الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداع بيتي الأخير

توفيق أبو شومر

2023 / 10 / 11
الادب والفن


أعتذر لمكتبتي المشحونة بذكريات السنوات، لأن قائد طائرة الأباتشي منحني إنذارا معدودا بالدقائق لكي أنجو بنفسي قبل أن يصدروا الحكم علي شقتي الصغيرة بالإعدام!
أعتذر لشقتي التي أشرفت على بناء كل حجر من أحجارها، اخترت لها مواد لصقها ومكان صفها، أنفقت أسبوعا كاملا في زيارة محلات البلاط، لأتمكن من اختيار البلاط المحبب لي، شعرتُ بأنني لم أشترِ بلاطا مصمتا أصم بل اشتريت رفيقا لي سيرافقني حتى آخر يوم في حياتي، حملته مغلفات هذا البلاط بحنان، كما حملت مولودي الأول في سرير مهده، راقبت مصفف البلاط، أوصيتُه أن يكون رفيقا حنونا شفيقا بكل بلاطة، كنت ألمس بيدي كل بلاطة تجف وأشعر بالنشوة والسعادة، حتى أنني وزعت الحلوى على المحيط عندما أكملت صف البلاط!
هكذا قرر قائد الطائرة أن يفجر حقده الدفين فوق بلاطي، وأن يقذف الحطام فوقه، لينزع منه لمعته المحببة في قرارة نفسي!
كنتُ أظنّ أنني أملك نسخة بديلة عن شقتي، فقد كنت أظن أن شقة أبني المجاورة ستكون بديلا ثانيا عن شقتي حين تُقصف بالطائرة، فأنا أيضا بنيتها بيديَّ، كنت أيضا أظن أنني سعيد لأنني أملك شقة ثالثة لابنتي أيضا، كنتُ أعيش في حبور وأنا أرى أن لي ثلاث شقق مستقلة متجاورة، لم أكن أتوقع أن محتلا غاصبا وسفاحا عتيا سيغتال مني هذه السعادة، بقنبلة واحدة في ثوانٍ معدودة، وهو يرتشف كوب العصير بانتشاء في مقصورة طائرته!
لم أكن يوما اتوقع أن تغتال مني قنبلةُ الحقد ذكرياتِ اختيار غرفة نومي التي اشتريتها بالتقسيط المُريح، وتغتال مني سعادتي عندما انتهيت من تسديد آخر قسط من أقساطها، شعرتُ بالأسى لأنني لم أودعها الوداع الأخير!
وددتُ أن أقف في وسط قاعة الجلوس المكتنزة بالحكايا والذكريات لأرفع يدي اليمني سلاما وتحية لمخزونها من الذكريات، كنتُ أودُ قبل الوداع الأخير أن أستعيد إحدى البسمات والقهقهات والطرائف المخزونة في كرسيها الطويل، كم كنت أشتاق أن أستعيد الأحاديث والحوارات الثقافية المخزونة في تضاعيف كراسيها المصففة على شكل ندوة من ندوات الثقافة والسمر، لم أكن أعتقد أن أرى مِزق أشلائها تملأ المكان، بعد أن فجرتها قنبلة البغي والعدوان!
ما أقسى ألمي وحسرتي وأنا أطأ بقدميَ شظايا مطبخي، وأن يغتال مني قائد طائرة الحقد مذاقي وغذائي التقليدي ويجبرني على أن أحتمل ألم الشوق إلى نكهتي المفضلة في الطعام والشراب، كيف أستعيد نكهة كوبي الخزفي الخاص المشبع برائحة قهوتي التي أعدها بنفسي؟! كوبي هذا صديق الملازم لمقالاتي وخطط كتبي، شهد هذا الكوب ولادة أربعة من كتبي، كنت أراه يتغلغل وسط حروفي يمنحها نكهة القهوة المُرة!
ها أنا أغادر مطبخي التقليدي التراثي، بدون أن أحظى برؤية هذا الكوب، لأن القنبلة غطته بالسواد ووزعته شظايا وسط الركام، ارتعشت يدي وأنا ألملم أطرافه وأضمه إلى صدري لأشيعه إلى مثواه الأخير.
هل يمكنني أن أتخلص من رائحة البارود التي سكنتْ في طبقيَّ المفضلين، الطبقَ الأول مزين بوردة سوداء صغيرة وسط معجون فضي من الرخام الأبيض، والثاني مصنوع من المعدن المصقول، كيف يمكنني أن أعتاد على تذوق الطعام في ملجأي الجديد، وأن أنسى مذاق طبقيَ المفضلين؟!
ما الذي أغلق شهيتي للطعام، كنتُ أظنَّ أن السبب يعود إلى أنني خسرت كل شيء وأصبحت بلا مأوى، غير أنني أدركت بعد ذلك أن السبب يعود إلى غياب طبقي المفضلين، ولا أظنَّ أنني سأعتاد على الاستغناء عنهما؟
لم أكن أعلم أن اغتيال شقتي وشقة ابني وابنتي ستعيد إليَّ ذكرى مهدي الأول المغصوب من المحتلين الإسرائيليين، نعم أصبحت اليوم أكثر قربا من مهد ولادتي الأول!
سأظلَّ أردد ما قاله الشاعر المبدع، بابلو نيرودا: "اقطعوا كل الورود، واقتلوا كل العصافير، لكنكم لن تمنعوا حلول الربيع"!
..........................
ملاحطة ربما يكون هذتا المقال خو الأخير بعد انقطاع الكهرباء والماء والهاتف وشبكة الإنترنت على غزة يوم 10-20-2023م .... أمضيت ست ساعات حتى تمكنت نت إرسال هذا المقال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عندما يكون الحياد تخاذلا ، ويكون الصمت خذلانا
محمد بن زكري ( 2023 / 10 / 11 - 15:19 )
على هذا الموقع (اليساري !) ينشط معلقون عرب صهاينة هم أشد تطرفا فاشيا صهيونيا من بصل ئيل سموتريخ . هم عار على الإنسانية ، قبل أن يكونوا عارا على الحوار المتمدن .
وقد بلغ من إرهابهم الفكري ، أن أغلب الكتاب المحترمين - ليبراليين ويساريين- صاروا لا يسمحون بالتعليق تجنبا لإرهاب الصهاينة العرب وأذى عدوانيتهم الفاشية .
وعلى هذا الموقع (اليساريّ) ينشط كتبة من الذكور والإناث - و لا أقول الرجال والنساء - يتمشدقون علينا بالتطهرية والإنسانية ، يمسكون ويمسكن المسطرة من الوسط ، لا يميزون بين إرهاب حركات الإسلام السياسي في فلسطين (تحت الاحتلال) وبين إرهاب الدولة الذي ترتكبه دولة الاحتلال الإسرائيلي (اليهودية) ؛ فيالهم من ملائكة ! ولو كان أولائك الكتبة - ذكورا وإناثا - موضوعيين ، لكانوا على الأقل قد أرجعوا إرهاب حماس الإسلامية وإرهاب إسرائيل اليهودية ، إلى كونهما - في التحليل الأخير - يستقيان من نفس المستنقع الآسن .
سيدي الكاتب المحترم ، أتضامن معك بكل مشاعر الإنسانية مواسيا في مصابك الجلل ، وأعزيك في بيتك ومكتبتك وذكريات سنواتك ، التي اغتالتها - بيد الكراهية والانتقام - طائرة أباتشي إسرائيلية .


2 - لست مهزوما مادمت تقاوم
حميد فكري ( 2023 / 10 / 11 - 18:37 )
تحية للسيد توفيق أبو شومر
مهمها قلنا ومهما عبرنا عن مشاعر التضامن معكم ومع شعبكم البطل ،فلن نوافيكم حقكم.
لكن،ربما يكون أهم ،ما يقال في هذه اللحظات التاريخية ، هو شعار الراحل مهدي عامل (لست مهزوما مادمت تقاوم) .
فللمقاومة أشكال وطرق ،ليس أقلها ،كلمة حق لصالح المظلوم المضطهد ،حتى لو إجتمعت الدنيا بأسرها واصطفت الى جانب الظالم المتوحش .


3 - الى حميد فكري
nasha ( 2023 / 10 / 12 - 04:54 )
قولك:لست مهزوما مادمت تقاوم
بل انت مهزوم ما دمت لا تفكر بالمنطق الصحيح
1- اسأل نفسك : هل حماس هي ذاتها الشعب الفلسطيني؟
2- على من يعتمد الشعب الفلسطيني تزويده بالطاقة والغذاء والماء؟
3- لمصلحة من دخل الشعب الفلسطيني في هذه المحنة العصيبة؟
4-ما هي مبادئ حركة حماس ؟ اليست ذاتها هي مبادئ داعش وحزب الله؟
5- لماذا تتوقع من خصمك الذي انت تحاول ان تمحيه سيرحمك عندما تدخل في حرب معه؟

لا زلت كما أنت يا حميد! دوغمائي متعصب لا تفرق بين الالف وكوز الذرة
مع الاسف لما تنشر من جهل تعمي به كل من يبحث عن العقل والمنطق.

اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي