الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَوْتانِ وحياةٌ واحدة

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 10 / 14
القضية الفلسطينية


للمرَّةِ الأولى أشعرُ أنَّ قلمي تائهٌ بين فكرةٍ هُنا وشعورٍ هُناك. أَلَمانِ لا ثانيَ لهُما وتشتُّتٌ واحد! تمامًا كفلسطينيٍّ في غزَّة، تائهٍ بين موتٍ هُنا وموتٍ هُناك. مَوتانِ لا ثانيَ لهما وتشتُّتٌ واحد! ولا سؤالَ في حضرةِ هذا التِّيه العَتيق إلَّا السُّؤالُ العتيقُ عنِ المَفرِّ؛ أينَ المَفرُّ؟ ولا جوابَ إلَّا المُقاومَة، إذْ لا مَفرَّ إلَّا المُقاومَة. وعلى سبيل الحماقة؛ ثَمَّةَ أحمقٌ على هذه الأرضِ يُميِّزُ بين الموتِ على سبيلِ السُّرعةِ والموتِ على مهلٍ. لكن مهلًا! آهٍ كَمْ احتلَّ صَهيونُ مِنَّا! احتلَّ حتَّى وَعيَنا في تحديد الاصطلاحات. ليسَ ثَمَّةَ موتٌ على هذه الأرض! ثَمَّةَ قتلٌ. وليسَ القَتلُ موتًا. وآهٍ كَمْ يسلبُنا ذواتَنا ذاكَ الذي يُسمِّينا موتى. يَحرِمُنا حتَّى من لَعنةِ أنْ نَكونَ قَتلى. وإذَّاكَ لا أدري إنْ كانتْ تَسميتُنا بالـ «موتى» تبرئةً للجلَّادِ أم إدانةً للضَّحيَّة أم كلَيْهِما. إذَّاكَ أؤمنُ أنَّ الاصطلاحَ سلاحٌ فتَّاك، وأنَّ تسميَّةَ المُسميَّاتِ بأسمائها أُسلوبُ مُقاومة وحدٌّ فاصلٌ بينَ الانتماءِ والخيانة، وأفهمُ كيفَ يكونُ الصَّمتُ اشتراكًا مُباشرًا بالجريمة، وكيفَ يصيرُ الصَّامتُ مُجرمًا مِن حيثُ يَدري.

إذًا؛ ثَمَّةَ أحمقٌ يُميِّزُ بين القَتلِ على سبيل السُّرعةِ والقَتلِ على مَهلٍ! وبمُقتضى هذا التَّمييز تُصبحُ إدانةُ القَتيلِ أسهلَ وأَهوَنَ من الاعترافِ بحقِّه في أن يُقتلَ رافضًا لقَتلِه. هذه الإدانةُ ليستْ إلّا ترسيخًا لفكرةٍ في ذِهنِ القاتل مُؤدَّاها؛ «وهل أقتلُ إنسانًا؟!». ثَمَّةَ مرحلةٌ انتقاليَّةٌ بين الحياةِ وانعدامِها عندَ القَتيل؛ هي تِلكَ الفترةُ التي يُقرِّرُ فيها القَاتلُ تجريدَ القتيلِ من إنسانيَّتِه، وإذا كانَ القَتيلُ شَعبًا فيَعمَدُ القاتلُ إلى تجريدِ الشَّعب من قضيَّتِه. إذَّاكَ يَستطيعُ القاتلُ تبرئةَ سِكِّينِه في عالمٍ لا يُقيمُ وَزنًا إلَّا للقُوَّة. بيدَ أنَّ، وما أقساه من استدراكٍ، الذي يُجرِّدُ الشَّعبَ الفلسطينيَّ من قضيَّتِه ليسَ صهيونيٌّ لا يَعرفُ سوى القَتل. خمسةٌ وسبعون سنةً ولم يَقدرْ أكثرُ آل صَهيونَ إجرامًا أنْ يَقتلُ القضيَّةَ في وِجدانِ فلسطينيٍّ ولا عَربيٍّ واحد منَ الشَّعب. حتَّى الخَونَة والعُملاء لم تَمُتْ القضيَّةُ في وِجدانِهم، لا لشيءٍ إلَّا لأنَّها لم تَكُنْ يومًا في وِجدانِهم. فالقضيَّةُ إذا كانت قضيَّةَ حقٍّ وباطل لا يُمكن أن تموتَ في وِجدانٍ تَسكنُه، لأنَّها قضيَّةٌ ليستْ حيَّة وحسب، بل ليسَتْ لها قابليَّةَ أن تموت. كالله تمامًا. لا تَخضعُ لثُنائيَّةِ القُوَّةِ والضَّعف، بل لثُنائيَّة الحقِّ والباطل. أسمعُ منَ النَّاسِ أنَّ «القضيَّة حيَّة»، وكَمْ أستصغرُ قُدرتَهم على التَّعبير! وكَمْ أعذرُهم! قضيَّتُنا، نحنُ العَربَ من حيثُ أنَّنا من بني الإنسان على سَبيل القَدَر وفلسطينيُّون على سَبيل القَتل، ليسَتْ لها قابليَّةَ أن تموت. لن تموتَ حتَّى يموتَ الله!

في حَضرةِ القَتلِ، والمَوتِ أيضًا، تَسألُني نَفسي؛ لماذا لم يَعُدْ للمَوتِ رهبةٌ في هذا العالَم؟! ألا يُدركُ العالَمُ في حضرةِ القَتلِ، أو المَوتِ، أنْ ثَمَّةَ إنسانٌ لم يَعُدْ قادرًا على مُمارسةِ الوجودِ في هذا العالَم؟ إنسانٌ رَحلَ دونَ أدنى حُلُمٍ بالعَودة؟! أسمعُ ممَّن سَبَقني في وجودِه على هذه الأرضِ أنَّ الموتَ كان ذا رهبة. كان مُهابًا إذا وقعَ على قريةٍ أو بيت. أسمعُ أنَّه كان بالإمكانِ إدراكُ أنَّ مَوتًا، أو قتلًا، قد نزَلَ في بُقعةٍ منَ الأرضِ منْ خِلال سُلوكِ ساكنيها وتقاسيم وجوهِهم، بل حتَّى من رائحةِ الهَواء وصوتِ العصافير ولونِ السَّماء. تُرى ما الذي بدَّلَنا هذا التَّبَدُّلَ الأقصَوِي؟ ما الذي جَعَلَ المَوتَ، فضلًا عنِ القَتلِ، عاديًّا إلى هذا الحد؟! هل تَغيَّرتْ ماهيَّةُ الَموتِ على هذه الأرض؟! هل للموتِ في هذه الأرضِ معنًى غيرُ عدم وجودِ الحياة؟ لستُ أُناقشُ تعريفَ الموتِ إنْ كانَ تعريفًا سلبيًّا، أي أنَّه انعدامُ الحياةِ فقط أو العَدَم باصطلاحٍ آخر، أو كان تعريفًا إيجابيًّا بمعنى أنَّه انتقالٌ من طورٍ إلى آخر من أطوار الحياة. لستُ أسألُ عن هذا. لكن حتَّى بالمَنطِق الدِّيني؛ المَوتُ هو انتهاءٌ لفترةِ الاختبار وانغلاقٌ لباب التَّوبة وتَعلُّقٌ لمصير المَيِّتِ برحمةِ الإله. فلماذا صارَ الموتُ عندَ النَّاس، مُتديِّنين وغيرَ مُتديِّنين، عاديًّا إلى هذه الدَّرجة؟! ولعلَّه لا جَوابَ إلَّا ما مَفادُه أنَّ الموتَ لم يَعُدْ ذا رَهبةٍ لأنَّ الحياةَ نفسَها لم تَعُدْ ذا قيمة. الموتُ والحياةُ سَيَّانٌ على هذه الأرض. ليسَ موتُ شخصٍ بعينِه أو حياتُه هما الـ «سَيَّان»، بل الموتُ والحياةُ من حيثُ هُما. ثَمَّةَ تَقلُّصٌ مُخيفٌ بينَ ذاتِ المَوتِ وذاتِ الحياة. وهذا التَّقلُّصُ لا يَعني أنَّ المَيِّتَ حيٌّ، بل يَعني أنَّ الحَيَّ مَيِّت!

قد يكونُ هذا الكلامُ غيرَ ذي شواهدٍ على مِصداقيَّتِه، غير ذي مَصاديق بلُغةِ المَناطِقة، وهذا الحُكمُ قد يبدو، للوَهلةِ الأولى والثَّانية رُبَّما، صحيحًا! صحيحًا كُلَّما ابتعدَ الذِّهنُ عن هذه البُقعةِ البائسةِ منَ الأرض. لكنَّ الشَّواهدَ تتجلَّى أكثرَ كُلَّما اقتربَ الباحثُ عنها من فلسطين!

هُنا فلسطين! حيثُ الحياةُ لا تختلفُ كثيرًا عن المَوتِ سواءً كان الموتُ مَوتًا أو قَتلًا. إنْ مِتَّ فأنتَ مَيِّت، وإنْ حَيِيتَ فأنتَ ميتٌ أيضًا. وأظنُّ أنَّه قد آنَ الأوانُ لنُصدِّقَ أنَّ حياةَ الإنسانِ شيء يختلفُ اختلافًا مُطلقًا عن حياةِ الحَيوان. لا رأيَ لعلومِ الأحياء في هذا الشَّأن. وآنَ الأوانُ لأن نُقاربَ القَضيَّةَ الفِلسطينيَّةَ من هذه الزَّاوية، لا لشيءٍ سِوى لكَيْ نَكُفَّ عن جَلدِ الضَّحيَّةِ التي هي أنفُسُنا. حتَّى لا نكونَ ضحايانَا! ولا سبيلَ إلى كَسرِ الحالةِ التي صارَ إليها الموتُ والحياةُ فينا إلّا بالمُقاوَمة. لا سَبيلَ إلى إعادةِ المَعنى لحياتِنا والرَّهبةِ لموتِنا إلَّا بالمُقاوَمة. المُقاومَةُ التي نتمسَّكُ من خِلالِها بجَوهرِنا؛ الحُريَّةُ التي لا تتجزَّأ أبدًا. المُقاوَمةُ التي لا نتبنَّاها بصفتِها حقًّا، بل بصفتِها واجبًا ومُبرِّرًا لوجودِنا على هذه الأرض وطريقًا وحيدًا يَحولُ دونَ تَجريدِ أنفُسِنا من إنسانيَّتِنا وسَلبِ ذواتِنا ذوَاتَها، لا لشَيءٍ سِوى لئلَّا نكونَ أهلًا لأن يُقلَّصَ الفارقُ الكبيرُ بين موتِنا وقَتلِنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما


.. شاهد ما حدث مع عارضة أزياء مشهورة بعد إيقافها من ضابط دورية




.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف الحرب في غزة| #الظهيرة


.. كيف سترد حماس على مقترح الهدنة الذي قدمته إسرائيل؟| #الظهيرة




.. إسرائيل منفتحة على مناقشة هدنة مستدامة في غزة.. هل توافق على