الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيخ سيد درويش في مرآة الأستاذ العقاد

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 10 / 5
الادب والفن


ر
الفنان الملتزم هادف وبنَّاء، ومُعمِّر وخَيِّر، يخدم الوطن بموهبته، ويكون فنُّه للشعب، فيقف معه في كل أزمة ومشكلة، ومن ثم فهو نعمة في حياتنا، وسراج يُنير لنا السبيل، فيُوقفنا على حالنا، ويستشرف مستقبلنا، مخففًا الآلام، ناشرًا الآمال، ومُحجِّمًا كل ما فيه تأييس أو تقنيط، وقاضيًا على المُحبطات والمُعوِّقات، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً!
ويعد الشيخ سيد درويش(1892- 1923م) مثالاً فريدًا لهذا النوع الإيجابي من الفنانين؛ فخلال عمره القصير، البالغ واحدًا وثلاثين عامًا، استطاع أن يكون الموسيقيَّ المصريَّ والعربيَّ العملاق، النبيل المحبوب، الحاضرَ بجاذبية في كل ربوع مصر، ثم في العالم العربي، حتى ُعُدَّ (أبًا) للموسيقى المصريّة والعربيّة، وكان من أوائل الفنانين الذين ربطوا بين الفن وأحداث وطنهم السیاسية والاجتماعية، وساند الطبقات الشعبية والفقيرة، و هو مَن لحَّن النشيد الوطنيَّ المصريَّ، ومن ثم لُقِّب بفنان الشعب. كما أن له أثرًا في إحياء فن الموشحات الأندلسية الفصيحة، بتلحينه إياها، ومن أكثر الموشحات التي نالت حضورًا عن غيرها لدى درويش: (يا شادي الألحان)، و(منيتي عز اصطباري)، و(يا بهجة الروح)، (صحت وجدًا)، (يا ترى بعد البعاد)، (حبي دعاني)، (زارني المحبوب)ـ، (اجمعوا بالقرب شملي)...وغيرها. ثم مات في 10سبتمبر سنة 1923م، تاركًا بصمة كبيرة في الموسيقى العربية.
ولعل أكبر دليل على سموق مكانة الشيخ سيد درويش في نفوس المصريين تلكم الرثائيات المتنوعة بأقلام كبار أدبائنا مثل أمير الشعراء شوقي(1868-1932م) في قصيدته(الشعاع النابغ)، ومثل الناقد الأدبي والفني الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد(1889-1964م)، في مقالته(سيد درويش)، المنشورة في كتابه (مراجعات في الآداب والفنون)، الصادر عام ١٩٢٥م، بعد رحيل الشيخ سيد بعامين، وفيها نجد الأستاذ العقاد يصطفي الشيخ (سيد درويش) ببحث تحليلي عميق، عن مكانته، وحياته، وطريقة ألحانه، وموقف السلطة المستبدة من رحيله، وجاءت أفكار هذه المقالة متسلسلة، مكونة من مقدمة وصلب وخاتمة، ففي (المقدمة) نجد تاريخ كتابة المقالة والدافع عليها، حيث يقول:" في مثل هذا الشهر، منذ عامين، مات السيد درويش. وإذا قلت السيد درويش فقد قلت: إمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان. مات والقطر كله يصغي إلى صوته، وسمع نعيه مَن سمعوا صوته ومَن سمعوا له صداه من مُرتِّلي ألحانه ومُرَجِّعي أناشيده، فما خطر لهم — إلا القليلين — أنهم يسمعون نبأ خسارة خطيرة، وأن هذه الأمة قد فُجِعَتْ في رجلٍ من أفذاذ رجالها المعدودين".
ففي هذه التقدمة نجد تلقيب العقاد للشيخ سيد بـأنه" إمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان". ثم يعلل الأستاذ العقاد هذا التلقيب التفخيمي بقوله:
" مات والقطر كله يُصغي إلى صوته، وسمع نعيه مَن سمعوا صوته ومَن سمعوا له صداه من مُرَتِّلي ألحانِه ومُرَجِّعي أناشيدِه"، فأثره الفني في الجمهور فاعل وصادع وجاذب، ويوضح الأستاذ العقاد دور الشيخ سيد الجمعي بقوله:" الأمة قد فُجِعَتْ في رجلٍ من أفذاذ رجالها المعدودين"...
وتأتي الفقرة الأولى من صلب مقالة الأستاذ العقاد لتفسر تأثير غناء الشيخ سيد وألحانه في ربوع القطر المصري كله آنذاك، يقول:" كان ذلك النابغة الفقيد — رحمه الله — قد نبُهَ ذكره قبل موته بعامين أو قراب ذلك، واشتهر اسمه وذاعت أغانيه وألحانه فطافت القطر أجمعه، وطبقت المدن والقرى وانبسطت منها مائدة سرور واسعة الأكناف، تناول منها كل غادٍ ورائحٍ، وتضيَّفها كل طارقٍ وواغلٍ، وكان لكل قلبٍ في عالم السماع نصيبٌ من قلب صاحبها، ولكل لسانٍ حظٌّ من وحي لسانه، ولكل مسمعٍ خبرٌ من أخبار روحه الهائم في أسعد ساعاته وأجمل أوقاته، فكان يرسل اللحن في الرواية أو القصيدة أو الأغنية الصغيرة، فما هي إلا أيامٍ حتى تتجاوب بها الأصداء في أنحاء البلاد؛ فيهتف بها المنشدون على الملاعب، وتترنم بها العازفات في أندية الأسر ومجالس البيوت، وينطلق بها الصبية في السبل والأسواق، وتغدو مصر السامعة كلها كأنها فرقة واحدة وقف منها السيد في منصة الأستاذ فهو يملي عليها وتسمع وهو يبدأ لها وتتبع؛ كلٌّ على قدر طاقته من الفن وعلى حسب حظه من جمال الصوت وحسن الأداء والإصغاء، وما بالقليل على الرجل الفرد في هذه الدنيا أن يُموِّن أمة كاملة بهذه المؤنة المُحيية، وأن يجلب لها سرورًا لا تجلبه لنفسها بما تصبح فيه وتمسي من جهاد الحياة، وأن يُهدي إليها ساعاتِ صفوٍ وأريحية ترتفع بها إلى ملأ الغبطة والنعيم، وترجح بأعوامٍ تنقضي في شقاء العيش، وأعمار تمضي في أَسْر كأَسْرِ الأنعام، وقيود كقيود السجناء".
وهذا هو الدور المأمول من كل فنان في الناس! فإن ترويح الفنان عن الناس وتسبّبه في ساعة سرور، أمر ناجع شاف، أو كما -يقول الأستاذ العقاد-: "إي والله إن ساعة سرور واحدة لهي ساعة حياة بل هي ساعة خلود، وإن ساعة خلود لهي أنفس من عمرٍ مُسخَّر وأغزر من وجودٍ كوجود الجماد يستوي فيه الدهر الطويل واللحظة القصيرة، وأجدى على النفس الشاعرة من كنوز الأرض وذخائر البحار، وما بالقليل على السيد درويش أن يموِّن أمةً كاملة بهذه المؤنة العلوية يومًا واحدًا لا أعوامًا عدة أو بعض عامٍ". كما يقول أمير الشعراء:
ملأ الأفواهَ والأسماعَ في ضجَّة المَحْيا وفي صمتِ الفَناء
حائطُ الفنِّ وباني رُكنِهِ مَعبِدُ الألحانِ، إسحاقُ الغناء
ثم ينتقل بنا الأستاذ العقاد إلى البكاء والتحزُّن والتأسُّف من عدم تقدير الشيخ سيد-عند الأمة- وإعطائه المكانة اللائقة به، فيقول:
"ولكن الأمة الكاملة — مع هذا — عجزت عن قضاء حق الرجل الفرد؛ فمات بينها، وهي لا تعلم أنها أُصيبَت من فقده بمصيبةٍ قوميةٍ، ولم تبالِ حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكراه كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم وُلِدُوا، والمشيَّعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبرٍ واسعٍ من هذه الدنيا، يُفسدُون فيها من أجوائها ما ليست تُفسده العظام النخرات والجثث الباليات. أ نقول مع هذا؟! بل ما لنا لا نقول: إن الرجل قد أُهْمِلَ في حياته وبعد مماته ذلك الإهمال القبيح لأجل هذا؟ أوَ ليست آدابنا هي تلك آداب الشرق الجامد الذليل الذي تعاورته الرزايا وران عليه الطغيان؟ أوَ ليست آداب هذا الشرق المسكين تعلمنا أن العزيز العظيم مَن يسيء إلى الناس، وأن المهين الحقير مَن يتوخى لهم الرضا ويوطئ لهم أسباب السرور؟" .
ويربط الأستاذ العقاد هذا التجاهل للشيخ سيد بالحالة السياسية المقهورة المنحدرة في عصره، فيقول: "أوَ ليس من شَرْع الاستبداد وسُننِ آدابه أن يكون الرجل عظيمًا؛ لأنه يطغى ويقهر ويكسر النفوس ويحني الظهور ويعفر الوجوه؟! أوَ ليس هذا أعظم ما رأينا من العظمة في هذا الشرق الآفل منذ علم أبناؤه أنهم صُغَراء حُقَراء فلن يكون الذي يُقدم إليهم الرضا والسرور إلا أصغر منهم صغرًا وأحقر منهم حقارة؟! بلى، واأسفاه! إن دفائن الاستبداد ما برحت عالقة فينا بدخيلة السرائر، ننفضها فلا تنتفض إلا ذرةً بعد ذرةٍ، ونزن المنفوض منها فإذا هو لا يزيد في الهباء ولا ينقص راكد ذلك التراث الدفين! فما يزال العظيم عندنا عظيمًا بإزرائه من الآخرين، وما يزال تمحيص السعادة لطلابها عندنا عملًا من أعمال الأذِلَّاء المُهانين، وأنت لا تعرف أنك في أمةِ أحرارٍ حقًّا كارهين للاستبداد حقًّا إلا إذا رأيت بينهم لعظماء المطربين شأنًا لا يقل عن شأن أندادهم ذوي المواهب والأعمال والأقدار".
ويعلل الأستاذ العقاد ذلك بقوله الحِكَمي الدالِّ: فإن المرء في مثل هذه الأمة لا يكبر إلا بما يمحض الناس من صفو وسعادة، ولا يسعدهم أحسن السعادة إلا بما يُحيي فيهم من نبيل الشعور وجميل الأمل ورفيع التفكير والتخييل؛ فهو إذا غناهم أحسن الغناءِ كان عندهم كمَن يفتح لهم أحسن الفتوحِ، ويسوسهم أحسن السياسة، ويعلِّمهم أحسن العلم، ويصلي بهم أحسن الصلاة، وهو كبير بنفسه؛ لأنه كبير الأثر في نفوس الآخرين بعيد المدى في تشريف الحياة وتطهيرها وتهذيب أبنائها وتحبيبهم في محاسنها ومطامحها ومسراتها، أما الأمم التي لا حظَّ لها من الحرية، ولا يد لها في تعظيم العظيم منها لأنه يعظم بينها غضبت عليه أو رضيت عنه، وأُعجبت به أو أنكرته. فتلك ماذا يبلغ من شأن المغني المطرب بينها؟! بل ماذا يبلغ من شأن كل مَن يسعدها ويُسرِّي عنها كروبها؟! إنَّ كروبها لَكروبٌ حقيرة، وإن أحقر منها لسعادتها، وإن أحقر من هذه وتلك لمَن يمسح عنها تلك الكروب ويجلب لها تلك السعادة! فلا غرو يكون فيها «الفنان» عامة والمغني خاصة خليعًا من خُلَعائها وماجنًا من مُجَّانِها، بضاعته أن يُضيِّع عليها وقت اللهو الذي هو فضلة من وقت العمل الضائع … أو العمل الذي لا يستحق أن يعمل، ولا يبيح الإنسان أن يعلو بهامته عن مراتب الحيوان، وهو إنما يضيع عليهم وقت اللهو بإحياء الرديء فيهم من الشعور والذميم فيهم من الأمل، والوضيع فيهم من التفكير والتخييل. فلا غبن عليه ولا نكران لحقه أن يعيش في هذه الأمم زحَّافةً آدمية تمشي على بطنها، وتحمد الله أنها لا تسحقها بأقدامها، وكذلك عَهِدنا المطربين والمغنين في مصر إلى زمنٍ غير بعيد".
ثم يخلص الأستاذ العقاد إلى عُلُوِّ مكانة الشيخ سيد في فنه، بقوله:" ولو كان السيد درويش واحدًا كآحاد هذه الفئة لما لِيمَ كبيرٌ ولا صغيرٌ على إهماله، ولا لحق هذه الأمة ضيرٌ من غفلتها عن تثمير مَلَكَاتِه وتكميل شوطه، ولكنه رأسُ طائفةٍ وطليعةُ مدرسةٍ؛ رأسُ طائفةٍ لم يتقدمها متقدم، وطليعة مدرسة لم يُسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى المصرية، ولا أحاشي أحدًا ممَّن اتصل بنا نبأهم في العصر الأخير. فضل السيد درويش — وهو أكبر ما يُذكَر للفنان الناهض من الفضل — أنه أدخل عنصر الحياة والبساطة في التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مُثْقلًا كجميع الفنون الأخرى بأوقارٍ من أسجاعه وأوضاعه وتقاليده وبديعياته وجِناساته التي لا صلة بينها وبين الحياة. فجاء هذا النابغة المُلهَم فناسب بين الألفاظ والمعاني، وناسب بين المعاني والألحان، وناسب بين الألحان و«الحالات النفسية» التي تعبر عنها، بحيث تسمع الصوت الذي يضعه ويلحنه ويغنيه فتحسب أن كلماته ومعانيَه وأنغامَه وخوالجه قد تزاوجت منذ القِدَم فلم تفترق قط، ولم تعرف لها صحبة غير هذه الصحبة اللزام".
ثم ينقد الأستاذ العقاد، بل يجلد، حالة الغناء والتلحين في عصره بقوله: ولم يكن الغناء الفنِّي كذلك منذ عرفناه، وإنما كان لغوًا لا مُحصَّل فيه وألحانًا لا مطابقة بينها وبين ما وُضِعَتْ له، فربما كان «الدور» مقصودًا به الحزن والشجو ولحنه أميل بالسامع إلى الرقص واللعب، أو مقصودًا به الجذل والمزاح ولحنه أميل إلى الغم والكآبة، ولم تكن الأنغام والأصوات عبارات نفسية وصورًا ذهنية، ولكنها كانت مسافات وأبعادًا تُقاس على كذا من الآلات وتُربَط بكذا من المفاتيح، ثم لا محل فيها بعد ذلك لقلبٍ يتكلم ولا لقلبٍ يعي عنه ما يقول، وعلى هذه السُّنة درج الغناء عهدًا طويلًا إلى أن أدركه المغنيان الشهيران عبده ومحمد عثمان فنقَّحاه بعض التنقيح بيْدَ أنهما لم يخرجا به من حيز التقليد، ولم يردَّا إليه نسمة الحياة، وكانا فيما صنعاه في هذا الفن كالذي يطلق الطائر السجين من قفصه، وينسى أنه مقصوص الجناحين كليل العينين يحس قضبان القفص حوله أينما سار".
ويوضح لنا الأستاذ العقاد طريقة الشيخ سيد في التلحين بقوله: "حدثني بعض أصدقاء الشيخ سيد الذين حضروه في تلحين أدواره ومقاطيعه أنه كان إذا قصد التلحين أخذ الورقة التي كُتِبَ فيها الكلام شعرًا أو نثرًا، فقرأها في نفسه قراءةَ متفهمٍ متأملٍ يستشف روح معانيها وإيماءات ألفاظها ومضامين أغراضها، ثم يتلوها جهرةً؛ لتصحيح كلماتها وفواصلها، ثم يرفع صوته مؤدِّيًا كل جملةٍ بما يوائمها من لهجة الدهشة أو الغضب أو الحنان أو الفرح أو الزهو أو الوجوم، فإذا تمَّ له ذلك هداه اختلاف اللهجات في تلاوة الجمل إلى اختلاف الألحان التي تناسبها، فيخلو بنفسه هُنَيْهَةً، ثم يعود إلى رفاقه وقد أفرغ عليها ألحانها الدائمة فلابَسَتْها بعد ذلك التفهم والإنعام ملابسةَ الإهاب المشرق الصحيح لجوارحه السليمة القويمة، فتسمعها كأنك تسمع تفسيرًا موسيقيًا لدقائق المعاني وكوامن الإحساس، أو ترى صورًا طيفية تنسجها لك الموسيقى من خيوط النغم ونياط القلوب، وطريقته في استيحاء الموسيقى طريقة العبقريين الغربيين؛ إذ يستفتحون أبوابها بين مناظر الليل والنهار وأصداء الرياح والأمواج ولمحات البروق والنجوم، فكثيرًا ما كان يبيت عند شاطئ البحر لياليَ متوالياتٍ يصغي ويتوسم ويغمغم ويترنَّم إلى أن يسلس له النشيد كما يريد، وكثيرًا ما أَحْيَى الليل إلى الفجر يستقبل أنداءه وأنواره، ويترجمها شدوًا بديعًا يطلع على الأسماع بمثل الفجر في حُلَل الأنداء والأنوار، ولحنُه في رواية هدى حيث تظهر أشباح الأجداد عند القناطر الخيرية في مطلع الفجر قد صِيغَ في ذلك المكان في تلك الساعة بعد ليلةٍ ساهرةٍ لم يغمض له فيها جفنٌ، ولم يَكُف لحظة عن التهيؤ «للقدر» المأمول والوحي السعيد. وكان الشيخ سيد يستعير بعض الأنغام القديمة؛ ليُعيدها على أغانٍ جديدةٍ هي بها أشكل وعليها أَكْيَسُ وأجمل، ثم لا يُخفي الاستعارة ولا يدَّعي ما ليس له على عادة بعض الأدعياء عندنا، فإذا وضع اللحن مبتكرًا أو مستعارًا حرص غاية الحرص على أن يؤديه المنشدون كاملًا مضبوطًا كما أُوحِي إليه ونقل عنه، فلا يطيق أن يتصرف فيه متصرف أو يعبث به عابثٌ من عشاق التزويق والترطيب. وبلغ من فرط غيرته على صناعته أنه سمع ليلة إحدى الفِرَق تُنشد ألحانه في بعض الروايات فهاله ما وجد فيها من التحريف، وجُنَّ جنونه من الغيظ والهياج وجعل يصيح: أهذه موسيقاي؟! أهذه موسيقاي؟! ثم أُغميَ عليه لتوِّه، وقيل لي: إنه ظل بقية حياته يُرغِّبونه في العمل مع تلك الفرقة بالأجر الغالي والتوسل الكثير، وهو يأبى عليهم أشد الإباء"
.وهذا دال على صدق الشيخ سيد في فنه وأصالته في موسيقاه، وغيرته على إبداعه، وحرصه على أن يصل إلى الجمهور صافيًا دقيقًا، لا تلويث فيه ولا تشويه له، ولا تسطيح! على نح ما قال أمير الشعراء:
يَحمِلُ الفنَّ نَمِيرًا صافيًا غَدِقَ النبعِ إلى جيلٍ ظِماء
ويصف الأستاذ العقاد الشيخ سيد وصفًا جسديًّا وخلُقيًّا، بقوله: "وترى السيد فترى منه رجلًا موسيقيًّا بخُلقه وخليقته، فكان رحب الصدر، قوي الحنجرة، أهرت الشدقين، واسع المنخرين، عالي الجبين، وكان ما شئت من جزالة الصوت ووفائه وتجوُّفه وامتداده ومطاوعته إياه في أصعب الألحان وأسهلها مطاوعةً لم نسمعها لمغنٍّ غيره، وجُبِلَ الرجل على شدة الإيمان وطِيب القلب؛ فكان يتصدق على الفقراء، ويصفح عمَّن أساء إليه، ويؤثر الخير والحسنى، ويبتعد عن اللجاجة والأذى، وآفته الكبرى أنه استهتر ببعض المخدرات في أول شبابه؛ فأفسدت صحته على ما فيها من قوةٍ عظيمة وصلابةٍ نادرة وعالج الإقلاع عن هذه العادة الوبيلة قبل موته، فاعتزم التوبة الصادقة عن المخدرات جميعًا، ولكن لم تفده هذه النية؛ لأنه مات بعد ذلك بأيامٍ قليلةٍ في شَرْخ شبابه، ولم يتجاوز الثلاثين من عمره...
وينتقل الأستاذ العقاد في مقالته إلى بيان ميلاده ونشأته وشيوخه المؤثرين فيه، وأنه طبع على حب التجديد وسلامة الذوق، إلى أن يأتي ختام المقالة دالاًّ على الطموح الوثَّاب لدى الشيخ سيد لتطوير موهبته عن طريق رغبته في دراسة الموسيقى عند الغرب، يقول:" ولم يكن هذا الإقبال وهذا الإعجاب لِيخدعاه عن جلالة فنه الذي وقف عليه حياته، أو يميلا به إلى الدعة واستمراء هذا الربح الوافر المضمون، فتاقت نفسه إلى التبحر في فنون الموسيقى العالية، وأجمع عزمه على ادخار المال والسفر إلى معاهد الغرب المشهورة؛ ليستقصي فيها أصول الموسيقى وفروعها على كبار الأساتذة المُنشئين، ولو أُملي له في العمر حتى ينجز هذه العزيمة لكان لمصر منه نابغة في فن الموسيقى وعلمها لا يقصر عن أكبر النابغين بين أعلام الغربيين، ولكنه فُوجئ بالموت الباكر وهو يتأهب على أبواب مستقبله المجيد، فذهب بموته ذلك الاجتهاد المكسوب وذهب معه ذلك الأمل المنظور. على أنه إذا كان قد فاته أن يسبح في آفاق الموسيقى العالية، وأن يهبط إلى سراديب أسرارها الخفية، فإن له لحسنات في بعض الأغاني والألحان الصغار، لا ندري كيف كان يسبقها السابقون ولو اجتمع لها كل مَن في الأرض من المنشئين والعازفين؟!. وللأستاذ العقاد مقطوعة شعرية بعنوان(موسيقي خالد)، ونظمها في مناسبة الذكرى الثانية عشرة لرحيله، يقول فيها:
واذا المسارح راجعت أيامها لاذت بفرد منه لا يتكررُ
قالوا تفرنج بالغناء وإنما هو مؤثر في الفن لا متأثرُ
عرف الأغانيْ واللحونَ كما جرت في عُرفِ مَن نطقوا بهن فعبّروا
أمم اذا غنت فليس غناؤها لغو المجانة بل معان تؤثر
وهكذا عرفنا الأستاذ العقاد في مقالته وشعره بالشيخ سيد درويش تعريفًا فنيًّا، وتعريفًا تاريخيًّا، وتتبع نشأته والمؤثرات فيه، وبمكانته، ومقامه، ودوره الوطني، وأنه رأسُ طائفةٍ وطليعةُ مدرسةٍ؛ رأسُ طائفةٍ لم يتقدمها متقدم، وطليعة مدرسة لم يُسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى المصرية، وأنه لم يأخذ حقه المناسب لجهده وأثره، بسبب موقف النظام الاستعماري المستبد منه باعتباره مناضلاً مصريًّا فاعلاً! أو كما قال أمير الشعراء:
بُـــلــبـــلٌ إســكــنــدريٌّ، أيــكُـــــه ليس في الأرضِ ولكنْ في السماء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد