الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المطاردة

دلور ميقري

2023 / 10 / 5
الادب والفن


تناولتُ العشاءَ عند صديقي، وبللنا حلقينا بالعَرَق. كنتُ قد جلبتُ معي ربطة ورقية، أجبرت القطط الشاردة على أن تلاحقني بلا هوادة. لأنني مررتُ في طريقي على الجزّار، فطلبت منه أن يشوي لي نصفَ كيلو من الكباب. أما المُضيف، فإنه جلبَ من المطعم المجاور صحنَ حمّص مع بطاطا مقلية. من الواضح أن أمه ما برحت مريضة، لذلك أعفيت من واجب تحضير المازة في هذه الأمسية الشتوية.. هذه الأمسية، التي حصلت قبل خمسة وثلاثين عاماً. لكنني أدينُ باستعادتها إلى حلم، أو كابوس بالأحرى.
في صباح اليوم التالي، غادرتُ منزل صديقي وفي نيّتي الذهاب إلى المكتبة العامة. أساساً، كانَ صديقي يروم مرافقتي، ولذلك حثّني على النوم في حجرته بعدما طالت سهرتنا إلى ما بعد منتصف الليل. لكنه إعتذرَ، بحجّة الدراسة. المنزل، ينحدرُ من أمامه أخدودُ سيل جبل قاسيون، الذي غدا في الأزمنة الحديثة طريقاً معبّداً للسيارات. سلكتُ هذا الطريق، المتصل مع الشارع الرئيس للحي، مُحاذراً برك الماء الموحلة، التي ما زالت غارقة في الظلال. السماءُ قاتمة، تتراص فيها الغيوم الرمادية. الهواءُ الجاف، يتخلله لسعة برد. لقد كانَ صباحاً مشئوماً.
بمجرد ما أجتزتُ الخزانَ الكهربائيّ الكبير، المُعرّف هذا الزقاق بإسمه، فتحَ بعنف بابٌ إلى اليسار وإندفعت منه إمرأة بقميص النوم، صارخة مُروَّعة. بأثرها، خرجَ بنفس اللهوجة رجلٌ بسترة سوداء، ينقصها ربطة عنق. كوني أعرفُ هذا المنزل، فلم يفتني معرفة الزوجين. الرجل، كانَ جارنا؛ إقترن قبل نحو خمسة عشرة عاماً بإبنة عمه، التي كانت تعدّ حسناء الحارة بلا منازع. غاصَ معها بالفقر، لكن هذا لم يمنعه من أن يستولدها نصف دزينة من الأولاد. ولكن في السنين الأخيرة، تحسّن وضعه بعدما توسطوا له بالعمل ممرضاً في مستشفى عام. وتزايد الدخلُ، كون إمرأته حصلت على أدوار مساعدة في مسرحيات تجارية. إنفجرت بينهما مشكلة كبيرة، لما قررت الفرقة المسرحية نقل عروضها إلى مصر. كانَ الرجلُ موقناً، بأن إمرأته لن تعود إليه أبداً لو وقعت أعينُ المنتجين المصريين عليها.
بهذه الخلفية، المُستوعَبَة من قبلي سلفاً، إندفعتُ بدَوري لصدّ الرجل. يبدو أن قدمي إصطدمت بقدمه وهوَ بهذه السرعة، فتدحرج على الأرض وطارت المدية من يده. لم ألتفت إلى الخلف، وإنما لحقتُ بحسناء الحارة. أدركتها عند مبتدأ دخلة ضيقة، يصعد منها دربٌ موحل بإتجاه دار جدّتي. قلت لها، ممسكاً بمعصمها: " هلم من هذه الناحية! ". طاوعتني بذلك. وفي أثناء دخولنا في المنعطف، رأينا الرجلَ الهائج ينحدرُ راكضاً بإتجاه الشارع الرئيس وقد توهّم أنه المقصود من قبلنا. وصلنا إلى دار الجدّة، وكانَ البابُ الخشبيّ موصداً. أوقعت عليه عدة طرقات، ثم ما لبثَ أن ضربته برجلي في قوّة. أملتُ بعدئذٍ لو أن حجرة الجدّة غير موصدة، هيَ من تنام أحياناً في منازل بناتها. لكن حجرتها كانت كذلك، فإنتقلنا إلى إحدى حجرتين كانتا قد أخليتا من المستأجرين مؤخراً. ثمة على العتبة الإسمنتية الباردة، أجلستها وقعدتُ بمقابلها. قصّت عليّ عندئذٍ ما جرى: " لقد خطط لقتلي مسبقاً، فجلبَ من المستشفى المخدرَ ومشرط الجرّاح. إنتابتني المخاوفُ حينَ طلبَ مني أن أنقل طفلتنا الصغيرة إلى حجرة أشقائها، المجاورة. على ذلك، فما أن أطبق على أنفاسي وبيده خرقة مبللة بسائل المخدر إلا وركلته بقوة ثم وليت وجهي إلى ناحية باب البيت "
" في الوسع بعد قليل إيقاف سيارة أجرة، للذهاب إلى المخفر وتقديم شكوى. وأنا سأكون الشاهد "، قلتُ لها دونَ أن أعلّق على كلامها. أطرقت قليلاً برأسها الجميل، ثم ما عتمَ أن رفعت نظرها إليّ لتقول بنعومة: " الله جعلك منقذي، لأنني لم أعشق أحداً غيرك! ". تملّكني شعورُ الخجل والحَرَج، فلم أرَ نفسي إلا وأنا أنهضُ متمتماً: " سأجلبُ لك من الحمّام معقماً وضماداً ". كان في يدها اليمنى جرحٌ غائر، لكنه لم يكن ينزف. غادرتُ الحجرة كالهارب، متنفساً بعمق. كنتُ سعيداً للغاية بذلك الإعتراف، وقررتُ أن أبوحَ لها بمثله عندما أنهي موضوع الجرح. حالما عدتُ، راعني أنها قد تكوّمت بكامل جسدها في العتبة، ورأسها مختفٍ وراء الباب. أزحت قليلاً البابَ، لأفاجأ بجرح عميق في رقبتها يكاد يصل من الأذن للأذن. حركة ما، جعلتني ألتفت إلى الخلف، لأرى السحنة المربدّة تسبح فيها عينان وحشيتان على شكل سمكتيّ قرش. أطبقت الظلمة على حين غرّة، وبالكاد خرجت صرخة من حنجرتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا