربَاً وذهبتُ شَرقاً، لَكنْ لَا بُدَّ يَومَاً أنْ... نَلتقِي. (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبارُ، ص 20)

ويتناهى إلى ظني كثيراً أنَّ رائية العمل الروائيّ (ريتا عودة) وفي محاولة ذكيّة وجريئة وشجاعةٍ فيها من دلالات الجدَّة ومعاني البسالة والإقدام القصدي الفكري تُريد من متلقيها وقارئها المجتهد المثابر النوعي القدير بعد أنْ يُتمَّ قراءةَ الرِّوايةِ كاملةً أنْ يضعَ بجملةٍ تتمَّةً لفراغات عنوانها القصدي الناقص تركيباً دلاليًا ومعنويًا. وكأني بها تقول: (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، تنتصر إرادة الحبِّ والسَّلامِ على قِوَى الشَّرِّ). بتلك التَّتمة الفراغيَّة تكون الكاتبة قد أشركت مُتلقِّيها بقصديّة حُلُمِها.

ها هو أدم الرّضمز برفقة ضلعته المفقودة (حَوَّاء) أنثى العشق، يُحاول في نضاله المرير ومقاومته التَّحرُّريَّةِ واستقلاله الذَّاتي العنيف إلى السَّعي مرَّتين بين (جبلي الرَّحمة)، أو بين شاخصي (الصَّفا والمَروَة). فهو مرَّةً يسعى بين هواجس ضياع صفا فردوسه السَّماوي الأَّول المطرود منه نتيجةَ خطأهما الفادح، واضطرابهما وعدم ثبات إيمانهما العميق وتخلخل ورسوخهما الفكري الذي اخرجهما عن جادة النعيم الأسمى. هذا النسق من السّعي جزء من فلسفة الكاتبة السّردية ورؤيتها التي تقول فيها: ((كَانَتِ الحّيَّةُ أَحيَلَ جَميعِ حَيواناتِ البَريَّةِ الَّتي عَملَهَا الرَّبُ الإلهُ، فَقَالتْ لِلمرأةِ: أَحَقَّاً قَالَ اللهُ لَا تَأكُلَا مِنْ كُلِّ شَجرٍ الجَنَّةِ؟ فِقِالتِ المَرأةُ لِلحيَّةِ: "مِنْ ثَمرِ شَجرِ الجَنةِ نَأكُلُ، وَأمَّا ثَمرُ الشَّجرَةِ الَّتي وَسطَ الجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لَا تَأكُلا مِنهُ وَلَا تَمسَّاهُ لِئِلَّا تَمُوتَا".)) (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبَّارُ، ص24).

ومرَّةً أخرى يسعى (آدم) جاهدًا بين مروة افتقاده الآسف المرير لضياع أرض موطنه الكبير (فلسطين) القداسة والعروبة تحت وطأة الاحتلال المُدَنِّس، ونفيه عنها اضطرارًا في رحلةٍ تُعدُّ من أقسى رحلات الشَّقاء والعذاب الكوني التي مرّ بها الإنسان الفلسطينيّ؛ لتحقيق حلم ذاته واستقراره المفقود، فضلًا عن شعوره بالاغتراب الذاتي والإهانة والإذلال الذي ينال من حريته وإنسانيته. فلسطين هي جنَّة عدنه التي يبحث عنها آدم. ((وَضَعَ اللُه آدمَ فِي جَنَّةِ عَدنٍ لَيَعمَلَهَا وَيَحفظَهَا.. لِفَرطِ حُبِّهِ لَآدمَ وَهوَ الَّذي قَالَ:" لَذَّتِي مَعَ بَنِي آدمَ". وَسَخرَ لَهُ كُلَّ مَا فِيها)) من نَعيمٍ. (إلى أن يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص23). وضياع فلسطين من آدم الذي هو كلِّ فردٍ فلسطيني ضياع كبير لجنِّة عدن الموعودة.

هكذا بدأت مشاهد دراما الحكاية الأولى للرواية عن حلم آدم وحواء المفقود الذي خامر مشاعرنا الإنسانية بحزن أسيف كقرَّاء، وسيطر على حواسنا البصرية والذوقيّة لكي نحيا معه لحظةً بلحظةٍ، ونعيش أحداثها الشيقة، ونحتفي بصراعاته الداخليّة المتشابكة التي جسَّدتها أصوات شخصيات الرواية المتنامّة؛ لتحقيق كلُّ شخصيّة من شخصياتها الذكوريّة والأنثويّة الثلاث: (آدم وحواء وحياة) حلمها الُأثير المنشود تحقيقه في ثلاثيّةٍ من الأحلام. الأول حلمُ (آدم) في أنْ تعود حواء إليه سالمةً، والتي تعني عودة الأرض لأصحابها الشرعيِّين. والثاني حلم (حياة) رمز الشَّعب أنْ تنال مرادها في تحقيق حبَّها الأثير، وعشقها الهائم للحُريَّة والتحرُّر من ربقة الموروثات المجتمعيَّة التقليديَّة القائمة. والثالث حلمُ (حَوَّاء) الأنثى, والأرض الخَصيبة بالُّجوع -كما أسلفنا مُتقدماً- إلى أحضان بيتها أدم.

تُصَرِّحُ أنَّهَا تَتَمنَّى "آدمَ" فَارسًا لِأَحلامِهَا.)) (إلى أنْ يٌزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 31).

ذلك لكون النسق العاطفي للحبِّ وتجلياته العشقيّة الشفيفة لا يكون مُناسباً إلَّا لباب الجامعة الإنسانيَّة عامةً، فهو معجُون بطينتها الصلصالية الحُرة ومخلَّقٌ بها تأصيلًا وتأسيسًا، ولا ينتمي بأيِّ حالٍ من الأحوال إلى أيةَ عقيدةٍ إثنيةٍ أو معتقد ديني سماوي، أو عرفٍ مجتمعي وضعي بعينه. فالحبًّ للحبٍّ لا للعقيدة الدينيّة لأنَّ الدين لله والحبَّ للإنسانية، وهو مطلق ومتاح لكلِّ ما هو إنساني يُعمٍّر أرض الحياة خيراً، وينشر رايات السلام البيضاء وئامًا وأمانًا في أرجاء دنيا المعمورة كافةً.

((كَانَ الفُراقُ الَّذِي دَامَ سَنواتٍ عِجافَ، إِلَى أَنْ بَزغتُ أنَا شَمسًا فِي حَيَاةِ آدمَ فَأَنرتُ كُلَّ خَلايَا اليَأسِ بِشِحناتٍ مِنَ الأملِ.. اِجتهَدتُ أنْ أَكونَ لَهُ الغَجريَّةَ العَاشقَةَ، الحُوريَّةَ الحَالِمَةَ، السُّنُونوَّةَ العَصِيَّةَ عَلَى اَلأقفاص واللَّبؤَةَ المَاهرةَ. اِجتهَدتُ ألَّا أُعاتبُهُ عَلَى ذَاكرةٍ لَيستْ لِلنسيانِ. حَواءُ كَانتْ عشقهُ الأَوَّلَ، أمَّا أنَا فَقدْ صِرتُ رَفيقَةَ حُلُمِهِ، وَأُمَّ ابَنتِيهِ أَحلامَ وأمل.)) (إلى أننْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 33).

إنْ يزهر الصبار، ص 62).

في إشارة صوريَّةٍ إلى أنَّ (الطَّائرة) في الصورة الأولى، هي (حَياة) المَرْأة المُحَلِّقةُ في تَمرُّدِها الاجتماعي على القيم، وهي(رِيتَا) الشَّاعرة الخفيَّة، وأنَّ (الخيطَ) المتينَ في الصورة الثَّانية يشي بالمجتمع أو الأهل أو الدِّين أو العرف التقليدي المأثور الذي يحدُّ من طيران المرأة الطائرة. ولم تكتفي بهذا المزج الشِّعري، بل استمرَّت (ريتا) في توحُّدها مع بطلتها في نضج خيالها الشعري:

رِيْحٌ خَفيفَةٌ-

لَمْ يَبقَ مِنْ طَائرَةِ الوَرقِ

إلَّا خَيطُهَا (إلى إنّْ يزهرَ الصَّبارُ، ص 63)

فسطور القصيدة الثّلاثة على الرَّغم من قصرها الاشتراطي الوجيز تُشير رمزيتها الدَّلالية البعيدة إلى تحرُّر(الطَّائرة) الورقيَّة الصغيرة، (حياة) المرأة من خيط لجامها الجامح، أو قيدها المجتمعي. وهي إشارة ضوئيّة سميائيَّة أخرى من الشَّاعرة إلى أنَّ المرأة كائن حرُّ لا تقف أمام أرادتها الذَّاتيَّة وعزيمتها القويَّة أيَّةُ عقباتٍ، أو حواجز تَحُولُ دونَ تحقيق مقصديات هدفها المنشود.

حتَّى تراها تقف خلف كلِّ حكايةٍ من حكايات مثلثها السَّردي الرائق. وتارةً أخرى تراها ظاهرةً لا خفيةً، وعلى وجه الخصوص في تماهيها الواضح مع شخصية (حياة) الزَّوجة الثّائرة المتمرِّدة على منظومة القيم الاجتماعيَّة والممارسات التقليديَّة الوضعيّضة التي تقف حائلًا دون تحقيق إرادتها الحُرَّة. يتمُّ ذلك التفاعل الفكري المتتابع من خلال الإفصاح عن دواخلها النفسيَّة واعترافاتها الشخصيَّة الوجدانيَّة المُعبِّرة عن جدلية الصِّراع الدَّائر بين الحركة الدّرامية لشخوصها والآخر:

سَجِّلْ أَنَا عَرَبِيٌّ

سَلَبتَ كُرُومَ أَجدادِي

وَأَرضَاً كُنتُ أَفلحُهَا

وَلَمْ تَترُكْ لَنَا وَلِكُلِّ أَحفَادِي

سِوَى هَذي الصُخُورِ

فَهَلْ سَتَأخُذُهَا حُكومًتُكُمْ؟ كَمَا قِيلَا (مَحمود درويش، إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 41, 42)

داخل مدونةٍ سرديَّةٍ عاصفةِ الحدث يتداخل فيها أسلوبيًا الدَّفق الشِّعري بالتَّشعير النَّثري في حُلةٍ روائيَّةٍ شائقةِ المظهر والجوهر، تذوب فيها الفوارق اللُّغوية، مثلُ سبيكةٍ ذهبيةٍ متماسكةٍ في تكثيفها الجُملي السَّردي القصير، واقتصادها اللُّغوي المُحتشد بومضاته الشِّعرية وقصصهِ القصيرة في فنيَّةِ التَّعبير.

((هَا أنَا لَا أَمشِي إِنَّمَا كَسُنَونَوَّةٍ أَطيرُ مُضمَّخَةٌ بِالحُبِّ. أُصافِحُ (عَينَ العَذراءِ)، أُصافِحُ أَجراسَ (كَنيسةِ البَشارَةِ)، أُصافِحُ الوُجُوهَ المُرهَقَةَ، وَالأزِقَّةَ الِّتي أَحفظُهَا عَنْ ظَهرِ حُبٍّ، فِي وَضحِ النهَّارِ أسيرُ، أَسِيرَةَ أَشواقِي، فِي وَضحَ الحُبِّ أَسيرُ، أَسيرَةَ ذِكرياتِي)) (إلى أنْ يُزهرِ الصَّبَّارُ، ص 102).

وعلى الرغم من أنَّ الرَّائية (ريتا عودة) كانت الناطق الفكري والتُّرجمان الحكائي السردي لأصوات أبطالها وشخوصها المتعالية، وحركات أفعالها الدراميَّة المتنامية في كلِّ حكايةٍ من حكايات مثلث الرواية التي لم تكن فيها مجانبةً لميزان الحياد السَّردي مع تلك الشخصيات الفاعلة التَّعبير، فإنَّها مع ذلك تمكَّنتْ باقتدارٍ ومهارةٍ حرفيةٍّ حاذقةٍ، وبصوتها الرَّائي الفذّ أنْ تخترق جدار المغيَّب والمهمَّش الواقعي السميك: ((كَمَوجةٍ شَارِدَةٍ أَعودُ إلَّى بَحرِي، هُويتِي وَذَاتِي. يَتقافَزُ بَينَ الحَنايَا هَذَا القَلبُ المُرهَقُ. يَتلُو عَلَيَّ تِلكَ الوَمضةَ الشِّعريَّةَ الَّتي أَعشقُهَا لِلرائعِ عَدنانَ الصائغِ:

"بَعدَ قَليلِ....

أَمرُّ

أِدفِعُ الحَياةَ أمامِي

كَعربَةٍ فَارغَةٍ

وَأَهتُفُ:

أَيُّهَا العَابِرُونَ

اَحذِرُوا أنْ تَصطَدِمُوا بَأحلَامِي")) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 102)

استطاعت إبداعيًّا أنْ تنقل لنا مشاهد حيَّةً فاعلة ومريرة من داخل الواقع الحسي المجهول، وأنْ تفكّ الزوجةَّ ثيمَ مغاليق أنساق المسكوت عنه من قضايا المجتمع الحيفاويّ العربيّ الفلسطينيّ، ولاسيَّما قضية بطلتها نواة الحبِّ المغيَّبة عن مشهد الصراع الثوريّ (حياة) الزَّوجة. المرأة الأنثى ذات الأصول الإثنيَّة المسيحيَّة، والتي من خلال علاقتها العاطفيَّة التي طوَّعت بها إرادة المستحيل وتحدَّت الخطوط العرفيَّة الحمراء، ترومُ الزَّواج من رجل عربي مسلم العقيدة والدين والانتماء؛ لتكسر حاجز التابو الأحمر الدّينيّ المجتمعيّ الصَّلب الغليظ الذي لا يمكن مقارعته إجرائيًا.

الصَّوتيةِ فِي الحَاسوبِ. كَان التَّوترُ بَاديَاً عَلَى مَلامحِ كُلِّ الوُجُوهِ.)) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 167).

على وفق ذلك، فإنَّ أصوات تلك الوجوه الشخصيَّة الثلاثة تحيا وتقاوم وتحتج وترفض بشدة الواقع الآني المرَّ في مناطق جغرافيَّة متباعدة مختلفة. فالبطل (آدم) في حيفا رهين المحبسين معتقلٌ ومُودَعٌ في السِّجن قيد المحاكمة النهائيَّة جرَّاء مقاومته العلنيَّة والسِّريَّة، ونشاطه المدنيّ السِّياسيّ، كما يخبرنا بذلك مقال الجريدة الذي تصفحته حوَّاء: ((اِعتقَلَتْ الشُّرطةُ الإِسرائيليَّةُ فَجرَ الخَميسِ النَاشطَ آدمَ. كَانَ عَدَدٌ مِنْ أفرادِ "الشَّاباكِ" وَبِرفقةِ قُوَّةٍ مِنَ الشُّرطةِ قَدْ دَاهمتْ مَنزلَ آدمَ قُرابةَ السَّاعةِ الثَّالثةِ مِنْ صَبيحةِ اليومَ الخميسِ؛ لِتنفيذِ أَمرَ الاِعتقالِ.)) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 139). الحقيقة المُلفَّقة لآدمَ مفادها الكاذب: ((إنَّ آدمَ مُتهمٌ بِمخالفاتٍ أَمنيةٍ خَطيرةٍ وَقضيةِ تَجَسَّسٍ وَالاتصالِ بِعميلٍ أَجنبِيٍّ.)) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص146). آدم معروف بعمله الوطني السياسي المُضاد.

(وحَوَّاءُ) المُبعدَة في دير مريم المجدليَّة للراهبات، المعزول بمنطقة جغرافية مختلفة، تبحث عن آدمها الأثير، وتفتِّش عن ضلعها الأول المجهول في مكان ما في الوطن: ((لَقدْ قَرَّرتُ أنْ أَستأصِلَ الحُبَّ مِنْ ذَاكرتِي، بَعدَمَا أَضنانِي البَحثُ عَنْ آدمَ.ة لَمْ أجدْ مَكاناً آمنَاً أَفضلَ مِن دَيرٍ لِلراهباتِ)) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 134). تؤكد حَّواء سبب هروبها: ((هَرَبتُ مِنْ حِصارِ نَظراتِ رَفيقاتِي وَأَنا أَبتلعُ دُموعَاً تَعَوَّدتُ طَعمَهَا المُرَّ مُنذُ ذَلكَ الفِراقِ الأسطوريَّ بَينِي وَآدمَ. لَمْ أَتمكنْ مِنْ جَمعِ شَتاتَ حُلُمي وَأنَا اَسترخِي تَحتَ شَجرةٍ الزَّيتونِ الوَارفَةِ فَي حَديقةِ دَيرِ الرَّاهباتِ.)) (إلى أنْ يُزهرَ الصَّبَّار، ص 133).

المتوالية في الحكم على آدم، مهَّدت الطريقَ سريعًا لحواء الحبَّ، وعبَّدته فنيًّا ودراماتيكيًا في تتبُّع أخبار كفاحه الثَّوري، ومن ثُمَّ، الاهتداء إليه عن طريق وسائل الإعلام السَّريعة: ((تَناولتُ جَريدةً مُلقاةً فَوقَ المُنضدةِ المُستديرَةِ. رِحتُ أُقلِّبُ الصفحات بِبُرودٍ. فَجأةً، [لفتَ]اِنتباهِي صُورةُ آدم! ظَننتُ أَنَّني أَستحضرُ آدمَ مِنَ الذَّاكرةِ كَعادتِي. جَذبتُ الجَريدةَ الَّتي حَدَّقتُ فَيها. بَلَى، إنَّهُ آدمُ...! غَريبٌ أَمرُ هَذِي الجَريدةِ مَنْ أتَى بِها إلينا؟)) (إلى أنْ يُزهِرَ الصَّبَّارُ، ص 138).

واللَّافت في تواتر هذا المشهد القصصيّ الحكائي النّسقي المتوثِّب في أحداثه وتوقُّعاته المحليَّة ومن خلال براعة المؤلِّفة (رِيتَا عودة) الفنيَّة والجماليَّة وجهد هيمنتها الأدبيَّة المَوْضوعيّ على الإمساك بأطراف الأحداث وحبك واقعتها (العِقِديَّةِ) دلاليًا ومعنويًا، وسبكها سبكًا لغويًا وبنائيًا محكمًا.

لأوِّل مرَّةٍ، ودون مُوعدٍ زمانيٍ مُسبقٍ للأحداث، التقى المثلَّث السَّردي لشخوص الرّواية الثلاثة وأبطالها الفاعلين: (آدمُ وحَوَّاء وحياةُ) في المثابة البنائية (المحكمة) للنظر والاستماع إلى قرار حكم المحكمة على آدم، يجمعهم مصادفةً بهذا التَّلاقي الحدثي المُدبَّر هاجس حبّ الوطن الغالب الكبير.

يا تُرى ما الذي تخبئه لنا الأديبة (ريتا عودة) في مفاجآتها الإدهاشيَّة الماتعة من التقاء المَرْأتين: حياة الأُمُّ والزوجة والحبيبة، وحواء العشق الأسطوريّ الأزليّ المُغيَّب لآدم في رواق سلطة الحكم على آدم البطل والزوج؟ هل يلتقي الخصمان النَّقيضان بسلام وودٍّ ومحبَّة ووئامٍ؛ إكرامًا وتضحيةً وإيثارًا وإجلالًا لموقف (آدم) المُشرِّف الذي لا يُحسد عليه ظُلماً دون ردَّة فعلٍ سلبيّة؟ أم يختصمانِ بدوافع الاختلاف ونوازع الحسد والبغضاء والكراهية، وغيرة النّساء العشقيَّة الشَّديدة للرجل آدم؟

كشواهدَ حيَّةٍ على أحداث روايتها الموضوعيَّة الفعليَّة، وأن تُسقطَ معانيها الدلَّاليَّة وتورياتها المعنويّة القريبة والبعيدة على حركة شخصياتها الفواعليّة، وفي رسم مشاهد لوحاتها الفنيَّة التجريديّة المتناظرة. هذه السياحة الفكريَّة للكاتبة تدلِّلُ على سعة ثقافتها المعرفيَّة المُكتسبة وحُسن اطلاعها الثَّقافي والأدبيّ الذي به تُعَضِّد فكرة سردياتها.

على وفق ذلك المنظور الفنَّي الإبداعي السَّردي لمعطيات المؤلِّفة، يمكن أنْ نعدَّ –نقديَّاً- مدونة (إلى أنْ يُزهِر الصَّبَّارُ) للأديبة الفلسطينيّة المتعدِّدة النَّشاط الفكري (رِيتَا عودة) من فئة الأعمال الرّوائية التاريخية والوطنية والسياسيَّة الواقعيّة المُؤَدلَجَة فكرًا وفلسفةً ورؤيةً وانتماءً، والمائزة إبداعًا وابتداعًا في نهج تفرَّدها بمشروعها الثّقافي الفكري المغاير في بدائله الثّقافيَّة وجديدهِ وجدَّتِهِ الفنيَّة. ذلك المشروع الأدبي التأصيلي الواعد والرَّافد بتجلِّياته اللُّغوية لخزائن سرديَّات المكتبة العربيَّة الثَّرة عموماً والفلسطينيَّة المحليَّة خصوصًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا