الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: الخاتمة

دلور ميقري

2023 / 10 / 12
الادب والفن


قرابة العقد من الأعوام، كانَ قد مرّ على لقاء ميخائيل الأخير مع صديقه، الآغا العطّار. وفي أثناء تلك الأعوام، جدّت أمورٌ في غاية الأهمية؛ لن يُفيد ذكرها، طالما أنّ مدوّنات المؤرخين والإخباريين قد وفتها حقها من التفصيل والتحليل. على أية حال، وبدون الحاجة إلا للذاكرة، في الوسع القول بإختصار أنّ إدارة المصريين للولاية الشامية تخللها الكثير من الأخطاء، وذلك بسبب الجهل والغرور والغطرسة. من تحت المياه الراكدة، كان ثمة تماسيح سعت أيضاً إلى الصيد وفق مصالحها الخاصّة. لسوء الحظ أيضاً، أن كامل الدول الأوروبية، ومن خلفها قيصر المسقوف، إنتظمت مع الباب العالي في صراعه مع عزيز مصر. الأسطول الإنكليزيّ، المرابط عند الشواطئ اللبنانية، كان يُفرغ منه خفيةً السلاح لكي يصل إلى أيدي الثائرين؛ وتحديداً جماعة الدروز، الناقمين على الأمير بشير كونه أعتبر العدو الأول لهم عقبَ تخلّصه من الشيخ بشير جنبلاط. بالنتيجة، أن الثورة إنتقلت إلى أخوانهم في حوران، الكائنة في جنوب الولاية الشامية. إلى أن تم حصار الثائرين في جبل اللجاة، وأجبروا على طلب الأمان بوساطة شمّو آغا، الذي كان يعرف أعيانهم منذ أن كان قائمقاماً ثمة وتصدّى معهم لحملة الوهابيين. لكن ما أن خمدت ثورة دروز حوران، حتى مادت الأرض من جديد تحت أقدام المصريين وحليفهم الأمير بشير. بل حتى أولاد عم الأمير، الناقمين عليه بدَورهم لما كان من سابق إضطهاده لهم، رفعوا راية العصيان، مستغلين القرار الخاطئ للسردار إبراهيم باشا بجمع السلاح من الأهلين في عموم الولاية السورية؛ ناهيك عن التجنيد القسريّ للناس في الجيش وأعمال السخرة. كذلك أعتبر فلول الوجاقات والأورطات، الذين تم حل أصنافهم مذ مبتدأ سيطرة الغازي المصري على البلاد، أن الفرصة سانحة لدعم الباب العالي لأجل أن يستعيدوا نفوذهم ومجدهم الآفل.
هكذا كانت الأمورُ، حينَ رأينا ذات صباح بطلُ قصتنا وهوَ في طريقه إلى مَكان عمله في السراي. بالرغم من الوقت المُبكر وعدَم حلول القيظ بعد، فإنّ هذيانَ الطيور والزنابير والنحل والزيزان، المُتصاعد من فراديس الله الكائنة على جانبَيْ الطريق، عليه كانَ أن يُرافق خطوه. فصلُ الصّيف، كانَ إذاً قد بدأ للتوّ في انتساج خيوط الحرّ على أبدان وأرواح البشر ـ كما لو أنه عنكبوتٌ من العماليق، خرافيّ.

نعم. كانَ ميخائيل يومئذ خال من أيّ هاجس مَنحوس، حينما دَلفَ إلى داخل المكتب. طاولته الخشبيّة، المَنحوتة من العرعر ذي المَشام الحرّيف، كانت ما فتأت خاليَة من الأوراق. فإنّ البريدَ، ما كانَ قد آذن بعدُ في قدومه. إنّ عربات البريد، المشدودَة إلى الأحصنة الأصيلة، أضحَتْ هيَ مَصدر الرسائل في مُعظم الولايات، الخاضعة لحكم عزيز مصر. " لم يَعُد الحَمامُ الزاجل، الدّربُ، سوى صنيعة للمُطارَدين والمُتآمرين والمَهووسين "، قال في نفسه مُتمثلاً سحنة الصقليّ.
فما أن أخذ ميخائيل بتقليب الأمر في ذهنه، حتى طرَق أحدهم بابَ الحجرَة. كانَ الحاجبُ، الذي خاطبَ رئيسه باحترام: " أسعدَ الله صباحكم، يا سيّدي. إنّ جنابَ آمرَ القلعة يَنتظرُ تشريفكَم لدَيه، ثمّة في مَقرّه ". أخذته على غرّة هذه الدَعوة الغريبَة، حتى أنه نسيَ سؤالَ الفتى عن كيفيّة لقائه بالآمر. دونما نأمة، مَضى من فوره نحوَ مقرّ حاميَة القلعة، الواقع إزاءَ برجها الأيوبيّ، التليد. ردّد في سرّه أكثر من مرّة، فيما كانَ يمرقُ من تحت البواكي والقناطر، المُتعدّدة والمُتواترَة: " فلنرَ ما خطب صاحبنا، في هذه الساعة الباكرة؟ ".

مقرّ الحاميَة، كانَ يَشغلُ الدورَيْن العلويَيْن لإحدى قاعات القصر القديم، شبه الشاغر، الذي كانَ فيما سَلف مأوى السلاطين والنوّاب والولاة والقادَة. إنّ المَقرّ، ولا غرو، يُشرف على قشلة الجند كما ومواقعهم الدفاعيّة؛ الكائنة ثمّة، عند الأبراج وبدَناتها ورَواشنها وسَقاطاتها وشراشيفها. إنّ آغا القلعة، حينما يَحضر لمقرّه، فإنه عادَة ما يَلجُ خلل الباب المُوصل داخل القلعة بخارجها بوساطة جسر مُتحرّك من الحجر المَنحوت. وكانَ ميخائيل عندئذ يسيرُ بمُحاذاة الجسر، القائم فوقَ خندق القلعة الغربيّ، المُثير للنفور بسبب فضلات الطعام والقمامة التي تتراكم فيه بالرغم من همّة الجياع من بشر وكلاب.

" أهلاً بصديقنا، الحكيم.. "، هتفَ آغا يقيني بترحاب. وإذ كانَ يَجلسُ على مَقعده، وَحيداً في الحجرّة، فإنّ الضيفَ أدرك بأنه كانَ ينتظره. إذاك، كانَ قد نهض من مكانه مُجاملة ً، ثمّ ما لبثَ أن أغلقَ الباب داعياً إياه للجلوس على الديوان. لم يكن الحكيمُ لجوجاً في التساؤل عن لغز الدَعوَة، حتى أنه استرخى في مَجلسه ثمّ شرَع بالحديث: " يبدو أن سَعادة الوالي غير مستعجل، فيما يَخصّ التحقيق بمزاعم صلة بعض الأعيان بالباب العالي؟ ".

قال له الآمرُ برنة حزن وأسف: " عليكَ يا صديقي أن تنصت إليّ جيداً. إنّ سعادة الوالي في تخبطه مع حاشيَة السوء، أجاز لنفسه الإنصات لكلّ نمام، خسيس. وبعد مَوضوع الرسائل، المُوقع جهلاً واعتباطاً بكلّ من كبيرَيْ القنوات والعَمارة، جاء الدّور عليكَ أخيراً ". وأستأنف على الأثر: " يبدو أنّ أحدهم قد كتبَ لسعادته بحقكَ على أنكَ تأوي في منزل الأفندي، المَكفول من لدُنكَ، بعض المطلوبين ـ كالشاملي والعريان. إنّ أمراً بتفتيش المنزل قد صَدرَ، وسيتمّ تنفيذه بعيدَ صلاة العشاء. وإذاً، فإنني أخوكَ وناصحُكَ في آنٍ: فاعمَد أولاً إلى تحذير أولئك القوم، بطريقةٍ أو بأخرى، ثمّ اختفِ أنتَ بدَورك في مكان أمين ولحين انجلاء الوَضع ". رفع الحكيمُ وجهه إلى سويّة عيني الآمر وطفق يتأمل في ملامحه. لوَ أنّ شمّو آغا، فكّر حينئذ، هوَ من كانَ مُقابله؛ لكان ربّما استرَاب في الأمر: " إنّ آغا يقيني، ولا شكّ، رجلّ شهمٌ ونادر المثال "، هكذا فكّرَ الحكيم. ليس مَعرض هذا القول، فقط بسبب ما كانَ من إنقاذ الآمر لحياته؛ بل أيضاً لإخلاصه لقضيَة الولايَة وتفانيه في الدفاع عنها وعلى طريقته. إنّ أحداث الغدّ، ستحملُ مفاجأة غير مُتوقعَة للحكيم، وستؤيّد كلام الآمر على أية حال. ولكن، لندَع مآلَ الحكايَة تلك لوقتها المُناسب، المَوقوت.

وكأنما آمرُ القلعة كانَ إذاك على صلة ما بفكر ضيفه، فإنه ما عتمَ أن هتفَ على حين فجأة: " وأنصحُكَ أيضاً بألا تلجأ إلى حِمى صديقنا؛ زعيم الصالحيّة ". وأضافَ بعيدَ مهلة صمت: " لا أقول ذلك تخويناً له، لا سَمحَ الله، وإنما لأنّ علاقتكما الوَثيقة قد تكونُ في خاطر من سيتعقبونكَ ". عند ذلك، نهضَ الحكيمُ على قدميه مُوّدعاً وشاكراً، ثمّ قال للآمر أمامَ الباب بصدق: " إنني لم أكن أحمي سوى الزعيم الشاملي؛ لأنه كذلك بمَثابة الأخ. أما ذلكَ الواشي، فأظن أنه البك المصري ".

" مَن أنتَ، يا هذا، وماذا تفعل عندكَ؟ "، أيقظه من أفكاره صوتٌ شديد اللهجة. رفع ميخائيل رأسه، وإذا هوَ ناطور الوَقف. بدَوره، عرَفه الرّجل وكما تجلّى ذلك ببسمته المُطمئنة. ثمّ أقبل يُحييه، مُعتذراً بلباقة وأدَب. كانَ الناطورُ في عُمْر سيّده، الشاملي، إلا أنه أكثر حيويّة وأوفر صحّة. " لقد حضرَ الرّجلُ في الوقت المُناسب، المَطلوبَ "، قال ميخائيل في نفسه. بيْدَ أنه سرعانَ ما استعاد قنوطه، حينما تذكرّ أن الرجل من حَيّ القنوات. إذ كان مَهموماً بصعوبَة تكليفه بمُهمّة، مُلحّة: استدعاء صديقه، بحري بك، إلى هذا المَنأى بغيَة سؤاله عن أمور القاروط وما لو لمح أمامه عن الوشاية. فإنّ الناطورَ كانَ يَجهل ، ولا غرو، مَسالكَ رَبض الصالحيّة؛ أينَ مَزرعة عبد اللطيف أفندي، الكائنة إلى الجنوب منه. ولكن الرجل، إلى الأخير، تمكّنَ من حفظ ما لقنه إياه. قبيل تحرّكه دَعاه ميخائيل لمُشاركته الفطورَ، إلا أنه شكره قائلاً بحرَج: " لقد سبقتكَ، يا سيّدي. ولو كنتُ على علم بتشريفكَ لنا، لكنتُ جَلبتُ من منزلي ما تيسّر من زادنا المُتواضع "

" لا عليك، يا رَجل. بل إني أدعوكَ للغداء عندنا؛ هناك، في المَزرعة "، قال له بودّ. فأجاب مُمتناً، بوَضع الكفّ على الرأس. حالما سارَ الشيخ إلى مُهمّته، نهض ميخائيل إلى الزاد شاعراً بالجوع يَنهش أحشاءه.

" هيا، يا صديقي. علينا بمُغادرَة المَكان قبل انتباه أحد لوجودنا هنا "، خاطبه بحري بك، وهوَ في وقوفه ثمّة، عند مَدخل المَقام. ثمّ ما عتمَ أن مَضيا بمَعيّة الناطور حتى مُقدمة الزقاق، أين كانت الكرّوسَة بانتظارهما. وبما أنّ العربَة وحوذيّها من طرَف المزرعة، فقد كانَ طريق الذهاب مَيسوراً وآمناً. لكنهما فضلا الالتفافَ حولَ أحياء المَدينة المأهولة، تجنباً لمُفاجأة غير سارّة. على ذلك أخذا طريقاً، طويلاً نوعاً، يَمرّ بقبور البرامكة ثمّ بساتين المادنة والنيرَب، فصعوداً حتى أرباض أرزة ومَقرى والباعونيّة. هذا مع أن بحري بك كانَ خارج كل شبهة، بصفته وكيل أعمال الأمير بشير ـ كما سبقَ وجرت إليه الإشارة.

" ولكن، أطنّ أنّ العربَة تجاوَزتْ مَزرعتنا؟ "، التفت إلى صديقه مُتسائلاً. فأجابه ببسمَة ماكرَة، قبلَ أن يُوضحَ الأمرَ: " إننا، يا حكيم، في سبيلنا للقاء شمّو آغا ". دُهش الحكيم، وفتح فاه ليقول: " أنتَ تقصد..؟ "
" بلى، إنّ الآغا حوّلَ ولاءه للباب العالي مقلما حال معظم أعيان الشام "، قاطعه بهذا النبأ الغريب. كانا على حدّ الظهيرَة، عندما توقفتْ الكرّوسة أمام منزل ريفيّ بسيط، مُحاط بلفيفٍ من الأشجار البريّة والمُثمرَة. ثمّة، وحال وصولهما، كان عددٌ من الرّجال بانتظارهما على مَدخل الكوخ. وقد مَيّز ميخائيل، مُبتهجاً، ملامحَ عدد من أكابر المدينة، والتي لم تستطع إخفائها ملابس الفلاحين الصوالحَة، المُميّزة، المُكتسين بها. كذلك، فلم يخف دهشته برؤيَة عشّاب قصر القاروط. " أشكرهُ تعالى، الذي جمَعني معكم مُجدّداً "، قال مُجيباً ترحيبهم به. لاحقاً، أجيز له مَعرفة، أنّ هذه المَزرعة تخصّ أحد أقارب العشّاب؛ وأنّ جماعة المُطارَدين كانوا يلوذون خفيَة ً في حماها.

" مَرحبا بصديقنا، المُبجّل "، هتفَ صوتٌ من الخلف. فلما استادرَ ميخائيل تلقائياً، إذا به وَجهاً لوَجه مع القاروط. حقّ لدهشة ميخائيل أن تتعاظم، وهوَ يرى أحمد بك المصري برفقة أولئك الأعيان بل وفي هيئةٍ مماثلة: " أيعقلُ أنه غيّرَ ولاءه أم هيَ إحدى ألاعيبه الخبيثة؟ "، فكّرَ في الحال. القاروط، لحظ إذاك أنّ الطبيبَ كانَ يُرقبه عن كثب وبشيء من القلق. إلا أن هذا الأخير، وفقَ خطة سبق له أن نقشها في رأسه، لم يسمح للمَشاعر أن تطغى على العقل. وإذاً، أخذ بتجاذب الحَديث مع القاروط حتى لحظة الدعوة إلى الغداء. نعم. لقد بلغ فيه التبسّط والمَرح، أن كادّ يسلو مَطلوبه من البك الماكر.

" ثمّة مَصطبَة، قريبَة، نستطيعُ تناول قهوتنا فيها "، قالَ له القاروط، وعلى مَسمع من الآخرين. أدرك ميخائيل أن الرجل قد حَدَسَ رغبته في الاختلاء معه. وكان واثقاً عندئذ من حقيقة أخرى، وهيَ أن بحري بك غير ذي صلة بالمَوضوع؛ هوَ المَعروف بطبعه المُتحفظ والمُتكتم. لم تكن تلك المَصطبة سوى مَصنع من المياه، يَصل عمقه لوَسط رجل، تحيطه مساند ووسائد وبسط. حول المَكانَ، ثمّة خميلة خلابَة من مُختلف التعريشات والشجيرات والأزهار، يَكتنفها ظلال الأشجار المُثمرَة، من التوت الأبيض والشاميّ خصوصاً. جلسَ ميخائيل في رخاء الخلوَة، وراحَ يمدّ بَصره نحوَ مَناظرها المونقة. حتى إذا فرَغ المُضيف، العشّابُ، من تقديم القهوَة والحلوى والفاكهة، فإنه استوقفه قبلَ أن يَمضي: " عُذراً، يا صديقي. بودّي سؤالكَ عن نوع من الأعشاب؛ يُدعى بالحَرْمَل "

" أتريدُ أن تتأكّد، يا حكيم، من مَفعوله السام؟ "، أجابه من فوره مُقاطعاً. لبث الحكيمُ ينظر إليه في حيرَة، حتى كشر هذا عن ابتسامة خبيثة، مُردفاً بمَرَح: " قلتُ ذلك، لأنّ الأعشابَ في زمننا، أضحَتْ مَنذورَة للجرائم الغامضة ". فقال له مُتسامحاً مع لجاجته: " آه، معكَ حق. ولكن، أردتُ مَعرفة ما يُحدثه الحرمل في الإنسان؛ طالما أنه ليسَ من أعشاب البهارات؟ "

" أجل، إنه عشبَة ضارّة، يُستخدَم غالباً في التعازيم والأحجبَة "، ردّ العشّاب. عند ذلك، إنتفت حاجَة الحكيم لمشورته. فلما مضى المُضيف في سبيله، عكفَ على التفكّر في المَوضوع. لأنه يوم سابق، جزمَ عطّار مَغربيّ، بأنّ من مألوف عادات بلاده أن يُستعمل الحرمل في حمايَة الأطفال من " العَيْن "؛ عن طريق وضع مَدقوقه ضمن حجاب، مثلاً.
" إنّ المَملوك المسكين، الصقليّ، ربما تهيأ له أيضاً مثل تلك الحمايَة من لدُن أبيه بالتبني؛ هناك، في طنجة "، قال ميخائيل في نفسي مَغموماً وهوَ يستعيد تلك المحادثة مع العطّار. وكانَ القاروط يرتشفُ قهوته بلذة وتمهّل، عندما التفت الحكيمُ نحوَه هذه المرّة مُستفهماً: " أهوَ شمّو آغا، مَن نقل رسائل الباب العالي، السريّة، إلى أعيان البلد؟ ". بوغتَ بالسؤال ولا رَيْب. عينا الدّهاء، حَسب، أجيزَ لهما عندئذٍ أن ترمشا قليلاً: " كنتُ دوماً على رأيي؛ بأنكَ رجلٌ فطن وحادّ الذكاء "، أجابه بنبرَة غير مُكترثة. حانقاً، ما كانَ من ميخائيل إلا الدخولَ في المَوضوع المَطلوب؛ مَوضوع المجرم المَجهول والكناش المَفقود.

" من حقكَ، يا سيّدي، ألا تجشمَ نفسكَ عناء الإهتمام؛ بعدما نلتَ مُرادكَ أخيراً "، خاطبَ البك. ضحكة خافتة، ندّتْ عن الرجل مَصحوبَة بهزة من رأسه: " وأنتَ، يا حكيم، ألم تنل بَعدُ ما كنتَ تريده؟ "، تساءلَ بشيء من التهكّم. وإذا بالحكيم، مَدفوعاً بألم جُرح ذكرى المملوكين الشهيدين، يخوضُ في عَرْض ريبته بمَسلك القاروط. هادئاً دوماً، أنصَتَ هذا الأخير إلى الكلام المُتهوّر، المُتصاعد وَقع حدّته. حتى إذا ما سكتّ المتكلّم، فإنه شاءَ أيضاً الاسترسال في الصّمت ودونما أن تكفّ شهيّته عن التلذذ بالحلوى والفاكهة. خمّنَ ميخائيل إذاك، بأن البك المارك يُتيح لذهنه حَبكَ شبكة خداع، أكثر جدّة.

" من مُجمل ما طرَحته جنابكَ من كلام، فإني أتوقّفُ عند نقطة أساسيّة؛ وهيَ نيّتكَ في مُبادلة مُخطط الكنز باعتراف مني، صريح، بكوني من اقترَف الجرائم تلك، المَعلومة "، استهلّ البكُ كلامه ثمّ أضافَ: " أقول ذلك، لأنكَ تبدو غير مُقتنع بما تملكه من أدلّة ضدّي؛ هذا إن وَجدَتْ هكذا أدلّة حقاً "

" يَكفي دليلاً، ما وصلتْ إليه اليومَ أحوالُ حاضرتنا "، هتفَ ميخائيل باتراً كلامه في حَسم. احتفظ بالهدوء، لما أجابَ: " هذا هراء. اعذرني إذ أتكلّم هكذا، لأن كلامك لا علاقة له بموضوعنا. وعلى كلّ حال ، فإنّ قولكَ عاطفيّ ولا يَصلح أن يكونَ وثيقة اتهام "

" ولكنكَ تعلّقُ على جملتي الأخيرَة، ولم تجب عما عرَضته أمامكَ من شبهات بحق شخصكم؟ "

" اسمح لي، يا عزيزي، بالقول: إنكَ تخشى فضح شخص القاتل المَجهول "

" فلمَ لم تسمّه أنتَ، عوضاً عن استرسالكَ باللامُبالاة؟ "

" إنه الشاملي، الزعيمُ؛ إذا كانت تسميتي إياه تريحُكَ. وكنتُ مُنتظراً منك أن تبادر أنتَ إلى الإشارَة إليه "، قالها بغير انفعال أو تأثر. من جهته، صدّق ميخائيل ضمناً على الجملة الفائتة، التي تفترضُ خشيته من تسميَة القاتل. ولكنه لم يستسلم لظاهر القول، فعادَ يحثه على الاعتراف: " وأيّ أدلّة تملكها أنتَ، بالمُقابل، ضدّ الزعيم؟ ". طفقَ البك مُتردّداً هنيهة، ثمّ عادَ إلى التدفق بالقول: " إنّ الجريمَة، عموماً، بحاجَة إلى دافع جليّ وناصع. والزعيم، كما نعرفه جيّداً، لم يكن شخصاً مهووساً بالقتل أو متعطشاً للدّم. إنّ الحرصَ على كناش الشيخ البرزنجي، هوَ دافعُهُ الرئيس لتلك الجرائم. أجل، كانَ يَخشى أن يَقعَ المخطوط في يَد الوزير؛ لما كانَ من شبهة نيّته بتدمير الجامع الأمويّ. إنني لا أنكرُ تورّطي في أمر سرقة الكناش، والتي دَفع وَصيفُ الزعيم حياته ثمناً لها.. وأعني، وصيفه الأول ".

" والوصيف الذي خلفه، الصقليّ، أعدم جهلاً وظلماً مع رفيقه الروميّ "، قاطع مُحدّثه بمرارة. فهز البك رأسه بخفة، قبل أن يُجيب: " ولكنكَ أنتَ، بنفسك، من أكّدَ للجميع، بأنّ ذلكَ الصقليّ كانَ بصدد قتل آغا يقيني بالسم؟ ". وقتما إمتنع الحكيمُ عن الإجابة، مضى الآخرُ في نبش ما يعرفه عن أولى الجرائم: " نعم. كنتُ فيما مَضى من زمَن، قد تفكّرتُ باحتمال قيام الزعيم بالتسلل إلى القبو، بُعيدَ فكّ أسره بأمر من الدالي باش يقيني. وربما كانَ الوَصيفُ قد تركَ ياسمينة لمَصيرها؛ فاختبأ بمكان ما، عندما اقتحمَ أحدُ الأنفار القبو وعثرَ عليها. كما أنّ ثمة احتمالاً آخر، لا ينفي الأوّل؛ وهوَ توجّه الوَصيف إلى الباب السرّي، المموّه جيّداً، لمُحاولة التخفي عن أنظار المُهاجمين. فلما قامَ الزعيمُ بقتله، فإنه رمَى المفاتيحَ قرب جثته، لكي يتهمه لاحقاً بأنه كانَ في طريقه للهرب من الدار، وَحيداً ".

" فماذا عن دسّ السمّ لآغا أميني، صديقكَ؟ "، قطعَ الحكيمُ كلام البك. فأجابه بخبث: " كانَ صديقَ الشاملي، قبل أيّ كان؛ ومنه حصل هذا على الكناش ". ثمّ أردَف بهمّة: " إنّ دافعَ القتل هنا، واضحٌ كرابعَة هذا النهار: إزاحَة أحدُ العالمين بأمر المخطوط. خصوصاً، أنّ آغا أميني كانَ قد أعلمني بخبَر إهداء الكناش للزعيم. ولنلاحظ بأن ذلك السبب، المَوسوم، يكشف أيضاً لغز موت قوّاص آغا "

" أتعني، بأنّ الزعيمَ كانَ قد كلّفَ مَملوكيْه، أو أحدهما، بدسّ السمّ لكلّ من آمرَيْ الانكشاريّة؟ "

" لا، فهذا ليسَ من شيمَة القاتل الذكيّ. فلمَ سيوكل ذلكَ للآخرين، ما دام كانَ قادراً على فعله بنفسه؟ "، أنهى البكُ كلامه مبتسماً. عادَ الحكيمُ إلى مسراب ذهنه، كي يُنبش فيه. إعترفَ بسرّه أنه كانَ ثمّة ثغرَة خطيرَة في روايته مقتل القوّاص، التي سرَدها على مَسمعه الآغا العطّارُ. على ذلك، شاءَ أن يطلبَ مَعونة القاروط. فعرَضَ عليه شكوكه، في علاقة القوّاص بسرقة الحزمة. ثمّ تساءل ما إذا كانَ هوَ على علم مُسبق بحركات الزعيم ثمّة، في دار الحديث. فأجاب البكُ فيما كانَ يحكّ ذقنه بيده: " القوّاص ، حينما تخفى لديّ في القصر كانَ على صلة بالزعيم، مُباشرَة أو عن طريق المُراسلة. وأشارككَ الظنّ، بأنّ القوّاصَ ربما يكون قد حاولَ ابتزاز الزعيم؛ هوَ من سبق له فعل ذلك، حينما تقدّم لخطبَة ابنته الراحلة ".

" إنّ جرائمَ، خمس، ربّما تكونُ قد وَجَدَتْ حلاً لألغازها؛ وفيها الجريمَة الأخيرَة، التي أودَت بحياة شمس "، ردّدَ ساهياً وبصوتٍ مَسموع. فبدا الارتياحُ على ملامح البك، فعلّقَ بالقول: " بل الجرائم جميعاً، وبضمنها مَقتل كبير خدَم عبد اللطيف أفندي ". رفعَ الحكيمُ رأسه وحدّق في عينيّ مُخاطبه ملياً. ثمّ ما عتمَ أن كرّرَ على سمعه ما كانَ جَدّ نرجس قد أفادَ به في شأن مَصرع خادمه. فلم يكن من البك، على دَهشته، إلا إطلاق ضحكة مُجلجلة: " عُذراً، يا صديقي. ولكنني تذكّرتُ بلمحَةٍ مَشهد تيْهنا خلل مَسالك القبو؛ قبيلَ عثورنا على جثة عصمان أفندي "، قالها البك وقد تضرّجَ وَجهه قليلاً. ثمّ لبثَ مُتفكّراً لوَهلة قبل أن يَستطردَ بالقول: " أجل، لقد كانَ الزعيمُ خارجاً حينما دَلفتُ أنا للقبو، أوّلاً، ثمّ تبعني على الأثر بقية جماعتنا. إلا أنّ جهلي بالمَكان أفضى فيّ لتتبّع أضواء الشموع، المَبثوثة في زوايا القبو، مُتوهّماً أنني في سبيلي لحجرَة الخزين؛ أينَ كانَ آغاوات الوجاق مًحجوزين ثمّة. إنّ إضاءة القبو بتلك الطريقة، إنما لتحسين شروط تخمير النبيذ؛ الذي كانت جرارُهُ مَركونة هناك على طرَفيْ المَكان ". ثمّ توجَّهَ إلى الحكيم، مُتسائلاً: " فكيفَ غابَ أمرُ المَتاهَة عن ذهنكَ، عندما كنتَ أنتَ تتحادَث مع عبد اللطيف الأفندي بخصوص مَصرَع خادمه؟ "

" لقد سَهَوتُ عن ذلك، فعلاً. وقد حقّ لي تأكيد شُبهة الأفندي، طالما أنّ الشاملي لم يكن قربَ الجثة حينما دَخلتم إلى حجرَة القبو "، أجابه فيما كان يعدّ سؤالاً في رأسه: " ولكن، لمَ عَمَدَ الزعيمُ إلى جَندَلةِ خادمٍ، عجوز؟ "

" إننا غير قادرين، مع الأسف، على إثبات شيء مُحدّد ودامغ. وإذاً فجواباً على سؤالك، أفترضُ أنّ الزعيمَ هوَ من بادرَ إلى دسَ السمّ لزينيل آغا. فعلَ ذلكَ، عندما أدركَ خطورَة آمر القلعة المُكلّف بالتحقيق مع المَملوكيْن، المُتهمَيْن بالقتل. فالشاملي كانَ أكثر الناس مَعرفة، ولا غرو، بما يُتبَع من أساليب لكي يُجبَرَ المُتهم على الاعتراف. فهوَ كانَ مُتيقناً، والحالة تلك، بأنّ زينيل آغا أضحى على علمٍ بلغز الكناش، علاوَةً ربما على لغز الجرائم. فما كانَ منه سوى دسّ مَدقوق السمّ في فنجانَ الآغا، والتأكيد على عصمان أفندي بتقديمه بنفسه. هذا الخادمُ، لسوء حظه، قد يكونُ أبدَى علامَة شكّ بيّنة بُعيدَ مَوت آمر القلعة مَسموماً. وبالتالي، فإنّ اسمه كانَ سيُنقش في لائحة القتل، السَوداء "

" بحَسَب ما سَبَق، فإنكَ لم تكن على صلة بالمَملوك ذاك؛ الصقلي؟ "، سألَ البك، وكانت ريبته فيه ما فتأ لها ما يُبرّرها. وكانَ هذا الأخيرُ عندئذ يرسلُ بَصرًه عبرَ البستان المُجاور، المُتصل مع المَصطبَة بقناة ضيّقة، حجريّة الجانبيْن، مُنبثقة عن المَصنع المربّع الشكل والمملوء بالماء. إلا أنه استردّ نظره من تلك الناحيَة، لكي يُثبّته في الحكيم: " لا، بكلّ تأكيد. بل إنه كانَ يَتجنبني، عندما حلّ في قصري بمَعيّة سيّده. ومن خلال حديثكَ عن هذا المَملوك الماكر، يجوز للمرء أن يستنتجَ بأنه كانَ يَعملُ لحسابه الخاص. وربما كانَ يَتسلّى، في حقيقة الأمر "، أجابَ بثقة. وحقّ لعجَبَ ميخائيل أن يَتفاقمَ، بما أفاده به البك: فإنّ نفس الاستنتاج، تقريباً، كانَ لديه بخصوص ذلك المَملوك التعس.

بيْدَ أن وَصف القاروط للمملوك بالمَكر، جلبَ ابتسامَة طارئة إلى فم مُحدّثه: " إنه لم يَعدُ عن كونه مُريداً، بسيطاً، في حضرةِ شيخٍ بمَقامكَ! "، خاطبه في سرّه. لم يكن ميخائيلُ مُقتنعاً بإفادة البك، بشأن عن عدَم تخديمه للمَملوك الراحل. فاستفهمَ منه عمّن يَكون، إذاً، قد سرَق حزمَة الأوراق، التي كانت بعهدَة عبد اللطيف أفندي. فالتمَعتْ عينا الرجل ببَريق خبيث، ثمّ قالَ بنبرَة مُبيّتة: " لقد كنتُ مُتيقناً، منذ الرحلة المصريّة، بأنّ الآغا العطّار، صديقك، يعرفُ أكثر من الآخرين عن أمر الكناش. وبالنسبَة للحزمَة، المُستلّة منه، فإنّ الشاملي هوَ من سرَقها على أغلب تقدير "

" كيف، لو سَمَحت لي؟ فإنه صاحب الكناش، أصلاً، وليسَ سارقاً! "

" سمّ ذلكَ، بما شئتَ. المهمّ، أنّ الرّجلَ استعاَدَ ما يَعتقدُ أنه ملكه. ولعلمكَ، فإنّ الحزمَة تلك ما كانت همّاً بالنسبَة لي؛ لأنها خاليَة من مُخطط الكنز "، فلما قالها، فإن ميخائيل قاطعه على الفور: " ولكن، من أين لكَ مَعرفة ذلك، طالما أنكَ كنتَ تنفي علمكَ بأمر الحزمة؟ ". إذاك، كان ميخائيل يعتقدُ بأنّ لسان البك قد ارتكبَ هفوَة فادحَة. بيْدَ أنّ مَلامَحَه، المَعدومَة التعبير، لم تؤيّد ذلك الظن. ولم يتأخر الرجل، على أيّ حال، عن إجلاء الأمر: " لأنّ آغا أميني، سبقَ له أن أفادَني بذلك. وإلا ، فلو أنّ المُخطط كانَ مَوجوداً في الكناش الأصل، لما كانَ قد تنازلَ عنه للشاملي "

" لقد لحظتُ بأنكَ كرّرتَ وَصفَ المَخطوط بالأصليّ، أكثر من مرّة؟ "

" آه، نعم. إنّ لديّ نسخة أخرى من الكناش، سبقَ لي أن أمرتُ أحدهم بإنجازها. أما تلك، الأصليّة، فقد أعدتها للزعيم مُعتذراً حينما كانَ في ضيافتي مؤخراً، إثرَ إصابته في الهجوم "، نطقها ببساطة ويُسْر. ثمّ ما لبثَ أن سأل الحكيمَ بلهجة أخرى، صارمة: " إنكَ تملكُ مُخطط مخبأ الكنز، كما فهمتُ؟ ولكنكَ لا تحتاجه، على ما أظن. إنّ ما تحتاجه أنتَ، في الواقع، هوَ الحمايَة من نقمة الباب العالي بدرجة أولى "

" وفي الدرجة الثانية؟ "

" لا يهمّ، يا عزيزي. فإني سأقدّمُ لكَ بمُقابل المخطط الأمانَ ، لحين استقرار الحال في الولايَة الشاميّة "

" ألهذا المقدار، بلغَ تعاونك مع العثمانيين ضد ربيبك المصريّ؟ "، سأله ميخائيل بسخريَة. فما كانَ من البك إلا رسم بسمَة مُبتسرَة، مُتسامحة، على شفتيْه: " إن أيام السردار في الولاية الشامية أضحت تتناقصُ باستمرار، والشاطر هوَ من يقفز من المركب الغارق في الوقت المناسب. ولا أخفيك، بأنني وبحري بك في الطريق اليوم إلى بيروت كي نقابل قبجي السلطان، الذي هوَ في ضيافة قائد الأسطول الإنجليزيّ. وستسير أنت معنا؛ بالطبع، لو سلّمتني مخطط الكنز ".

كانَ يَوماً طويلاً، مُستطيراً. حقّ لميخائيل يومئذ التوهّمَ، بأنّ همّه انتهى بالكشف عن ستر المُجرم، المَجهول، كما ولغز الكناش، المَفقود. ولكن سُرعانَ ما كان عليه الإياب إلى حقيقة سَلاها في غمرَة المُفاجآت المُتواليَة؛ حقيقة كونه مُطارَداً من لدُن الدّولة وبتهمَة خطيرَة، مُهلكة. التشديد على المُفردَة الأخيرَة، إن هوَ إلا من واردات ما استجدّ من أحداث ذلك اليوم نفسه. وكانَ هوَ والقاروط، قد عادا أدراجهما إلى مَنزل المُضيف، لكي ينضما لجماعة الأعيان، المُتواجدين ثمّة. بعدئذ إجتمعا في خلوَة أخرى، عارضة. فقبل حين، همّ البكُ في التحرّك من المَكان على عجلة، مُصطحباً ميخائيل مَعه. إذاك خاطبه بمَودّة، فيما كانَ يَتفقدُ الغدّارة المَشكوكة في وَسطه: " لنا لقاءٌ قريبٌ اليوم، يا حكيم، لكي ننطلق في رحلتنا "

" هل في نيّتكَ الإياب مع الجيشين العثمانيّ والإنكليزيّ لاجتياح الشام، ولتخليص أصدقائنا من الأسر؟ "، أجابه بهذه الهَمزة. فما كانَ منه إلا مُفاجأة ميخائيل بالقول: " إنّ أصدقاءنا، كما علمتُ للتوّ، أضحوا أسرى في مكان آخر؛ في مكان، يُسَبّح رخامُهُ لمَلاكيْ الثواب والعقاب ". استسلمَ ميخائيل للوجوم، طالما أنّ كلامَهُ لا يُمكن أن يَعني شيئاً آخر، سوى أنّ الشاملي والعريان قد ماتا في السجن. ولكنّ البك، المُتأهّب للمُغادرَة، لم يَجد بأساً في إعلامه بحقيقة الأمر: " إنّ الشاملي والعريان، كما علمتُ مذ بعض الوَقت، قد شنقا بأمر الوالي عندَ ظهيرَة هذا اليوم. إنّ توقيتَ تنفيذ الإعدام، على ما يبدو، قد توافقَ مع ورود خبر ما، أثارَ حنق السردار ونقمَته ". وكانَ بودّ القاروط الإسهابَ في ربط الأمور بعضها ببعض، إلا أنه لحظ زهدَ الحكيم في الإنصات إليه. هذا الأخير، كانَ عندئذ قد شعرَ بدوّار خفيف وضيق في التنفس. فأشاحَ وَجهه نحوَ صديقه بحري بك، طالباً منه أن يُرافقه إلى البستان. بالرغم من تصديقه تقريباً لرواية القاروط بشأن ألغاز الجرائم والكناش والكنز، فإنه تأثّر لخبر موت الزعيم الشاملي.

حالما صارا عند المَصطبة، نصحَه صديقه، البك، أن يغطسَ في ماء المَصنع علّ ذلك يُنعشه ويُحسّن مزاجه. وقد أطاعه في ذلك، خاصّة أنّ الحرّ أيضاً ضافرَ من سوء الحال. بعد خرَوجه من الماء، شعر ميخائيل أنه أفضلَ ولا غرو. ثمّ قعَدا في صمت الهاجرَة، المُبكرة، المُتخللة بأناشيد الطيور وطنين الهوام. أحياناً، كانَ صوتُ بقرَة ما، مُتأت من الأنحاء القريبة، المُخضوضرَة، يَطغى في أسماعهما على تلك الأصوات الأخرى. بيْدَ أنه صوتُ القاروط، ذو اللحن المصريّ الطريف، من كانَ آنئذ يهزّ سكينة ميخائيل. أخيراً، فاض داخله بسيل من المُفردات المُتدَفقة دونما عائق، طالما أنّ أحداً لم يشأ إيقافها. نعم. لقد أنصتَ بحري بك إلى ميخائيل لساعة أو يزيد، دونما أن يَفقدَ صبرَه.

" إنّ إبليس، سواءً باعتقاد الإسلام أو النصرانيّة، كانَ بالأصل ملاكاً. وإذاً، فإنه بتلك الصّفة، يستطيع دوماً خداع الناس بحقيقة شخصه. أقول هذا، لأنني غير مُتيقن بعدُ من براءة القاروط؛ وربما سأبقى كذلك أبداً. شيء واحدٌ، مؤكّد: أنّ كلاً من المَملوكيْن، الروميّ والصقليّ، كانَ بريئاً "، اختتمَ كلام نيخائيل دونما أن يجرؤ على اتهام الشاملي. لم يشأ صديقه أن يُعلّق على ما سبق، فأستطرد هوَ موضّحاً: " منذ البدايَة، كنتُ أشكّ بكونه مُذنباً؛ ذلك المَملوك، الصقليّ. وأعتقدُ الآنَ، جازماً، أنّ خاتمَهُ لم يكن يَحتوي سمّاً. إنّ مَدقوق الحرمل، ذا اللون الأسوَد، كانَ من الطبيعيّ أن يَتحوّل بمرّ الأعوام إلى لون آخر، يُشبه الطحين. فبما أن خاتمه فضيّ، فقد تعرّضَ المَدقوقُ إلى ما نسميه علمياً بالأكسَدَة. على ذلك، كان من الطبيعي أنّ أرنب التجربة سيتسمّم من فوره بذلك الحرمل المُؤكسد. أما السمّ الحقيقيّ، الذي استعمله القاتل المَجهول، فإنه كانَ من طبيعة أخرى، غالباً. فإنّ الضحيتيْن، أميني والقوّاص، ماتا بعد تناول السمّ بساعات عدّة "

" إنكَ ما تنفكّ عن نعت القاتل بـ " المجهول "، مع علمنا الآنَ بشخصه، الحقيقيّ؟ "، قال البك لميخائيل. فهزّ هذا الأخيرُ رأسَهُ مُردّداً بأسى دَعوَة المُسلمين، المَألوفة: " رَحم الله الشاملي، على أية حال ".

" لقد اقترَفَ جرائمَهُ، العديدة، من أجل كناش لم يَفده بشيء "، قالها ميخائيل بأسف، ثمّ واصلَ بالنبرَة ذاتها: " كانَ يَعتقدُ بأن الكتابَ يَحوي مُخططاً، مَزعوماً، يودي كشفه بأجلّ رمز أسلاميّ للشام الشريف. فيما أنّ القاروط يَجزمُ بأنّ الكناشَ يَحوي مًخططاً آخر، يؤدي إلى كشف كنز أبيه؛ الكنج ". ثم تردّدَ ميخائيل قليلاً، قبلَ أن يقول: " بل إنّ الزعيمَ، بدَوره، كانَ مُتيقناً بأنّ الكناش يُشير إلى كنز آخر، أكثر قيمَة وإجلالاً؛ كنز النبوّة. إنّ الرّجلَ، إذاً، كانَ مُتعلقاً بالآخرَة لأنها أبقى من الأولى ". إذاك، كانَ قد استعاد في ذهنه ما كان الآغا العطّار قد أخبره، عما أسماه بـ " كنز النبوّة ". إلا أن بحري بك سألته بشكّ: " أيّ كنز هذا؟ "

" إنه ذلكَ المَذخر، الخشبيّ، المَدفون في أرض المَقام الياسميني "

" ولكن، ما أدراكَ بأنه كنز النبوّة؟ "

" لأني قرأتُ يومَ أمس، عن آخره، كناش الشيخ البرزنجي ". لبث الآخرُ مُنبهتاً فيه لوَهلة، قبل أن يستدركُ مُستفهماً: " أهيَ نسخة القاروط، التي تسنى لكَ قراءتها؟ "

" بل هيَ هذه؛ النسخة الأصل.. "، قالَ ذلكَ فيما كانَ يمدّ يدَه إلى جراب الدواء، الذي يُرافقه دوماً. ثمّ أخرجَ كتاباً حائل الأوراق، ذا عبق قديم ومألوف. إلا أنّ جلده كانَ من الجدّة، أنّ البك طفقَ يتأملُ فيه هنيهة لكي يتأكّد بأنه كناش الشيخ البرزنجي، فعلاً. كانَ العنوانُ، المَنقوش بخط جميل، غريباً: " أريجُ الفرْج ". على ذلك، رَمقَ صديقه بنظرة ريبَة، قبل أن يعمد لتصفح المخطوط. فأوضحَ ميخائيلُ، وقد حدَسَ مَبعث استغرابه وشكّه: " إنّ الجلدَ مُستحدَثٌ، كما ترى، وليسَ أصلياً. كذلك أمرُ العنوان؛ المُحيل لكتب الباه والعطارَة. إنّ الشاملي، على الأغلب، هوَ من فعل هذا التغيير بغيَة تمويه الكناش عن أعين الفضول ".
من ناحيته، صدّقَ البك على استقراء صديقه؛ بتأكدّه أنه الكناش الأصل، من شكل أوراقه كما ومن قراءته لبعضها. إذ كان قد سبقَ واطّلع على حزمة الأوراق، المُستلة منه. ضمَ البك الكتاب لصدره، مُخاطباً ميخائيل بسهوم: " أرغبُ بأن يكونَ رفيقَ سفرتنا؛ أن أواظبَ على قراءته حتى ختامه ".
ما لبث ميخائيل أن إجتاز بسلام الطريق إلى بيروت، ليضع نفسه رهنَ ممثل الباب العالي، الذي كانَ يقود العمليات ضد المصريين من سفينة حربية إنكليزية، راسية في الميناء. وكانَ شاهداً على قدوم الأمير بشير، آخر حلفاء إيراهيم باشا. الأمير، ما عتمَ أن نفيَ إلى مالطة. أما ميخائيل، فسُمحَ له بالعودة إلى دمشق عقبَ حصوله على العفو. ثمة، حظيَ بوظيفة وكيل القنصل الأمريكيّ. ويقال، أنه تصنّعَ بمذهبه وإعتنق المذهب الإنجيليّ. كذلك شهدَ دخولَ القاروط إلى المدينة بموكب كبير، غبّ تعيينه والٍ عليها. بشأن صديقه العطّار، فإنه تسلّم منه رسالة بعد سنوات تفيد بإنتقاله للعيش في جزيرة كريت، ليكون من ضمن حاشية الأمير الكرديّ، بدرخان. لم يذكر شيئاً عن نرجس، وإنما إكتفى بخبر وفاة جدّها عبد اللطيف أفندي.
وكانت آخر كلمات التذكرة، المسجلة بخط ميخائيل: " هذا السّفرُ، آنَ له أن يَصلَ إلى مُنتهاه. إلى نهايته وليسَ إلى كماله؛ فإنّ أوراقَ الكناش، على أيّ حال، قد شارَفتْ على النفاد. لم يبقَ في دَفتري، إذاً، سوى أربعة أوراق بيض حَسْب، بعدما سبقَ لي أن سَودّتُ أخواتهم بخطي المُتأني، الكبير. لن أفتحَ دفتراً ثانياً، كيلا يُسْحرُني من جديد إغواءُ الكتابَة. من ناحيَة أخرى، لن أسمَحَ لريشتي هنا بتسجيل أيّ عبرَة من أحداث العامّية، التي تعرّضتُ لذكر تفاصيلها في كناشي. لأني ما أفتأ على يَقيني، بأنّ أحداً غيري لن يتسنى له أن يَقرأ ما دوّنته في هذه الأوراق، الكثيرَة، المَنذورَة كما أتمنى للنسيان والهَباء والعدَم ".

يافلي، ربيع 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا