الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الظلم مهدم الدول والعدل اساس المُلك

عزالدين معزة
كاتب

(Maza Azzeddine)

2023 / 10 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


" إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة "
تتجذّر مقولة “العدل أساس الملك” في الثقافات القديمة، سواء منها التي استوحت تعاليمها من الفلسفات الدينية، أو التي استمدّت جذورها من الأفكار المادية ذات الصبغة الطبيعية، فاختلاف الفلسفات الروحية والمادية في التنظير للأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمبادئ الأخلاقية، والأبعاد المقاصدية والغائية للوجود الإنساني، يمثل جوهر الحقيقة لكل من الفلسفتين في التأسيس للأفكار والمبادئ والغايات الكبرى التي يسعى الإنسان إليها.
والدولة الرشيدة هي التي توصف بدولة الحقوق والحريات، أو دولة العدالة الدستورية، أو العدالة الاجتماعية، أو أي مصطلح يتفق مع حلم الدولة العادلة التي تُزيح الاستبداد، وتسمح للرأي السياسي والفكري بالتعبير عن ذاته، وتضمن قواعد قانونية ودستورية لحقوق الفرد ومساواته أمام القانون المنصف، وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي له
ولكن رغم اختلاف هذه الفلسفات في مضامينها الفكرية والأخلاقية والغائية، إلا أنها تتفق على مشترك فكري وسياسي واحد، ألا وهو مشترك العدالة الاجتماعية في التقاضي بين المواطنين لفك الخصومات والمنازعات والمشاحنات بالعدل والقسطاس، وفي تقسيم المسئوليات والمناصب والثروة على الجميع من غير تفريق بينهم، بسبب العرق أو اللون أو الجهة أو الأيديولوجيا أو الميول السياسية والاتجاهات الفكرية والعاطفية، أو بسبب المزاجية والفردانية في اتخاذ القرارات الحاسمة، أو درجة الشهادة والمسئولية والوظيفة، لأنَّ هذه الفوارق في الرتب ودرجات الاستحقاق، هي ما يميِّز الطبيعة البشرية برمتها، والعدالة الاجتماعية كمفهوم ديني وفلسفي وقانوني، لا تتحقق في المجتمعات الإنسانية، إلا إذا وجدت الفوارق بين الناس في الصفات العقلية والنفسية والتفاوت الطبقي الناتج عما يملكه الناس من مواهب وقدرات وثروات ووجاهة اجتماعية، ولو كان الناس متساوين في حظوظ الذكاء والمواهب والتأهيل العلمي والوظائف والوجاهة، ما كلّف المصلحون أنفسهم عناء الدعوة إلى تحقيق العدالة بين الناس، فالتمايز البشري عن بعضهم البعض في الصور الخارجية، وطرق التفكير والمواهب ودرجة التأهيل، ووظائف العمل والصناعات والحرف وأنماط التجارة، هو ما تترتب عليه المنازعات والخصومات وتضارب المصالح.
والحياة البشرية تقوم على الحركة والنشاط، والتنافس على المال والحُكم ومتاع الدنيا، والتنافس على المصالح يؤدي إلى الخصومات والمنازعات والمشاحنات، والأقوياء بالمال أو المسئولية أو الجاه والوجاهة أو التمكين في الأرض، هم من يعتدون على مصالح الضعفاء والمضنون عليهم والذين قست عليهم الحياة، فيستغلون بؤسهم وضعفهم، ويغتصبون حقوقهم وأموالهم وأملاكهم، والعدالة عند التقاضي هي المؤسسة الوحيدة التي تضمن لهم استرجاع حقوقهم المعتدى علها، من أجل ذلك كانت العدالة هي المركز الأساس الذي تُبنى عليه الدولة الفاضلة، فالدولة العادلة تعتبر دولة مقدَّسة وقد اكتنفها الطهر من كل جهة، لأنها جعلت القضاء يمارس وظائفه بكل حرية من غير أن تبيح للأقوياء التدخل لتعطيل العدالة عند التقاضي بين المتخاصمين، وبهذا العمل المقدس تكون الدولة قد التزمت بقواعد الحكم الراشد.
والحكم لا يكون راشدا إلا إذا كان ملتزما بنشر الخير والفضيلة بين الناس، ونشر العدل بين الناس هو أسمى درجات الخير والفضيلة، وتعطيل العدالة بالأوامر العليا هو أسوأ درجات الرذيلة، لأنه يعطل قواعد العدل ويؤدي إلى انتشار الرذيلة بين الناس، وحينها ينتشر الفساد في مفاصل الدولة والسطو على الممتلكات العامة والخاصة، وتُهدر الحقوق وتسود الفوضى في أجهزة الدولة وكل مؤسساتها ، وتصبح الحقوق المغتصَبة غير مقدور عليها إلا بدفع الرشوة واتخاذ الوسائط من أهل الوجاهة والنفوذ، وكل ذلك يؤدِّي إلى تفكك الدولة فتصبح ضعيفة فاسدة ومفسدة لا تقدر على فعل شيء، وحينها تصبح ضعيفة وقد فقدت هيبتها ووقارها بل وتصبح بلا احترام من الجميع ، ويصير الناس لا يخافون من ارتكاب الجرائم والمناكر والمظالم، ولاسيما الأقوياء منهم، لأنهم أمِنوا العقوبة وعرفوا أنه بوسعهم أن يشتروا الأمان والعفو والقضاء والتخلص من العقوبة، بالرشوة والوسائط، أو بتخفيف العقوبة إن كان الجرم جسيما.
وحينما ينتشر العدل في أجهزة الدولة، يتحقق الأمن والهدوء والسكينة والاستقرار، وتقوى علاقة الودّ بين المسؤولين والمحكومين وبين أفراد المجموعة السكانية في الوطن الواحد، وبتحقيق العدالة بين الناس ترتفع مكانة الدولة وتتجذر هيبتها في النفوس، ويصبح لها صيتٌ كبير في الداخل والخارج.
ولكن ما هي الشرائط التي يجب أن تتوفر في الدولة العادلة؟ هنا تأتي الإشكالية الجدلية لتطرح نفسها في الوعي السياسي الأبدي، الذي يسود الأوساط السياسية المتنافسة على الحكم، وهي تمثل عقدة متأزمة لا فكاك لها في خضم الصراع المحتدم، بين العصب والمتنفذين والاحتكاريين الاستغلاليين، فالعصب والاحتكاريون يمتلكون مهارة فن الكذب واللعب بالألفاظ والكلمات والمعاني، لتسويق بضاعتهم السياسية المزجاة، وهم في جوهر الحقيقة لا يملكون مشروعا ثقافيا أو اقتصاديا واضح المعالم، يحققون به قفزة نوعية في التنمية الشاملة، وهم لا يحتكمون إلى معايير الحق والعدل التي تبنى عليه الدولة العادلة، لأن هذه المعايير تتعارض مع مصالحهم ومصالح أوليائهم ممن يدعمونهم ويقفون إلى جانبهم في المواعيد والاستحقاقات، وهم حين يسعون إلى الحكم فغايتهم هي نيل الوجاهة والثراء والامتيازات الكبيرة، وحين يمتدُّ بهم الزمن في الحكم ويسمنون من فضول أموال الدولة، التي تتيحها لهم مناصبهم ويشتدُّ عودهم ويتمكنون في الحكم، تبرز لديهم غرائز الشر والعدوان على أملاك الدولة، مثلما وقع مع من تعرفونهم، وهم الأن بعضهم في السجون وبعضهم الآخر أمام المحاكم والمتابعات القضائية .
كانوا يتظاهرون بالفضيلة والقدسية في خُطبهم، وحب الوطن والشعب والشهداء ووجوب المحافظة على أملاك الدولة، ولكنهم في الخفاء كانوا أشرارا متستِّرين وقد أباحوا ممتلكات الدولة طوال مدة حكمهم، فكان أن عاثوا في الأرض فسادا وعطلوا العدالة والتنمية، فلا تقضي في الجرائم الكبرى التي تمسّ أولياءهم إلا بالإيعاز والأوامر، فألحقوا أضرارا جسيما بسمعة الدولة ومؤسساتها وأملاكها وعدالتها.
وهؤلاء الفاسدون المفسدون ،كانوا لا يتيحون الفرصة للخيِّرين ممن يحبون العدل والحق والوطن للوصول إلى مسؤوليات عليا في الدولة ، لأنهم مفطورون على قول الحق والعمل به، ولا غاية لهم من الحكم إلا خدمة الدولة والشعب ومصالحهما، ولو مُكِّنوا من الحكم لحوَّلوا الدولة إلى كيان مقدَّس تحكمه الفضيلة والقُدسية، مثلما كان عليه الأمر في دولة الخلافة الراشدة، فلما انتقل الحكم إلى العصب المتنافسة في الدولة الأموية والعباسية وغيرهما من الممالك، انتشر الفساد والاستبداد والظلم في الأرض، وشاعت المناقر والرذيلة بين الناس، واعتدوا على حرمة العلماء ودعاة الإصلاح الذين قالوا كلمة حق حين سكت الناس، وهؤلاء الخلفاء فعلوا ذلك لأنهم أخذوا حقا ليس لهم فيه نصيب.
ومن شرائط الدولة العادلة أن يقودها رجالٌ وطنيون صالحون مصلحون، يلتزمون بقول الحق وتطبيق القانون نصا وروحا، من غير حيف أو جور أو مجاملة أو محاباة لقريب أو صديق أو شريف، قال النبي (ص) “وأيمُّ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها”.
والدولة العادلة هي التي تضمن الحقوق لجميع المواطنين، كالعمل والسكن والعلاج وتقسيم الثروة في الأجور والمعاشات، ولا تخصُّ طبقة معينة من العمال أو المحالين على المعاش دون طبقة أخرى، لأسباب غير موضوعية، تحكمها المزاجية والفردانية وليس قوانين الدولة، فالمواطنون تجمعهم الحقوق والعدالة، ويفرِّقهم مستوى التأهيل والوظيفة والمسؤولية، والعدالة الاجتماعية تقتضي أن يأخذ كل واحد حسب تأهيله ومسؤوليته ووظيفته واستحقاقه، فإذا أخلَّت الدولة بهذا النظام تكون قد خرجت عن قواعد الحكم الراشد الذي أساسه العدالة الاجتماعية، والتاريخ السياسي للحكام يسجّل لنا نُتفًا من سير رجال صالحين وصلوا إلى الحكم، فعدلوا في رعاياهم، فقدَّسهم الناس وأكبروهم وأجلُّوهم وأحاطوهم بهالةٍ من التعظيم والتبجيل، ككسرى أنو شروان بدولة فارس، الذي اشتُهر بالعدل ومما يُحكى عنه أنه بعث في رحلة صيد رجلا من حاشيته ليأتيه بملح من قرية مجاورة لشواء الصيد، فلما أتاه الرجلُ بالملح سأله إن كان قد دفع ثمنه، فقال الرجل: يا مولاي، هذا قليلٌ من الملح لا يستحقّ دفع الثمن، فقال كسرى: أعلم ذلك، ولكن إذا أجاز الملك أخذ الملح بدون ثمن، أجاز حاشيتُه والمقربون منه أخذَ البيوت والممتلكات من الناس من غير دفع الثمن، وقصة الهرمزان الذي وجد عمر بن الخطاب نائما من غير حراسة مشهورة في تراثنا الفكري والسياسي، قال: “حكمتَ فعدلتَ فأمنت فنمت يا عمر”، وإن كان في هذه المقولة عللٌ في الإسناد أو تزيّدٌ في الرواية، إلا أن عدل عمر أشهر من أن يُستدل عليه بقول قائل مهما كان مركزه، وعمر بن عبد العزيز الأموي الذي خالف بني أبيه وعمه، في إعادة الحقوق المغتصَبة إلى أهلها، من الممتلكات والضياع والعقارات مشهورة في سيرته العطرة، وزاد على ذلك أن ضبط خزينة الدولة وجعل عليها قيودا صارمة، بعد أن كانت مباحة للأمراء والشعراء والخطباء وكبار القادة وأشراف الناس، ويقال إن عهده عمّه الرخاءُ فلم يجدوا من يعطونه الزكاة، وغير هؤلاء الحكام كثيرٌ في التاريخ السياسي للأمم لا يتسع المقام لذكرهم.
والفلسفة القرآنية بهديها الراشد تركّز في محاورها الكبرى، على الالتزام بقواعد العدل والقسطاس بين الناس بمؤمنيهم وذِمِّيِّيهم، من غير تمييز بينهم بسبب العقيدة أو العرق أو الاختلاف في الرأي، لقوله تعالى: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، (النساء: 58) قال الطبري في تفسير هذه الآية: “حُقّ على الإمام أن يحكم بما أنـزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحُقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا”.
والحاكم الصالح الذي ينشر العدل في أجهزة الدولة، وينشر الخير بين المواطنين ولا يميز بينهم في توزيع الثروة في الزيادات التي تقررها الدولة، ويقيم تنمية شاملة في البلاد ولا يجعل المتنفذين المتغولين يبيحون خزينة الدولة، فهذا الحاكم تجب محبّته وطاعته والالتفاف حوله وحول مشاريعه، وهو مشمول برضا الله وسيكون من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث النبوي الصحيح.
إن قيمة العدل أوسع وأشمل من ذلك، هو سبيل المجتمعات إلى الاستقرار والنهوض وجمع الكلمة، والطريق إلى قيام الدول وتثبيت أركانها، والقاعدة الذهبية التي اتفق عليها البشر جميعا: «العدل أساس المُلك». ومن أجل أهمية العدل للمجتمعات والدول، أدرجه الإمام الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين»، ضمن القواعد اللازمة لصلاح الدنيا واستقرار المجتمعات ونهوضها، فقال: «القاعدة الثالثة: «عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الْأُلْفَةِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَتَعَمَّرُ بِهِ الْبِلَادُ، وَتَنْمُو بِهِ الْأَمْوَالُ، وَيَكْثُرُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّلْطَانُ». فمتى وجد العدل سادت الألفة بين الناس وبينهم وبين حكامهم، ومن ثم انصرفت الهمم للبناء والإعمار والإنتاج، إذ إن العمل مبناه على الأمن، والأمن مبعثه العدل، وقد نقل ابن عبد ربه في كتاب «العقد الفريد» عن عمرو بن العاص قوله: «لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل». إقامة العدل القانوني والسياسي والإداري والاجتماعي، بما يستلزمه من توزيع عادل للثروات والفرص والامتيازات، والتعامل على مبدأ تقديم الكفاءات، من شأنه أن يوفر مناخا صحيا للتطوير والعمل والإنتاج، حين يشعر المرء أنه لن يُظلم ولن يُبخس حقه، ويكون دافعا للمواطن لأن يُبقي ضميره حياً، وينطلق في عمله لصالح بلاده بدافع ذاتي، بخلاف من يعيش تحت وطأة الظلم، تعكس تعاملاته وسلوكياته آفات الازدواجية والأنانية وقلة الضمير، ولذا يؤكد الماوردي على أنه ليس أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور.
ومن شأن إقامة العدل تعزيز الانتماء للوطن، ويترجم ذلك إلى سلوكيات عملية ينتهجها الأفراد، كالحفاظ على المنشآت والمرافق والمصالح العامة، بخلاف الذين يعيشون تحت مظلة الجور، تجدهم غالبا يسلكون مسالك عدوانية تجاه تلك المرافق والمنشآت، لشعورهم بأن الدولة تظلمهم وتنتقص من حقوقهم.
العدل فريضة إلهية، وفريضة إنسانية، وتخلف العدل يهدم أركان التعاقد القائم بين الحاكم والمحكوم، ويلغي شرعية السلام المفترض بين الطبقات الاجتماعية، لأن هذا السلام رهن بتكافل هذه الطبقات في تحقيق الضرورات الواجبة لسائر أعضاء الجسد الاجتماعي، كما يؤكد المفكر الراحل محمد عمارة، وفي المقابل يعزز إقامة العدل من انتماء الرعية إلى راعيها وحاكمها، ودعمه ونصرته، ومن هنا ندرك أن العدل أفضل ما تُساس به المجتمعات، وهو الضامن لاستقرار الحكم والحكام لا القمع والترهيب والعسف. الظلم يورث الذل، الذي هو أشد ما يفسد فطرة الإنسان ويحطم فضائله ويغرس فيه صفات العبيد، وهي كما عبر أحد الأدباء: «استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرد حين يرفع عنها السوط»، فهؤلاء الذين يعانون الازدواجية ولا تثبت لهم قدم على مبدأ، أنى لهم أن يكونوا أدوات بناء في مجتمعاتهم؟ من شأن الجور أن يحجب عن الفرد – الذي يقع عليه الظلم ـ رؤية أي شيء إيجابي في حياته، لأن وقْع الظلم يجعله لا يرى غيره، ولا يهتم لسواه، ولا ينصرف تفكيره إلا إليه، وقد حُكي أن رجلا قال في حضرة أعرابي: ما أشد وجع الضرس، فقال الأعرابي: «كل داء أشد داء»، فصاحب الداء لا يرى شيئا أشد منه، فلا يرى أنه في عافية ممن هو أشد منه مرضا، وهكذا من وقع عليه الظلم، ينسيه ما حوله من مواطن الخير، ومن ثم يفقد الثقة في مجتمعه وحاكمه، فيفقد حينها انتماءه لهما، ويصير سعيه مبنيا على تحقيق منفعته الشخصية لا غير، فكيف يتوقع من مثله أن يهتم بالمصالح العامة، أو أن يكون عنصرا فعالا في بناء مجتمعه؟
وقد كانت ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة استبدادية، مردها إلى شعور الجماهير العربية بفقدان العدالة الاجتماعية، وكانت المطالبة بها على رأس أوليات الشعوب الغاضبة، التي عانت طويلا من الاستبداد والظلم، ولذلك لا مناص من القول إن استقرار أي نظام سياسي منوط بإقامة العدل.
ليس من العدل حرمان الجماهير العريضة من ثروات بلادها، وتمكين ثلة متنفعة منها، وليس من العدل منح حرية الكلمة والمنابر الإعلامية للموالين للأنظمة وحرمان المعارضين منها، وليس من العدل تأخير أهل الكفاءات وتقديم ذوي المحسوبيات والوسائط، وليس من العدل تطبيق القوانين بحذافيرها على البسطاء والفقراء والضعفاء والمقهورين والمتعبين، بينما يكون أهل القوة والثراء الفاحش بمعزل عنها، على طريقة قانون مدينة ساكسونيا الألمانية، عندما كان يطبق القانون على الفقير بجلد ظهره، بينما يطبق على النبيل بجلد ظله. وليس من العدل الاستئثار الأبدي بالسلطة ومنع تداولها، وحرمان الأمة من حقها في تعيين الحاكم ومراقبته ومحاسبته وتقويمه.
لقد أكدت صفحات التاريخ ما استقرت عليه أفهام العقلاء، من ارتباط قيام الدول بالعدل، ولن يستقر عرش حاكم إلا إذا أقام العدل في رعيته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قول الله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]
فالمجتمع الفاضل يقوم على القضاء العادل، الذي يصل بالمرء إلى أن يعرف ما له من حقوق فلا يطلب أكثر منها، وما عليه من واجبات فلا يقصر في أدائها، وهنا يتلاشى الصدام والخصام، ويتحقق الحب والوئام، وينتشر الأمن والسلام.
بل إن الأديان جميعا تنادى بالعدل، ففي الكتاب المقدس «عادل أنت أيها الرب وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم».. وأيضا «عدله قائم إلى الأبد» و «يا رب نجنى بعدلك».. وفى القرآن فى سورة النحل 90 «إن الله يأمر بالعدل والإحسان.»، وفى سورة الأنعام 152 «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى»، وأيضا في سورة النساء 58 «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».. إنها الأسس الواضحة التي تقوم عليها الدول كي تحقق الاستقرار وتبنى ولا تهدم وتصون ولا تبدّد، وتعز المواطن ولا تذله، وتكافئ المخلص والمنتج والمبدع وتحاسب المقصر والمهمل والفاسد. وتساعد الفاشل حتى ينجح وتدعم الناجح حتى لا يفشل. المطلوب من الدولة أن تكون دولة الإنسان، وأن تكون العدالة نظامها السياسي، لا أن تكون دولة مذهب أو دولة طائفة. تذكروا يا سادة ما دامت العدالة غائبة أو مغيبة أو معتقلة فى ديارنا، فالخوف سيكون قائما على حاضرنا ومستقبل أجيالنا ومصير بلادنا.
يوم حكمنا بالعدل ونشرنا المعرفة كنا حينها سادة العالم ومنتجي أروع حضارة في تاريخ البشرية الطويل وشيّدنا عواصم في العلم والازدهار المعرفي والمجد الحضاري في مكة والقاهرة وبغداد ودمشق والزيتونة والقيروان وقسنطينة وبجاية ومراكش وقرطبة والحمراء والزهراء واسطنبول والسند، ثم صرنا الآن في وضع يُرثى له نطلب الدواء والغذاء والكساء من غيرنا ونستورد ملابسنا وأثاثنا ومراكبنا من سوانا ونطلب العفو من القوى العظمى الضاربة ونستجدي العالم لحمايتنا، بل إن الشعوب العربية تتوسل إلى حلف الناتو أن يحميها من بطش الظالمين وقهر السفّاحين وصرنا في عالم الدنيا من الدول النامية بل النائمة والعالم الثالث فلا ديناً نصرنا، ولا عدواً كسرنا، ولا جهلاً قهرنا، ولن نعود إلى مجدنا الباهي السابق إلا كما كنا مؤمنين صادقين عاملين صابرين أوفياء لرسالتنا حفّاظاً لمبادئنا غيورين على أمتنا أهل علم وعدل ووحدة وسلام ورحمة.
حينما يغيب العدل في الدولة يترك مكانه للفساد السياسي، يعرف الفساد السياسي بمعناه الأوسع بانه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة وعادة ما تكون سرية لتحقيق مكاسب شخصية. كل أنواع الدول معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هي نهب المال العام والرشوة والمحسوبية وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبل تجارة المخدرات وتهريب الأموال وتعطيل التنمية إلا أنه لا يقتصر على هذه النشاطات ولا يدعم أو يحمي بالضرورة الجرائم الأخرى.
تختلف ماهية الفساد السياسي بسبب غياب العدل من بلد لآخر ومن سلطة قضائية لأخرى. فإجراءات التمويل السياسي التي تعد قانونية في بلد معين قد تعتبر غير قانونية في بلد آخر. وقد تكون لقوات الشرطة والمدعون العامون في بعض البلدان صلاحيات واسعة في توجيه الاتهامات وهو ما يجعل من الصعب حينها وضع حد فاصل بين ممارسة الصلاحيات والفساد كما هو الحال في قضايا التصنيف العنصري. وقد تتحول الممارسات التي تعد فساداً سياسياً في بعض البلدان الأخرى في البلدان إلى ممارسات مشروعة وقانونية في البلدان التي توجد فيها جماعات مصالح قوية تلبية لرغبة هذه الجماعات الرسمية.
يمثل الفساد السياسي تحدياً خطيراً في وجه التنمية الشاملة. فهو على الصعيد السياسي يقوض الديمقراطية وحرية التعبير والحكومة الجيدة بتعويم أو حتى تغيير مسار العملية الرسمية. أما الفساد في الانتخابات والهيئات النيابية ومنها التشريعية فيقلل من المساءلة ويشوه التمثيل النيابي في عملية صنع القرار السياسي. أما الفساد القضائي فإنه يعرض سيادة تطبيق القانون للخطر والفساد في الإدارة العامة ينجم عنه التوزيع غير العادل للخدمات.
أي بمعنى أوسع ينخر الفساد في القدرة المؤسساتية للحكومة لأنه يؤدي إلى إهمال إجراءاتها واستنزاف مصادرها، فبسببه أي الفساد تباع المناصب الرسمية وتشترى. كما يؤدي الفساد إلى تقويض شرعية الحكومية وبالتالي القيم الديمقراطية للمجتمع كالثقة وروح الأخوة بين افراد الأمة الواحدة، ويسود القلق والخوف من الجميع لا أحد يثق في الآخر وتكثر الدسائس والمؤامرات في جميع مؤسسات الدولة، باختصار ينتشر الخوف والرعب، وهذه امراض خطيرة تنخر جسم الدولة كما يأكل السوس الخشب المهترئ.
أن آفة الفساد وغياب العدل على اختلاف مظاهرهما تُعدان المعوَّق الأكبر لكافة محاولات التقدم والتنمية، والمقوَّض الرئيسي لكافة دعائم التنمية، مما يجعل آثار هما ومخاطرهما أشد فتكاً وتأثيراً من أي خلل آخر، فإنه لا يقتصر دوره المخرب على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر، بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتعلمية والتربوية.
إن الفساد السياسي الذي يمثل فساد القمة، سرعان ما ينتقل للمستويات الأدنى التي تحتمي وتتسر بقيادتها المتواطئة معها، حيث تهيمن العناصر الفاسدة على الممتلكات العامة، وتتمتع بالسلطات اليت تمكنهم من استغلالها لمصالحهم الخاصة.
تعد ظاهرة الفساد السياسي من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة لاسيما في العقود الأخيرة بالنظر لتوسعها وشدة انتشارها خاصة لدى الدول النامية، ونتيجة استفحال هذه الظاهرة بشكل مطرد جعلها مثار اهتمام الباحثين في مجالات الاقتصاد والقانون وعلم السياسة وعلم الاجتماع كما ظهرت منظمات عالمية وأخرى إقليمية ووطنية تعنى بمظاهر الفساد ومؤشراته بغرض الإلمام بأسبابه ومعرفة نتائجه والسعي إلى تصحيح آثاره في حدها الأدنى حفاظا على الاستقرار الاجتماعي. يتعلق الفساد السياسي بالانحرافات الإدارية والوظيفية أو التنظيمية وتلك المخالفات التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأديته لمهام وظيفته، كأن يقوم الموظف بقبول أو طلب ابتزاز رشوة لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة، هذا وغيره يؤدي إلى تفشي النتائج السلبية و الآثار المدمرة فتطال كل مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتنمية والتقدم على مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة المواطنين .
إن كل الدول التي يغيب فيها العدل والمساواة بين جميع مواطنيها، تعمل على عسكرة الدولة بحجة حماية الوطن، والحقيقة ما هو إلا حماية لنفسها من شعبها. وتنشر الخوف والرعب وسط الشعب، من أسوأ عسكرة الدولة على المجتمع هو عدم وجود قيمة للإنسان فيها حيث يصبح مجرد رقم لا غير ..
"إن الغاية الكبرى من الدولة ليست ترهيب المواطنين والتسلط عليهم او كبحهم بالخوف، ولكن الغاية ان تحرر كل انسان من الخوف لكي يعيش ويعمل في جو تام من الطمأنينة والأمن، ليعيش الإنسان في وئام مع افراد مجتمعه فلا يضرهم ولا يضرونه "
باروخ سبينوزا
غياب القانون وتطبيقه بشكل انتقائي في الدول الشمولية يصبح أكثر اجراما من الحركات الإرهابية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي