الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


، زهرة برية على كرسي الأسقفية -سينيزيوس القيرواني-

شريف الصيفي

2023 / 10 / 12
الادب والفن


رغم التوترات والتجذرات التي طالت جميع سكان مُدن المتوسط وبشكل متعاظم في الإسكندرية ابتداء من النصف الثاني من القرن الرابع سواء بين سكانها من المسيحيين أو من أنصار الديانات القديمة وبينهما شريحة المثقفين صاحبة النظرة الدينية الفلسفية، التي كانت توفيقية في الأساس، حيث حاولوا تجسير الاختلافات بين النظم الفلسفية التقليدية بدمجها في توليفة تبدو متماسكة، تم دمج فيها الأفكار الأفلاطونية بشذرات من الارسطية والرواقية وبعضهم لم يستثني الأبيقورية من هذه التوليفة. وبالطبع كان ثمة تناقضات جوهرية بين هذه الأفكار والمسيحية يصعب تجاهلها. في حين استمر أغلب معتنقي الأفلاطونية السكندرية في ممارسة طقوس التواصل مع الآلهة والتفاعل معها والتي اعتبرت من قبل المسيحيين عبادات "وثنية" واستحضارًا للشياطين. البعض منهم لم يرى أي تناقض في تبني الرؤيتين، الدينية والفلسفية، منهم تلميذ الفيلسوفة هيباتيا "سينيزيوس القيرواني" (375- 414) الذي كان مسيحيًا وفي نفس الوقت لم يتخلى عن مذهبة الفلسفي. نحن إذن أمام مثال رائع واستثنائي. لم ينكر سينيزيوس معتقداته الفلسفية والتي كانت تعد من قبل الكثير من رجال اللاهوت آنذاك انحرافًا بينًا عن الخط الكنسي، وبالرغم من ذلك أنتخب أسقفًا في مدينة بتوليمياس في سيرينايكا (برقة/ليبيا). ولد سينيزيوس عام 375، درس الفلسفة الأفلاطونية الحديثة على يد هيباتيا في الإسكندرية. وكان يحكم إقليم برقة حاكم سفاح يدعى "اندرونيكوس". وقع اختيار الجميع على سينيزيوس ليعين اسقفًا كي يروض توحش الحاكم بسبب المكانة التي تمتع بها وثراءه ونبله، كما حصل على دعم كبير رجال اللاهوت هناك على الرغم من بدعته المعلنة. واستطاع بقوته الروحية وحب المؤمنين له الوقوف ضد الوالي المتعجرف حتى أجبره على الإستقالة والهرب إلى الإسكندرية وهناك تعرض لضغوط شديدة من مسيحي الإسكندرية، فأرسل سينيزيوس إلى أسقف الإسكندرية ثيوفيلوس يطلب منه ألا يُعامل غريمه بقسوة. كان سينيزيوس محبًا للحياة ومقبل عليها ممارس منتظم للرياضة والصيد ومولعًا بالتأمل الفلسفي وكان له زوجه جميله يحبها رفض التخلي عنها بسخط من أجل كرسي الأسقفية و إخفاء وضعه العائلي عن الجمور كما نصحه البعض واعتبرها نصيحة وقحة، بل أكد عزمه على إنجاب العديد من الاطفال مستقبلاً، وقد أنجب بالفعل ثلاث أطفال ماتوا الواحد تلو الأخر في حياته. أصبح مقر إقامته ملازًا للمظلومين والمحرومين وساهم بعتق الكثير من العبيد ورفع الظلم عن كاهل المظلومين. ترك لنا تراث من الترانيم تشبه لحد كبير الترانيم الفالنتينية (نسبة إلى شيخ الغنوص فالنتين السكندري) من حيث الشكل والمضمون الغنوصي، عكست نظرة ثاقبة للعالم مزج فيها التصورات المسيحية مع الأفلاطونية دون أن يشعر المتلقي بأي تناقض.تمجد الترانيم الواحد المتعال، المبدأ الأسمى في الأفلاطونية والذي يعادله الأب في المسيحية، ولم تخدش وحدانيته رغم نعته بأب الآلهة. وهذا الكيان ليس الاب فقط بل الأم والرحم الولود، فهو يظهر كأنثى وذكر في ذات الوقت، وبذلك مزج بين عقيدة الافلاطونية عن أصل الكائنات مع المفهوم المسيحي حول الثالوث. في الترانيم ، يستخدم سينسيوس تعبيرات "الأب" و "الأم" و "الابن" المأخوذة من العلاقات الأسرية البشرية فقط كاستعارات ، وليس بالمعنى الحرفي. الابن هو جانب من جوانب الإله الذي يركز على خلق العالم وهو مسؤول أيضًا عن الفداء. وهكذا فهو لا يبقى في عزلة إلهية ، بل يتجه إلى العالم. في إحدى الترانيم ترك الشاعر روحه تتكلم تصف حالها وتأسف على ما لحق بها، فقد اسقطت للعالم المادي كقطرة ماء من السماء سقطت في طين الأرض، والآن عليها أن تدرك ذاتها وتتحرر من اغلال العبودية ومن إغراء الفرح البائس والأوهام الحلوة ومن ثم العودة إلى النبع الإلهي التي خرجت منه ذات مرة لذلك تطلب الروح من الآب الإلهي أن يترك لها روعة تشرق بها. تطلب الحماية من هيليوس، الشمس الإلهية ، عند صعودها إلى بيتها السماوي. بعد عودتها. وقد وضع سينيزيوس تراتيله في خدمة هذا الهدف وشدد على أهمية الصمت الموقر الذي يجب أن يسود عندما تُقدم هذه "التراتيل المقدسة" للإله على أنه "قرابين غير دموية". يجب تهدئة التأثيرات. يجب أن تتحرر الروح من الأهواء والشهوات والشدائد والنواح والغضب والفتنة وهي تقترب من الإله. للاتحاد مع الآب، الله في الله، في رقصة صوفية. اعترف سينيزيوس فقط بالقانون الأبدي للصيرورة، ولا بداية زمنية ولا نهاية زمنية للعالم. أعلن أنه لا يستطيع قبول عقيدة الكنيسة، التي تنص على أن الأرواح تولد مع الجسد، وأنها تنبثق إلى الأبد من الألوهية. كما رفض عقيدة القيامة الجسدية، والتي كانت تعني بالنسبة له فقط تمثيلًا مصورًا للقيامة الروحية أو إعادة الميلاد، وإقامة الروح من الموت الروحي، ومن الانغماس في المادة، والإرتقاء إلى وعي الكائن السماوي، المنبع الأصلي. أما الأفكار التي كانت تتعارض مع رؤيته للعالم لم يعتبرها عقبه، بل وجدها معتقدات غير مقبوله له كفيلسوف لكنها أساطير موجهه للبسطاء. ولم يهتم كثيرًا للتناقض بين ما يسمى بالوثنيين والمسيحيين بل انصب اهتمامه على التناقض بين المثقفين فلسفيًا والجهل. لم يكن متحمسًا لنظام الرهبنة واعتبره نظامًا مُعاديًا للحضارة، وكان ينظر إلى تطلعات الرهبان غير المتعلمين للوصول إلى علاقة مباشرة مع الله دون الانخراط أولاً في التفكير الفلسفي سخيفة جدًا، ورغم هذا الرأي لم يمنعه ذلك بوصفه أسقفًا من تأسيس دير. وفهم سينيزيوس الله بوصفه الوحدة الأساسية التي توجت وتبوأت عرشها فوق كل شئ، وهي وحدة إحادية، الأساس العتيق، مقام مقدس يتم فيها تضمين جميع الأضداد وتذوب فيه، كائن موجود بشكل مُفرط، كنفس أثيري يجتذب كل شئ ويوحد كل شئ من خلال وليده البكر، الذي سكبه في جميع الكائنات. الله هو النبع الأسمى الذي انبثقت منه جميع الأرواح، أطفاله، بطريقة لا توصف، من خلود وإلى خلود، تشع منه كما لو كان نقطة مركزية، كما لو كان من شمس روحية واحدة. وهكذا يتجلى الله في أقنوم ثلاثي، ينبثق منه ينبثق منه الملأ المفعم بالجمال الوفير. منقسم بلا انقسام، يحتضن الملأ في الوحدة الحية. كان سينيزيوس من أذكى وأحب تلاميذ فيلسوفة الافلاطونية الحديثة قبل أن يهجر الإسكندرية ويتزوج ويعتنق المسيحية، ويصبح أسقفاً في مدينة بتوليمياس في سيرينايكا (برقة/ليبيا)، رغم ذلك ظل وفياً لمعلمته، ووفيًا للكثير من قناعاته القديمة وقد أهدته هيباتيا "مجهرًا مائيًا" لقياس كثافة السوائل من ابتكارها، كما ساعدته في تسجيل ووصف حركة الأجرام السماوية التي ارتبطت باسمه. توفي عام 414 قبل أن يسمع بقتل معلمته هيباتيا بأيدي بني عقيدته، وكان قبل وفاته بقليل قد أرسل رسالة لمعلمته قال فيها:

"هيباتيا المبجلة معلمة الكلمة الجميلة ونجمة مدرسة الحكمة الطاهرة.

أملي إليك هذه الرسالة وأنا طريح الفراش، ليتها تصلك وأنتِ في ثوب العافية،

يا والدتي وشقيقتي ومعلمتي وولية نعمتي"[1]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي


.. بميزانية حوالي 12 مليون دولار.. الناقد الفني عمرو صحصاح يتحد




.. ما رأيك في فيلم ولاد رزق 3؟.. الجمهور المصري يجيب


.. على ارتفاع 120 متراً.. الفنان المصري تامر حسني يطير في الهوا




.. فيلم -ولاد رزق 3- يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المص