الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة الاستهلاكية في المجتمع الرقمي

فهد المضحكي

2023 / 10 / 14
العولمة وتطورات العالم المعاصر


عرف المجتمع المعاصر تطورًا متسارعًا، هيمن فيه اقتصاد السوق ومنطق الربح السريع على عملية الإنتاج والاستهلاك في أنساقه المتعددة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرقمية؛ وكما كتب الباحث والأكاديمي المغربي المصطفى رياني بموقع ( hesprrss)، أصبحت الثقافة تخضع لقانون العرض والطلب، بالرغم من طبيعتها الرمزيه واللامادية. إنه النظام الرأسمالي الذي أنتج مجتمعا استهلاكيًا في جميع أبعاده. لم يستثنِ شيئًا لتحويلة إلى بضاعة قابلة للتسويق من أجل الربح، مستعملاً التكنولوجيا الرقمية والإعلامية والإعلان للنفاذ إلى جميع البيوت والمؤسسات، لتحقيق هدفه الاستهلاكي بدون أدني اهتمام لطبيعة وخصوصية الخطاب الثقافي عموما والأدبي خصوصًا ودورهما في إشاعة قيم إنسانية رفيعة ومغايرة للنهوض بالإنسان المعاصر. كيف استطاع المجتمع الاستهلاكي الهيمنة والتحكم في الإنسان وتشيىظ ثقافته وعلاقاته الإنسانية وتسليع المعاملات في عالم تحول إلى أرقام ومعادلات في بورصة القيم التي أفرغها الاستغلال والاغتراب من مضمونها الإنساني؟ أية ماهية وغاية بقيت للثقافة والأدب والفن في مجتمع رقمي واستهلاكي فقد بعده الإنساني حين أنتجت الرأسمالية مجتمع الفوارق والاستغلال بقوة القمع المادي والرمزي والدعاية والإعلان والأعلام الرسمي؟
هذا ما طرحه الباحث رياني في رؤيته هذه التي تناول فيها صورة ودلالة الثقافة والأدب في المجتمع المعاصر، باعتباره مجتمعًا استهلاكيًا ورقميًا جعله يتساءل عن أي ثقافة وأي أدب وفن نريد لمجتمع الغد؟ وأي قيم نريد للإنسان حتى يخرج من جحيم التشييء النيوليبرالي، وإعطاء الثقافة وظيفتها الحقيقية كرافعة أساسية تسهم في تنمية المواطن والنهوض بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية.
انتقد الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز المجتمع المعاصر في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، مبينًا كيف استطاع التقدم الصناعي والتكنولوجي التقني استغلال الإنسان المعاصر والسيطرة على الفرد وإخضاعه وحرمانه من حريته وسعادته التي أسس لها فلاسفة متنورون في عصر الأنوار. واعتمادًا على تحليل اجتماعي ونفسي، بين الكاتب كيف تعتمد الطبقات الحاكمة في الدول الرأسمالية على عقلانية مزيفة ومنقوصة انحرفت بالعقل نحو الأحادية وخدمة مصالحها الخاصة باعتماد التقنية والتطور التكنولوجي والوفرة في الإنتاج والاستهلاك من أجل الربح المستمر، وأدى ذلك إلى استغلال في العلاقات الاجتماعية ليصبح الإنسان مستغلاً ومستلبًا في المجتمع؛ لأن الرأسمالية لا تنتج سعادته، بل على العكس تنتج شقاءه الدائم لأن كل شيء في هذا المجتمع تحول إلى بضاعة وعملية تسليع مستمرة. وبرأيه يرجع السبب في ذلك إلى وسائل الإنتاج الثقافي التي تعمل على تنميط الوعي وجعله استهلاكيًا وزائفًا باعتماد الوسائل الرقمية والدعاية والإعلان التي تنتج خطابًا ثقافيًا، لفرض نوع من الاحتياجات الموجهة، عوض أن تكون نابعة من إرادة المواطن وضرورياته. بهذا الشكل، تعمل الآلة الإيديولوجية على تسليع الإنتاج الثقافي؛ فيفقد الأفراد إمكانية التفكير النقدي، ويتحول الإنسان إلى أحادي البعد يحمل وهم الحرية الاستهلاكية عوض عن الحرية الحقيقية. كما يتوهم الحرية في قدرته على الاختيار بين السلع والبضائع والخدمات، ويعيش في واقع خيالي استهلاكي عوض واقع حقيقي. وحسب هربرت ماركوز، يتحول الإنسان إلى شكل من أشكال الاغتراب نظرا لفقدانه الإرادة والحرية الحقيقية، ويعيش بذلك في دوامة الوعي الزائف.
بهذا الشكل، أنتجت الرأسمالية العالمية مجتمعًا أحاديًا واستهلاكيًا بثقافته وأدبه وفنه في ظل مجتمع طبقي يخضع للسيطرة والتوجيه، بعد تحويل الإنسان إلى أدوات في معادلة الإنتاج والاستهلاك. كما ينتج المجتمع الرأسمالي إنسانًا مشيئًا ومستغلاً ومسلوب الإرادة بواسطة الدعاية والإعلان في الوسائط الرقمية؛ وذلك بتوظيف الآلة الإيديولوجية لهذا الغرض، وباستعمال الثقافة والأدب والفن وإفراغهم من وظيفتهم الإنسانية النبيلة إلى خطاب يكرس الواقع ويفرغ الإنسان من قيمه الرفيعة كالحرية والتضامن والتعاون والتعايش، فتصبح الفردانية ضاربة جذورها في المجتمع تكرس عزلة الفرد وانطواءه الرقمي عوض تطوره وانفتاحه على المواطنة وقيمها والاشتراك مع الآخرين لمناقشة قضايا الشأن العام من منظور نقدي، يقف في وجه الاستغلال وسياسة الاستلاب الرأسمالي ووعيه الزائف.
عندما تناول الباحث نقد الثقافة الاستهلاكية في المجتمع الرقمي،أوضح كيف عمل المجتمع الرأسمالي على تشييء وتبضيع الأدب والفن والثقافة، في عالم تحول فيه الفرد والمجتمع الإنساني إلى مجتمع استهلاكي تتحدد قيمته الفردية في قدرته الاستهلاكية واندماجه في صفوف المستهلكين، فعندما تتمكن الآلة الدعائية والإعلامية والرقمية من المواطن يصبح إنسانا مستلبا بشكل مضاعف يتم استغلاله في عملية الإنتاج والاستهلاك بشكل دائم، حيث لم يعد الإنسان يكتفي بشراء الضروريات وما يحتاجه من أجل العيش، بل تراه يكلفك نفسه عناء الاقتراض المستمر، ليساير إيقاع الاستهلاك في مجتمع ترسخت فيه ثقافة الخضوع واخترقته خطابات الإعلان والدعاية بدون استعمال الفكر النقدي، لتفكيك اختلالات المجتمع والوقوف على ثغراته المتعددة، نظرا لتعميم الاستغلال في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفنية وتشييء المعرفة وتسليعها وإخضاعها لعملية العرض والطلب وإدماجها بشكل تبعي في النسق الاقتصادي المهيمن في المجتمع المعاصر باعتباره مجتمعًا رقميًا.
في هذا السياق، وباعتبار الأدب شكلاً من أشكال الثقافة بامتياز، أصبح بدوره وبأجناسه المختلفة يعاني من التهميش والاستغلال، فالكاتب الأدبي الجاد والهادف والذي يحمل وعيا مختلفا وإنسانيا يجد صعوبة في الولوج إلى هذا العالم المحكوم بضوابط تجارية في عملية الطبع والنشر والتوزيع وفق اهتمامات وأولويات السوق، فيصبح- على حد قوله- الإبداع بإستراتيجياته وغاياته الهادفة والنبيلة محاصرًا من طرف مؤسسات تجارية تتعامل مع الإنتاج المعرفي والأدبي بمنطق السوق والربح والخسارة، كذلك يتحول الكاتب إلى بضاعة يخضع لقانون العرض والطلب كسائر البضائع في السوق. وهذا المنطق يرفضه الكاتب والمبدعون الجادون لأنهم يبحثون عن تقاسم العلم والمعرفة مع القارئ أو المتلقي، بعيدا عن ضوابط تقيد حرية إبداعهم وتحول الإبداع الثقافي والأدبي إلى سلعة يتم تسويقها كسائر البضائع من أجل الربح غالبًا لا يستفيد منه الكاتب أو المبدع.
لقد أصبح الكاتب الأدبي مستلبًا ويعاني من الاغتراب في مجتمع استهلاكي صادر حقه في القيام بدوره الإبداعي والتنويري بطرق شتى، تفرض عليه الإقصاء والتهميش والصمت أو البحث عن نشاط آخر يقوم به لمواجهة واقع اليأس والإحباط. فكم من مبدع تمت محاصرته بذريعة أن نصوصه لا تتناسب ذوق الجمهور الاستهلاكي أو القارئ.
إن المجتمع الاستهلاكي والرقمي ينتج سلبيات عديدة، حيث يجعل الإنسان يفقد تدريجيًا ذوقه وقيمه الإنسانية ويستهلك نوعًا من الثقافة الاستهلاكية من أدب وفن ومواد دعائية ورقمية تكرس هشاشته وعزلته الاجتماعية، والحد من فعاليته الواقعية. كما تقوم بتسطيح وعيه واهتمامه لتجعله يعيد إنتاج الواقع الاستهلاكي بشكل مستمر. هذا في الوقت الذي تعرف فيه نسبة القراءة ضعفا كبيرا تتطلب تصالحًا مع الكتاب من طرف وعينا الفردي والجمعي. هذا الواقع أدى، أيضا، إلى تفكيك منظومة القيم وتهميش الكفاءات، وبرزت الثقافة الاستهلاكية وهيمنت السلبية على المواطن. كما سيطرت التفاهة والشعبوية على الفضاء العمومي بدون تقديم بدائل وحلول لمعالجة المشاكل والأزمات المركبة للمجتمع، نظرا لتبني ثقافة تبسيطية وخطاب تبريري يفتقد للمنطق العلمي والعقلي واستغلال الجهل والتخلف الذي يعاني منه المجتمع المعاصر في العديد من الدول. إن هيمنة الثقافة الاستهلاكية في الفضاء العمومي تفترض إعادة بناء الوعي بأهمية الأدب والثقافة الجادة والهادفة كثقافة بديلة ومغايرة في بناء الإنسان ودوره في مجتمع طموح ومتقدم تتوفر فيه شروط العيش الكريم والحرية والعدل. وفي سياق عام، أصبحت المناعة الثقافية للمجتمعات مهددة في عالم يتميز بالتهميش والرداءة الشاملة في جميع مجالات الحياة. كما عرفت الدول والمجتمعات تفككًا وانحطاطًا في قيمها الثقافية جعلت من اللامبالاة والتبسيطية نمطًا للعيش بدون عمق إنساني. هذا الواقع أدى إلى ظهور ثقافة هشة وإنسان يعاني من الهشاشة الثقافية والاجتماعية. يعيش في مجتمع مأزوم تتفاقم فيه الفوارق الاجتماعية والمجالية ؛ فأصبح الخطاب الأدبي والثقافي المغاير محاصرًا في مجتمعات تحكمها الثقافة التبسيطية والمظاهر الجوفاء في الفضاء الواقعي والرقمي.
لكن بالرغم من ذلك، ما يمكن أن يستنتج من خلاصة رأي الكاتب هو: يبقى الأمل في انبثاق ثقافة وأدب وفن مغاير ومختلف يؤسس لنسق ثقافي جديد يتميز بعمق إنساني، يساهم في إرساء قيم رفيعة تعيد للإنسان جوهره الإنساني، عبر تفكيك التشيىء وبنيته الاستغلالية التي أنتجته ؛ وذلك اعتمادا على وعي ثقافي جديد يسهم في بناء قيم المجتمع ويحصنها من التفاهة والرداءة، وفق مقاربة نقدية تنصف الإنسان وتساهم في إعادة بناء وعيه على أسس جديدة قوامها العقلانية المسؤولة في الفضاء العمومي، لتصحيح اختلالات المجتمع، اعتمادًا على ثقافة مغايرة وديمقراطية تعيد الأمل في مستقبل أفضل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل