الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية-متعجلة-في قصة قصيرة جدا للكاتب والشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي -قبلة باردة-

محمد المحسن
كاتب

2023 / 10 / 10
الادب والفن


مقدمة : “القصة القصيرة” أو الأقصوصة هي نوع أدبي عبارة عن سرد حكائي نثري أقصر من الرواية،وتهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود غالبا لتعبر عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، ويكون شخوصها مغمورين وقلما يرقون إلى البطولة والبطولية فهم من قلب الحياة حيث تشكل الحياة اليومية الموضوع الأساسي للقصة القصيرة وليست البطولات والملاحم.
ولكن..
قد نجدُ في بعض الأحيان تداخلاً هارمونياً بين الأنواع الأدبيّة في منجزٍ إبداعي على سبيل المثال لا الحصر نجدُ نفثاتٍ شعريّة أو لنقل جملة شعرية في عمل روائي أو قصّة قصيرة أو نجد حواراً قي قصيدة وجدانية،لكنّ هذا التداخلَ لا يكون عامّاً،بل في بعض الفقرات أو المقاطع غيرَ أنّ ما يثير الدهشة والانبهار هو أنْ تجدَ كلَّ كلمة تنتمي إلى النوع الأدبي الذي كُتِبتْ فيه
وفي ذاتِ الوقت تكون مشحونةً بشعريّةٍ هائلة وباختزالٍ لفظي لآفاق من المعاني المترامية..
هذا ما يتجلّى لنا من القراءة الأولى لقصّة (قبلة باردة) للكاتب والشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي،فنكون بين عقلانية العمل القصصي ووجدانية الشعر،كأنّنا نتأرجح بين حقلين ممغنطين بالكهروإبداعية من دون أن نشعرَ،لأنّ الكاتبَ المبدع يشدنا إلى عوالم قصّته الرائعة من الجملة الأولى التي تجذبنا نحو أعماق النصّ المشحون المكثّف (أسدل الليل ستاره،اجتمعت مع حبيبها كالمعتاد على مائدة العشاء،واستمر السمر بقاعة الجلوس حتى ناهز الوقت على الساعة الصفر..)
نتابع معا:
قبلة باردة
أسدل الليل ستاره،اجتمعت مع حبيبها كالمعتاد على مائدة العشاء،واستمر السمر بقاعة الجلوس حتى ناهز الوقت على الساعة الصفر،وعدها أن يأخذها غدا في رحلة ترفيهية،وغداء في مطعم فاخر..
استكانا في الفراش،همس في أذنيها أنه مشتاق إليها،وأردف أنني متعب هذه الليلة،ادفئيني جيدا،قبلت جبينه..احتضنته وارفدت الملاءة بحكمة على جسده الملقى وغاصا في سبات عميق.
استيقظت كعادتها مبكرا،جهزت فطور الصباح،وقامت بما يلزم بيتها من ترتيب،عليها أن تنهي شؤونها قبل أن يستيقظ زوجها استعدادا للخروج،
رتبت منزلها،ودخلت للاستحمام،ثم عادت لبيت نومها لتكمل زينتها وترتدي أجمل ثيابها،وماهي الا دقائق حتى جهزت نفسها للخروج،ارتدت الملابس الحمراء التي يحبذها زوجها عندما ترافقه في نزهة..
أما الحبيب فما يزال ملقى على فراشه،ذهبت إليه كي تلاطفه ليستفيق،انحنت على الفراش تربت على شعره الغث،مداعبة اياه ببعض الكلمات اللطيفة..
لكنه لم يحرك ساكنا..!
كان قد ودعها الوداع الأخير.
(طاهر مشي)
هذا النص الإبداعي المقتضب للكاتب والشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي يعتبر-في تقديري-قصة قصيرة جدا ناجحة من حيث الفكرة و العنوان المشوق والموحي ومن حيث التكثيف وبساطة السرد والايحاء والمفارقة القوية والخاتمة المفاجئة الأليمة.
علما أن اللغة الابداعية لجنس القصة القصيرة جداً،كما اتفق عليه كل نقاد المعمور،لا يحتمل التفصيلات والشروح والحوارات كما هو الحال في الرواية أو القصة القصيرة أو المقالة أو ما إلى ذلك من الأجناس الأدبية الأخرى..
فالقصة القصيرة جداً لغة إيجاز،وترميز،وإيحاء،تكثيف حاد،وحذف إبداعي،وإيقاعات متعددة في عبارات محددة..
وهنا أضيف: تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً في القصصيّة والتّكثيف،فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف،بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب،واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار،أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والإختتام.
بخصوص هذه اللوحة الإبداعية للكاتب والشاعر السامق د-طاهر مشي،تبدو لي من ناحية المبنى موفقة جدا خاصة في-السرد القصصي-المكثف بطريقة عجيبة ملفتة للنظر،مع حسن اختيار الكلمات بعناية و دقة (استكانا في الفراش،همس في أذنيها أنه مشتاق إليها،وأردف أنني متعب هذه الليلة..)،وجعلها في مكانها المناسب،بحيث يشكل لنا عقد القصة أو مفارقتها التي وصلت إليها برمزية في منتهى الرقي و الجمال اللفظي دون أن ينفلت منها عمق المعنى الذي أراد أن يصل إليه القاص،كما نلمس جيدا تلاحم و تماسك المعنى بالمبنى دون أن يطغى أحدهما على الأخر،وهذا راجع إلى حنكة في السرد و حسن استعمال الأدوات الإبداعية عند صاحب النص.
كما احتوى النص على صياغات أدبية غاية في الجمال،جعلته يرتقي بسرعة في سُلم الأدبية،وذلك بتوظيف تراكيب لغوية متماسكة،دون ترك فراغات سردية تجعل القارئ ينفر من القصة،و قد ساهم هذا في جذب انتباه القارئ و تحريك احساسه و التفاعل وجدانيا مع أحداث القصة التي اشتملت على صور بيانية موحية،تحمل ايحاءات رقيقة تارة (.احتضنته وارفدت الملاءة بحكمة على جسده الملقى وغاصا في سبات عميق..)،و تارة أخرى قوية في وقعها على نفسية القارئ (ذهبت إليه كي تلاطفه ليستفيق،انحنت على الفراش تربت على شعره الغث،مداعبة اياه ببعض الكلمات اللطيفة..لكنه لم يحرك ساكنا..!)،كأن القاص يمسك شعوره ويدير دفته حيث يشاء و كما يريد.
هوذا،الإبداع الجميل كلما تعددت تفسيراته يزداد عمقا و ثراءً،بل أُحادية النظرة هي التي تحشره في دائرة ضيقة و محاصر جدا.
ودون أن أرمي الورود جزافا أقول : هذه اللوحة الإبداعية أفضل ما قرأت من قصص قصيرة جدًا لكثير من الكتاب،ففيها تتوافر عناصر القصة القصيرة جدًا،وما يتطلبه هذا الفن من تكثيف وصور ورموز.
إن الشاعر والكاتب القدير د-طاهر مشي لا يستهين بهذا الفن القصصي الصعب،بل يؤديه حقه من الجهد والتجويد،فهو فن له مقوماته ومكابداته.إنه ليس مثل غيره من الكتاب الذين يفهمون القصة القصيرة جدًا بأنها لغز أو نكتة أو مثل أو خاطرة..
إن -الطاهر-يغترف عالمه القصصي من الواقع،ويمزجه بخيال خصب،لينجح في تقديم الإنسان-أحيانا-وهو يحس بالوجع المبلل بالدموع..دموع تنهمر على خدوودنا-قسر إرادتنا-كما حدث لنا في خاتمة هذه القصة المأسوية.(لم يحرك ساكنا..! كان قد ودعها الوداع الأخير..)
إن هذا المسار المأساوي في أحد أبعادِه يسعى إلى القيام -حسب الاصطلاح الأرسطي-بعملية التطهير،حين يحسُّ القارئ بهذا المشهد-الدراماتيكي-،ويحُزُّ في نفسه هاته النهاية الموجعة.
وهنا،يمكن القول أنّ القراءة العميقة،القراءة الاستنباطية،هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية،فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي.والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة،وهو ما يجعل القصة،كما القصيدة،صالحة لكل زمان ومكان.
التعبير المباشر،مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب،يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى.وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر،التعبير الرامز،الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ.
وما من شك في أن-الشاعر والقاص التونسي السامق د-طاهر مشي-قد حقق قفزة نوعية في مجال الإبداع بمختلف تجلياته الخلاّقة..
قبعتي..أيها المبدع التونسي الكبير د-طاهر مشي.
ولنا عودة إلى قصتك-اللذيذة-عبر مقاربة أخرى مستفيضة..
ختاما أقول : إنّ تحليل النص الوارد يدفعنا إلى الإسترسال والإستفاضة والبحث في تقنيات القصة القصيرة جداً.
والمقام هنا لا يسمح بذلك،وهو ما يمكن أن يكون في دراسات لاحقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا