الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا ستفعل مصر في أزمة ديونها الخارجية؟

محمد حسن خليل

2023 / 10 / 11
الادارة و الاقتصاد


تواجه مصر حاليا أكبر أزمة في تاريخها منذ نحو نصف قرن. سبب رئيسي للأزمة هو انفجار أزمة ديونها، حيث بلغ دينها الخارجي 165.3 مليار دولار، أي حوالي 5.1 ترليون جنيه تمثل 43% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما حد الخطر هو أن يصل الدين الخارجي إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي. كما بلغ الدين الداخلي وفق الحساب الختامي في يونيو 2022 5.4 ترليون جنيه، بينما وصل إلى 6.1 ترليون جنيه بنهاية الربع الأول من عام 2023 (وفق حساب باحثين اقتصاديين أضافوا قيمة سندات الخزانة بالعملة المحلية خلال تسعة أشهر) إلى الرقم السابق. وهكذا تجاوز كل من الدين الخارجي والداخلي، ومجموعهم، كل حدود الخطر، خصوصا وقد وصلت أعباء خدمة الدين (فوائد وأقساط) هذا العام إلى 20.7% من الناتج المحلي الإجمالي! ولكننا هنا نركز على الديون الخارجية لأثر تضخمها الشديد على استقلال القرار السياسي والاقتصادي، وخضوع المدين لشروط الدائن مهما كانت ضارة أو مذلة.
غالبية الكتاب يرددون، عن حق، الحقيقة الاقتصادية الأساسية التي تقول بأن سبب تضخم الديون هو تخلف الإنتاج الزراعي والصناعي، حيث نفقد بشكل متزايد السيطرة على غذائنا فنستورد نحو نصفه، كما لا تعيش صناعاتنا وتنتج إلا باستيراد الآلات ومستلزمات الإنتاج نظرا لتخلف صناعاتنا الثقيلة والتكنولوجية، واحتياجنا لاستيراد تلك المستلزمات من الخارج. ولكن هناك سبب آخر لانفجار أزمة الديون بهذا الحجم! خلال الفترة بين آخر عام 2010 ومنتصف عام 2014 زادت ديوننا فقط بنسبة النصف. ولكن منذ يونيو 2014 حتى مارس 2023 زادت الديون حوالي أربعة أضعاف، حيث بلغ زيادة الدين الخارجي 360% (من 46 مليار إلى 165 مليار دولار) بينما زاد الدين الداخلي 380% (من 1.8 إلى 6.1 ترليون جنيه)!
فيم أنفقت تلك الأموال؟ تعلن الحكومة (بفخر؟) أنه تم إنفاق عشرة ترليون جنيه على البنية التحتية والاستثمار العقاري، حيث تجسد ذلك "الإنجاز" أساسا في شبكة هائلة من الطرق والكباري، وفي 27 مدينة جديدة أغلبيتها الساحقة مدن أشباح تقل نسبة الوحدات المشغولة أو المباعة فيها عن 5%. وبالطبع فإن بناء تلك الأصول لا يدر عائدا أو يدر عائدا على المدى الطويل جدا؛ ولأنه تم بناؤه بالديون فإن مشكلتنا الحالية هي أن استحقاق آجال سداد الديون تضع المدين (مصر) تحت رحمة الدائنين وممثلهم الكبير صندوق النقد الدولي، بل وتمس أسس الاستقلال السياسي والاقتصادي. كلما انفجرت أزمة سداد أعباء الديون يتجه النظام إلى المسارعة بالمزيد من الاستدانة، وفي كل مرة يزداد خضوعا لشروط الدائنين، وهو مسار الحكومة المصرية في السنوات منذ عام 2016 وحتى الآن.
شروط الصندوق المعلنة هي "إعادة هيكلة الاقتصاد" واندماجه في الاقتصاد العالمي، بالطبع بما يتوافق مع مصالح الصندوق المعبر عن مصالح الدول الكبرى التي تديره، وهو ما تجسد في شروط قرض عام 2016 (12 مليار دولار) وقرضيّ عام 2020 (بإجمالي 8 مليار دولار) وقرض عام 2022 بملياراته الثلاث! الشرط الأول هو فرض سياسات التقشف الحكومي بتقليل الإنفاق على الأجور وخدمات الصحة والتعليم (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي). والشرط الثاني هو تخفيض قيمة العملة الوطنية، فانخفضت قيمة الجنيه إلى النصف في اتفاق 2016، ثم إلى الربع في بداية اتفاق 2022، ومازال مسار التخفيض مستمرا مع شروط القرض الأخير حتى عام 2026! ومن المعروف كيف ساهم ذلك، مع ضعف الإنتاج الداخلي، في ارتفاع أسعار الواردات، حيث وصل التضخم إلى 40%، وزادت أسعار الغذاء بنسبة 70% ومازالت تواصل الزيادة! بالطبع أدى هذا كما يؤدي دائما إلى زيادة الاستقطاب في توزيع الدخل، وتزايد نسبة الفقراء بشدة، وتآكل الطبقة الوسطى.
أما الشرط الثالث والأخطر بين الشروط فهو فرض الخصخصة الواسعة للأصول في إطار مبادلة الديون بالأصول. لم يلاحظ الكثيرون صدور القانون رقم 85 لسنة 2020 بتعديل قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991. قانون عام 1991 فرض خصخصة شركات قطاع الأعمال العام، مما قاد إلى الإغلاق الكامل لأكثر من ثلاثين شركة وتشريد عمالهم، وبيع مئات الأصول الأخرى. أما تعديل عام 2020 فقد سمح بخصخصة الشركات القابضة نفسها، مما قاد إلى إعادة هيكلة أكبر شركتين قابضتين، الشركة القابضة للغزل والنسيج بإشراك الاتحاد الأوروبي فيها وفي شركاتها السبع (ولم تعلن نسبة المشاركة، والتي تتوقف على سعر تقييم الأصول، وهل تم بالقيمة الدفترية أم بالقيمة السوقية)، وإعادة هيكلة الشركة القابضة للصناعات المعدنية مما فرض تصفية مصنع الحديد والصلب وبيع 40% من مجمع الألومنيوم بنجع حمادي. بعدها تم بيع 37% من الشركة القابضة للسياحة والفنادق، وطرح الشركة القابضة للتأمين للبيع، ويجري الحديث عن خصخصة بنك مصر! كما بيعت قطاعات استراتيجية مثل شركات الأسمدة، وتحولت ملكية 7 موانئ مصرية إلى شركة تمهيدا لخصخصتها!
صدق بعض ممثلي القطاع الخاص الادعاء بأن بيع أصول الدولة يأتي من أجل دعم "القطاع الخاص"، المصري فيما يتصورون؛ بل وطالبوها بأن تنفذ "تعهدها" بالخصخصة الذي طرحته في وثيقة ملكية الدولة واتهموها بالتلكؤ في التنفيذ! ولكن القطاع الخاص المصري لا يملك ما تحتاجه الحكومة في أزمتها فهو ليس مولدا للدولارات الكثيرة التي تريدها الحكومة سدادا لديونها!
ووصلنا الآن إلى عنق زجاجة بسبب تلك الديون: فأعباء خدمة الدين من قروض وأقساط، وفق ما أعلنه البنك المركزي، متوسط 25 مليار دولار لمدة عامين، أي 25.4 مليار-$- في العام الحالي 22-23، و24.8 مليار-$- في العام القادم 23-24. يلي ذلك عامين متوسط الدين في كل منهما نحو 16 مليار سنويا، ثم ينخفض في الأعوام الثلاث التالية إلى 11، وثم 7 ثم 6 مليار على التوالي. كيف نجتاز عنق الزجاجة المتمثل في العام الحالي والقادم؟
طرح صندوق النقد الدولي حلا يتلخص في "تصفية ممتلكات الدولة" (Divestment of state owned assets) وفق نص خبراء الصندوق في تقريرهم الفني بالموافقة على القرض الأخير في 16 ديسمبر عام 2022. بالطبع دار هذا الحوار مع الصندوق منذ مارس 2022 عندما تقدمت مصر بطلب قرض جديد من الصندوق، وهو ما ظهر جليا منذ خطاب الرئيس الذي دعا فيه للحوار الوطني في 26 إبريل الماضي حينما طرح اعتزام طرح أصول الدولة للبيع بقيمة 40 مليار -$-، عشرة مليارات كل عام لمدة 4 سنوات.بالطبع تلك المبالغ لم يحسبها النظام الذي "لا يأخذ بدراسات الجدوى" ولم يحسب عند عقد أي قرض أخذه من أين سيأتي بالمبالغ المنصوص عليها ف معدلات سداد القرض!
وفي نفس الخطاب أوضح الرئيس مصدر واتجاه الأموال حينما قال بأنه وجه إلى رئيس الوزراء بإعداد وثيقة لملكية الدولة توضح ما هو ضروري وما سيتم التخلص منه! وهكذا جاءت "وثيقة ملكية الدولة" منذ أول نسخة لها في مايو 2022 لكي تنص على خصخصة 79 مجالا استثماريا (وليس 79 مشروعا!!) بالكامل، وخصخصة 40 مجالا آخر أكثر من النصف، ومجالات أخرى أقل من النصف!! وبعد الإعلان الأوليّ لأن وثيقة ملكية الدولة ستكون مطروحة على الحوار الوطني كان إقرارها من مجلس الوزراء ثم نشرها الرسمي بتوقيع الرئيس عليها يوم 15 ديسمبر 2022 قبل يوم واحد من موافقة صندوق النقد على القرض! خصخصة من أجل مبادلة أصول الدولة بالديون، وفق زي تنكري هو "زيادة دور القطاع الخاص"!
لهذا تطرح الدولة المصرية كل ما تطاله يدها لبيع المضطر بأقل الأثمان! ويتم أمام أعيننا تصفية أو بيع ميراث الصناعات في عهد عبد الناصر بالذات الصناعات المعدنية، وميراث الصناعات التي أنشأها طلعت حرب وطورها عبد الناصر متمثلة في صناعات الغزل والنسج، بل وميراث الخديوي إسماعيل مثل حدائق الأورمان والنباتات التي أصبحت حديقة الحيوان، وكذلك القصر الذي تطور إلى فندق الماريوت! تراكم الأجيال وما أنشأته من أصول ينتقل إلى ملكية الأجانب نتيجة للإسراف غير المحسوب في الاستدانة، وتبديد أصول الشعب المصري (وليست تلك أصول ملكا للدولة الحالية) ببيعها بالبخس! ولكن مواجهة مشاكل اللحظة الراهنة بصرف النظر عما أدى إليها لا يجعل من الاستسلام لتبديد أصول الوطن قدرا حتميا، فهناك بديل آخر لبيع الأصول وفقا لمسار صندوق النقد الدولي، والذي يتبناه النظام.
والبديل الذي نطرحه ليس بدعة ولا فكرة طرأت لفرد، ولكنه مجرد دراسة للدول التي واجهت مأزقا مثل مأزقنا، ولكنها بدلا من الاستسلام لشروط الصندوق اتخذت مسارا بديلا حافظ على ثرواتها من التبديد! نماذج تلك الدول ماليزيا والهند والبرازيل والأرجنتين في فترات مختلفة من عمرها! نحن في أزمة شديدة تفرض علينا التقشف، ولكن هل هذا حقا هو ما نفعله؟ إن الحل الحكومي يتمثل في فرض التقشف على الشعب وحده في صورة تخفيض العملة والغلاء والتضخم وزيادة الضرائب غير المباشرة والرسوم، وزيادة أسعار الوقود والمرافق من مياه وكهرباء ونتائج ذلك كله من زيادة معاناة الشعب وزيادة نسبة الفقر! ولكن هذا التقشف المهلك لا ينطبق إلا على الفقراء! أما مساهمة الأغنياء في تحمل الأعباء فمرفوضة: بدءا من رفض فرض ضرائب تصاعدية وحتى أولوية الحفاظ على نمط إنفاقهم واستيراد كل ما يحتاجون، حتى مواد الترف، في ظل الأزمة الدولارية التي تفرض بيع الأصول!
يتمثل الحل البديل في ثلاث خطوات:
1- وقف المزيد من الاستدانة، وقصر الديون على ما هو ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه! يبدو أن هذا شيء بديهي، بل إنه موجود في شروط صندوق النقد الدولي حين وافق على القرض الأخير ووقعت عليه مصر. ولكننا أمام نظام لا يعترف ببديهيات ولا بأولويات الاقتصاد! فالنظام بعدها يأخذ قرضا من الاتحاد الأوروبي ب 2.3 مليار دولار من أجل القطار السريع! بل ويعقد أثناء مؤتمر شرم الشيخ للمناخ اتفاقات إطارية قيمتها 83 مليار -$- على عشر سنوات من أجل مشروعات صديقة للبيئة والهيدروجين الأخضر! بل وبدأ بالفعل في خطة ضخمة للتنفيذ ببناء محطة ضخمة لتوليد الكهرباء من الرياح بخمسة مليار -$- في سوهاج، ويعتزم زيادة توليد الكهرباء من الرياح والطاقة الشمسية حتى تبلغ 42% من الطاقة الكهربية المولدة عام 2030! هذا رغم إن عندنا حاليا فائضا في الطاقة الكهربية منذ عام 2015، ويبلغ الفائض حاليا 40% من الطاقة الإنتاجية، قال النظام أنه سيصدرها كما يقول الآن في فائض الطاقة الجديد، رغم فشله في تصدير الفائض خلال سبع سنوات ماضية!
2- وقف جميع الواردات غير ذات الضرورة الحيوية (كما فعلت الأرجنتين). من حق مصر حتى وفق الالتزام بقوانين منظمة التجارة العالمية التي تفرض تحرير التجارة، من حقنا وقف استيراد سلع بعينها وفق مدة محددة ولسبب قوي، فنستطيع وقف استيراد السيارات وأجهزة الموبايل لمدة عام، قد يتجدد لعام آخر. ولم نعرف حجم الواردات من المكسرات الرمضانية وأصناف الجبن الفاخرة في هذه الأزمة الخانقة، ولكننا نعرف على وجه اليقين أن الاعتماد على الجبن المحلي والسوداني وغيره مما ينتج في مصر ووقف ذلك النوع من الواردات لن يضرنا ضرر تبديد ملايين الدولارات في استيرادها! إن الفجوة بين الصادرات والواردات التي بلغت 32 مليار-$- عام 22-23 و48 مليار-$- هو ركن هام في تقليل عجز الدولارات ومعاظمة إمكانية سداد الديون.
3- التوفير في ميزان الخدمات: فرغم إن إيراد السياحة العام الماضي 13.6 مليار-$-، إلا أن سياحة المصريين في الخارج (فقد الدولارات) هو خمس مليارات، أكثر من 60% منها تعود إلى السياحة الدينية (الحج والعمرة) حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إن وقف العمرة وقصر الحج على من لم يؤدِ الفريضة لعام أو عامين، وتقليل سياحة المصريين بالخارج إلى الحد الأدنى سيوفر أكثر من 3 مليار -$- (أي قيمة قرض صندوق النقد!).
لابد من وقف سياسة إكسب قطارا سريعا واخسر مصنعا، أو عش برفاهية ملك (للقادرين فقط بالطبع) واقترض لكل الكماليات الضرورية واخسر دولارات ومعها قرارك الاقتصادي! لابد من التقشف في كل الاحتياجات الترفيهية مع توفير الضروريات وتمكين الطبقات الفقيرة من الحياة. ربما لم أذكر فيما سبق الأهمية الشديدة للتقشف الحكومي ونبذ كل صور الإسراف فيها رغم ضرورته رغم إنه يخفض عجز الموازنة والدين الداخلي، فقط لأنني أركز هنا على كل ما يخص ميزان المدفوعات، أي كل ما يخص عجز الدولار. لقد قامت الحكومة ببعض (قليل) مما ندعو إليه وساهم هذا في تخفيض عجز ميزان العمليات الجارية في ميزان المدفوعات من نحو 17 مليار-$- عام 21-22 إلى نحو 5 مليار-$- عام 22-23.
ولكن مازالت الطريقة الأساسية للحكومة لحل مشاكل عجز ميزان المدفوعات بما فيها الأعباء الضخمة لخدمة الدين هي: المزيد من الاستدانة، وببيع الأصول المصرية للأجانب، مع قصر التقشف على الشعب وتوفير الترف للكبار واستمرار جوهر الإسراف الحكومي. وأمامنا طريق آخر، نوع آخر من التقشف لا يشمل الاحتياجات الأساسية للشعب ولكن تضحيات مطلوبة من الأثرياء، حيث حق الوطن عليهم أن يتحملوا التضحية ببعض الاحتياجات الترفيهية لفترة أزمة الوطن الذي يعملون ويحققون أرباحهم فيه، من أجل تجاوز الأزمة الحالية للديون مع الحفاظ على الأصول المصرية في نفس الوقت. هناك طريق بديل لحل الأزمة، نأمل أن يطرحه كل مرشح للرئاسة في مواجهة طريق الحكومة المهلك!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف هي العلاقة بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية؟


.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم السبت 27 إبريل 2024 بالصاغة




.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم السبت 27 إبريل 2024 بالصاغة


.. موجة الحر في مصر.. ما الأضرار الاقتصادية؟ • فرانس 24




.. الرئيس الفرنسي يحث الاتحاد الأوروبي على تعزيز آليات الدفاع و