الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجليات العشق والإنعتاق..في قصيدة الشاعرة التونسية السامقة أ-نعيمة المديوني -هذه أنا في عرين الحبّ-

محمد المحسن
كاتب

2023 / 10 / 14
الادب والفن


قراءة قصيدة دون تسمية صاحبها،أفضل شعريا من تسمية الشاعر ونسيان القصيدة (روبير لوسيان جيرارت)

لأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة،فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.
وهنا أضيف:
تتوق لغة النص الشعرية إلى الوصف والرمز،فتزيد من قوة النص دون أن تجعله طلاسمًا،إذ تعبّر الذات الشاعرة بلغة المجاز بعفوية مطلقة بعيدة عن التكلف،لتمنحَ المتلقي لذة القراءة والتأويل.
لكن العديد من الكتّاب والشعراء عبّروا عن موقف آخر نقيض،ألا وهو مكابدة القصيدة والاكتواء بأوارها…فصوّروا الأحوال النفسية التي تعتري الشاعر وهو يقبل على فعل الكتابة حتى أنّ هذه الأحوال تصبح أحيانا شبيهة بالأحوال الصّوفية التي تتطلّب مكابدة ومجاهدة في سبيل بلوغ شفافية النفس والارتقاء بالرّوح حتى يبلغ الشاعر ذروة النشوة الشّعريه.
وهم كثيرا ما يشتكون من ارتباكهم أمام اللغة وخضوعهم لصولتها وإفلاتها أحيانا من حضرتهم حتى تصبح مطلبا عصيّا مستحيلا.
فاللغة في هذه الحالة تتحوّل من أداة يسخّرها الشاعر ليسبر أغوار نفسه ويتصفّح بها أحوال العالم من حوله لتصبح مطلبا عزيزا،أو عقبة كأداء تحول بينه وبين التعبير عمّا يجيش بخاطره ووجدانه.
تضيق اللغة في هذه الحالة وتفلت وتميع وتصبح معادية للشاعر متأبّية عليه وسببا في محنته بعد أن كانت نعمة وأداة طيّعة يصرّفها كيف يشاء..
ولكن الشاعرة التونسية القديرة أ-نعيمة المديوني ما فتئت تمارس اكراهاتها على القصيدة فتنحني-هذه الأخيرة-إليها-مكرهة-و دون عناد،وهنا تتجلى المهارة والبراعة في مسك خيوط القصيدة ونسجها بساطا إبداعيا لا تخطئ العين جماله وحسنه الآخّاذ..
النص الشعري الذي بين أيدينا والمعنون ب"هذه أنا في عرين الحبّ"هو للشاعرة المتألقة-كما أصفها دوما-أ-نعيمة المديوني-وهو في منتهى الروعة والإبداع،ويغري بالمزيد من القراءة،والتفكيك..
ولكن سأكتفي بتقديمه للقراء عساه يداعب ذائقتهم الفنية فيرقصون على ايقاعات كلماته العذبة..إذ يعود الرقص للقارئات والقراء رمزاً حضارياً متوهجاً هذه المرة بدلالة الازدهار،إذ تقدم لنا الشاعرة جهداً مضاعفاً في تأصيل البناء النصي الذي عملت فيه على تنمية فضاء الشعرية .
وأشكر الشاعرة المبدعة،على هذا الجمال الأخاذ،في تقديم الشعر بصورة بديعة،وأعتذر عن التقصير بحق النص،فهو يحتاج إلى وقفة أطول وقراءة أعمق.
كل الأمنيات بدوام التألق والنجاح.

هذه أنا في عرين الحبّ قصيدة للشاعرة التونسية نعيمة المديوني
هذه أنا في عرين الحبّ..طفلة صغيرة
أقتفي خطاك
أستظلّ بظلّك
قد تحرقني أشعة الشّمس فأهرع إلى عينيك مأواي
قد تصطدم قدماي بجمرة تحرقهما فأحتمي بذراعيك
تلعق نزفي
هذه أنا في لحج الهوى
أرنو قطعة سكّرٍ من ثغرك تهبني الحياة
أستلذّ بقضمها.. يهتزّ عرش الفؤاد
هذه أنا بين يديك أذوب كعروس من الحلوى
تداعب كفّي فينبت الأملُ
تقترب أنفاسُك فتعتلي خفقاتي القممَ
أعشق كلّ كلّي اذا ما ارتسمتُ في عينيك لهيبا وشبقا
إذ تجلّت حدائقك
تهديني إياك زهرة زهرة
تمتدّ أصابع الشّمس تلامس أوتار الشّوق
ترقص أفراحي
تعزف ألحان العودة
احترق بنار الوجد
أبسط كفّي فتنفجر قُبلاتي
تنبِت لها أجنحةٌ
تحلّق مع الفراشات
تحطّ على خدّ القمرِ مرسالا لقلب سكن قلبي
تدارى خجلي....
هذه أنا كقطّةِ الجيرانِ تقترب من سور الحديقة
يضطرب خفقها
تحلُم بليلة دفءٍ
بأنفاس حارقةٍ
تمدّ يدها تمسك باقات الأيّام
رقيقةٌ قطّة الجيران تقفز كالأحلام..
كسماء ليلة صيف مطرّزة باللّائي
تصطدم بصلابة الجدران
بقسوة الأبواب
تعود وجلةً إذ انحدر بها المسير
تخاف الظّلامَ
تخاف مواءَ قططِ الطّريق
تهرع إلى بيت ظليل يأوي أحلامها
تسقط أقنعةُ التّجنّي
تسكن الرّوحُ حيث ما ولّى العتابُ
حيث أمير ليالي السّهاد
يداعب السّمر
ينسج له من أنفاسه بساطا
تنمّقه الرّياحين
تطرّزه الأقحوان وشقائق النّعمان
هذه انا كليلة العيد
أتزيّن بك
أتعطّر بأنفاس تغريني
أنسج من أحلامي رداء يدفّيني
أنت ردائي
أنت سحر أحلامي
تمتدّ يدك تمزّق سهادي
تخفي في سراديب الذّكربات أنيني
يجيئني صوت أليف
يبعثر أوراقي
يزيّن حدائقي
يعلّق بالوناتٍ مختلفة الألوان
مزاميرَ
أنسج من عبق الزّهور رداء لروحي
تجيئني كما لم تجئني يوما
أغفو على زندك
أنتقل وأحلامي إلى بلاد أليس والعجائب
يحرقني قربك
يسكرني سحرك
أنساني وأنسى كلّ الكلّ
ولا يظلّ في عينيّ غيرك
أدفن حاضري وغدي في نسائم الأمل
ولأنّك أملي لا أجد خير من صدرك مدفني
نعيمة المديوني

لقد ظلت ثيمة الحب على الدوام الثيمة الأثيرة والمفضلة لدى الشعراء،بل لعلها العتبة الأولى لجُلّهم قبل التّنسك في محراب الشعر الصافي.وهي ثيمة جاذبة يغادرها الشعراء في مقولهم الشعري،ثم ما يلبثون أن يعودوا إليها عبر نصوص مفردة أو عبر مجموعات.
ولا تعوزنا الأمثلة للاستدلال على هذا من تاريخ الشعرية العربية والكونية،فنزار قباني لم يبرح بيت الحب،أما محمود درويش فقد شرب الحب من عيون ريتا،ثم عاد إليه في نصوصه الأخيرة،وغيرهما من الشعراء.
ومرد هذا طبعا إلى الطابع الحسي لموضوع الحب المشترك بين الناس،ولاسيما الشعراء منهم لجيشان انفعالاتهم ورقة أحاسيسهم،فضلا عن امتلاكهم وسيلة للتّعبير عن ذلك كاللغة الرقيقة والخيال والتشكيلات البلاغية والإيقاعية.
ومن هنا فمقاربة «هذه أنا في عرين الحبّ»سيؤطرها قول أدونيس في كتابه «مقدمة للشعر العربي»،«القصيدة شكل إيقاعي واحد أو كثير،ضمن بناء واحد،لكن الشكل الإيقاعي وحده لا يجعل بالضرورة من الكتابة أثرا شعريا،فلا بد من توفر شيء آخر هو البعد أي الرؤية التي تنقل إلينا أو مادتها أو شكلها الإيقاعي».
والحقيقة أن ما يقود إلى استحضار هذا التأطير هو انسجامه مع نصوص الشاعرة التونسية الفذة أ-نعيمة المديوني (أزعم أني اطلعت على جلها)،فالشاعرة العزيزة -نعيمة-شيّدت رؤاها الشعرية،التي نستشفها من منطوق قصائدها،في قالب إيقاعي آسر.فمنذ مفتتح-هذه القصيدة العذبة-جعلت الشاعرة الحبّ مسلكها في الحياة وتعبيرا عن وجودها..
تنتمي قصيدة «هذه أنا في عرين الحبّ »إلى الشعر الشفيف،أي غير المنغلق على معانيه ودلالاته،فهو يهبك منذ لحظة القراءة الأولى ما يُمتِع الوجدانَ،ومع القراءة الثانية والثالثة تتبدى جواهره ولآلؤه المضيئةُ بالمعاني،حيث يتمظهر الحب ويتبدى في تجليات متعددة ويتخذ أشكالا كثيرة،إذ يتجلى في شكل الشوق،وفي شكل الحنين،وفي شكل التوحد مع المحبوب..
وهذا ملمح آسر في هذه القصيدة،خاصة أن الشاعرة العزيزة -نعيمة-عبّرت عن هذه المعاني بلغتها الشعرية الشفيفة والأخاذة..
ومن هنا فقصيدة«هذه أنا في عرين الحبّ »كتابةٌ تنطلق من الذات وتلوذ بها وتفيء إليها لتشيّد شعرية موسومة بالذاتية المفرطة،تنساب في دفق وجداني،اتخذ من التصوير والصورة الشعرية وعاء لتعبير الذات الشاعرة عن أحاسيسها ولواعجها،وهي صور تختبر هشاشة هذه الذات أمام واقع تتصادم معه.
إن ما يَلفت النظر في عدد كبير من قصائد شاعرتنا المتميزة تونسيا وعربيا (أ-نعيمة المديوني) هو الإيقاعية التي انبنت عليها النصوص،فلم تركب الشاعرة مركب المتقشّف في هذا الجانب،وقد فعلت الشاعرة هذا بتفرد ظاهر،فقصيدة «هذه أنا في عرين الحبّ» متحررة من ضغط الإيقاع المفتعل،إنه إيقاع أتى عفو الخاطر والقلب،ولم تتقصده الشاعرة قصدا.هو إيقاع داخلي يأسر أذن السامع..إيقاع ينبني على تكرار الحروف والبنيات اللغوية،وينتج عن ما ينشأ بين الكلمات من علاقات عن طريق التجاور.
وأخير،وعلى سبيل الختام،فقصيدة «هذه أنا في عرين الحبّ»تنبض بملامح وجماليات فنية أخرى وتشابكات استعارية ودلالية عديدة،استطاعت بها الشاعرة أن تخلق عالما شعريا متناغما ومنسجما،مما يعد بأعمال أخرى آتية بزخم شعري أنضج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا