الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها تتآكل/ لوعة النّسيان، روعة التّذكّر

الطايع الهراغي

2023 / 10 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


" نموت كي يحيا الوطن
كيف يموت ميت؟؟
وكيف يحيا من اندفن؟؟"
(أحمد مطر)
"لولا النّسيان لمات الإنسان من كثرة ما يعرف،من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجري في رأسه".
(عبد الرّحمان منيف/ الأشجار واغتيال مرزوق)
"أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟؟ الوطن هو أن لا يحدث ذلك كلّه".
(غسّان كنفاني/عائد إلى حيفا)

كنْ بذاكرتك رحيما لتكن لك خير السّند.ذاكرْ وإيّاها بما يلزم من التّأنّي والتّثبّت مراوغات التّاريخ وخروقاته. قلّبْ وإيّاها ما ثبت من خدوش في صفحات ما هو كائن من حصاد العمر،غصْ في لهيب دفاتر الجراح وحاذرْ أن تغترّ بالنّزر اليسير من الأفراح. دعك ممّن واساك- وهو في أكثر حالاته صدقا- بأنّ الزّمن كفيل برتق الجراح ومحو السّوءات فهو يتجاهل عمدا أنّ الذّاكرة تحتكم هي الأخرى إلى قانون غريزة حبّ البقاء، السّلاح الذي به تتحايل على مكر الزّمان وتخاتله، تتظاهر بما يكفي من تناس وتتدثّر بما يلزم من بأس وحقد. تتناسى إلى حين لكي لا تنسى أبدا. أشجانك وآهاتك،أحزانك وأتراحك، أحلامك المبتورة،خيباتك الجميلة ذخيرة بها تتحصّن لما هو آت من أهوال الأيّام العجاف. فتدرّبْ على أن تعاشر آفة النّسيان حينا وتقاومها بنعيم التّناسي أحيانا .تعلّم كيف تكون على الذّاكرة قاسيّا قسوة الحبيب على من يحبّ ساعةَ يموت شبقا ليبلغ في عشقه المدى.تعشّقْ مغالبتك للحياة إلى أن تتأكّد أنّك ضمنت موتا آمنا يغيظ العدى ويفجّر بعضا ممّا يعتري الصّبايا من جنون.
في لحظة ما وأنت بين يقظة وغفوة وغياب ووعي تخترق عليك الذّاكرة روعة الشّرود وتدمغك بسؤال الأسئلة:كيف لك أن تبحث عن منفى ما لم يكن لك وطن هو الرّفيق وهو النّديم، فيه تنمو الآمال على أغصان الزّمان؟؟وأيّ معنى لوطن لا تجد مفرّا من أن تعود إليه متسلّلا إذا هزّك يوما ما حنين قاتل إلى رائحة الأرض التي هجرتها وظلّت بين الضّلوع رابضة؟؟، وطن إليه شعلة الرّوح تهفو كلّما اشتقت إلى التفاتة حيرى ممّن واعدتها وكنت في وعدك صادقا كلّ الصّدق، وكدت تخلف الوعد. فبات الوعد ووخز الملام أجمل بديل عن اللّقاء. وطن عندما تغادره أخذا بخاطر من استنفر كلّ مجهوداته ليهجّرك تعبّ أكبر قدر من الهواء، هو زادك وزوّادك به تجابه وقاحة النّسيان. في رحلة التّغرّب بحثا عن الذّات يكون لك ذكرى دافئة حزينة، محيّرة وجميلة؟؟.كيف؟؟
ما قيمة الإنسان إذا لم تكن له ذاكرة مستفزّة مهمّتها أن تلدغه بين الحين والحين فتوقظه شأنها شأن ذبابة شهيد الحكمة سقراط ؟؟ ما قيمة الإنسان بلا محن ولا خيبات بها يتبيّن الفروق بين من تباكى علنا وعلى الملإ وبكلّ الصّدق والحِرفيّة ومن انزوى في ركن يكابد بكثير من الخجل إخفاء دمع على الخدّين يهمّ أن يسيل؟؟.دابّة هائمة على وجه الأرض؟؟.قربة خاوية ومثقوبة؟؟.رقم في قطيع؟؟. بقايا قبر مهجور موحش؟؟. هيكل أجوف بلا قلب وبلا عقل وخال من الأحاسيس. ؟؟
ذاكرتك يا أنت هي أنت. بضع من نجاحات لمّا تراجع سجّل أيّامك يسكنك التّعجب ويلحّ عليك السّؤال: كيف انفلتت من دبر التّاريخ؟؟ كيف راوغت مكائد الأيّام وفخاخها؟؟ فتظلّ بها تفخر وتزيد، وكثير من الخيبات التي لن تعثر على ما يليق بها من تمثّل في المعاجم القديمة- رغم ما تزخر به الأساطير من أعاجيب- منها تتعلّم: متى وكيف تفرز من تباكى بكلّ الصّدق والحِرفيّة ومن انزوى في ركن ليكبت بكثير من الخجل دمعا على الخدّ كاد يسيل؟؟كيف تخاتل أنياب الهزيمة لتروّضها وتحول دون تحوّلها إلى كابح؟؟.كيف تصنع من ومضة سابحة في ملكوت الشّرود أفقا وألقا؟؟. ذاكرتك خلّك في حلّك وترحالك. في لحظات الإغفاء وفي لحظات الصّحو،ساعات الغياب وساعة الحضور، في رحلة بحث مضنيّة في أغوار ذاتك لتنحت منها ولها كيانا وتصرّ على أن تؤصّله تأصيلا وتنحته نحتا لكي يبقى. ذات تطلب المستقرّ بكلّ أرض وهي تدري أنّها قد لا تجد في أرض مستقرّا. ترحل عنها، وإلى نقطة البدء يظلّ يعاودها الحنين.
كأبي هريرة-الصّحابيّ والمحدّث والفقيه- ،عليه المكان ضاق وثقل فما وسعته الأبعاد. تتالت عليه المحن ومجّه القعود وتاقت نفسه إلى الارتحال فطلّق الأرض والسّماء وطلب المستقرّ حيث لا مستقرّ. مالت نفسه الحيرى إلى الهجران فشرّق وغرّب. فلا الشّرق كان شرقا ليزوّده بما يكفي من السّكينة، ولا الغرب رام أن يكون غربا ليمنّ عليه ببرد اليقين. فكانت رحلته بحثا عن كينونته في مغامرة هي الالتياع والاكتواء والارتواء.
ليس للذّاكرة من قدر إلاّ أن تنبش في حواشي التّاريخ وشروحه قبل المتون لتدرك كيف تتحايل على ضيق المكان ومقته وعلى قهر الزّمان وصلفه. تتلافى عمدا بوعي مركّب ما تراكم من جزئيّات لكي لا تغفل عن الكلّيّات.
تتناسى وفي البال أن لا تنسى. تتغافل عن الهوامش على أمل أن لا تغرق في متاهات التّفاصيل.
الذّاكرة تغفر الزّلاّت إلى حين .ولكن أنّى لها أن تتصالح مع ما لا مجال فيه للتّصالح. قد يحدث أن تقع تحت طائلة الزّمن وهول الأيّام فتغفر، ولكنّ وقع الجراح الغائرة يسدّ عليها كلّ احتمالات التّسامح.

اليمامة بنت كليب، لمّا جاءتها الوفود للصّلح تسعى والسّلمَ تريد قالت قولها الفصل: أنا لا أصالح. على وصيّة أبي أبدا لا أصالح. فلتدبّجوا ما شئتم عن فنون التّسامح. أبي كان قال ساعة الاحتضار: أموت ولكنّ دما سيظل يفور يطلب ثأرا ولا يسامح. من اعتقد أنّ هول الأيّام كفيل برتق الجروح لو أتيح له أن يقلّب دفاتر التّاريخ لأدرك أنّ الذّاكرة في لحظة ما تلفظ ما لا حاجة لها به ولكنّ وخز الجرح يظلّ يترجّاها أن لا تنسى.
هل يمكن للذّاكرة أن تنسى ذاك الذي لمّا توفّي أبوك لا أحد انتظر منه حضورا فكان أوّل الحاضرين. أدهشك بكاؤه بحرقة واحترت في فهم حزنه الدّفين، وقبل أن تسأله السّبب أجابك بما يزيح عنه وزرا ويملؤك حيرة.
كلّ الحكاية أنّ له مع الوالد عهدا، وأبى أن يزيد.واحتمى بشروده الحزين.
تذكّر تلك التي غطّت رحيلك المأساويّ بنظرة حالمة فيها من الفرح ما يأسر ومن الشّجن ما يربك ويحيّر. لمّا حانت ساعة الوداع وبدت لك كالحمل الثّقيل،وكانت المدينة في مخيّلتك تنآى، تغيب فتزداد في ذهنك رسوخا كنت بحاجة الى من يحمل عنك وزر اللحظة ووقعها. فكان أن شيّعتك بأجمل ابتسامة استلّتها من حبائل الزّمان. كانت تدرك بالسّليقة أنّ الذّاكرة في تلك اللّحطة الفاصلة المجنونة تحتاج أن تلتقط ما تريده أن يظلّ راسخا وتحتفظ به إلى الأبد.

ما كان يمكنها إلاّ أن تراهن على أّنّك ستعود،وإذا العودة استحالت لعلّة ما فالابتسامة أنيسها في ساعات الانتظار وزادك في رحلة التّرقّب والعذاب.
ما هو التّاريخ؟؟ صراع الذّاكرة مع التّغافل،لعبة تُرسم فيها حدود النّسيان والتّناسي .
وأنت تسافر إلى حيث لا تدري تسعفك الذّاكرة بتضاريس المدن وطعم الهواء ولون حزن البلد وأحلام عربدات الطّفولة، وتصرّ على أن تجمع لك كلّ مسافاتك.
إذا لم يكن لك وقت لاستحضار الأسماء فتذكّر ما فعلت تلك المرأة العجوز في لحظة هي الدّهر، وهي تدري بما خبرته من محن ومآس أنّ البكاء يهدّ أصلب الرّجال .لمّا أرسى الحزن سدوله وفاضت مشاعر الكآبة على الجميع قالت والابتسامة تعلو محيّاها: تعالوا نغنّ للفرح،وانطلقت في غناء لا ينتهي.
الذّاكرة عصف الطّبيعة وهول نشيدها وهي تعلن ثورتها على ما لم يكن يوما منها،نسائم الصّباحات وهي ترتّل مواويلها فقط للحالمين، تمرّد الإنسانيّة المتألّمة والإنسانيّة المفكّرة على ما يحاك ضدّ العقل والفكر من مؤامرات التّصحير والرّغبة المحمومة في احتلال الذّاكرة ومصادرتها. احتجاج على ما رُسم على وجه الخطإ من ترّهات واعوجاج في تاريخ البشريّة.

الذّاكرة ضميرك الجمعيّ،حارسك الأمين، لمّا في غفلة يفاجئه النّعاس فيهمّ أن يغفو يعذّبه الصّحو وينهره العناد فينتصب أكثر تحفّزا وأشدّ توهّجا.
ليس الاستعمار -والاستيطان أبشع أنواعه وأشكاله - إلاّ هجومات متكرّرة لاحتلال ذاكرة التّاريخ وسحلها واستبدالها بذاكرة لقيطة هجينة. وليس الاستغلال والاستبداد إلاّ تطويعا للمخيّلة العامّة لتقطع مع إرثها الكامن كمون النّهار في الهشيم، كمون الرّغبة المكبوتة في ركن من أركان المخيال الفرديّ والجماعيّ.
الذّاكرة لعنة ورحمة. أمل شارد متنطّع، حفر في ثنايا المسافات الطّويلة، ترنيمة للحياة،أغنية مكثّفة تخلّد حلما جميلا لأنّه عصيّ: "سنرجع يوما إلى حيّنا"،"الآن الآن، وليس غدا".
وصيّة لشهيد حبّرها لحظات قبل أن تفارق الرّوح الجسد، بصوت شجيّ يقرأ آياته البيّنات:الوعد وعد وديْن،أنا عائد. رجاء لا تودّعوني.فالشّهداء يتماوتون دوما وأبدا لا يموتون.
حكاية عشق عجيبة للمكان الذي فيه تشكّل كيانك.
رغبة المؤرخين في النّظر والتّحقيق والتّمحيص، في التّأريخ لما خافوا عليه دوما من التّلف.
حيلة جميلة منمّقة واعية يطلقها ثائر بها يبدّد ما قد يعتريه من تردّد ووهن ومخاوف: "إمّا الاشتراكيّة وإمّا البربريّة"( روزا لوكسمبورغ)،"الجزائر أمّنا" (جميلة بوحيرد ).
صيحة يطلقها قائد جسور لمّا تنسدّ عليه كلّ الدّروب ويوقن بالهلاك "موتوا شهداء" (عزّ الدّين القسّام).
الشّعر وقد بات محمولا على فوهة البندقيّة" لقد أقبلوا فلا مساومة، المجد للمقاومة"(معين بسيسو).
الذاكرة تسفيه لما يدبّجه الوعّاظ عن سلاطينهم من أساطير.الرّادار الذي لا تطاله راجمات الصّواريخ. حصار الحصار، حرب على الدّمار.
عندما يمتطي الحزن وجوه الصّبايا ويذلّ طفولة تتوق إلى أن تغازل أمانيها بكل براءة الطّفولة،عندما تتهاوى الجسور وتتراثى وتتباكى المدن بحرقة يلبس التّاريخ حلّة حزنه وينتحب.
الذّاكرة ما يرسمه السّجين من خربشات على جدران السّجون،ما يرتّله الأسير من أناشيد الفرح في الأقبيّة والمعتقلات،ما يحفره المقاوم من أنفاق.
ما تحتفظ به الحبيبة من ذكرى عن حبيب تسلّل من وطنه إلى وطنه، ولا تدري إن كان في الإمكان أن يعود مادامت عودته احتمالا ضئيلا .فصار الانتظار بالنّسبة إليها أعتى أشكال الانتصار على لؤم الزّمان.
هل يمكن للذاكرة أن تنسى من تاهت به الدّروب فما كلّ ولا استكان وظلّ يسير وسيظل دوما يسير؟؟
هل تنسى من طارد أملا كلّما منه دنا عنه ابتعد ونآى فيزداد به ولعا وهياما؟؟
كيف تنسى أنّ اللّحظات الشّاردة - شأنها شأنها العلامات الفارقة -عنك تتنطّع وبثقل الحمل قد تنوء. ولكنها تظلّ تغازلك دهرا فتجبرك على أن يبقى الحنين يهزّك إليها هزّا؟؟
إيّاك أن تنسى.

















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله