الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة المثقفين العرب ، أزمة الضمير العميقة لإحياء المقاومة الاجتماعية المتعددة الاشكال .

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 10 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


أولا ان المثقف العربي ، ليس هو النخبة العربية ، فالمثقف العربي غالبا يميل وينخرط في الشأن العام لبلده ، بالانتماء الى الأحزاب السياسية ، وبالأخص منها أحزاب اليسار ، فالمثقف العربي هو الشخص المسيس المرتبط بالشأن العام لبلده ، ليصبح ضميره الحاضر وضميره الغائب . فالمثقفون العرب ، مثل المثقفين الغربيين وحتى بداية النصف الثاني من الثمانينات كانوا يساريين الانتماء ، تنظيميين او فكريين متأملين ، بعد ان عرفت الساحة الثقافية منذ الثمانينات مثقفون من طينة أخرى بدأت تحتل صدارة البحث الثقافي من زاوية طبعا ليست يسارية ، بل مضادة لها ، وهم من اطلق عليهم المثقفون العرب ، توصيفات دينية كمثقفي الإسلام السياسي ، وبعد ان كثر عددهم خاصة عندما تخصصوا في مقارعة ومعارضة الفكر اليساري بدعوى انه دخيل ، ولتنتشر بعد تركيز الفكر الاسلاموي السياسوي في الحقل الثقافي الذي تخصص لمعارضة الخطاب اليساري ، ثقافة اسلاموية كانت تناصر في غالبيتها الأنظمة السياسية التي وظفتها في مجابهة الفكر اليساري الذي كان يسيطر على الساحة الثقافية ، وله كلمة الفصل في الجماعات والكليات والمدارس العليا ، التي بدأت تبتعد عن اليسار بأشكاله المختلفة ، ولتصبح قلاعاً للاسلامويين ، يشنون منها هجوما على المثقفين الياسرين ، وعلى التنظيمات التي كانت تستقطبهم ،وتستعملهم كمحامين وكمدافعين عن الفكر اليساري والثقافة اليسارية التي أصبحت تزاحمها الثقافة الدينية التي شرعنت لاعدام المثقفين المناصرين للعقل بدعاوى مختلفة .. فاسم المثقفين العرب اليوم في العالم العربي ، يرمز الى تلك المجموعة من الناس الت تتميز عن غيرها ، بانها تجعل من التفكير في الشأن العربي، والشأن العام عموما ، احد همومها الرئيسية ، وتشارك في الصراع الاجتماعي والسياسي ، من اجل دفع هذا الواقع البئيس حسب الرؤى التي تراها ، مشاركة قد تتخذ اشكالا مختلفة سياسية وفكرية ، وان تدنى عددهم الى فاصل الهامش مقارنة من الستينات والسبعينات وحتى النصف الأول من الثمانينات . وهو ما يتفق ومفهوم النخبة الانتلجانسيا الكلاسيكية ، ويعني ان هذه المجموعة ليست بالضرورة طبقة واحدة ، ولا فئة متفقة الأهداف والآراء ، ولا مجموعة حزبية او سياسية او فكرية . كما انها لا تعني أولئك الذين يمارسون مهنة الكتابة او الادب ، او أصحاب القلم . وانما هي مكانة اجتماعية سياسية ، او وظيفة في النظام الاجتماعي ، يقوم بها جمع متميز من حيث الأهداف والعقائد والأصول الاجتماعية ، من مفكرين وغير مفكرين . وهذا يعني بالضرورة ، ان لهذه المجموعة المتنوعة موقفا سياسيا ، وممارسة سياسية إيجابية ، سواء اتمت هذه الممارسة من خلال العمل الحزبي ام من خارجه .
ان المثقف الساكن الذي لا يهتم بالشأن العام ، طبعا لا يدخل ضمن هذه الفئة ، ولا يسمح لنا بالحديث عن المثقفين كفئة متميزة . بل ان شرط هذا الحديث هو وجود الاهتمام السياسي عند هؤلاء . سواء كانوا مفكرين او مديرين او سياسيين او مهنيين ، مثل المحامين والأطباء و المهندسين الخ .. هذا هو بالضبط المعنى الكلاسيكي لكلمة الانتلجنسيا النخبة التي تترجمها كلمة المثقفين ، لكن بمطابقتها مع مفهوم العمل الفكري والثقافة كميدان نشاط مهني متميز .
ان أي مثقف ، مهما كان كبيرا ، ليس بالضرورة عضوا في الانتلجنسيا ، فهو لا يصبح كذلك الا اذا حقق الشرطين المذكورين : القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي السياسي ، والمشاركة في تغييره ، وهما مترابطان . وهذا الهمّ الواحد ، وليس التكوين الواحد ، هو الذي يوحد هذه الفئة المقسمة ماديا وسياسيا ، ويجعلها مركز تداول قويّ للأفكار والرؤى فيما بينها ، ويخلق لديها مع الوقت اطارا واحدا في التفكير وطرح المسائل ومواجهة المشكلات . وفي هذه اللحظة تكون الانتلجنسيا قد وصلت الى قمة الدور الذي يمكن ان تلعبه في المجتمع . وبهذا المعنى ، فان الدور الأكبر لها هي ان تبلور الرؤى والأفكار والخطط والاستراتيجيات الممكنة لكل اطراف الصراع الاجتماعي معا ، وان تسمح بتجاوز هذه الرؤى الجزئية في الوقت نفسه ، وتوحيدها في تيارات قوية قابلة للحوار والتفاهم فيما بينها ، ثم للتوصل الى مواقف موحدة اجتماعية .
ان قوة الانتلجنسيا نابعة اذن بالضبط من انها ليست فئة مستقلة عن الطبقات والأحزاب والمصالح المتعددة المتعارضة التي تقسم المجتمع ، وليست مقطوعة الصلات فيما بينها ( النخبة المثقفة ) في الوقت نفسه . انها تجسيد لمفصل من مفاصل المجتمع ، او هي في الهيئة الاجتماعية بمكانة الغضروف في الاجسام المُتعضّية الذي يحتل مكانة متميزة بين العظم واللحم ، ويعطي للجسم المتعضي خواصه في المرونة ، التي تعني هنا سرعة الحركة والانتقال والتغير . وفي المجتمع تشكل هذه المفاصل نوعا من البرازخ التي تكون ملتقى التناقضات والتركيبات المتباينة ، وتسمح للمجتمع بالتفاعل والتجاوز العضوي لهذه التناقضات . انها الميدان الذي يتيح لجميع المصالح ان تكون مفكرة ، وان تتصارع وتتحاور وفي الوقت نفسه ان تلتقي ليتألف منها الموقف الجمعي العام . فهي لابد ان تكون مرتبطة بالمصالح المتميزة الخاصة و الطبقية من جهة ، ومستقلة عنها في الوقت نفسه ، نتيجة لما يشكله الشأن العام عندها من همّ سياسي . فلو كانت طبقة مستقلة لأصبحت مجموعة مصالح مثلها مثل المجموعات الأخرى ، ولفقد المجتمع ميدان انعكاس جميع المصالح الجزئية في منظور الكل ، وفقد الأداة التي تسمح بتداول الأفكار والقيم الضرورية ، لتوحيد هذه المصالح في الوقت نفسه .
ولو كانت غير ذات استقلالية فكرية عن هذه الطبقات ، أي لو لم يكن تداول الأفكار فيما بينها اقوى من تبادل المنافع داخل الطبقة التي تنتمي اليها ، لما امكن لها ان تخرج من جلدها ، وتصعّد المصالح الجزئية في المجتمع وتخرجها من اطار الانغلاق الضيق على نفسها . ولهذا ، فان القضاء على هذه المفاصل الحيوية التي تشكل الروح بالنسبة للبدن الاجتماعي ، يحرم المجتمع من القدرة على انتاج نفسه من جديد ، ويعطي لحركته طابع الميكانيكية القاسية . والقضاء عليها كان وما يزال الهدف الأول للنظم المتسلطة ، بما يؤمنه لها من حرمان المجتمع من آلية التوازن الأولى والتفاعل ، وبالتالي وقف الحركية الاجتماعية واغلاق افق أي تغيير .
ويؤكد التاريخ ان دور الانتلجنسيا يزداد في المجتمع بقدر ما تكون المصالح الطبقية ضعيفة التبلور سياسيا . والمثقفون هم الذين يقومون في هذه الحالة بالجزء الأكبر من العمل التنظيمي السياسي ، وهم الذين يبنون الأحزاب ويخططون للتغيير ، كما حصل في روسيا ، والصين ، والعراق ، وايران ومعظم ثورات العالم الثالث .
بالعكس من ذلك شهدت الدول الاوربية الصناعية ، إحباط المثقفين بشكل دائم تقريبا ، لان التكتلات السياسية كانت دائما مستندة الى قاعدة قوية من أصحاب المصالح الواضحة من الرأسماليين والصناعيين . وفي هذه الحالة لم يكن امام المثقفين الذين يريدون لعب دورهم في المجتمع الا الانضمام الى الأحزاب اليسارية . لكن بالمقابل ، إن ضعف التركيب الطبقي المصالحي الواضح في المجتمع ، بقدر ما يزيد من الدور السياسي المباشر للنخبة المثقفة ، يضعف من دورها التخميري الفكري والتأملي الضروري للتوحيد وللتوصل الى الاجماع . وسبب ذلك انها تكون هي الفاعل الأساسي في هذه الأحزاب ، ولها مصلحة اذن ان تتماهى معها وتتمسك بها ، مما يضعف هامش استقلالها الذاتي ووحدتها ، وبالتالي قدرتها على تجاوز الصراع السياسي اليومي والتكتيكي الى المبادرة الاستراتيجية ، ويزيد من فرص واحتمالات انقساماتها العميقة وتفتتها حسب كتل المصالح التي تبنيها لنفسها . ان تزايد دورها السياسي المباشر يتم دائما على حساب تراجع دورها الفكري ، وعلى استقلاليتها النسبية عن تكتلات المصالح الجزئية ، ومن ثم على حساب إمكانية التداول المكثف بين المصالح المتباينة الموصل الى الاجماع الوطني .
ان القوة الكبرى للانتلجنسيا نابعة من كونها همزة وصل ، ومركز او شبكة تداول للأفكار، والقيم والرؤى التي تقود الى تنقية الخيارات الاجتماعية ، وتحقيق الغلب العقائدي ، ومن ثم تأمين الوحدة الضرورية للعملية السياسية .
وفي المجتمع العربي ، لعب المثقفون دورا بارزا في العمل السياسي في العقود الماضية ، وكوّنوا هم انفسهم معظم الأحزاب الجديدة القومية والثورية واليسارية ، ثم أخيرا ، وفي سياق مختلف اليوم ، الإسلامية . وقد أدى ذلك الى اضعاف اكبر لموقع الأحزاب التقليدية المحافظة ، التي كانت تقوم على قاعدة قوية من ملاك الأرض والتجار الأقوياء . وقد استمر هذا الوضع تحت قيادة الأنظمة العسكرية الثورية ، التي لم يكن ضباطها الوطنيين الاحرار ، ينظرون الى انفسهم نظرة مختلفة ، وانما كانوا أعضاء في هذه الانتلجنسيا ، سواء احتفظوا بلباسهم العسكري ، أو تخلوا عنه .
لقد كانت العسكرية مهنة كغيرها لا تقف حائلا امام القيام بدور الانتلجنسيا . لكن هذا الوضع لم يدم طويلا . ويبدو لي ان ازمة المثقفين العرب ، قد بدأت ونمت تدريجيا ، مع تحول الأنظمة الجديدة الى تكتلات مصالح حقيقية ملتفة حول الدولة ، لا هدف لها سوى الحفاظ على هذه المصالح . وقد أدى هذا التحول في نظري الى عدة أمور:
أولهما انقسام وتقسيم الانتلجنسيا ، وتشتيتها العملي ، وافقادها البوصلة التي كانت تمثلها المواقف والخيارات والرؤى الأيديولوجية التي صاغتها من قبل . ان ما حصل هو نوع من الفطام قبل الأوان ، او كما نسميه بالتيتّم الاجباري للانتلجانسيا ، وسقوط اوهامها القومية والاشتراكية واليسارية . وقد شكل هذا ضربة حقيقية لمعنوياتها .
وثانيها ، ومع تفاقم الطابع الدكتاتوري لمعظم هذه الأنظمة ، وبقدر ما قادها تبلور قاعدتها الطبقية اكثر ، والامساك بها من قبل أصحاب المصلحة الحقيقية فيها ، فقد ضيقت من هامش مبادرة المثقفين ، وفرضت عليهم الاختيار بين التحول الى أدوات ووسائل في يد الطبقة الجديدة والنظام ، او الخروج على النظام ، والتحول الى بناة لأحزاب معارضة غير مشروعة ، والقبول اذن بالتخلي عن كل شيء ، والتعرض لشتى أنواع القهر والاضطهاد ، بما في ذلك " الشهادة " المجانية ، دون أمل بشيء ، او قدرة على تحريك شيء ، وهو الوضع الذي نعيشه مع النظام المخزني القمعي العدو لأيّ شكل من اشكال الديمقراطية السائدة في العالم .
ان ازمة المثقفين نابعة في نظري المتواضع ، من نجاح النظام العربي في تجميد وتكسير الدينامية الاجتماعية التي تتركز في هذه المفاصل الاجتماعية الحساسة جدا ، او هذه البرازخ ، والتي لا قيمة للمثقفين الا بلعب دور الدينامو فيها . فقد فرض عليها القطيعة اتجاه السلطة التي تريد استخدامهم المحض كأدوات ، واتجاه الكتلة الكبرى من الشعب التي ، بسبب فقدانها الايمان بنفسها وقدراتها ، تنتظر منهم الشهادة والقيادة ، وتنظر اليهم نظرتها الى المهدي المنتظر القادر بعلمه ومعرفته ونوره على تحقيق التغيير ومقاومة السلطة وحل مشكلة البؤس والقهر .
ومع دوام هذه القطيعة واستمرارها منذ بداية السبعينات ، وانعدام اية فرصة للعب دور في السلطة او في المعارضة ، ومع تحول كل تفكير جدّي بالشأن العام ، وكل عمل سياسي ، الى محرمات وجريمة ، لم يعد امام المثقفين ، او امام القسم الأكبر منهم ، الاّ الالتئام على انفسهم ، والانغلاق عليها ، وتكوين نوع من الطائفة وليس الطائفية الصغيرة المضطهدة والمحبطة ، التي لا تطمح في لعب أي دور عام وهام ، وليس لها من أمل اكثر من ان تحقق وجودها ، وتهتم بشؤونها الخاصة ، تماما كبقية طوائف المجتمع الأخرى . ان المطلوب منها ان تتحول عن الشأن العام ، لتصبح مثل الحدادين ، والنجارين ، وأصحاب الجلد ، والمهن الأخرى ، طائفة مهنية محترفة للكتابة في مجتمع مركب على الأصناف والطوائف ، مثل تجمعات القرون الوسطى .
فالسياسة فيه ليست شأنا عاما ، وانما هي من الشؤون الخاصة ، وتشكل هي ذاتها مهنة او حرفة تتوارث ، وتنظم طائفيا وأصنافياً كما تنظم طوائف الحدادين ، والنجارين ، والصاغة ، والتجار . وهنا يكمن في الحقيقة مقتل الانتلجنسيا ، ومقتل المثقف المرتبط بالشأن العام .
ولو تألمنا في هذا الوضع قليلا ، لوجدنا ان المشكلة الكبيرة الراهنة للمثقفين لا تكمن ابدا في نقص انتاجهم الفكري او الادبي ، او في غياب الابداع او روح التجديد عنه ، ولا تكمن كذلك في حرفة الكتابة ، او في الكتابة كمهنة أدبية ، او كحرفة معيشية ، بل يمكن القول ان الكتّاب لم يكونوا في أي مرحلة اكثر غنىً وازدهارا مما هم عليه الان ، ولم يتمكنوا قط في أي حقبة ماضية ، ان يرتفعوا الى الوضعية " المريحة " التي اتاحها لهم الانفاق الكبير من قبل الأنظمة او الدول على الصحافة او النشر بشكل عام . انما تكمن أولا وأخيرا فيما يمكن ان تسميه " خصي " المثقفة السياسي ، وهو الذي يزيد من الحجم والصحة العامة للحيوان ، مع افقاده في نفس الوقت نفسه كل شوكته وحيويته ومعنوياته .
ان حرمان المثقفين من لعب أي دور سياسي ، أي من الارتفاع الى مستوى العمل العام والعمومي ، يعني " كسر سمهم " وجعلهم كالأفعى التي انتزع نابها ، وسيلة للّعب والتسلية وتخويف الصغار .. وهذا يعني حرمانهم من تحقيق انفسهم في المستوى الأهم من وجودهم باعتباره بالأساس ، وبعكس ما هو سائد في المهن والحرف الأخرى ، مركز تكوين العام وتأمله لنفسه ، وبلورته لروحه العميقة . أي بوصفهم همزة وصل ، او العصب الرئيسي في المجتمع ، تفكيرا وردود أفعال . ان الوضع يكاد يشبه في هذا الميدان الشلل الناجم عن فقدان الجسم لأيّ حافز مادي او معنوي . انه يكبر بيولوجيا ، ويتضاءل نفسيا ومعنويا واخلاقيا . ذلك ان الشأن العام ، هو ميدان التحقق والكبر الأخلاقي والمعنوي الوحيد .
في الواقع ، ان ما يجعل المثقفين كتلة فاعلة ، ويعطيهم دورا متميزا في المجتمع ، ليس الفكر وحده ، او العمل الفكري الادبي والفلسفي بشكل عام ، ولا السياسة بوصفها انتماءً او ممارسة في اطار منظم ، في اتجاه اخذ السلطة او التعامل بها ، او في اتجاه الإصلاح السياسي والأخلاقي ، وإنما قدرتهم على الربط بين الميدانين ، والتحول الى برزخ تلتقي فيه وتمتزج مياه بحرين لا قرار لهما ، ليتشكل احد المفاصل الأساسية ، والتي لا غنىً عنها للهيئة والجسم الاجتماعي . فيحفظ له بذلك التوازن والرؤية والمقياسية والمرونة المطلوبة جميعا من اجل تكوين ملكة التجدد والتكيف والتأقلم العام مع تغير الظروف والتاريخ .
فإذا غاب المنظور السياسي ، تحول المثقفون الى محترفي كتابة ، واذا غاب المنظور الفكري والتأملي ، تحوّلوا الى محترفي سياسة ، بمعنى البحث اليومي على المنافع والمصالح الشخصية . وكلاهما نشهده بقوة في مجتمعنا نتيجة لانحطاط السياسة والثقافة معاً ، وتحولهما من التزام الى مهن للمعاش .
هذا هو الاطار النظري والتاريخي لازمة المثقفين العرب ، وهي جزء من الازمة العامة للسياسة والمجتمع العربيين .
لقد زاد الحديث في الأعوام الماضية عن خيانة المثقفين ، وتعاملهم مع السلطة البوليسية في شقها السياسي ، وزاد بالمقابل الحديث عن ضرورة فصل الثقافة عن السلطة السياسية ، وابتعاد المثقفين بشكل عام عن السلطة . وفي اعتقادي ان هذا ليس هو الطريق للخروج من الازمة . ان المثقفين ليسوا من خارج المجتمع ، ولا فوقه ، ولا تحته . وهم لا يعانون كمجموعة شديدة الحساسية في الجسم الاجتماعي اقل مما يعانيه غيرهم من الفئات . بل ان وضع المثقف اكثر هشاشة بكثير من وضع الحرفي ، لانه موجود في قلب العام والشأن العام ، دون حماية ، حتى فيما يتعلق بتأمين ضرورات الحياة الأولية . وهذا ما يجعل إمكانية الضغط عليه قوية وسهلة . والهدف ، انه لا ينبغي طرح موضوع المثقفين من وجهة النظر الأخلاقية الفردية فقط ، بالرغم من أهمية هذه الناحية الأخلاقية عموما وفي كل الأوضاع ، ولا من زاوية الاستقالة المعنوية للعمل الفكري او للمثقفين من السياسة . فالأمر يتجاوز الأوضاع العادية التي يمكن البحث فيها عن العلة في الفرد ، لتتحول الى مسألة اجتماعية تخص النظام العام كله ، وطريقة عمله ، والمجالات المفتوحة فيه للعمل السياسي والفكري معاً ، والعمل والإنتاج بشكل عام . بل تتعلق في الإجابة على سؤال فيما اذا كان ما نتحدث عنه يشكل نظاما مدنيا بالمعنى الحرفي للكلمة ، أي نظاما مستندا الى حد ادنى من المواضعة والنظر العقلي الإنساني ، وليس ثمرة مباشرة وطبيعية لسيطرة الأقوى كما في الاجتماع الغريزي .
ان من غير الممكن والمشروع ان نعتقد ان المثقفين يمكنهم الخروج عن النظام او تجاوزه ، ومن ثم ان نعتقد باستثنائهم من الخضوع ، مثلهم مثل غيرهم ، لقوانين هذا النظام . بل ان وضعهم الدقيق جدا يدعلهم اول من يتأثر بتدهور الطابع القانوني والعلائقي ، أي المدني ، للنظام الاجتماعي ، وذلك تماما بعكس ما يعتقد الناس من ان قوة مركزهم الاجتماعي تحميهم من الاضطهاد .
انهم يصبحون عرضة للقمع الشديد بقدر ارتفاع مكانتهم الاجتماعية ، وبالتالي إمكانية تأثيرهم في المجتمع . وربما ظهر ذلك بشكل اقل اليوم ، لكن فقط بسبب بعض الظروف التي يكون فيها النظام السياسي ضعيفا جدا مع اعتماده على شرعية خارجية ، وخوفه من موقف الرأي العام الغربي .
اما في حالة شعور النظام بقوته الداخلية ، او عدم اهتمامه بالرأي العام الخارجي ، او ضلوع هذا الرأي معه ، فإن قتل المثقفين ، كما تدل على ذلك تجارب العقود القليلة الماضية في الوطن العربي ( تعرضت لأربعة محاولات اغتيال ، اثنتان في عهد الحسن الثاني ، واثنتان في عهد محمد السادس ، وبالحجة والاذلة الدامغة ، والشهود موظفين سامين طلبوا مني عدم السفر خارج المغرب ، ولا يزالون على قيد الحياة ) ، كما في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ، يصبح الهواية المفضلة لأنظمة الطغيان . وهكذا راينا مرارا كيف انه في كل مرة كانت تضرب فيها الحريات ، يصبح المثقفون اول من يتعرض للقمع وللاغتيال .
وبالمثل ، في كل مرة تتدهور فيها الأوضاع المادية للمجتمع ، ويصبح فيها من الصعب تأمين المعاش ، يكون المثقفون في طليعة المحتاجين والمعوزين ، باستثناء من ارتبط مباشرة بالسلطة السياسية .
ازمة المثقفين هي اذن احد وجوه ازمة المجتمع ، والغياب الموضوعي لأيّ مكانة للتفكير الجدي والرؤية والالتزام الجماعي ، والمصلحة العامة ، في النظام الاجتماعي – السياسي القائم . وهو ما يفسر تدهور النظام هذا ، وانحطاطه المادي والمعنوي والأخلاقي والسياسي ، بما في ذلك تدهور دور المثقفين ، ومن ثم اخلاقيتهم هم انفسهم ، باعتبارهم مركز هذا التفكير العام ، والالتزام الجماعي ، ومرآته واداته . فالمثقفون كغيرهم ، لا يستطيعون مقاومة الانحدار والتقهقر القانوني والسياسي والأخلاقي للمجتمع ، ولا يمكنهم الا ان يتأثروا به . بل ويكونوا أيضا في طليعته ، فالسمكة تفسد أولا من رأسها . وأول ما يصاب بالتفسخ ، هو المنطقة الأكثر حساسية وبالتالي هشاشة .
ولهذا ، فان المثقفين لا يمكنهم ان يلعبوا فيما بعد دورا حقيقيا في إعادة الطابع المدني للمجتمع ، الا بقدر ما ينجحون هم انفسهم في تجاوز ازمة الضمير العميقة التي يعيشونها بين عملهم العام وسلوكهم الخاص . ولحسن الحظ ان هناك في كل المجتمعات من تتيح لهم الظروف ان يبقوا نار الالتزام العام والأخلاقي مشتعلة ، ولو على ضعف ، حتى اذا جاءت الأوضاع المناسبة اشتعل الحقل كله . وعندئذ ، فان المثقفين لا بد ان يلقوا بثقلهم في معركة بناء النظام المدني ، وترسيخه من خلال العمل على احياء المقاومة الاجتماعية المتعددة الاشكال لهذا الانحطاط . لكن المثقفين لا يمكنهم لوحدهم تغيير الأوضاع المرتبطة بوجود سلطات ونظم ملموسة ، لا من داخلها ولا من خارجها ، وانما لا بد لهم من الالتحام والاندماج في صحوة عامة وطنية ، تعم أجهزة الدولة والمجتمع معا .
لكنني اعتقد ان الظروف العامة ، أصبحت تسمح وتستدعي ان يذهب العمل من اجل احياء الشأن العام والحياة المدنية ، الى ما بعد المجال والاطار الإنساني الأخلاقي الذي كانت تعبر عنه وما زالت حركة حقوق الانسان الحقيقية والمستقلة عن السلطة السياسية .
لقد لعبت هذه الحركة دور الشمعة المضيئة ، التي أبقت على فكرة احترام الانسان حية في حقبة الهمجية المنفلتة من عقالها . لكن تغيير المناخ الدولي والإقليمي معا ، واشتداد ازمة النظام السياسي القائم على العصبية الطبيعية ، بل الغريزية ، أي على القوة المتوحشة ، اصبح يتطلب العمل من اجل الانتقال الى مستوى اعلى من النشاط العام ، هو العمل الاجتماعي الواسع والوطني . وفي الوقت الذي لم يصبح فيه من الممكن بعد اصلاح الأطر السياسية الراهنة التي فسدت تماما ، ولا يمكن العمل من خلالها ، صار ممكنا ، بل ضروريا ، تكوين لجان التضامن العامة ، والدفاع عن الحريات والمطالب الشعبية ، على نطاق الوطن . وهدفها التوعية العامة والتنبيه من خلال الندوات والمنتديات الى المشاكل والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، والمساهمة في بلورة الحلول المناسبة لها ، ثم تنظيم تظاهرات الدعم والمساندة العملية للجماعات والفئات والشعوب العربية واولها الشعب المغربي المنكوب والمهدد ، حيثما برزت الحاجة دون تمييز على نطاق المغرب كما على نطاق العالم العربي ..
ان الازمة الخانقة الاقتصادية والإدارية والعقائدية التي تعيشها المجتمعات والنظم الراهنة ، لا تفتح فقط وبقوة آفاق العمل العام والملتزم امام المثقفين ، وانما تعطيهم الفرصة التاريخية لاستعادة هويتهم ومكانتهم الاجتماعية ، ولعب دور كبير في التحول الديمقراطي القادم للمجتمع المغربي . ولعل اكثر ما قدمته الندوات والتجمعات التي شهدها المثقفون في العقود الثلاث الماضية ، هو اتاحة الفرصة للمثقفين على اتساع الساحة الوطنية والعربية ، لتجميع انفسهم والتعرف على ذاتهم والتفاعل و التواصل استعدادا للمساهمة الجماعية ، في بلورة رؤاهم ودورهم القادم في المجتمع ، وشحذ أسلحتهم النظرية التي سوف تحتاجها الحركة الاجتماعية لتحقيق أهدافها .
ان هذه المهمة الرئيسية في نظري للمثقفين اليوم رغم قلتهم بكثير ، على طريق بناء قوى التغيير التي سيلعبون فيها ، بغياب الطبقات القوية التكوين ، من جديد ، الدور الأول والفاعل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كأس الاتحاد الإفريقي - -أزمة القمصان-.. -الفاف- يتقدم بشكوى


.. نيكاراغوا تحاكم ألمانيا على خلفية تزويد إسرائيل بأسلحة استخد




.. سيارة -تيسلا- الكهربائية تحصل على ضوء أخضر في الصين


.. بمشاركة دولية.. انطلاق مهرجان ياسمين الحمامات في تونس • فران




.. زيلينسكي يدعو الغرب إلى تسريع إمدادات أوكرانيا بالأسلحة لصد