الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النص وقراءة في الحداثة / من مؤلفي قراءة في الحداثة والإتساق النصي ( 2007م )

أمين أحمد ثابت

2023 / 10 / 8
الادب والفن


مقدمة المؤلف

في ظل غياب الفكر النقد الادبي الجمالي الجديد منذ نهايات الثمانينات ، وريان الانتقائية النقلية عن متفرقات الكتابات الغربية في مسألة الحداثة وما بعد الحداثة في جمالية بناء النص النثر ادبي ، خاصة في القصة القصيرة واجناسها الهيكلية الجمالية ومثلها البنائية الاسلوبية للنص الروائي ، والتي مثلت نثرات فوضوية عائمة ( غير ممنهجة جماليا ) ، فتحت مفهومي الحداثة وما بعدها كضرب من التجريب الحر في الكتابة البنائية الاسلوبية لألوان القصة القصيرة والرواية دون أسس واضحة تحدد إذا ما كانت تجارب الكتابة النصية سليمة أو غير ذلك - بين القصور أو التفكك النصي - المقيم نصا مسخيا فاقدا للقيمة الفنية والجمالية ، بما تنتجه تلك المسخية للبنائية الاسلوبية حالة من الغموض وتكسر الصور الفنية الجزئية للنص الواحد . . بما يوهم ( مستهويي الحداثة وما بعد الحداثة ) حالة من الدهشة حول عبقرية النص في قدرة تأثيره على بناء تصوير مشتت – غير متسق بمنطقية فنية داخلية – عند الكاتب ذاته لدرجة انصدامه بكونه غريبا عن النص الذي كتبه ، وعند القاريء ليجد نفسه يتوه عند تخيله او مع كل قراءة متجددة للنص ذاته . . بأنه يستنطق فهما وتصورا وتخيلا مختلفا في كل مرة عن المرة السابقة ، وهذا ليس بفعل حقيقة العبقرية التكثيفية للصورة الفنية وتشظيها الإبداعي ، ولكن لمتفتت اللوحة الفنية الكلية للنص – الركيك – بهيئة صور جزئية ممزقة غير مترابطة في بنية عضوية واحدة لكامل النص .
من هنا نحاول أن نقدم في مؤلفنا المتواضع شيئا من التقعيد الفني الجمالي لكتابة أنواع النثر الادبي واجناسه والوانه المستحدثة وفق تصورنا الشخصي فيما وصلت اليه النظرية الفنية والجمالية في الادب النثري – عالميا – حتى نهايات الثمانينات ، وفيما تشي به من إمكانيات التطور اللاحق على صعيدي الاسلوبية البنائية والجمالية الفنية للنص ، والتي حضرت كأراء تصورية حرة تختلف من مفكر وناقد وقاص او روائي غربي الى اخر ، دون وجود تقعيد يبين إبداعية التجريب عن عبثية ، والذي تم نقله ميكانيكيا بنوع من تقليد المحاكاة النقلية لتلك التجريبية الغربية . . عربيا ، أكان على صعيد كتابة القصة او الرواية ، أو على صعيد المتناثرات الهوائية – الزئبقية الفهم والمفاهيم – عند ممارسي النقد الادبي العربي . هنا ، نحاول المشاركة في تأسيس فكرا جماليا ونقد فني ادبي عربيا ، وذلك على صعيدين احدهما تنظيري والأخر تطبيقي نقدي على جملة من النصوص - ونتمنى أن نفلح في عطائنا ، ويكفينا على الأقل شرف المحاولة والمشاركة لبناء عقلا عربيا اصيلا غير نقلي للآخر

في الثقافة
مقدمة . . لما قبل النص
من المتعارف عليه بأن الفن – كنص في أي مجال أو نوع أو جنس أو لون من الفن – قد تم إخراجه إلى الناس – لم يعد مستحوذاً فردياً بشكل صرف ومطلق , بل يُعتبر منتجاً مكتملاً – أي نصاً كاملاً – بغض النظر عمَّا ممكن أن يرى فيه المتلقي ( المتخصص , والمهتم , والعام ) من نقص أو اكتمال , من قوة أو ضعف , من جمال أو قبح – ورغم صفتي الاكتمال والكمال لأي نص فني مطروحاً للتداول – والمتحول من ملكية فردية ( يخص صاحب المنتج لوحده ) إلى ملكية جمعية عامة في كل ما هو من معنى ومبنى , وما هو معلوم ومجهول , منكشف ومتخفي في بنية النص – هذا الخروج للمنتج الفني من المحيط الفردي للفنان ( في ذاتيته المفردة ) إلى المحيط الوسطي أو الاجتماعي الأعم , يجعل النص الفني رغم اكتمال العناصر الدعامية أو نقص منها – من خصوصيته كفن – أن يفرض وجوده اجتماعياً في خارطة الإنتاج الإبداعي للفنون , في ذات المجال والنوع الجنس , وهو فرض جزئي تكميلي لخارطة إنتاج الإبداع العقلي – البشري لمجمل المجالات المتنوعة لنشاط الذهنية الممارسة – الهادفة , المُشكلِّة في مجموعها بما يُعرف بالثقافة الاجتماعية ؛ الخاصة ( فيما يُقصد بها في المجتمع الذي تنتج فيه هذه الثقافة وما يقوم منه فيها ) وهي نخبوية في مساحات قيمية مختلفة ( فكرية , ذوقية , اعتقادية وممارسية ) , وعامة في مساحات قيمية متعددة ( إدراكية وتمثيلة عفوية الممارسة ) – والعامة ( والتي يقصد بها ما تحفل فيه الثقافة الخاصة – الاجتماعية ( روحية ومادية ) من منتجات التثاقف الإنساني , الكوني العام فيما هو منتج من منتجات ثقافية لمجتمعات أخرى , دخلت إلى الثقافة الاجتماعية الخاصة عبر التأثرية – النقلية , أو التأثرية التحويلية – رغم هذه الدعامة الاستثنائية للفن دوناً عن بقية أشكال منتجات العقل البشري الإبداعية – في أن أي نص فني يفرض نفسه كإبداع قائم بذاته , ولا يمكن إلغاء هذه الصفة عنه – بغض النظر عن طبيعته وخصائصه , ولا يمكن التعامل معه ( أي مع النص الفني ) إلاَّ كمنتج إبداعي , حتى وإن كان ركيكاً , وحتى وإن اجتمعت المناهج والطرق الاستقرائية والتذوقية في الموقف الحكمي , فإنها لن تتحد أبداً في إلغاء صفة الإبداع عنه , ولكن ممكن لها أن توصِّف درجة هبوط الإبداع من ارتقائه .
وعلى هذا الأساس يصبح الفن – كتخليق إبداعي ذاتي – بقدر استحالة تجريده عن سمة الإبداع , أو بقدر ما تنعدم عنه القيمة الاجتماعية ( المحلية – القومية والإنسانية العامة , الفردية والوسطية البيئية أو العامة ) إذا لم تجد هذه الفنون – الإبداعية – نقداً ( أي حركة نقدية صادقة وعلميــــــة ) – يفرض واقعاً باللاحضور قسراً لكل منتجات الإبــــداع الفني كقيمة فعليـــــة ( اجتماعية ) , وقد تحضر آنياً ولكنها سريعاً ما ترحل لكون أن حضورها الآني لا يكون مبنياً على معيارية – جمالية وإبداعية وعلمية نقدية – متصلة بذات المجال , بما فيه الخصوصية الفردية للنص , ومنهجية المعرفية والذوقية – المعرفية ( الذي يتكئ على أحد جانبي الموقف الاستنطاقي – الحكمي ( العماد الأول للمعيارية ) ولا على العماد الثاني للمعيارية المتمثل في فارق الفرادة الذاتية للنص المُبْدَع في إجلاء منظومة القيمة الكلية للفن – النص الفني – الفارضين لحقيقة الوجود لهذا المنتج قيمياً في الواقع بما يجعلانه رافداً جديداً للثقافة ( العامة والخاصة في جانبها الروحي ) – بل إن هذا الحضور الآني – يكون متكئاً على الدوام على روافع أخرى تماماً – ليس لها علاقة بالإبداع الفني والعلوم المعرفية المختصة بدراسة ذات المجال الإبداعي , ولا بالذوقية المعرفية – وهذه الروافع الفارضة لشيوع أعمال فنية وفنانين مشار إليهم بالبنان بفرادتهم الإبداعية , تفرض معاييراً أخرى للمنح ( أي التوصيف الإبداع والمبدع ) , وكنه هذه المعايير ارتباطها مباشرة في القيمة النفعية ( الاجتماعية والإنسانية ) بصورتها الضيقة لمصدر ذلك الحامل أو الرافعة لفرض التفضيل وشيوع المفضَّل ( من منتجات الإبداع الفني ) .. الخادم لمصالحها . هذه الروافع السائدة في مجتمعاتنا العربية – واليمني بصورة خاصة – تفعل على الدوام على استمرارية غياب النقد الأصيل – القيمي الفعلي , وتعمل على استمرارية تغييبه إذا ما وجد عدداً من النقاد المبدعين , عبر حملات فرض تغييبهم المباشر – أي بفرض واقع ثقافي معادٍ للنقد – أو عبر تجاهلهم , أو تسييد فرادات بشرية من أنصاف المتعلمين والمثقفين الانتهازيين ( الأميين في القيمة والجمال ) , وذلك لتلبيس زيفاً المنتجات الفردية ( المُرْعاة بالإبداع الفني ) لبوساً فنية , وتلبيس الإبداعات الفنية الركيكة لبوساً لإبداع قوي ( رفيع ) , وتلبيس الإبداعات الفنية الاعتيادية القاصرة – غير القائمة على أصالة رفيعة في التجريب المسنود على عمق وسعة الثقافة – الكبيرين , وطول وعمق خبرات التجريب الممارسان , المعجونان بإبداع إرادة التميز , الباحثة على الدوام خلق فتوحات للتفرد الدائم , وغير القائمة على تلك الذات المرهفة , الشفافة , المتحررة عقلاً ونفس – عقلياً , الحاملة لتلك الخصائص سابقة الذكر , المنتجة جزماً ( يقيناً ) إبداعاً فريداً يتحلى بأصالته الجوهرية , دون وجود أية إمكانية لتجريد مثل تلك الإبداعات ( الحقة ) صفتها في الفرادة , والإبداع – مثل تلك الإبداعات الاعتيادية المفروضة على واقع الثقافة العربية – الروحية , في مجال الفن , وخصوصاً فن الكتابة ( نوعه الأدبي), في جنسيه ( الشعر والقصص ) , حيث تُلبَّس تلك النصوص – الاعتيادية القاصرة , الفاقدة للتفرد والارتقاء – ألبسة كاذبة ومخادعة تمنحها التفرد والرقي – بما هو غير موجود فيها , ويتم إشاعة هذا التلبيس عبر قنوات استلاب وعي وذوق المجتمع – كما وتسعى روافع تسييد زيف الثقافة – الفنون هنا والأدب بوجه خاص من هذه الأخيرة – عبر مرتزقتها ( الواطين ) – من حملة الشهادات الأكاديمية العليا أو دونها – إلى جنب محاولاتها في إشاعة نقد مخاتل , سطحي متهافت – في واقع الثقافة الروحية والحياة الثقافية للمجتمع ( النخبة والعامة ) - فإنها تعمل على إجهاض أية مشاريع نقدية حقة– فردية أو فئوية محدودة – فإلى جانب أن إغراق الواقع الثقافي وثقافة عقل إنسان المجتمع بثقافة نقدية ( باطلة ) تعمل على تغطية وجود وأثر تلك المحاولات النقدية الجادة , فإن أدوات تزييف الفن والأدب – البشري , لا تتوانى بكثرتها العددية , ومساحات تنفذها على نوافذ الاتصال بوعي المجتمع , بل تصل إلى درجة أن تلهب سياط إرهابها الفكري تلك القلة العددية ( القيمية ) من المشاريع النقدية الفردية الجادة , وتنعتها بأقذع المسميات , وتحرض عليها العقلية ( المغبونة ) للعامة , وتكيل لها سيل الاتهامات ( التي لا تستهدف فقط إيقاف انتاجاتهم الفكرية – الابداعية , بل حياتهم ) وتعمل روافع إشاعة الزيف عبر آلياتها على إغلاق مساحات التنفس للمبدعين ( الأصليين ) , وقهرهم في حياتهم المعيشية ( المادية والروحية ) أو عندما تعجز عن تلجيم حالات فردية منهم , تستخدم أضر وأعتى أسلحتها اللاإنسانية , في تصفيتهم جسدياً .
ومن باب الإدراك العلمي للتعامل مع الواقع الثقافي , يمكن القول بأن هذا الأخير مثله مثل واقع الحياة العامة في اليمن والوطن العربي قد طرأت عليه تأثرات مع رياح التغيير العالمية – منذ تسعينيات القرن العشرين ,وصولاً إلى الوقت الراهن , وهي تأثرات ذات وجهين متناقضين تماماً , الأول وهي السلبي الخطر , المتسرب كعفن شيطاني إلى جسد الثقافة الروحية للمجتمع , والمُسمى بعولمة الثقافة , والذي عبره يتم إحلال ثقافات نقلية غاية في السطحية والابتذال الشكلي محل ثقافاتنا الخاصة , مما يدفع إلى إشاعة ثقافة اغترابية شاملة , منتجة من هجائن ثقافة خاصة جامدة , وثقافة أجنبية قشرية , مدعمة واقعاً ثقافياً مؤصلاً لنمو العصبيات التقليدية المحلية أو مشيعة ثقافة عصرية – طفيلية تنزع نحو الحكمية الباطلة المتكئة على مرجعية ثقافية – عصرية فقيرة تعرف بثقافة السندويتش أو الثقافة الإخبارية المستقطعة – وهو جانب يقود المجتمع اليمني والعربي يوماً بعد يوم نحو تأصيل وعياً زائفاً للمجتمع .
أما الجانب الآخر – من استجابات الواقع الثقافي في رياح التغيير العالمية – فإنه يتكشف بانخفاض دوائر ثقافة الإرهاب , وندرة اللجوء إلى التصفية الجسدية والتنكيل الجسدي بالمبدعين , وتوسع مساحات التنقس والمواجهة للعقول الحرة المبدعة , هذا التحول لم يتم كتعبير عن تحولات اجتماعية جوهرية , ولم يتم نتيجة حتمية لانتصارات الوعي الحر ( العقل المستنير ) في معركته مع نقائضه المُدعَّمة بروافع التنفذ المالي والسلطوي والعائلي والفصائلي أو المذهبي ... إلخ , كما ولم يتم نتيجة موضوعية لتحولات قناعة الحكام الفرديين بتحويل أنظمتهم نحو البناء المدني , وتعميم روح الليبرالية في متعلقات حرية الفرد والمجتمع , لكنه تم – أي التحول – بفعل التناسب العصري المستجيب لضغوط القوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية – في شؤون الحقوق والحريات للإنسان – فكان للأنظمة السياسية استبدال أساليب القهر الفكري المباشر والقمع الجسدي , عبر الاحتماء وراء إطلاق الديمقراطيات والرأي الآخر , وهو احتماء قائماً عبر امتطائها لتلك الديمقراطيات الزائفة في الواقع الممارس , بإهمال وتجاهل أكثر لكل ما هو عقلي وعلمي وإبداعي نافع , تجاهلاً للنقد وتحقير الثقافة, ووضع الفنون في أدنى مهنة اجتماعية وظيفية , وإطلاق سمة متعاطي الشعر والقص بالعنصر الخامل, البليد - ( مش حق شغل ) , وعلى الناقد ( في الفن والأدب ) بالهدَّارين كثيري الكلام والهرطقة , والنقاد ( في مجالات العلوم المختلفة ) , بالبكَّاشين , والتحذلقين الاستعارضيين , ومن لا يُقابَل بامتعاض شديد من قبلهم , يلطقون عليه صفة الحالم , الواهم , غير القادر على فهم واقعه , أما أولئك المسُسْتَهْدِفين جوهر الإعاقات – الواقعية – فيوسمون بزراع الفتن والتآمر والخيانة ونُشَّاز الديمقراطية الممنوحة .
إن هذا التحول في مناخ التنفس ( الديمقراطي الزائف الشكلي ) للمبدعين الملجَّمين سابقاً بكل القيود, لم يجد تجاوباً انتفاعياً من قبل أصحاب العقول المبدعة والعلمية – التي كانت تقاوم بشراسة لا مثيل لها لها في ظروف القهر الشامل المعلن السابق – والذين يحتجبون الآن في ظروف مواتية لهم , ومواتية لاتصالهم بالمجتمع الذي فُصِل عنهم انسانه في أنظمة السياسة القهرية الماضية ,والذي كما يبدو أن الكثرة من الأقلية المبدعة من النخبة الاجتماعية لم يستطيعوا أن يخرجوا من الإرث القهري القديم الذي كان مسلطاً عليهم فأصابهم بسيكوبائية الخوف المرضي , واللاثقة واللاجدوى بأي شيء ليس حتى بأن يكون لهم دوراً فاعلاً في المجتمع , وهي الإشكالية الراهنة للحياة الثقافية اليمنية والعربية , حيث تستشري النخب الثقافية ( العصبوية ) في تجريبية الثقافة المعاصرة كأقنعة تتخفى وراءها , وكذلك النخب الثقافية السلطوية التي تدفع نحو إشاعة عصرية الثقافة الاختزالية – اللاقيمية , والنخب الجديدة من الأجيال المتعاقبة التي وعتْ على مفهوم الثقافة في واقع تربوي وتعليمي مفرغ للثقافة في وجود مُسمَّاها واقعاً , فتخوض هذه النخبة الأخيرة ضروب التحديث – رغم اتسام عناصر منها بالموهبة الإبداعية – بواقعية الافتقار إلى الأصالة والتأصيل , فحتى أولئك المهتمين بالاطلاع المعرفي , فإن اطلاعه ينبني على مؤسسات الإصدار السريع , وعلى الصحف السيَّارة والمجلات الدورية , ويندر التعامل مع الكتاب , وإن كانت هناك ندرة من المتعاملين بقلة مع هذا الأخير , فإن ثقافة انتقاء الكتاب معدومة , وإن وجدت فإنه لا يوجد التراكم المعرفي القبلي المهيء للتعامل مع الكتاب الموضوع للقراءة , فتنتقطع صفة الاستفادة والتزود العلمي والارتقاء الذوقي – ولغياب المنهجية والمعتقد المحرك للإرادة والإبداع , ولعدم وضوح ما يطلبه هذا الموهوب , ولسيادة الاستعراض المعرفي – السيَّار , والاستعراض في كثرة النشر – في واقع الحياة الثقافية – كإثبات للاتصاف بالمثقف أو المبدع – دون التعويل على قيمة وعمق تلك الثقافة وذلك الإبداع – يسعى أعضاء هذه النخبة في التعامل مع الثقافة الروحية كاستهلاك يومي أشبه بالقيء , وذات التعامل مع الكتاب , ويزداد سوءاً عندما يطنب أفراداً من النخبتين السابقتين أي من أفراد هذه النخبة الأخيرة , يزداد الغرور الغر لديهم , يتلذذون بذكر أسمائهم وامتداحهم , وهم لا يدركون أن ذلك الدور ليس أكثر من مشرحة تُجَهَّز لقتل موهبتهم الإبداعية , التي ما زالت في طور التفتح , يُضخمِّونهم حتى يصدقون بعبقريتهم وتفردهم , فلا يقوون على تجاوز أنفسهم ودرجة إبداعهم الذي تم تثبيته عند البدايات , فمات نموه الحيوي – أي حدوث توقف مهارات تطوير وصقل تجلي ( موهبة ) الإبداع عند مرحلة بداية التخلق – تحت وهم ترسخ يقين واهم بالتفرد الإبداعي المنفرط في سيكولوجية موقف الفرد من ذاته تحت الاندلاق اللاهث نحو الربح السريع للشهرة والاشتهار .
إن انهزامية المبدعين الحقيقيين في الظروف الراهنة للواقع الثقافي , وعدم قراءتهم لهذا الأخير قراءة علمية مدركة , ليضيعون فرصة تاريخية غير متكررة طالما حلموا بها , من إفراد إبداعاتهم على المجتمع – المحلي الداخلي والخارجي – وامتلاك مساحات أوسع في الصراع الثقافي الوطني , مع تخفف شدة القمع الفكري والاضطهاد المعيشي للمبدعين وتغييبهم عنوة , وهي فرصة وحيدة أيضاً لتثبيت دعائم التحول الشكلي لفرضه واقعاً حقاً , حتى يكون لهذه المجموعة الرابعة من النخبة الثقافية ( الخاصة ) – المبدعين الأصليين – موقعاً في الصراع الثقافي قابلاً للنمو , وهو من جانب آخر , إذا لم تتخلص النخب القيمية من حالة اليأس الخنوعي , فإنها أولاً في هذه الوضعية – الفوضوية – المناسبة لم يعد فعل التغييب لهم ولأدوارهم في الحياة الثقافية محمولاً على قوى التنفذ السلطوي والمالي – كما كان على الدوام – بل إنهم في هذه الظروف هم أنفسهم يمارسون فعل التغييب لأنفسهم – إلغاء أنفسهم وعقولهم وإبداعاتهم بأنفسهم , على اعتبار أن رياح التغيير الشكلية تمثل مدخلاً موضوعياً للمواجهة الندية في حدود الممكن الراهن – الذي كان مفقوداً قبلاً – والذي بالحتمية الموضوعية قابلاً للنمو , لدرجة على الأقل لن يسمح لواقع الثقافة والحياة الثقافية أن تعاد إلى الوراء – كعودة للتبعية المطلقة للثقافي إلى السياسي , وتبعية الثقافة لسلطة التنفذ السياسي , وفق مصالح وأهواء وأمزجة هذا الأخير– وهي عودة لتغييب ثقافة التحرر وحرية الإبداع .
وكما يُشاهَد ويُلمس في الحياة الثقافية تلك الوتيرة العالية لإشاعة الانتهازية الطفيلية على عموم الحياة الثقافية – كتلك الجارية على صعيد الحياة الكلية للمجتمع – وهي وتيرة ليست محصورة فقط في آليات التثاقف الحر ( الذاتي الجمعي ) و المحلي , والمحلي – الخارجي , ولكنها مبنية على أساس التثقيف المقيد , المُوجَّه برافعة ما هو ( الرسمي وغير الرسمي ) في التربية والتعليم للأجيال (الناشئة), الذين بين عام أو ثلاثة أو أكثر يكونون مؤهيئين لدور المشاركة في المثاقفة الحرة , تلك المشاركة للأفراد الرافدين للحجم العددي للنخبة , تكون متكئة على زاد معرفي سطحي , ونزعات ثقافية طفيلية , يمثل هذا الرافد فعل التسييد للثقافة الهشة والعقلية الضحلة , والذي يقود إلى تعمم قيماً هابطة في الموقف والممارسة والاعتقاد – أكان تجاه قضايا الثقافة أو العقل أو الحياة, بل وتجاه كل شيء – وهذه الوتيرة سريعة التعاظم للفساد الثقافي والانحلال القيمي المتصل عضوياً فيه , رغم أننا لا نمتلك قوى الإلغاء أو التوقيف له , لكننا نظل قادرين على مواجهته , وبشكل أفضل عمَّا كنَّا عليه في السابق , وهذه القدرة تمتلك فاعليتها في تخفيف وتيرة التسارع تلك , وتحجيم حقيقة تسيُّده على واقع الحياة الثقافية وعقول وقناعات الناس – نخباً وعامة – ( بالطبع بصورة نسبية ) , ولا يمكن الحديث عن سقوط أو إيقاف ثقافة الزيف إلا عبر معركة جادة وحقيقية وواضحة , وبنفس طويل – هذه المعركة بالسمات السابقة ستفرض حتماً تزايداً للأجيال ( الناشئة ) المنخرطة في الحياة الثقافية – عملاً ومواجهة – نخبة فريق المبدعين الحقيقيين وسترفد ظروف الإعاقة الناتجة عن شيوع قيم الفساد اجتماعياً , والتي .. ستعمق خلق مناخات لتوسع دوائر الحصار الثقافي والاجتماعي ( العام على كافة أصعدة الحياة ) لمساحات الثقافة الباطنية لزيف القيم وتعرية مضامينها الضدية , الخادمة لمصالح أفراد أو فئات محدودة على حساب المجتمع والتاريخ وحقوق الإنسان ووعيه وإبداعاته الفردية والجمعية – من هنا يُقرع ناقوساً للخطر المدمر القادم , ليس على صعيد الثقافة , بل على صعيد الحياة برمتها , ووضع وقيمة الإنسان – اليمني والعربي – في وضعية عالمية تنزع بوضوح نحو تحقيق عبودية اختيارية كونية موحدة – إعادة التاريخ القديم للقنانة بشكل جديد والأول من نوعه , والذي هو ليس إلا انهزاماً للبشرية جمعاء – قنانة نظامية عالمية ( على كافة الأصعدة ) , يكون فيه جنساً بشرياً – واحداً أو أكثر بما لا يزيد عن عدد أصابع الكف الواحدة – هو السيد المالك والأمر لبقية الأجناس البشرية , ويكون مجتمع ذلك الجنس المتسيد هو السيد الأعلى لكل المجتمعات البشرية , ويكون المُلاَّك الفعليين من ذلك الجنس المجتمعي المتسيد على العالم , هو سيد الكل من أبناء جنسه وبقية الأجناس – إننا لن نكون أكثر من قطيع مخلوق ومتكاثر إلا لخدمة الجنس الأبيض , ولن نكون إلا أدواة وفائض بضاعي لمُلاَّك رؤوس الأموال الغربية , ونخَّاسة لإشباع رغباتهم المرضية .
هذا الناقوس الذي نقرعه , نفترض فيه التحذير لأولئك السائد من فرقة النخبة القيمية – الأصيلة , بضرورة الاستعجال في خلع أردية « الخوف , الهروب , الاستسلام السلبي , اليأس , الذرائعية » , فالمرحلة الانتقالية الراهنة لن تطول كثيراً , وأية صحوة متأخرة نسبياً ستكون غير ذي جدوى , بعد أن يكون الزيف قد كلس الحياة ومنطقها , ونخر في الإنسان عقلاً ومسلكاً , وأعاد تشكيل الضمير والاعتقاد , وسادت ثقافة – وطنية وقومية – مهترئة , شديدة الهشاشة والسطحية , فاقدة لمعالم التميز الاجتماعي الخاص ( في مفهوم الحضارة الخاصة ) , مقطوعة الجذور بالإرث – القديم الإيجابي لحضارة المجتمع , وقائمة على جذور عصرية رخوة لا تمنحها سوى تسليم إنسان مجتمعها طواعية للقنانة الكونية – ذات الاستهداف الغربي للمستقبل , بل إنها تمتلك خاصية التعجيل لتسليم إنسانها , مقارنة بتلك المجتمعات الأخرى من العالم الثالث , التي ما زالت متسمة بالحياة ( أي الحيوية ) , لكونها تحتوي ثقافاتها الخاصة إرثاً عظيماً من فكر المعارضة والصمود المتجدد على الدوام , في دائرة صراع الوجود المصالحي للبشر و والتي – أي ثقافاتها الخاصة – تقيم من ذاتها معادلاً صعباً في قبول أو تقبل العالمية ( المعاصرة ) بصيغة العولمة ( الغربية ) – خاصة في الثقافة – فتجعل مصير نجاح مشروع العولمة – ثقافياً – أمراً مشكوكاً فيه بالنسبة لمجتمعاتها .
إن كل ما تقدم من طرح مختزل , يمثل أرضية جوهرية للتعاطي النقدي – الفني , الأدبي والعلمي – فهو يكشف غياب النقد , ويكشف ثانياً كذبات النقد السائد في الحياة الثقافية , ويكشف ثالثاً كذبة الحداثة التجريبية في الفن والأدب , تلك التجريبية في الحداثة التي لا يمكن التعامل معها كإبداعات أصيلة – على الإطلاق – فلا أصالة لها – مهما كانت – إذا لم يجر تأصيل نقدي جمالي وعلمي رصين لها , وليدرك كل الواهمين بالفرادة والتجديد , ومتعاطي نقد الإطناب أو التشهير في سوق الثقافة الخبرية أن المعركة معهم لن تتوقف , وهي دعوى أيضاً لكل الأصلاء من المبدعين المقتدرين على الخروج إلى المواجهة الشريفة ضد تدمير قيم الثقافة – الوطنية والإنسانية – في واقعنا الاجتماعي , وليدرك كل ممنوح لوسام الإبداع والثقافة – في وقتٍ زمني مشبوه , وهو لا يرتقي لتلك التسمية , أنه لن يكون سوى عابر منسي , ونصيحة لتلك الروافد – المغبونة – من الناشئة حديثي ممارسة الإبداع ودور المثقاقفة , الذين يقعون في دوائر وهم التفوق والتفرد , أن يتنبهوا لعدم اجترار وهم ما صُوِّر لهم , وليعترفوا بموهبتهم والاعتزاز بها , كموهبة فردية لا يمكن أن تُثْمِرْ تفرداً إبداعياً عبر النشر في صحف ومجلات هذه الأيام , ولا عبر صيغ المخاتلة والإطناب الشفوي أو المكتوب من أناس سُيِّجتْ حولهم كذبة الثقافة والنقد , وهم معروفون بذلك الدور المتكرر لتحطيم كل موهوب قادم , من خلال إعلاء شأنه وهو ما زال يحبو في بدايات اكتساب الثقافة والممارسة لفرع من فروع الإبداع الفني والأدبي , موهبة لن تثمر غلا في وجود نقد علمي جمالي صادق , يفضي إلى تأصيل القيِّم من التجريب الإبداعي , ويفتح أفق تجاوز العثرات , وتجاوز الذات المبدعة في تجريبيتها من الارتهان لقيود تقود على الدوام إلى تجدد انتاج العثرات في كل خلق تجريبي , إذا ما جُيَّر المبدع ( في الفنون والأدب ) , منصوصات خلق الإبداع النقدي ( الأصيل ) لصالحه , فإنه بالضرورة سيصل في التجريب الحداثي ( بالدلالة الزمنية) إلى خلق النص الكامل , الرائع .. على الدوام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي