الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: النهر السابع

دلور ميقري

2023 / 10 / 8
الادب والفن


1
غير عابئاً بهيبَة وظيفته الجديدة، المُخوّلة له الاستفادة من المَركوب والمُرافقة، خرَجَ على قدميه من القلعة، عبرَ بابها الرئيس، ثمّ أكمل طريقه مُحاذياً سورها من جهة العَمارة. فما أن تراءى لعينيه بابُ الفراديس، حتى رأى خطوه يُراوحُ ثمّة ببطء. كان قد تمّ رفعُ جثة آمر القابيقول، على الرغم من أنّ يوماً واحداً، لم يَنقض بعد: " إنّ رفعَ تلكَ الجثة العاريَة والمُمثل فيها، كانَ احتراماً لشهر الصّوم على الأرجح "، قالها في سرّه فيما يتطلعُ إلى ناحيَة الباب المُطوّق بالمحال التجاريّة. ثمّ ما لبث أن استعاد، مَكروباً، مَشهداً أسبق: " لم يكن ذلك حظ المَملوكيْن، التعسيْن، في آخر المطاف ". فما أن همّ بمُغادرَة المكان الكئيب، القليل النور، حتى أضاءتْ ذهنه فكرة أخرى: " لقد سبقَ للعشاب العجوز، العامل لدى القاروط، أن تنبأ بما سيَحصَل هنا. فهل أنّ إعدام آغاوات الانكشاريّة بمَثابة الدليل إلى مَكمن الكنز؟ "، استطردَ في مُخاطبَة نفسه. نعم. إنّ العشّابَ قالَ له، حينما سأله عن بديل ما لخاتم مولانا، الذي كان الآغا العطّار قد فقده: " إنّ زمنه، خاتم الطلاسم، مَوقوتٌ بكوكب عطارد؛ المَنذور ليوم السبت ". فيا لها من نبوءة ( أو اتفاق قدريّ ربما )، أن يعثرَ ميخائيل على الرقّ في يوم السّبت وبمَعونة من ورقة القاضي المُذيّلة بخاتمه؛ القاضي، الذي استدعيَ إليه للشهادَة في أمر آغاوات الوجاق: وما باب الفراديس هذا، أين رميَ آمرهم الطاغيَة في الخندق القريب منه، سوى رَمزاً لكوكب عطارد؛ بحَسَب اعتقاد الأقدمين.

" لا بدّ لي، حالاً أو آجلاً، من طلب مَعونة ذلك العشّاب، بُغيَة حلّ لغز الرقّ "، قالها ميخائيل بسرّه فيما كان يجتازُ مَدخلَ القصر، المُضاء بمَشاعل باهرَة النور. بالمُقابل، كانَ السلاملك ضعيفَ الإنارَة ومَشمولاً بالهدوء ، حينما قادَه إليه أحدُ الخدَم. فما هيَ إلا هنيهة، وكانَ البكُ قد قدَمَ لتحيّته: " إنّ كبيرَ المَجلس نائمٌ ثمّة، في حجرَة بجناح الضيوف. إنه أفضل حالاً الآنَ، وجرحُهُ ليسَ بالخطير "، قالها القاروط من فوره. ثمّ أضافَ وقد أدركَ استغراب الضيف من خلوّ المكان " أما بقيّة الأخوَة، فإنهم مَضوا إلى شؤونهم بعدما اطمأنوا على عافيَة الكبير ".

" وصديقنا، الآغا العطّار..؟ "

" إنّ العطّار في مَقرّه المُعتاد، المُفضل "، أجابه البك وهوَ يُشير بيَده إلى ناحيَة الحديقة. ملامحُهُ، النادرَة التعبير، كانت إذاك تختلجُ بهمّ غامض. فبدا كأنما كانَ يودّ الإفضاءَ بأمر ما، مُلحّ. " هل تناهى لعلمه، بشكل ما، سرّ ورقة الكنز؟ "، تساءل ميخائيل في نفسه. بيْدَ أنه، مُتذكراً على غرّة مأدبة السردار، استدرك بتعويل أمر اهتمام البك عليها. فراح إذاك يقصّ على مَسمعه، وبإيجاز، ما جدّ هناك من أمور. إلا أنّ ما ظهرَ على قسماته من علامات، كانَ يوحي بعدَم رضاه عن الحَظوة تلك؛ التي إستثنته بالرغم من كونه الوكيل السابق لعزيز مصر في الشام. رَمَى البك برأسه إلى الوراء، وراحَ يَتمطى بحرَكة ضجرَة. عند ذلك، باحَ له ميخائيل بمكنون نفسه: " من المؤكد أنّ السردار، لا يَقلّ مَكراً ودهاءً عن الآخرين. إنه بتقليدنا تلك المَناصب، أنا وشمّو آغا وآغا يقيني، كانَ يَضمرُ شقّ لحمَة مَجلس العموميّة. وإلا فكيف يستثنيك رجلاً، برفعتك ومنزلتك، من عضوية مجلس الولاية؟ "
" مهلاً، يا عزيزي. كيفَ أنهم لم يبلغوك ثمة في القلعة، أن سردار العسكر قد عينني نائباً لشريف باشا؟ "، قالها القاروط مُعقباً. بقيَ ميخائيل صامتاً، مذهولاً. ثم أستطرد الآخرُ بالقول، موضّحاً وبسمة ساخرة على طرف فمه: " أما تخلّفي عن المأدبة، فبسبب ما جدّ من هجوم الإنكشارية على منزل عبد اللطيف أفندي. في حقيقة الأمر، أنّ ميخائيل ما كان ينتظرُ وظيفة أقل شأناً للبك، المعروف بأنه تقريباً ربيب عزيز مصر. إنما مبعث دهشته، أن يسمع الخبر من المعنيّ وليسَ من أصحاب الشأن في القلعة. على ذلك، هنّأ القاروط بالمنصب السامي، وما عتم أن إستأذنه في الذهاب لمُلاقاة صديقه العطّار.

ثمّة، في حجرَة المُختبر، كانَ صديقه جالساً إزاء طاولة عمله، المألوفة. رآه وحيداً، وكانَ مُنكبّاً على مصفاة للتقطير، يَستعملها في تحضير بعض صفات العطارة. فما أن رفعَ رأسه، حتى خاطبه ميخائيل بجَذل: " كم أنا مَحظوظ باللقاء معكَ، هنا ". إلا أنّ مُلاحظته من ثمّ للطخات من الدّماء، الجافة، المُبقعَة على طرَف كمّ قميصه، كانت كفيلة بتغيير مزاج لهجته: " وإذاً، أنتَ من اعتنى بجرح الزعيم؟ "، قال مُستطرداً. وكانَ العطّارُ ما فتأ يتمعّنَ فيه، حينما أجابَ ببطء: " وماذا كنتَ تظن، يا آغا. ولكن، أكنتَ طوالَ اليوم هناك، في القلعة؟ "

" وماذا كنتَ تظنّ، يا رَجل؟ "، أجابَ مُقلداً تعبيرَه. إنما شاءَ مَرَحه أن يتنحّى تماماً، عندما أضافَ ميخائيل بنبرة حُزن: " إنكَ، على ما يَظهر، لم تدر بحقيقة ما جرى هناك، في منزل الأفندي. إنّ المُشرفة تلك، قتلتْ أثناء الهجوم "
" شمس..؟ "، هتف بجَزع قاطعاً كلامه. عند ذلك، وفيما كان يهمدُ بقنوط على الكرسيّ، أخذ ميخائيلُ يَروي تفاصيلَ الواقعة.

من النافل، طبعاً، ذكرُ ما كانَ يَكنه أفرادُ الوجاقات والأورطات من كراهيَة لبعضهم البعض؛ وخاصّة، تلك المُنافسَة الأزليّة بين فرقتيْ اليرليّة والدالاتيّة للفوز بمَوطئ قدَم دائم في القلعة. ولكنّ وجاق اليرلية كانَ قد انتهى من زمان؛ وجاء دورُ الشريك، وجاق القابيقول، كي يلقى المَصير نفسه: إنّ آمرَ قشلة القول، المُستقرّة في مئذنة الشحم، كانَ على الأرجح يُقلّب فكرَه بما مَضى، حينما أعلموه بوصول حاجب آغا باقوني.

نعم. لم يكُ صائباً أمرُ الدالي باش بإطلاق سبيل ذلك الحاجب، والذي اتخذه صباحاً. إذ ما أن أوصلَ الرجلُ نفسه إلى داخل مقرّ قيادَة القول حتى توجّه من فوره لمقابلة الآمر. هذا الأخير أدركَ إذاك، وهوَ يغلي غضباً، أنّ آغاوات الوجاق قد وَقعوا ضحيّة مَكيدة مُحكمَة؛ ثمّة، في منزل عبد اللطيف الأفندي. فقرّر أن يَتحرّك بسرعَة لإنقاذهم، طالما أنّ الحاجبَ كانَ مُتيقناً بأنهم ما فتئوا مَحجوزين هناك. ولكن، بما أنّ مَقرّ القشلة نفسه كانَ مُطوّقا بأنفار الأورطات، فإنّ الآمرَ تريّث قليلاً كي يَتدبّرَ حيلة مُناسبَة، تكونُ جديرَة ًبالحيلة تلك؛ التي اعتمَدَها أولئك الخصوم في الإيقاع بجماعته.

في منزل الأفندي، كانَ على ذلكَ الصّباح، بالمُقابل، أن يَطلّ أقلّ جَهامَة وبَرْطمَة. إلا أنّ النساء والخدَم، حَسْب، من تسنى لهم العودَة إلى الفراش؛ طالما أنهم حُرموا أيضاً من نعمة النوم بما كانَ قد دَهمَ الدار في الليلة المُنقضيَة. إنّ التقليدَ الرّمضاني المَعروف، كانَ يقضي على كلّ حال بتعطل الأهلين عن مَشاغلهم نهاراً وإلى ساعَة مُتأخرَة من الظهيرَة. المُضيف وصهرُه الزعيم، كانا إذاً بمنأىً عن الراحَة في ذلكَ الصباح؛ هما المُنهمكان بأمر جنازة كبير الخدَم، المَرحوم عصمان أفندي. لقد تقرّرَتْ الصلاة على جثمانه ظهراً، في المسجد المُظفري الكائن بالصالحيّة، على أن يُدفنَ من بعد ثمّة في مقبرَة الجوعيّة.
لما حانَ الوقت، تقدّمتْ في طريقها الجنازة المُتواضعَة، المُقتصرَة على الوَجيهَيْن وبعض الخدَم، ممن رافقوا مَشياً العربَة المُحمّلة بجثمان الراحل. وكانَ الموكبُ قد تجاوز بالكاد آخر منازل حارَة الطليان، عندما توقفَ فجأة مع تناهي صدى أعيرَة ناريّة، عنيفة الوَقع. فما كانَ من الزعيم، المَأخوذ على غرّة، إلا الطلبَ من حَميه الاستمرار في المُضيّ مع الجنازة: " سأعودُ بنفسي، لكي أطمئنّ على أهل المَنزل "، قالها بعظيم القلق والجَزع. من جهته، وبما أنّ الأفندي على خبرَة بطبع الرّجل، فلم يكن منه إلا تركه يؤوب على أدراجه ، وحيداً.

2
كانَ حَدَسُ الزعيم بمَحلّه؛ فثمّة من كانَ يُحاول فعلاً اقتحامَ المنزل. أربعونَ فارساً انكشارياً، كانوا عندئذ في اشتباك مُحتدم، مَرير، مع قوّة الدالاتيّة، المُتعهّدَة أمنَ المكان. قبلاً، كانَ آمرُ القول قد تفحّصَ جيّداً مُخطط منزل الأفندي، المَوضوع أمامه على الطاولة. كما أنّ ذلكَ الحاجب، المُطلق السراح تواً، كانَ قد أمَدّ سيّدَهُ بتفاصيل موقع القبو ومدخله وغرفه. على ذلك، كانت خطة الهجوم تعتمدُ على قيام العدد الأوفى من الفرسان بإشغال حرَس الدار، في الوقت عينه الذي يُحاول فيه نفرٌ آخر، مُتمرّس، اعتلاء السور من جهة الحديقة وصولاً إلى حجرَة البستاني: ولم تكن هذه، التي حُجز فيها الحاجبُ طوال الليل، سوى مُحترَف المُشرفة نفسه.

نعم. كانَ من نحس فأل شمس، أن تعمدَ صباحاً إلى التوجّه لحجرَة المحترف بغيَة تفقدَها، بعدما سبقَ وعلمتْ ساخطة ومُشمئزة بأنّ أحدَ الانكشاريين قد قضى الليل مَحجوزاً فيها. على أنّ الفتاة التعسَة، المُتثاقلة الرأس بسبب القلق والإعياء والسهاد، ما لبثتْ أن وَجَدَتْ نفسها تستسلمُ للنعاس. وعليها كانَ، مرتاعة صارخة، أن تستيقظ على حدّ الظهيرَة؛ وعلى حدّ سيف الإنكشاريّة، المُسلط.
" إنّ جثثَ ثلاثة من المُهاجمين، كانت مُتناثرَة هناك عند مَشارف المُحترَف، عندما انتهتْ الواقعة "، قالَ العطّار لصديقه مُتنهّداً بأسى. إلا أنه طفقَ صامتاً، مُتردّداً في إكمال روايَة الحَدَث. وكان الآخرُ قد هجسَ بمَبعثَ سكوت مُحدّثه، الذي تناولَ جرّة ماء صغيرَة كانت مَوضوعة تحت الطاولة. مُحرجاً، راحَ العطّارُ يعبّ من الجرّة كي يخفف من تأثّره: " أنتَ أوصيتني بشرب الماء باستمرار.. في وَقت الإفطار، طبعاً. لأنّ قلة الترويَة في الجَسم، كما ذكرت لي، تورّثُ متاعبَ للكلي والمَعدة والدّورة الدمويّة ". بيْدَ أن ميخائيل، الغائص في لجّة القنوط، أصرّ على مَعرفة ما جرى لشمس. إذاك، أبعدَ بلطف اليَدَ الصديقة، المُمتدة نحوه بالمُعين العذب، ليتساءل من ثمّ ببطء: " أكانَ لديهم مَجالٌ، أولئك الأوباش، للعبَث بشرَف المُشرفة؟ "

" لا أدري، في الحقيقة "

" إنكَ عايَنتَ الجثة، ولا رَيْب؟ "

" كانت الجثة، للأسف، مُحترقة تماماً حينما تمّ اكتشافها إثرَ انجلاء الهجوم "، أجاب العطّارُ مُستعيداً نبرَة الأسى. لعلّه تفكّرَ إذاك بمَصير ياسمينة، التي عثر عليها ثمة، في حجرَة السلاملك بمنزل القنوات، وكانت جثتها متفحّمة.
حينما مدّ جرّة الماء مُجدداً، فإن الحكيمَ تناولها منه هذه المرّة. الجرعات الكبيرَة، أسهَمَتْ نوعاً في تحسّن حاله.

" بعدما تصاعدَ صراخ الفتاة، هُرعَتْ صديقتها نرجس في مُحاولةٍ للنجدَة، يائسَة، أوقفها لحًسن الحظ أحدُ الخدم. إلا أنّ أولئك المُعتدين، سواءً المُتواجدين داخل المنزل أو خارجه، ما لبثوا أن طوّقوا من لدُن الأورطات. إذ وَصلَ الخبرُ لآغا يقيني، الذي كانَ آنذاك في قشلة بستان المادنة بالصالحيّة، فما كانَ منه سوى الحضور بنفسه على رأس قوّة كبيرَة. ويبدو أنّ الطلقات المُنهمرَة على حجرَة المُحترَف، هيَ من أطلقَ شرارة ذلك الحريق. لأنّ مواد الرّسم، كما تعلم، قابلة للاشتعال بسهولة "، أوضحَ له صديقه جليّة الأمر. إستفهمتُ منه ميخائيل، بعد وهلة تردّد: " ما عانته هذه الفتاة في حياتها، وطريقة موتها، لأشبه بالقدّيسات ". بقيَ صديقه يُحدّق فيه دونما جواب، فاستدرَكَ بالقول " أقصدُ، أنها كانت قد طوّبت قدّيسة لو أنها نصرانية ". وكاد ميخائيل أن يُضيف، أيضاً: " ولكنتُ قد إقترنتُ بها في حياتها، لولا أنها مسلمة ".
قال العطّارُ، مغيّراً الحديث إلى وجهة أخرى: " فقدان نرجس لصديقتها الوَحيدَة، أثرَ فيها بشدّة. فإنه لدلالة على الأخوّة، في نظرها، أن تقترحَ دفنَ شمس ثمة في منزل القنوات؛ أين مَقام ياسمينة ". فلما قالَ ذلك، قاطعه ميخائيل مدهوشاً: " مقام ياسمينة..؟ ". إذاك أخبره صديقي حكاية أقدَم عهداً بقليل: " في فترَة سجنكَ بالقلعة، شاءَ الزعيمُ أن يُحقق أمنيته في تحويل منزل القنوات إلى حديقةٍ، يتوسّطها مقامٌ لابنته الفقيدة. وقد بوشر العملُ وقتذاك بإزالة العمائر تلكَ، المُدمّرة بفعل الحريق، بإستثناء المنظرة، التي بقيتْ بمَنجى منه ". لم يُعلق ميخائيل بشيء حول الموضوع. ولكنّ ما لبث أن خاطب صديقه، بالقول: " إنه يومٌ، ثنتْ المُكاشفاتُ مَسارَهُ؛ مذ أن امتطى إشراقه الفوزُ وإلى أن روّعتْ الخيبَةُ غروبَهُ ".

المَنظرة بَدرٌ، يلتحفُ المنزلُ بنوره. النورُ سناءٌ، تضاعفَ بأنجم الغواني المُتألقة، المُتحلقة حولَ البحرَة؛ بقيّن صَادحات مع زميلاتهن، الساقيَة والمُسامرَة والراقصَة. كنّ أربعتهنّ مُنقبات الوَجه ببرقع سَميك، فيما أبدانهنّ على عُري صاعق أو شفيف.

البحرَة البيضويّة الشكل، فصّ جُمان؛ سلسبيلها الفضيّ، يَنسابُ كالأراقم في جَوانب الجنينة وإلى مُنتهاه عند أرجل الخوان؛ أين المَجلس المُرفه.
الخوانُ، صولجانُ ياقوت؛ عنقه القصيرُ، المُلبّس بالذهب، تتخلّله أناملُ رجالٍ أتلعتْ الأباريقُ جيادَها لأجل فتحهم هذا، الليليّ. الأباريقُ جيادٌ، والوصيفُ الأمرد سائسُها؛ أينَ أقبلتْ الأقداح، مُترَعَة، لتدْبرَ من ثمّ خاويَة على عروشها. الأقداحُ الذهبُ، تديرُها يَدٌ ناصعَة لمَملوك أو يَدٌ أخرى لعبد أسمَرَ. المُضيف سلطانٌ، والندامى حاشيَته: كانَ الحكيمُ أقربَ إليه منهم؛ باستلقائه على المفرَش الوَثير، المُرتفع قليلاً عن الأرضيّة الحجرية. وسائدُ ريش النعام، المُظهّرَة بالبروكار، جُعلتْ ظهيراً لجسَد البك، المُسترخي بكسله العريق.

الجسَدُ، كانَ مُكتس بقميص خفيف من الخزّ الأزرق، مُنحسر الأطراف إلى حدّ معصمَيْه. أما رأسُ المُضيف، الحاسرُ بدَوره، فإنه كانَ مُنجذباً عندئذ صوبَ أنغام المَثاني والمَثالث، المُتراقصَة على إيقاعها الرّتيب، تلكَ الغواني الثلاث، والمُترافقة بين حين وآخر بشدو رفيقتهنّ؛ القيّن الصادحَة. كلّ منهنّ كانت مُترفلة بغلالة رقيقة، مُطرّزة بخيوط ذهبيّة، مُتماهيَة وماس الكنز ذاك؛ المُتكوّر بين أعكان السرّة والأوراك.

" إنه صاحبُنا؛ العشّابُ العجوز.."، صرخت الفتياتُ معاً مُتقلّبات على ظهورهنّ في أهأهة صاخبَة. إذاك، كانَ مسخٌ غريب الهيئة، شبيهٌ بفزاعَة الطيور، قد اندفعَ من مَكمنه. فما كانَ من أولئك الغواني إلا الانقضاض عليه بشبق، حتى أطحنَ عن رأسه القبعة المُزركشة، الكبيرَة كالطبق. وبلغ المَرحُ بهنّ أن حمَلن المُهرّج هذا ليقذفنه في وَسط البحرَة، وليقذفنَ أنفسهنّ ثمة على الأثر.
أصواتُ الهرَج والجلبَة والمَجون، خرَسَتْ على غرّة ما أن انتفضَ المُضيف مُغادراً المكانَ. وإذ بدا الجَمْعُ، المُلتخ سُكراً، كما لو أنه صحا مرّة واحدَة، فإن الحكيمَ بالمُقابل ما لبث أن شعرَ بجذوَة الرغبَة المُضرَمَة، وهيَ تصلّبُ المَوضع الخفيّ من بَدَنه.

" الأليات الرائعة قد ثنتكَ عن مَهَمّتكَ، المُهمّة "، همسَ إليه الآمرُ برَطانة ثملة. فأجابه الحكيمُ بلسان لا يَقلّ ثقلاً: " إنها نارٌ، يا سيّدي؛ نارُ الآخرة، ونحنُ خزنتها "

" فأعجل عليّ، إذاً، بولوج مؤدلجها الجهنميّ "، قالها وعيناهُ تشيّعان إحدى تلك الأبكار، الخارجات من البحرَة. وكانت هذه الفتاة الحسناء، المُتوّجة بإكليل شعرها العقيق، عاريَة إلا من غلالة رقيقة، مُبتلة، تكشف كلّ جارحَة في جسَدها. بدَوره، راحَ الحكيمُ يتأملُ الفتنة المُباحَة لعيانه، مُركّزاً على العجيزة الفارهَة، البَهيّة، لحظة انحناءة الجزع القصوى: " أتتعجّل، يا سيّدي، على لحم احليلكَ شوْياً على جَمْر تلك الحلقة؟ "، خاطبَ جارَهُ مُجدّداً. مُحدّقا بشراهة في المكان عينه من نبع اللذة، ردّ الآغا: " إنه خاتمٌ، يا رَجل؛ خاتمٌ، مُناسبٌ لإصبع الجَماع ". وكانَ بصرُ الحكيم ما برحَ مَحموماً يَتوقلُ في مَفاتن الفتاة؛ في المَوضع ذاك، المَرفوع على عَمودَيْن مُدمْلجَيْن، مُرخمَيْن بلجَيْن. عندئذ التفتتْ هذه نحوَ الحكيم، لتحسُرَ برقعها فجأة. وقالت له شمسُ، على الأثر، بصوت مُرتفع: " بل إنه خاتمُ النجاة، القدسيّ؛ خاتمُ ورقة الكنز، المَفقودَة ".

3
" ميخائيل! انهض، بالله عليكَ! "، هكذا كانَ الآغا العطّار يُردّدُ بينما يَده تهزّ صديقه، المُستغرق في فجّ عميق من سباته. عيناهُ، المَمهورتان بختم النوم ، ما لبثَ أن تفتحتا على نظرَة مُتسائلة، جَزعَة. وميّزَ شخصَ صديقه، أخيراً، بفضل نور المَسْرجة الشحيح؛ المسرجة، التي سبق ووضعها الخادمُ في خدمته قبل انصرافه. وكانَ الخادمُ هوَ من تعهّد بدَوره إيقاظ الآغا، لكي يتناول السّحورَ، ثمة، في قاعة الطعام.

" علينا أن نهرَع، من فورنا، إلى منزل الزعيم "، خاطبَ ميخائيلَ بصوت كالهمس حالما استقامَ هذا بجذعه في الفراش. ثمّ استأنفَ القولَ: " نرجس مُصرّة على دفن صديقتها، هناك في بيت القنوات. ففي هذه الساعة، التي تعقب الإمساك وصلاة الفجر، يكونُ الخلقُ نياماً جميعاً. فلن يتسنّ للزعيم، أبداً، أن يَعرف بالأمر ". وَضع ميخائيل كفه على جبين صديقه، في حرَكة مألوفة؛ تفصحُ عن رَيبته بكونه مَحموماً. ففي ليلة الأمس، أيضاً، كانَ قد اشتبَه بشيءٍ من علامات الهذيان، المُرتسمَة على ملامحه تأثراً بخبر مقتل شمس.
" أرجّحُ أن تكونَ قد أفقتَ، مُبلبلاً، إثر حلم أو كابوس "، قالها مُشفقاً. ولما وافقه بهز رأسي، فإن ميخائيل إستعاد فجأةً شذراتٍ من الحلم. فروى ما أسعفته الذاكرة من الحلم. إلا أن الآخرَ، رأى أن يُصححَ التعبيرَ: " بل هوَ رؤيا وليسَ حلماً. وثمّة سبب، يُجيز لي حَملَ ذلكَ على أخفاف الواقع ". علامات الاهتمام، بدَتْ إذاك على قسمات الطبيب؛ هوَ المُهتمّ بالأحلام والعليم بتفاسيرها، فضلاً عن معرفته الراسخة بأمور الأنجم والأفلاك. فاستطرد عندئذ العطّار، لكي يحثّ همّته: " اعلم إذاً، يا صديقي، أني رأيتُ مؤخراً أكثرَ من منام؛ يكرّرُ المَشهد نفسه: مَنظرة على شكل قبّة مَرفوعة على أعمدَة أربعة، مُرخمَة. وهذا العددُ يتمثل دوماً برموز أو فتيات. وفي إحدى تلك الرؤى، سمعتُ هاتفاً يُنبئني بأنّ القبّة هيَ عرشُ السرّ الأعظم "

" عرش السرّ الأعظم..؟ "، ردّدَ ميخائيلُ ثمّ أردَفَ مُستفهماً: " أهوَ سرّ الكناش أم سرّ الجرائم، ربما؟ ". عند ذلك، راح بنفسه يقصّ على صديقه تفاصيل ما حُلم الليلة. وكانَ العطّارُ مُطرقاً، ينصتُ إليه بانتباه. فلما سكت الراوي، فإن الآخر رفعَ رأسه وقال باقتضاب: " هو رؤيا، حقا ". إلا أن ميخائيل قال بشيء من السخريَة: " إني مُتسامحٌ معكَ، في أمر إزعاجي. ولكنني، من ناحيَة أخرى، لن أشارككَ في تنكيد إغفاءة الآخرين، لخاطر حلم أو رؤيا أو سمّه ما شئتَ. فلتعُد إلى فراشكَ، يا عزيزي، فإنّ الأمرَ لا يَستدعي العجَلة ". بيْدَ أنّ ميخائيل، على دَهشة صديقه، أخلدَ بعدئذ للتأمّل لا للنوم. إذاك، أدرك أنه بدأ بمُشاركته هواجسه. لقد تساءل بالأمس: " لمَ رفضَ الزعيمُ، بإصرار وغضب، أمرَ دفن شمس في حديقة منزله، واصفاً ذلكَ بالجنون والتجديف؟ ".

" إنّ أمرَ الكشف عن السرّ، مَرهونٌ باجتياس أرضَ المَقام، الياسَميني "، قال للطبيب بتصميم ثمّ استدرَكَ: " ولأنّ الزعيمَ، بنفسه، سبقنا إلى هناك منذ وقت قصير ". فلما تساءل صديقه عما يعنيه، ما كانَ منه سوى مُكاشفته بريبته في مَسلك الزعيم؛ مُعيداً على مَسمعه ما كانَ قد جرى عند مَدخل القصر: " كنت أتمشى بعيد صلاة الفجر، فأخبرني أحد الحراس بأن الزعيم غادر المكان قبيل موعد السحور ". فما أن أنصتَ إليه ميخائيل، إلا بانَ الشكّ في عينيْه: " ماذا تقول؟ أيُمكن لرجل وَجيه، في مَقام كبير الأعيان، الإتيان بحماقة كهذه؟ إن جرحَهُ طريّ، بعدُ "، قالها وقد أدركَ مَرمى كلامه. ثمّ أعقبَ بنبرَة الاستياء ذاتها: " من المُحتمل، فعلاً، أنّ داعٍ ما دفعَ الزعيم إلى ارتياد مَسجد الورد لكي يُصلّي هناك. فلمَ علينا الجزم، بأنه ذهبَ إلى بيته القديم؟ "

" لأني أعرفُ، يقيناً، أنه لا يفعل ذلك ما دامَ ثمة مصلى في المنزل؛ بله وهوَ الجريح "

" ولكن، ليسَ في مصلى شخص مثل القاروط؛ شخص مُلحد، في نظر الزعيم "

" ها هوَ الفجرُ قد انبلجَ الآنَ. فما علينا سوى وضع الظنّ في ميزان اليقين، فنذهب بدَورنا إلى ذلك المَكان "

" إلى أين..؟ "، قاطعه ميخائيل نافخاً بقنوط. إذاك، رأى العطّارُ أنه من الأجدى أن يعمد إلى المُداورة: " مهلاً، يا صديقي. لقد أنبأتكَ أمس بأمر ورقة الكناش، المَفقودَة. وكنتَ أنتَ قد نهيتني عن الاستعانة بالعشّاب العجوز، بما أنه ربيبُ هذا القصر. حسنٌ، إنّ ذهابنا لمنزل عبد اللطيف أفندي، والحالة تلك، سيحققُ لنا أكثر من غايَة. ولا تنسَ جنازة صديقتنا، المَرحومة المُشرفة، وضرورة أن نكونَ هناك قبل الآخرين لتقديم المُساعدَة المُمكنة ". وكما أملَ، سكتَ ميخائيل عندئذ عن الجواب. لقد غلبَته الحُجة، ولا جدال. حال خروجهما من القصر، فإنّ بابَهُ قد استفتحَ باتفاق، غريب. إذ وفيما كانا يهمّان بركوب الكرّوسة، كانَ الشاملي يُقبل من الناحيَة الأخرى، المُفضيَة إلى المَدينة القديمَة.

4
وبما أنّ الوقتَ كانَ على مَشارف الفجر، فإنّ القادمَ أبدى نوعاً من الدهشة ما أن لمَحهما. ثمّ ما عتمَ أن أحنى رأسه بتحيّةٍ، مُقتضبة. إلا أنهما هُرعا نحوَه، بُغيَة الاطمئنان على عافيَته: " أرجو أن تكون بحال أفضل، يا سيّدي "، قال ميخائيل بودّ وصرامة في آنٍ معاً. ثمّ استلل لمحَة من هندام الرجل، المُعزز بعباءة من وَبَر الجَمل الخشن. فلاحظ أنّ كمّ العباءة، الأيمن، كانَ فارغاً؛ بالنظر إلى إخفائه تلكَ اليَد، المُصابَة من أعلاها.

ميخائيل، كونه طبيباً، فإنه لم يَتهاوَن في أمر مُعاتبَة مَريضه. فخاطبَ الشاملي: " ما كانَ يَجوز لكَ، أيها الزعيم، مُغادرَة حجرَتك. إنّ جرحَكَ طريّ ما فتأ، ومن المُمكن لا قدّر الله أن يَلتهبَ بسهولة ". أبدى الرّجلُ التفهّمَ، بحرَكة من يَده اليُسرى المَرفوعة إلى رأسه. إلا أنه ما لبثَ أن إستفهمَ ما إذا كانا في سبيلهما إلى القلعة. عندئذ كانت عيناهُ، العميقتا القرار، تشعان ببارق خفيّ من الغيظ والسّخط.
" بل إننا في الطريق إلى منزل الأفندي، للقيام بواجب المُشرفة، رحمها الله "، أجابه العطّارُ بعبارات مُشتتة. وفيما كانا يستودعانه، بادرَ هوَ للقول على غرّة: " إنّ الجثمانَ سيُدفن ثمة، في الصالحيّة؛ في تربَة مَولانا، قدّس سرّه ". وكانَ بودّ نيخائيل عندئذٍ السؤال عن كيفيّة مَعرفته بالأمر؛ ولكنه أمسكتُ لسانه: فإنّ رجلاً وَجيهاً، بمَقام كبير الأعيان ـ فكّرَ ميخائيل ـ لا يجوز التساؤل عن مَصادر أخباره.. ولا حتى عن الأمكنة، التي من المُمكن أن يَرتادَها في صباح مُبكر؛ هوَ الجريحُ، غير المُعافى بعدُ.

" عليكَ بالانعطاف نحوَ جهة القنوات، أيها الحوذيّ "، خاطبَ ميخائيلُ العجوزَ، على حين فجأة، فيما كانت العربَة تسعى في درب السوَيْقة. دونما حاجة منه للمُساءلة، أومأ الحوذيّ برأسه علامَة على الإذعان. أما من جهة صديقه، فإنه توجّهتُ إليه مُستفهماً باستغراب: " باسم الله، عليك. ماذا دَهى، يا حكيم، لكي تتخلى عن عنادك؟ "

" إذا كنتُ قد تقمّصتُ صفة رأسكَ، الكرديّ، فها أنا ذا أتبرأ منها بسرعَة "، أجابَ بلهجة جَذلة. بيْدَ أنه كانَ سريعاً، من ناحيَة أخرى، في الانكفاء إلى لهجته المألوفة، الجدّية: " أعترفُ، يا صديقي، بأنكَ كنتَ على حقّ في ريبَتكَ: إنّ هيئة الزعيم، الخارجيّة، كانت تدلّ على أنه قضى للتوّ عملاً ما، صعباً "
" أعتقدُ أيضاً، أنه قبلَ ذلكَ كانَ قد تدرّجَ مشياً إلى مدرسَة الحديث، القريبة "
" ليسَ بالضرورة. من السهل عليه ولا غرو أن يأمرَ أحد الحوذيين، العاملين بتصرّف القصر، أن يوصله إلى المكان الذي يُريده "

" ولكن، ماذا كانَ شغلُ الشاملي ثمّة؛ في منزله، المَهجور؟ "

" هذا، يا صاح، ما أودّ أن أسبرَ غوْرَهُ "، أجاب ميخائيل بغموض. ليسَ في تلك اللحظة، بل فيما بعد، شاء الآخرُ التعقيبَ على الجملة الفائتة، المُلغزة، بجُملة أخرى لا تقلّ إلغازاً. وعلى كلّ حال، فإذ كانَ فعلُ " سَبَرَ "، في العربيّة، مُرادفا لفعل " نقّبَ "، فإنه تفكّر إذاك بماهيّة الفكرَة التي كانت آنذاك تراودُ ذهنَ صديقه الحكيم.

" كلّ مَدَدٍ، إن هوَ إلا بَدلٌ من حقيقة صاحبه "، ندّتْ عن العطّار بصَوت مُنخفض، طالما أضحى وصاحبه داخل منزل الشاملي. وكان يُعلّق على مَشهدَ القبّة، المُتبدّي عن قرب لهما. ليسَ حَسْب مَظهر هذه العمارة، هوَ ما أنبتْ عنه الرؤى المُتواترَة، التي عادَتهما كلاهما في الآونة الأخيرَة؛ بل وأيضاً ما تضمّه في داخلها. إنما يَتعيّنُ، أولاً، وَصف عَمارة القبّة بجملتيْن لا غير. إنها دقيقة الحجم، مَبنيّة من الحجَر المُلبّس بقطع الفسيفساء. علاوة على أعمدتها الرخاميّة، الأربعة، المُتوسّطة الطول: وعلى ذلك فإنّ مُصمّم قبّة المَقام، أو صاحب فكرتها، أرادَها أن تشبه، كثيراً أو قليلاً، قبّة الخزنة في الجامع الأمويّ.
" ولكن، أيّ مَقام هذا؟ "، استطردَ العطّارُ هامساً. وما كانَ ثمّة داع، للحقّ، في كلّ الحيطة والحَذر، المُحكّم مسلكهما هنا؛ في هذا المَنزل المَهجور. فإنّ ناطور البستان ( هل أضحى للمَكان، وقفٌ فعلاً؟ )، الذي خصّصتْ له المَنظرة، ما كانَ من المُحتمل أن يأتي إلى عمله في هكذا ساعة مبكرة.

" بلى، يا صديقي، كانت ثمّة جثة مَدفونة تحت هذه القبّة "، أجاب ميخائيل بُعيدَ مهلة تفكير وَجيزة. حدّق الآخرُ في عينيه مَندهشاً، مُتسائلاً، فما كانَ منه إلا الإشارَة بيَده إلى المَكان المَطلوب. نعم. كانَ ثمّة خلخلة في الأرض المُستويّة، المُخضوضرَة، وكأنما عُبثَ فيها حديثاً. فضلاً عن ذلك، فإنّ حفنات قليلة من التراب كانت مُتناثرَة خلل الحشائش، مما يَدلّ على أنّ أحدهم أرادَ إخفاء ما كانَ من عَبثه، المَوصوف.

" ليتنا أحضرنا رَفشاً ومَعولاً، لكنا نقبنا هنا عن الجثة "، قال العطّارُ بأسف. فردّ عليّ صديقه، مُتبسّماً بتهكّم: " لا بأس، يا عزيزي. إنّ من حَضرَ في بهرة السّحر، لكي يُنقب الأرض تحت هذه القبّة، لا يُمكن أن يكونَ ساذجاً لدرجَة تركه الجثة في مَكانها "

" أأنتَ تعني، أنّ الزعيمَ خشيَ أن تركبَ ابنته نرجسُ رأسَها، فيَكتشف الخلق عند ذلك حقيقة أنّ الابنة الأخرى مَدفونة هنا، فتبطل قدسيّتها؟
" هذا سببٌ وَجيهٌ، بلا شكّ. إنّ إيمان المسلمين بعقيدَة " الغائب "، يبدو وقد انقلبَ من الرجال إلى النساء! "، قالها ميخائيل برصانة ودونما نيّة مُبطنة.

" ولكن، ما هذا؟ "، هتفَ العطّار وهوَ يقلبّ بينَ أصابعه خاتماً مُنمنماً. وكان قبل قليل قد جَرَف بوساطة عود صغير تلك الأتربَة، المُتخلّلة حشائش أرضيّة المَقام، مما أدى على ما يبدو إلى انبثاق هذا الشيء الثمين. بلى. لدى تفحّص الخاتم عن قرب، تبيّنَ أنّ جسمَه من معدَن الذهب فيما رأسه من العقيق. فما أن حدّق المُكتشفُ ثانيَةً في الجوهرة المُشكّلة فصّ الخاتم، حتى لفته شكلُ نجمَة من الماس منقوشاً ثمّة، ولا يكادُ يبين لدقته.

" إنّ هذا الخاتمَ كانَ يُزيّنُ إصبع ياسمينة حتى يوم اختفائها، أبداً "، قال لميخائيل عارضاً لناظرَيْه ذلك الغرَض. تناولَه الآخرُ، ثمّ راحَ بدَوره يتأملُ الفصّ والنقش: " أجل، إني أرى شكلَ زهرَة الياسمين، المُرقشة بالماس ولا رَيْب "
" إنّ أختها أيضاً، تتزيّن بخاتم مُماثل عليه نقش زهرة النرجس "
" لأن كانَ هذا خاتم ياسمينة، حقاً؛ فإنّ صاحبته، بالتالي، لا يُمكن أن تكونَ جثة مُتفحّمَة ـ كما يُعتقد لحدّ الآن "، قالها ميخائيل ببطء. ثم أوضح: " هذا لو كان الخاتم بإصبعها عندما إحترقت ". عندئذ، شاء العطار العودَة إلى حكايَة الرؤيا. إلا أنّ ميخائيل أجازَ لنفسه بترَ كلامه في شيء من التوبيخ: " دَعْ عنكَ هذا، يا آغا. إنّ من يُريد أن يَصلَ إلى حقيقة تمتّ للواقع، مثل قضيّة الجرائم تلك، فعليه أن يقفَ على أرض الواقع لا على أرض الخرافة ". بيْدَ أن صديقه تجاهل الوَخزَ، مُتوجّهاً إليه بالقول: " حَسَنٌ. فهل لديكَ تفسير ما، لهذه المَعميّة الجديدة؟ ". فوَضع الحكيمُ يَدَهُ على كتف صديقه بمودّة، ثمّ أجابَ كالمُعتذر: " لا عليكَ، يا صاح. إننا نجتهدُ، فنخطأ أو نصيب ـ كما تعبّرون في ديانتكم ". وأضاف فيما كانَ ما فتأ يُحدّق بالخاتم: " إنّ ياسمينة، على الأرجح، قتلتْ بيَد المُجرم نفسه، المَجهول. أما جثتها، فيمكن العثور عليها بوساطة التنقيب في الحديقة "، نطقها وكأنما ليُذكّر بصفته كأحد أركان مجلس الولاية.

5
الشاملي، الشديدُ الأنفة والكبرياء، كانَ قد ترَكَ قصرَ القاروط حتى قبلَ أن يندَملَ جرحَهُ. بعدئذ، عاد إلى منزل حميّه، الأفندي. هذا الأخير، كان يقضي أيامه الأخيرة مع حفيدته قبل سفرهما إلى البندقية عن طريق ميناء بيروت.

نعم. إنّ مَعدن رجال، مثل الشاملي والعريان، الصلب كالفولاذ؛ هذا المَعدن، ما أسرَعه في الانكسار حينما يَتعلّقُ الأمر بالكرامَة والشرَف. على ذلك، فما أن أبلغ كلاهما بأنه فقدَ زعامة حيّه لصالح أحدَ المُنافسين، الوجهاء، حتى شاءَ الانكفاء للعزلة، وربما الزهد أيضاً. الشاملي، من جهته، لم يَتعيّنَ عليه خسارة القنوات حَسْب، بل وكذلك صفتيْه ـ كرأس مجلس العموميّة وكبير أعيان البلد.
ذلكَ جرى، بعد أقلّ من سنة على دَفن المَرحومة، المُشرفة. ولم تمض سوى أيام أخرى، مَعدودة، على عزل الرجلين حتى وَجد ميخائيل نفسه وهوَ يقفزُ من مكانه خلف طاولة المَكتب؛ ثمّة، في حجرَة عمله بالسرايا. لقد إنتقلت أعمال مجلس الولاية من القلعة، عقبَ ترميم السرايا وجعلها مقراً لنائب سردار العسكر.
" ربّاه، أيّ خطب هذا؟ "، هتفَ في سرّه مُرتاعاً. لقد كانَ بين الأوراق الرسمية، المُنبثقة من مُغلفاتها، أمرٌ مختومٌ بطغراء سعادتلو يَقضي بإلقاء القبض، فوراً، على عدد من أعيان الشام بتهمَة الخيانة العظمى؛ وكانَ في مقدّمتهم الشاملي والعريان.
" عليّ أن أهرَعَ، تواً، لتحذير أصدقائنا المَعنيين بالأمر "، رَدّد أكثرَ من مرّة بصوت هامس. بيْدَ أني، على حين فجأة ، استدركَ وقد عادَته فكرة أخرى: " إنّ وَضع الوَرقة هكذا، مَفتوحة قدّام عينيّ، فيه ما فيه من إخبات وخبث "، قالها في نفسي هذه المرّة. كان مُحقا في حَذره يومئذ؛ طالما أنّ عيوناً عدّة، خفيّة، أخذتْ باقتفاء آثار خطى المعنيَيْن ـ كما سبقَ وأكّدا له.

فيما بعد، وتحديداً في اليوم التالي، أخبرَ من لدُن شمّو آغا عن جليّة الأمر: " إنّ رسائلَ من أعداء سَرْدار الجيش المَصري، ابراهيم باشا، كانت قد وَصلت سرّاً لأعيان الشام كي تحثهم على دعوة الخلق للثورة. لقد عرفَ سعادَته بالموضوع عن طريق عيونه، المُتيقظين. إلا أنه لم يُحرّك ساكناً، قبلَ أن يهرعَ إلى حضرَته بعضُ المَعنيين وهمُ يَحملون له الرسائل تلك ويعبّرون عن إخلاصهم للدولة. سوى الشاملي والعريان، فإنهما تكتما على الموضوع، مما أوغر صدر سعادتلو بالغضب حدّ اتهامه لهما بالتواطؤ مع الأعداء "

" اسمَح لي، يا جناب الآغا. إنّ لديّ الفضولُ لمَعرفة، من يكونه أولئك الأعيان الآخرين؛ الذين كشفوا لسعادتلو سرّ الرسائل "، سأله ميخائيل. إذاك، وليسَ دونما شعور بالحرَج، فإنّ الزعيم الصالحانيّ ذكرَ اسمَهُ علاوة على أسماء كلّ من آغا يقيني وشهبندر التجار ونقيب الأشراف والقاضي وشيخ الشام ومَشايخ المَذاهب: " إلا أنّ نجمَ سعود الشاملي ورفيقه، أجازَ لهما الإختفاء في مكانٍ ما. ثمّة تقليدٌ عثمانيّ، شنيعٌ، يُوجب مُصادرَة جميع ممتلكات ومُدّخرات المَغضوب عليه؛ بما في ذلك الأغراض الأكثر خصوصيّة، العائدة لحريمه ـ كالمصاغ والحلي. لكن سردار العسكر، يكتفي بحرق دار المغضوب عليه "، إختتم الآغا كلامه. علّقَ ميخائيل وهوَ يتبسّمُ بمرارَة وتهكّم: " حتى وال عظيم، بمقام أسعد باشا العظم، لقيَ المَصير نفسه عند عزله وقتله. إذ لم يَتورّع خلفهُ على الأمر بحبس حريم الوالي السابق وتعريضهنّ للعذاب والاغتصاب، بغيَة تقريرهنّ بمكمن الكنوز، المَزعومة ". حينما قالَ ذلك، ما كانَ أحدٌ منهما يَعلم، بَعْدُ، سببَ أمر القبض على الشاملي والعريان.

6
" المُصادَفة، هيَ الشرارَة التي أضرمَتْ أوارَ حَتميّة وجود الكون ". تذكّر ميخائيل هذا القول، المَنقول عن اللسان المُفوّه لعبد اللطيف أفندي. وكانَ الرّجلُ يَنقض بذلكَ بديهيّة الإيمان، المؤكّدَة أنّ وجودَ الله هوَ من فاضَ على العَدَم. بيْدَ أنّ داعي الذكرى، كانَ على مُنقلب آخر، لا يَمتّ لجَدَل الدين والعقل. إنه على علاقة بمَوضوع القاتل المَجهول.

جرى الأمرُ في صبيحَة اليوم نفسه، الذي كانَ من المُفترَض أن تسافر فيه نرجس مع جدّها إلى بيروت. وكانَ قد مَضى بعضُ الوَقت على دخول ميخائيل المكتب، حينما حضرَ أحد الحجّاب وأبلغ بضرورة ذهاب لمُلاقاة فضيلة القاضي. فتكهن عندئذ بأنّ الأمرَ مُتواشجٌ بمأزق الزعيم السابق. ولم يكن مُخطئاً، تماماً. فما أن أضحَى في حضرَة فضيلته، حتى طلبَ هذا منه بلطف أن يوصد باب الحجرَة ورائي.

" إنّ أحدَ شبان حيّ القنوات، قد أحضِرَ ليلة أمس إلى سجن القلعة. ويبدو من تقرير الضابطيّة أنّ الفتى كانَ في حالة مُزريَة من السّكر والعربدَة، حدّ التباهي أمامَ أقرانه بكونه ـ والعياذ بالله ـ عشيقَ ابنة الشاملي ". ثم أضافَ القاضي إثرَ وَهلة تردّد: " أعتقدُ أنه كانَ يَعني الابنة الغائبَة، المَبروكة. وعلى ذلك، رأيتُ أنّ الأمرَ ربما له صلة بتحققكَ في موضوع قتل المرحوم زينيل آغا "، ندّتْ عنه بنوع من الخبث. وكان ميخائيل مُتيقنا، بالمُقابل، أنّ باعثَ فضيلته للتشديد على ماهيّة البنت، المَعنيّة، هوَ علمهُ بما كانَ يتواترُ، هنا وهناك، عن علاقته الحَميمة بالمشرفة الراحلة، شمس، صديقة حفيدة عبد اللطيف أفندي. ولكن ميخائيل، على أيّ حال، شكر الرّجلَ على اهتمامه بالموضوع، مُبدياً رغبته في الاجتماع مع السّجين وعلى عجل. أومأ فضيلته برأسه، ثمّ صرفه إلى مشاغله.

وكانَ على ميخائيل الانتظار، مع هواجسه، ساعة أو يَزيد قبلَ أن يُحضروا الفتى إلى حجرَة المكتب. في الأثناء، كان قد أعَاد نكشَ تربَة ذاكرته، مُحاولاً بثّ الروح في جسَد تلك الياسمينة، الذاويَة. الحقّ، فإنّ مُحاولة أخرى، أسبق، عليه كانَ أن يقوم بها بحثاً عن الجثة المَفقودة.

حَصَلَ ذلك في منزل الشاملي بالقنوات وفي اليوم ذاته، الذي صَادَف فيه خاتمُ ياسمينة؛ ثمّة، تحتَ قبة مَقامها. فصديقي، بحري بك، وبالرغم من قناعته يومئذ بعبث إضاعة الوقت في تمحيص أرضيّة المَقام، المعشوشبَة، إلا أنه ما أسرَعَ أن هرولَ نحو المَنظرة لكي يَقلّب في عدّة الناطور. بعدئذ ، عادَ إلى القبّة وبدأ في إزالة طبقة الحشائش برفق. ثمّ انهالَ، على الأثر، ضرباً في التربَة مُستعملاً المعول، فيما ساعده ميخائيل في جرف الأتربة بوساطة الرّفش. حتى بانَ أخيراً طرَفُ صندوق خشبيّ، صغير الحجم نوعاً، مُسلّح برقائق الحديد. ولخيبتهما، فلم يكُ هذا أكثرَ من صندوق مُدّخرات، مُزخرف بدقة واتقان. تمكنا من إخراج المَدخر، على أيّ حال، ثمّ أخذنا بمُعالجَة قفل غطائه. إذاك، عليهما كانَ أن يصدَما بما طالعهما به مُحتوى الصندوق: حَجَرٌ عليه أثرُ دماء، حائل؛ فأسٌ برونزيّة، ذات قبضة من خشب؛ قرنا كبش، عظيمان؛ عصا غليظة؛ مزمارٌ لطيف الصّنعة؛ حلقتا أذن، ذهبيّتان؛ وثوبٌ من وَبَر المَاعز، المَملوط .
قال ميخائيل لصديقه، مُحيلاً معلوماته لأكثر من مصدر: " كأني بنبوءة العشّاب العجوز، قد أزفَ ميعادها؛ هيَ المشيرة إلى خاتم الطلاسم، المَوقوت بكوكب عطارد والمَنذور ليوم السّبت ". وإنه خاتمُ ياسمينة، في آخر المَطاف، من كانَ عليه أن يَقودَ الباحث إلى " كنز الكنج ". بيْدَ أنّ من غير الجائز إستباقَ روايَة الأحداث؛ هنا، في هذا الكناشي، المَنذور بالمُقابل للنسيان والفناء والعدَم.

" لقد شنقَ بخطيّتكَ، أيها التعس، شخصٌ مسكين وبريء "، خاطبَ ميخائيل الفتى السّجين بنبرَة شديدة حالما اختلى معه في حجرَة المكتب. فما أن سمعه، حتى هتفَ برُعب: " أيّ مَشنوق، يا سيّدي؟ "

" إنه مَملوكُ الزعيم، الروميّ؛ الذي اشتركتَ أنتَ معه في قتل الوَصيف "، أجابه مُنذراً. عند ذلك امتقعتْ سحنته الوَسيمة حتى حالتْ بلون سحنة المُحتضر. وكانَ على وَشك الانهيار أرضاً، لما أمره المحقق بالجلوس. فما لبثَ أن أجهشَ مُنتحباً: " آه، وَيلي! لقد كانَ ما فهتُ به، في ليلة البارحَة، مُجرّد ثرثرة من فم ثمل "

" ولكن، ها أنتَ ذا تتذكّر ما قلته يومَ أمس؛ مع أنّ المُفترض بالسكران أن يكونَ في غير وَعيه "

" كيف، يا سيّدي؟ "، تساءلَ بشيء من البلاهة. وبالرغم من شفقة ميخائيل لحاله، إلا أنه مَضى في تنفيذ الخطة، التي رَسمتها قبل قليل في ذهنه. فحينما سبقَ له، في عام سابق، أن أغرى صديقه، بحري بك، باجتياس ممرّ منزل الشاملي، السرّي، فإنه ذكره بمَغزى اشتراط ياسمينة على خطيبها مهلة الألف يوم ويوم: " لأنها كانت تتمتع آنذاك، فعلاً، بليالي شهرزاد تلك، الخرافيّة "، قلتُ له عندئذ. المعلومة بشأن ليالي شهرزاد، كانَ الآغا العطّار قد أمدّه بها.

ولقد صَدَق حَدَسه، في آخر الأمر. إنّ الفتى السّجين، إذ عرَفَ فداحَة وَرطته، فإنه ما عتمَ أن نكّسَ رأسه بخضوع وإذعان: " ارحمني، يا أفندي. إنني بريء من دَم الرّجل، والربّ شاهدٌ على قولي "، قالها وقد شرَع بالنحيب مُجدّداً. فما كانَ من المحقق، إثرَ مهلة تفكير، سوى تشجيعه على الاعتراف. فقال له بهدوء مُطمئناً: " وأنا بَدوري، أقسم بالربّ أن أدَعكَ تذهبَ في سبيلك سالماً، إذا ما قصصتَ عليّ بصدق ما فعلته ثمّة، في منزل الشاملي، صُحبَة ذلك المَملوك الروميّ ". إذاك، رفعَ رأسه وكانَ مُنبهتاً. إنه رأى التصميمَ في عينيّ المحقق، عندئذ. فإنه ما عتمَ أن تنهّدَ بعمق، ثمّ راحَ يَروي الجانبَ الذي يَخصّه من واقعة ليلة الأورطات، المَهولة.

إنه أجيرٌ لدى والده، تاجر القماش. تجارتهم، كانت عبارَة عن دكان صغير، مَرهون نهاراً ومساءً للزبائن من ذوات القدود والحجال. إلا في إحدى العصاري، الربيعيّة، حينما أمّ المَكان فتى خجول، حسَنُ الوَجه، بدا من مَظهره أنه خادمٌ لدى أحد السّراة. ولم يَخطر ببال البائع، الشاب، أنه أمامَ مَملوك زعيم الحَيّ، المُهاب؛ الشاملي. وكما حقّ للبائع أن يَعرفه لاحقاً، فإنّ الفتى الروميّ كانَ قد حامَ عدّة مَرات حول المَحل، حتى تحققَ من خلوّه من المُعلّم والمُشترين على حدّ سواء.
" إذا تبعتني دونما فضول أو لجاجَة، فإنكَ ستحظى، حقاً، بجَسَد أجمل امرأة كنتَ قد حلمتَ بها "، هَمَسَ له المَملوك بإغراء. ثمّ أضافَ وهوَ يُريه خاتماً ثميناً: " إنها امرأة غنيّة للغايَة، فوقَ ذلك ". وكانَ هذا خاتمُ ابنة الشاملي نفسه، المُرقش على عقيقه شكلُ زهرَة الياسمين. بالجُملة، ما لبثَ المَملوكُ أن قادَ الشاب الوَسيمَ إلى منزل سيّدته، عن طريق ممرّ سرّي، مَحفور تحتَ الأرض بعلو قامَة رجل وبعَرض رَجليْن. ثمّة، في حجرَة الحَرَمْلك، الفارهة، قضى البائعُ ليلة من العُمْر لا يُمكن أن تتكرّرَ. إلا أنّ الفتاة، مع سحْرها الفتان، بَدَتْ على جانب من الطيش وخفة العقل. فإنها قطعَتْ وَصلة الوصال، العارم، لكي تتسلّى بقضيب خشبيّ، مَصقول. فما عتمَتْ أن مرّرتْ الأداة فوقَ فرْجها، هاتفة في كثير من الشبق والغلمَة: " آه، يا صنيعة الرّب. أنتَ، يا مَن جَعلَ العذراءَ حبلى بابن القدّوس ". غضبُ الرّب، كأنما شاءَ مُجازاة ذلك التجديف؛ طالما أنّ الدارَ هزتْ، على غرّة، بصدى أصوات العويل و العيارات الناريّة.

" لتلبسا ثيابكما، بسرعة. إنّ عسكرَ الوَزير، كما سمعتُ بأذني، يُهاجم الحيّ "، همَسَ فيهما الروميّ، المُتعهّد حراسَة خلوتهما. إلا أنّ ثلاثتهم تجمّدوا فرَقاً، حينما بدأ سقف الحجرَة يرتجّ من وَقع الأقدام، الثقيلة. عندئذ، انكمشَ كلّ منهم على نفسه، وذاب في الرَهبة والوحشة والعتمَة. بقوا على ذلكَ الحال من الجمود، حتى حرّكهم ما نمّ عن خمود العراك. فجأة، تناهى صوتُ مُناجاة عاشقيْ الليل، وكما لو أنه أنشودَة الوداع.

" عليّ أن أنزل إلى السلاملك، يا حبيبي، لكي أرى جليّة الأمر "، قالت الفتاة بصوت منخفض. ثمّ اتجهتْ لمَملوكها آمرة إياهُ بنعومَة: " عجّل بالخروج مع ضيفنا، ثمّ عُدْ دونما إبطاء ". فما أن مَضتْ هيَ إلى سبيلها، حتى كانَ العاشقُ وضيفه في طريقهما إلى القبو خلل باب سرّي يُفضي إلى سلم مَشمول بالعتمَة. هنيهة أخرى، وكانا في النور بمُقابل جثة وصيف الشاملي، العجوز.

" أينَ جرى ذلك، بالضبط؟ "، سألَ ميخائيلُ السّجينَ باهتمام بالغ. فأجابَ من فوره: " في القبو، طبعاً ". ثمّ ما لبث أن استدركَ: " عند باب المَمرّ، الداخليّ ". طفق يرقبهُ بتمعّن، حتى أنّ الحرَجَ دبّ في ملامحه. وسأله على غرّة: " لقد وَصفتَ ياسمينة مرّة بالمرأة، وبالفتاة مرّة أخرى ؟ "

" ياسمينة..؟ "، تساءلَ الشاب. فأوضحَ له أنّ ذلكَ هوَ اسمُ عشيقته. عند ذاك حكّ مقدّمة جبهته بطريقة ساذجة، ثمّ أجابَ: " العفو، يا سيّدي. إنّ الفتاة ليست عشيقتي؛ لأني التقيتُ معها مرّة واحدَة حَسْب. ولكنها كانت بنتاً، مؤكّداً. حتى أنّ مَملوكها ذاك، خاطبني مُتوعّداً مذ أن وطأتُ عتبَة حجرَة الحَرملك: عليكَ بالمُداعبَة، فقط. فلن تمسّ عذريّة سيّدتي ؛ وإلا فإنكَ هالكٌ، لا مَحالة ".

وقال للسجين، أخيراً: " إنني أصدّق روايَتكَ، يا هذا. سأرجو القاضي، بعد قليل، بشأن إخلاء سبيلكَ ". وإذ تناهضَ الشابّ واضعاً كفيْه على رأسه لاهجاً بالشكر، فإن ميخائيل خاطبه مُحذراً " إياكَ أن تثرثرَ ثانيَة ً، ولأيّ كانَ "

" سأقطعُ لساني عن تلكَ السيرَة، المَشئومة "، أجابَ الشابُ وهو مُختلجٌ ومُتلجلج. عندما كانَ أحدُ الحراس يُعيد الشاب إلى حجرَة سجنه، كان المحقق في طريق آخر، مُعاكس، يؤدي لحجرَة عمل القاضي. نعم. لقد وَفى بوَعده للسّجين المَلول. قبلَ قليل، حينما كانَ يهمّ بتقبيل يَد ميخائيل تعبيراً عن الامتنان، كان هوَ بدَوره على استعداد للثم رأسه: إنّ روايَته، ولا غرو، مَنحت المحققَ تفسيراً لعدّة ألغاز، مُتصلة بمَغامض الجرائم المَعلومَة.

" لا يبدو لي، مُرجّحاً، مَوت ياسمينة طعناً بيَد القاتل المَجهول "، خاطب نفسه بارتياح. إنّه احتمالٌ مَنطقيّ، فكّرَ عندئذٍ، أن تكونَ المسكينة قد أهملتْ خاتمَها في مكانَ ما من الحَرملك، لم يَطله نارُ حريق القنبلة. ويَبقى هذا الاحتمال على صحّته، بما أنّ الخاتمَ كانَ يُسلّم للمَملوك في كلّ مرّة يَسعى فيها لجلب عاشق جديد لسيّدته المُتهتّكة.

7
لم يأبه ميخائيل بقرص البَرد المؤذي، المتغلغل في جلده وعظمه، حينما شاء المشي في المَمرّ المُحَجّر، المُفضي للحديقة الخلفيّة. نظراته المُشفقة، تنقلتْ عندئذ بينَ أشجار الحمضيات، المُحتمية بأبنيَة الدور الأرضيّ، والأشجار الأخرى، المُثمرَة، المَحروسة بالمُقابل من لدُن أسوار الدار العاليَة. ثمّة، عند طرَف الحديقة، جمَدَتْ عيناه مَصدوَمَة بمَشهد المُحترَف، الذي كانَ جديراً بمَوت صاحبَته الفاجع. وما كانَ يُضافر من الفجيعَة، أنّ أعمالَ الرسامة كانت قد أضحَتْ حطباً للحريق، فلم يبقَ من إرثها سوى لوحتان، حَسْب؛ لوحتان، عليهما كانَ بدَورهما أن يتيها لاحقاً في مَجهلة مَصير نرجس وجدّها. كانَ على ميخائيل إستعادة لقائه بهذا الأخيرة، وذلك قبل سفر الرجل إلى موطنه.

" يجب أن أختلي بعبد اللطيف أفندي، ما أن يَفرَغ من أمر ضيفه "، قال في سرّه وهوَ ينفخ بنفاد صَبر. على ذلك، تابعَ التوغلَ في برزخ الليلة الربيعية، مثل خفاش حزين ومتوحّد. نعم. إنّ نذيرَ الوحْدَة والوحْشة كانَ يهتفُ في أذنه؛ أنْ وَدّع مذ اللحظة أنسَ الليالي الفائتة، المُبهجَة والمُثيرَة في آن ـ كما ودّعكَ الخلانُ والسمّارُ واحداً إثرَ الأخر.

" ما وفرته العامّية من أرواح من أولئكَ المَعارف، حصدَه سمّ القاتل أو خنجره "، خاطبه الهاتفُ من جديد. بيْدَ أن ميخائيل كان على مَعرفة، شبه أكيدَة، بأنّ أكثرَ مِن قاتل مَن تناوَبَ على تنفيذ الجرائم تلك، المَعلومة. إنّ مَعرفته هذه، لحقيق فيها أن تعزيه نوعاً ما؛ في هذه الليلة الحزينة، على الأقل. في اللحظة نفسها، تناهى لسمعه صوتُ حرَكة عربة، متأتّ من الطرَف الآخر من الحديقة؛ أين مَدخل المَنزل. عندئذ أدركَ بأنّ آغا يقيني قد غادرَ قاعة الضيافة، وأنّ عليه أن يعودَ إليها من فوره للاختلاء مع الأفندي.

الخلوَة المُقرّرة، حتمَتْ عليهما نقل مكانها إلى حجرَة المُضيف، بما أنّ الآغا العطّار سينضمّ إليها. فما هيَ إلا هنيهة من الانتظار، وكانوا ثلاثتهم يتدابرون مع مَوقد النار الكبير، المُلبّس القرميد بالمرمر الطليانيّ الأسوَد. قبيل حضور الآغا، فهم من الأفندي أنه مُلمّ بأمر البحث في أطلال منزل الشاملي، علاوة على أمر وَرقة الكناش، المَطلوبة.

" إننا منذ البدء، عوّلنا على اشتباه الزعيم بكون وَصيفه من اقترَف جُرم قتل آغا أميني، بأمر من القاروط "، إبتدأ ميخائيل الكلام. فما كانَ من المُضيف إلا مقاطعته: " يَفهم المَرءُ من ذلك، أنّ الصقليّ قامَ أيضاً بتسميم القوّاص باتفاق مع البك المصري؟ ". ابتسامة ميخائيل، اتسَعتْ هذه المرّة. فقال مُجيباً السؤالَ الذكيّ: " بالضبط، هذا ما توصّلتُ إليه من قرائن عدّة، سبقَ أن عرَضتُ لها حينما قبضنا على المَملوك مُتلبّساً بمُحاولة دسّ السمّ لآغا يقيني. وإني أشتبهُ بأنّ القاروط استخدَم الصقليّ بعد مصرع رَجله؛ وَصيف الشاملي. إنهما كاناَ، لبعض الوَقت، على صلة بوساطة حَمام الزاجل؛ أعني البك والمملوك ".
تدخل العطّار، للقول: "الشبهة ذاتها، أسوقها بخصوص المَرة الأولى التي تمّ فيها سرقة حزمَة أوراق الكناش. فإنّ ذلك المَملوكَ، أدركَ بأنّ قوّاص آغا هوَ من سرقها "

" ولكن، مَن الذي أستعادَ حزمَة الأوراق تلك، من قبضة القوّاص؟ "،
تساءل ميخائيل. كان العطّار قبلاً، على ما يلوحُ، قد تفكّر بالأمر. على ذلك، قال بنبرَة يقين: " إنه الشاملي، على أغلب ترجيح. لأنه كانَ يُصرّ، ومنذ البدايَة، على أنّ خليلة للمَرحوم آغا أميني هيَ من دسّ السمّ للقوّاص؛ على أساس أنّ هذا الأخير، كما نعرف، كانَ مُستحوذاً على الدار بالقوّة: فكيفَ عرَفَ الزعيمُ بوجود هكذا خليلة، لولا أنه ذهبَ بنفسه إلى منزل آمر القول في صبيحَة اليوم نفسه، الذي وَرَدَ فيه خبرُ مَوت القوّاص؟ ". قال ذلك ثمّ أضاف مُختلساً نظرَة من الأفندي: " إنّ حفيدتكم، في الواقع، هيَ من عثرَتْ على حزمَة الأوراق في حجرَة أبيها؛ ثمة، في مدرسَة الحديث. ولكنّ نرجس، من ناحيَة أخرى، كانت غير مُتيقنة من تحديد الوَقت الذي مَكثتْ فيه الحزمَة عند أبيها. وبكلّ الأحوال، فإنّ أمرَ إزاحَة كلّ عليم بسرّ الكناش، كانَ في ذهن مُدبّر الجرائم تلك. إنّ آغا يقيني، أيضاً، كانَ هدفا للقاتل. لأنه كانَ مَرؤوساً لدى الكنج الكردي، في فترَة تولي هذا حكم الشام، فكانَ على علمٍ، مؤكّد، بأمر ثروة رئيسه، المَدفونة في مكان ما من القلعة ". هنا، تساءلَ ميخائيل مُجدّداً: " في هذه الحالة، فإنّ مَصرع العشّاب العجوز تمّ اتفاقاً؟ ". فأكّد الآغا الأمرَ، بقوله: " أجل، على الأرجح. لقد جرى ذلكَ في وَقتٍ ما من الفجر. ولقد سمعتُ وقتئذ صرخةً من تلك الأنحاء، غيرَ أني اعتقدتُ أنها مُجرد صَدىً لحلم ". ولم يقل لهما، بطبيعة الحال، أنّ المُشرفة كانت إذاك قد غادرَت حجرته.

" إنّ الصقليّ كانَ يَسعى لتدبير كميّة من السمّ، من خزين العشّاب "، أضافَ الآغا مُكرراً مَعلومَةً معروفة للسيدين الآخرين. ثمّ تابعَ القصّة، التي لا جديد فيها: " كانَ يعتقدُ بأنّ الكوخ خال في تلك الساعة؛ بما أنّ العشّابَ انتقل للخدمَة في الحديقة. ثمة، إذاً، تصادَفَ والعجوز وَجهاً لوَجه، فما كانَ منه إلا أن طعنه بالخنجر "

" إنّ جرائمَ أربع، مُتواشجَة مع سرّ الكناش، قد أضحَتْ الآن مَحلولة ألغازها بهذا الشكل أو ذاك. فماذا عن الجريمَتيْن، اللتيْن وقعتا هنا، في منزل الأفندي، وفي ذات اليوم الذي شهَدَ فيه اعتقال آغاوات الانكشاريّة؟ "، تساءل ميخائيل. هنا، إلتفت الآغا إلى ناحيَة المُضيف، مُنتظراً مُساعدَته في حلّ هذا اللغز الأخير. وكانَ الرّجلُ مَشغولَ الذهن عندئذ، فلم يتأخرَ في نجدته: " لديّ ما أقوله بشأن مَصرَع خادمي، المَرحوم عصمان أفندي. أما بالنسبة لدسّ السمّ لزينيل آغا، فإنكما أدرى بالأمر مني على ما أعتقد "، قالها وقد عمّ الحزنُ قسماته. ثمّ أردَفَ مُوضحاً ما يَعرفه: " إنني مُتيقنٌ مما رأيته بعيني، حَسْب. إنّ الزعيمَ، سهّلَ الله ضيقتَهُ، كانَ أوّل من هُرع من جماعتنا إلى مَدخل القبو. فحالما لاقاني وتحقق من سلامتي، فإنه عانقني بحرارَة. عند ذلك، لحظتُ أنّ البك المصري دَلفَ إلى داخل القبو مُباشرة ً ثمّ تبعه الآخرون. إنّ الخنجرَ ذاك، المُستعمل في قتل الخادم، كانَ من جُملة الأسلحَة التي تزيّن حجرَة مكتبي. فلا يُستبعَد، إذاً، أن يكونَ البكُ قد استلّ السلاحَ في غمرَة انشغالنا جميعاً بأمر أسرى الوجاق. والمَرجوحُ لديّ أنّ هدَفَ الرّجل من قتل مُربّي ابنتي، كما ومن اعتماده خنجراً من مُمتلكاتي كأداة للقتل، إنما لشدّ الشبهة باتجاه الشاملي: فالزعيم، من المُفترَض أن يكونَ الهدَف الأوّل للقاتل، بما أنه صاحبُ الكناش. ولكن لسبب أو لآخر، فقد اختارَ القاتلُ توقيتَ الإيقاع بالزعيم في فترة تنفيذ خطة الخلاص من قادَة الانكشاريّة. وربما يكونُ ذلكَ السبب، المُقترَح، أنّ البك قد استعادَ أخيراً ما فقدَه من أوراق الكناش. أجل، إنّ حزمَة الأوراق، المَعلومة، قد فقدَتْ من بيتي في الفترَة التي حلّ فيها الصقليّ عندنا بمعيّة مَخدومه. ولقد أدركنا، أنا وصهري، اللعبَة الشريرة، المَحبوكة، فأشعنا أنّ مَصرع الخادم قد تمّ على يد أحد الانكشاريين. أما مَوضوع تسميم زينيل آغا، فكما قلتُ في مُستهلّ كلامي، أنّ حلّ لغزه مَرهونٌ بما جدّ من بحثكما عن ورقة الكناش، المَفقودة "، قالَ كلماته الأخيرَة وهوَ مُتوجّه إلى ضيفيْ داره.


" في هذا العالم، لكلّ شيء علّة تقترنُ معه "، ابتدأ الأفندي قوله، حالما أنصتَ لما كانَ من أمر وَرقة الكناش المَفقودة. وتابعَ القولَ، مُشيراً إلى الرقّ الجلديّ، المَبذول لعينيه: " إنّ حذاقَ القوم، إذ يجعلونَ أغراضهم المُهمّة، الأكثر سرّية، في حرز من أعين الطمع والفضول؛ فإنهم يتركونَ مع ذلكَ علاماتٍ، مُعيّنة، من المُفترَض ألا يتمكّن غيرهم من إدراك ماهيّتها ". ثمّ تناولَ الغرَضَ المَعلوم من على الطاولة المَوجودَة أمامه، وصارَ يُقلّبه بين يَدَيْه. الحيرَة، كانت ما تنفكّ تتلبّسُ ملامحُ المُضيف، حينما واصلَ كلامه: " إنّ حجمَ أوراق الكناش، كما أذكر، ليُماثل تقريباً حجمَ الرقّ. على ذلك، فإنّ هذا ليبدو كما لو أنه حافظة جلديّة للكتاب، شبيهة بتلك التي تجلّد نسخ القرآن الكريم "

" يبدو لي، من ناحيَة أخرى، أنّ المَملوك الصقليّ كانَ قد احتفظ بالرقّ، سَهواً، عندما أعارَ الكناش لياسمينة. فلما تورّط في العلاقة مع القاروط، فإنه أضحى بالتالي على بيّنة من حقيقة أكيدَة: وهيَ أنّ مُخطط مَوضع الكنز المَطلوب، غير مُحتمل وجوده في الكناش أو في حزمة الأوراق المُنتزعة منه. إنّ المَملوك كانَ لامعَ النباهة، حقاً، لكي يُدرك تلك الحقيقة؛ طالما أنّ مالكي الكناش والحزمة كانوا ما زالوا يَتخبطون هنا وهناك بحثاً عن المُخطط "، قالَ ميخائيل ذلك ثمّ جَذبَ الرقّ بلطف من يَد الأفندي، وراحَ يتمعّنُ فيه بدَوره. وإذا بالنور يَعشُ فجأة وَجهَ الأفندي، فيهتفُ مُتهللاً: " آه، إننا نستطيعُ أيضاً أن نأخذ من تلكَ الحقيقة قرينها؛ وهوَ أنّ الرقّ بنفسه عبارَة عن وَرقة من أوراق الكناش ". فلما نطقَ كلمتهُ، كانَ على أعينهما، الآغا والطبيب، أن تتلاقى في نظرة مُتسائلة. فإن الرجلَ استعادَ الغرَضَ، ثمّ عمدَ إلى فرده أمامه على الطاولة وتمزيق بطانته، الخلقة.

إذاك، تجلّتْ قدّامَ الأبصار المَبهورة صفحَةُ الرّق الداخليّة، وهيَ ذاخرَة بخطوط مُتشابكة ورموز عَسرَة وكتابات مُبهمَة: " إنّ الرقّ ربما كانَ مُقتطعاً من جلد غزال؛ من طريدَة مثلى لصيّاد مُحنك. ثمّ تسلّمتهُ يَدٌ دَربَة لصانع؛ غسلته جيّداً ثمّ أزالت عنه الوَبرَ، وغمَسَته في الجير السائل لتزيلَ عنه الموادَ الدّهنية. بعدئذ تناولَ الجلدَ دبّاغ ماهرٌ؛ جففه لكي يدلكه من ثمّ بحجر الحفاف حتى يُصبح ناعمَ الملمَس، وليُضحي أخيراً كصفحة بيضاء، ناصعة، بفضل الطباشير المَنحوتة من صخر قاسيون، الكلسيّ "، أفادَ الأفندي وكأنه يقرأ من كتابٍ مفتوح. بيْدَ أنّ الفرحة أجيز لها أن تبترَ سريعاً، عندما أردَفَ المضيفُ قائلاً: " إنّ هذا المُخطط، على فرَض أنه يُشير فعلاً لمَوقع الكنز، ليسَ له تصريفٌ إلا بوجود الكناش ". من جهته، لم يكن ميخائيل بحاجَةٍ لشرح، ما دام قد أدركتُ مَقصدَ القول. فعقبَ وهوَ يغلي من الحنق والإحباط: " ومَن سرقَ الكناشَ، فإنه بدَوره لن يَفيدَ منه شيئاً دونما وَصل كلماته بهذا المُخطط "

" ولكن، يبقى ثمّة سؤالٌ مَطروح على منبَر المَسألة؛ وهوَ أيّهما الثمينُ، حقاً، المُخطط أم الكناش؟ "، تساءلَ الأفندي وعلى شفتيه ابتسامَة غامضة. إنّ هذا السؤالَ، كانَ جديراً أن يَجعل الآغا العطّار خجلاً من نفسه عندئذ؛ هوَ مَن دأبَ على مُلاحقة كتاب الشيخ البرزنجي، ولغايَة وَحيدَة: كشفُ ستر القاتل، المَجهول.

" ويُمكن كذلكَ، يا سيّدي، تثمينُ المَسألة بسؤال آخر؛ وهوَ ما إذا كانَ بالوسع استخدام المُخطط في إثبات جرم القاتل "، قالها الآغا بشيء من الحَرَج. فلما استفهمَ ميخائيل عما يعنيه، فإنه استطرد مُتوجّهاً بكلامه إليه: " إن انتجاع البك الماكر بالدّم، على أيّ حال، قد آنَ أوانُ نهايته. فإنه يُجَرجر الآنَ أخفافَ الخيبَة، مَطلوباً من لدُن الدولة بجرم الخيانة. وعلى رأيي، فإننا نستطيع مُقايضة المُخطط باعتراف صريح من الماكرَ؛ بأنه مَن كانَ وراء الجرائم تلك، المُلغزة ".

" إنّ اقتراحكَ، يا صديقي، غير واقعيّ بالمَرّة "، خاطبه الطبيبُ على غرّة ثمّ أضافَ: " إنني لقادرٌ على جَمْعكَ مع البك، متى شاءَ هوَ الاتصال فيّ ثانيَةً. ولكنه سيتمكن بطريقة ما، خبيثة ولا رَيب، من انتزاع الغرَض منك، دونَ أن يَعطيكَ بمُقابله شيئاً ". قال ذلك بنبرَة واثقة.
ذلك الكلام، الذي جرى على لسان الآغا العطّار، كانَ جديراً أن يسترده لو بقيَ في الشام عند إستيلاء الغازي المصري عليها، ومن ثم تنصيبه للقاروط في وظيفةٍ تعادلُ مركز الوالي.

الأغا العطّار، كنا قد علمنا أنه كرّس وقتاً طويلاً لتقصّي القاتل، الكائن وراء جرائم أربع كانَ تقريباً شاهداً عليها جميعاً. إنه سيُنهي بحثه المعلوم، وذلك قبل مغادرته مع نرجس وجدّها إلى البندقية. كانَ ذلك، على مرجوح التأويل، هروباً بحياته عقبَ بلوغ القاروط تلك المنزلة الكبيرة لدى ربيبه المصريّ، الذي سيطر على الشام. وعلى الأرجح أيضاً، أنّ القاروط إعتبر الرجل خطراً بالنظر لإمتلاكه ذخيرة من المعلومات عنه؛ وربما أيضاً لشكّه بتورّطه في تلك الجرائم بشكلٍ أو بآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا