الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف ضيّع البروفيسور مكتبته

علي دريوسي

2023 / 10 / 6
الادب والفن


عاد الشاب صالح مساء ذلك اليوم الخريفي إلى البيت شارداً بعد مشوار خطير أمضاه مع منال. كان النهار مُشْمِساً، كانا يمشيان على حافة الأوتوستراد بلا وعي، خارج أقواس الحصار، السيارات والشاحنات بأنواعها تمر بجانبهما بأقصى سرعتها مُطلقة زمامير تهديداتها لهما بالدهس القاتل.

كانت جريئة، سألته إذا كان يسمح لها أن تضع ذراعها حول ذراعه، هزّ رأسه موافقاً، بقي كذلك إلى أن تجرّأ على سحب يده من يدها ومخاصرتها. في ذلك اليوم عرف ما الذي يعجبها في جسده، أعجبها ذاك الشريط الضيق المائل للبياض والممتد من زاوية العين الأنسية وحتى الأذن، الظلال الذي شكَّله إطار نظارته التي يستخدمها منذ سنين. إشارتها هذه جعلته يفكر كم تعجبه الأشرطة البيضاء من جسدها، تلك التي خبأتها وشكَّلتها حاملة نهديها.

حين ولجا المدينة تابعا مشوارهما تحت أظلال أشجار الحَور البَاسقات المُزيَّنات للرصيف المُمتدّ من مدخل الجامعة الرئيسي إلى نادي الريجي مروراً بمقهى ميس الريم، اِنعطفا إلى أتوستراد مشروع الزراعة وتمشيا جنباً إلى جنب حتى نهايته، ثم اتجها يميناً صوب محطة القطار، من هناك سارا باتجاه واحد حتى بلغا غابة الصنوبر في الكورنيش الجنوبي.

جلسا على مقعد خشبي يطل على البحر وأخذا يراقبان تباشير غروب الشمس، والطيور تخفق في فضاء البحر مستحمة برذاذ الأمواج العاتية، قلباهما ينبضان حباً، تماسا يستدفأان بعطر جسديهما وشوق متحسر نافذ الإحساس لحب لا يتحقق، تخاصرا بحذر وحيطة وقلق وخوف من القادم الأخطر ومن عيون الزعران والشبيحة التي تترصَّد خطوات الحب في المدينة.

خاطبها صالح " شد ما أنت جميلة".
شعرته سعيداً معها هائماً في حبها.

على المقعد الخشبي القديم اِمَّحت ملامح الأشياء دفعة واحدة كما الكلمات المكتوبة بالطباشير من على السبّورة.
لم يكن صالح أول من ستتفتح أزهار شجرتها على يديه النظيفتين.

منال تحلم ببداية جديدة وتحتاج لمبلغ من المال، والمال ليس بمتناول يده.
الأسعار باهظة عموماً بما فيها أسعار الأحذية والألبسة، أجور العمليات الجراحية في المشافي السورية الخاصة عالية جداً، حدّث ولا حرج، سقفها أعلى مما تسمح به عناصر الشرطة العسكرية بقبعاتهم الحمراء.

تمتمت منال "كم أتمنى لو كان أبي على قيد الحياة ليسلخني كفاً أستحقه .. كف الأب حائط حماية".

عاد إلى غرفته خائباً، رمى بنفسه على سريره المعدني المتهالك، تألمت نوابض السرير المرتخية لثقل جسده المتعب، أغمض عينيه لبضع دقائق ثم نهض حين لمعت في ذهنه الفكرة.

اِقترب من مكتبة كتبه التي لم يكن يملك سواها، داعبت أصابع يده الروايات والقصص، الكتب الفكرية، كتب علم النفس، ابتعدت أصابعه لاشعورياً عن الكتب الحمراء الأرخص من سعر الفجل الأحمر، حملق برواية "الدون الهادئ" ذات الطبعة الأنيقة بأجزائها الأربعة (التي لم يكن قد قرأها بعد) للكاتب الروسي "شولوخوف"، أمسك رواية "التيه" بين يديه، الجزء الأول من رواية مدن الملح للكاتب "عبد الرحمن منيف"، الرواية العملاقة التي قرأها بأجزائها الأربعة وكأنه في معسكر قراءة لمدة شهرين، نظر إلى السعر المطبوع على الغلاف، هزّ رأسه محبوراً وتراجع خطوة إلى الوراء، عاد إلى سريره، أخذ يقلّب صفحات الكتاب، يرى الكلمات بعينيه دون أن يقرأ، شم ورقه، ضمه إلى صدره، وقبل أن يسرقه النعاس ويغفو شرع يحملق في مكتبة الفوراميكا مسترجعاً تفاصيل شرائها.

كان منزل أبو أكرم غالباً مظلماً، منعزلاً مغلقاً وغريب الأطوار بحِيطانه الخارجية الشاحبة بالنسبة لطفل بدأ يتنفس رائحة الجيران. كانت فرحته كبيرة حين اصطحبته أخته معها أحد الأيام لزيارة المنزل والاِطمئنان على صحة أم أكرم وإعطائها إبرة في الوريد. جلس الولد على حافة الصوفا العتيقة والمفروشة بغطاء نظيف مُطرَّز بالرسوم والزخارف الملونة وبقي صامتاً يرصد سكان البيت الغامضين وحركاتهم الخرساء.

كان أبو أكرم رجلاً طويل القامة، متماسك الجسد برأس صغير مثلثي الشكل ماتت فيه روح الابتسامة، يرتدي ثياباً مدنية أنيقة ونظيفة وكأن التبغ لم يعرف طريقاً إليه، يلبس بَدْلَة جاهزة إنكليزية الطابع، بنطلون قماشي مكويّ بعناية وقميص مع ربطة عنق وفوقه الصُدْرَة والجاكيت من لونين مختلفين، ويبقى متأنقاً رغم أنه نادراً ما كان يغادر بيته.

يتأمل أبو أكرم جهاز الراديو عسليّ اللون والمتموضع منذ سنين في غرفة الجلوس فوق طاولة خشبية تغطيها قطعة قماشية بيضاء عليها زخرفات وتطريزات يدوية، في الوقت نفسه يحشرُ يده اليسرى في جيب الصُدْرَة ويتناول منها ساعة جيب فضيّة اللون فتلمع السلسلة الفضيّة الملساء الطويلة العالقة بقرص الساعة من جهة وبعروة في الجيب من الجهة الأخرى، يمسك الساعة بشكل أفقي بين أصابع يده ويضغط بالسبّابة اليمنى على زر إسطواني صغير فينفتح غطاؤها الدائري المنقوش، ينظر كم صار الوقت فيها، وبحركة خبيرة من يده يكوِّم حلقات السلسلة في كفه ويعيدها مع الساعة إلى جيبه ثم يقترب من الطاولة كرجل آلي يُشغّل مفتاح الجهاز ويستمع إلى نشرة الأخبار.

يعيش أبو أكرم طقوسه هذه بينما يتساءل الولد الجالس على الصوفا في سره عن نوع العمل الذي يمارسه أو مارسه هذا الرجل في حياته، بدا في هيئته تلك وكأنه خدم يوماً في سلك الجيش الفرنسي.

في بداية الثمانينيات بنَى أبو أكرم مع أولاده منزلاً جديداً وكبيراً مقابل منزله الشاحب، افتتح في الطابق الأرضي مخزناً واسعاً لبيع المفروشات والأثاث المنزلي وتجهيزات المطابخ، كان معرضه ذاك هو الأول والوحيد من نوعه في القرية الآخذة بالتمدد والتوسع، دأب يعمل فيه يومياً، يبيع متاع البيت والمكتب وغرف الضيوف والمطابخ ونحوهم من فِراش وغيره بالتقسيط الشهري، لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى بدأ الإحساس بتأنيب الضمير يجد طريقه إلى جيرانه من أرباب العائلات، أخذ كل منهم يخطّط مترقباً اللحظة المناسبة للدخول إلى المحل، ليبارك لجاره أبو أكرم بافتتاح المخزن ثم ليتفرج ويشتري بالتقسيط قطعة أثاث جديدة أو خَلَّاط فواكه وخضر أو طنجرة بخار يجلب بها البهجة إلى زوجته وأولاده ويرضي في الوقت ذاته قلب البائع ذا الوجه الجامد .

كان للطناجر البُخاريّة هيبَتُها الكبرى حين تسربت إلى الأسواق في تلك الأيام، بينما الأم مع بناتها في المطبخ منشغلة بالتمرين على تشغيل الطنجرة التي تتشّابه كثيراً مع قطار يعمل بقوَّة البُخار المضغوط، يمشي الأب الهوينى في بهو داره وراحة يده اليسرى تقبض على معصم يده اليمنى من خلف ظهره. يتمشى فخوراً بقدرته على الشراء وتلبية رغبات زوجته، مترقَّباً بعصبية إعلان إشارة نجاح التشغيل دون مشاكل، كأنّه يترصَّد ظهور الهلال أو ينتظر إشارة القابلة بأنّ الزوجة الحامل قد وضعت وليدها بسلام. كثيراً ما سمع الأطفال صرخات وتوبيخ الأم التحذيرية للابتعاد عن عروس البُخار تجنباً لاحتمالات انفجارها المباغت، كان لصفيرها وقع خاص في نفوس الأولاد، كانت فرحتهم لا توصف لرؤية الرقَّاص يتأرجح شمالاً ويميناً بسرعة عالية مُعلناً اقتراب موعد طعامٍ مُميَّز (كراعين، كروش، محاشي ...)، حينها تتراكض الأم وبناتها لتحضير وعاء مملوء بالماء البارد لتبريد العروس وتحريرها من ضغطها العالي، لحظتها يقترب الأب بحذر تشوبه النشوة محاولاً مساعدة الزوجة على فتح الغطاء برفق، كأنَّه خبير مفرقعات في قلب معركة يُبطل فيها مفعول قنبلة شاء لها ألّا تنفجر.

لم يفكر أبو صالح بشراء طنجرة بخارية إسعاداً لزوجته وتخفيفاً عن حمولاتها المنزلية كما فعل غيره، بل كان منشغلاً بسعادة ولديه بالدرجة الأولى، كان أبو صالح مغتبطاً لأبعد الحدود بنجاح ابنه البِكْر صالح إلى الصف الثالث الثانوي، وابنه الثاني علاء إلى الصف الثاني ثانوي. صار ولداها ناضجين ويجب عليه تأمين الجوّ الملائم لدراستهما وراحتهما، قريباً سينجحان في امتحان البكلوريا، سيسجّلان في الجامعة وسيزورهما الأصدقاء. تناول أبو صالح كأسين من العرق وتوجّه في طريقه إلى مخزن أبي أكرم مصطحباً ولديه صالح وعلاء، هناك انتقى لغرفة صالح سريراً عريضاً، صوفا، طاولة، أربع كراسي خيزران ومكتبة كبيرة للكتب، واتفق مع البائع على السعر والدفع بالتقسيط.

بعد أن أخذت المكتبة الفارغة مكانها في الغرفة خطرت في رأس صالح أفكار عديدة ومتضاربة، كان على يقين أن كتب الدراسة الثانوية ومجلات العربي وطبيبك والقصص البوليسية لن تكفي وحدها عدداً وحجماً على ملء فراغ المكتبة العظيمة، أرَّقته الرفوف الخاوية، الكتب غالية الثمن وتأمينها ليس بالشيء السهل.
بعد حوالي السنتين امتلأت المكتبة بالكتب القيّمة الثمينة.

اشترى صالح أكثر من نصفها من عرق جبينه وتعب يديه حين كان ينقل على الأكتاف وبالأكُفّ الحافية العارية أحجار البناء الثقيلة وقضبان الحديد وعوارض الخشب وأكياس الإسمنت والحصى في الأيام الباردة والحارة على السواء إلى الطوابق العليا في أبينة المدينة. حتى أنه اشترى مرة رواية عربية مما جناه في عملية تهريب رغم عدم مشاركته فيها. كان قد سافر إلى لبنان برفقة صديقه سعيد من قرية مجاورة لمساعدته في تهريب بناطيل الجينز، يومها لم يجرؤ على حمل قميص بين يديه أو ارتداء بنطال واحد تحت بنطاله، ومع ذلك قدَّم الصديق له مبلغاً معقولاً كعرفان بالجميل مقابل مرافقته وتسليته في الطريق.

أما النصف الآخر من الكتب فقد سرقها، شأنه شأن الأصدقاء الآخرين كلهم، من معارض الكتاب الدورية التي كانت تقام في الجامعة في بهو كلية الطب أو في مقهى الموعد أو المركز الثقافي. معظمهم خاطوا جيوباً إضافية مخفية كَنغَرية الشكل لمعاطفهم وجاكيتاتهم العسكرية الغيفارية، كانوا يدلفون إلى المعرض بوزن جسدهم الطبيعي ويغادرونه بوزن زائد وابتسامة عريضة خائفة وجيوب ممتلئة بالكتب والهدايا. كانوا يعتقدون بأن سرقاتهم الصغيرة هذه ذات قيمة ثورية عالية.

عندما أفاق صالح صباح اليوم التالي أعدَّ لنفسه كأساً من الشاي الأسود وطفق يكتب قائمة بأسماء كتبه والسعر التقريبي لكل كتاب. ارتدى ملابسه وتمشَّى إلى الجامعة، هناك اِلتقى ببعض أصدقائه ممن اعتادوا إمضاء الوقت بالنقاشات السياسية في المقاصف الجامعية، كان هدفه اقتراض المال مقابل الكتب، صديقان وعداه بالمساعدة الرمزية دون مقابل، عدة أصدقاء أظهروا اهتماماً بشراء بعض الكتب بسعر خفيف، أكثر من صديق وعد بنقل رغبته في بيع كتبه إلى معارفه ممن تخرجوا من الجامعة وصار لديهم عمل ودخل شهري وأسرة.

كان كلما باع كتاباً بنصف ثمنه أو أقل أو أكثر بقليل تترقرق عيناه بالدموع، جاء الزبن الأصدقاء من كل مكان، مضت عدة أيام، كان قد باع فيها عشرات الكتب، استطاع أن يجمع ليس أكثر من ربع المبلغ المطلوب، لم يتبق لديه إلا بعض الروايات والكتب ذات الغلاف الأحمر، عندما علم صديقه محي الدين بالمبلغ الناقص ـ ولم يكن بالمبلغ الصغير أبداً ـ أخذ ما تبقى من كتب وأعطاه ثمنها أضعافاً، نخوته ومروءته وإنسانيته كانت أكبر لديه من المال.

كان صالح مستعجلاً في تنفيذ قراره ببيع المكتة فهو يعرف في قرارة نفسه أن صديقته منال لن تعود إلى منزلها قبل أن تحل مشكلتها العويصة، ها هي قد أمضت عدة أيام خارج منزل أهلها متحجِّجة بأنها في دمشق تسكن مع إحدى صديقاتها في المدينة الجامعية وتكتب حلقة بحث طويلة عن معالم المدينة القديمة.

وها هي تجلس الآن في شاحنة صغيرة يقودها عشيقها في طريقهما إلى مدينة دمشق بعد أن حجز لها موعداً في مشفى نسائي، تستند إلى حافة نافذة باب السيارة وتغني له كي تسليه، في حقيبتها رزمة نقود بحجم مكتبة كافية لإجراء عملية مستعجلة، على وجهها علائم ارتياح وفي صدرها امتنان لصديق مشوارها الأخير صالح.
على الاتوستراد بين مدينتي حمص ودمشق ابتدآ يمرحان ويدخنان ويغنيان مع صوت المطرب "ياس خضر" (هذا ما جاء لاحقاً في إفادته أمام القاضي) ثم دقائق وزحرت منال زحراً مخيفاً مثل حصان وهوت من السيارة ليتشظى جسدها الطري على قارعة الطريق وليبقى موتها معلقاً تحت شماعة القضاء والقدر وليبقى صوت مغنيها المفضل "ياس خضر" مرتبطاً عند صالح ـ الخاسر الأكبر ـ بالجفاف والندم والغبار والدخان والضيق والحر الشديد والصيف الدبق وأشواك الصبّار والاختناق والحزن والتعب وضجيج السيارات ولعنة الطرقات وعشوائية الكراجات وأصوات الباعة في الأسواق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا