الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروفيسور في ضيافة الشيخ قليعة ـ 1 ـ

علي دريوسي

2023 / 10 / 14
الادب والفن


تفحّص بريده الإلكتروني ليجد في أحد "الإيميلات" التي وصلته رسالة مفادها أن زميلاً له في الجامعة سيحتفل بعيد ميلاده السبعين وما زال على رأس عمله "اختصاص تحكم وقياسات"، وعلم من الرسالة بأن الزملاء يجمعون له مبلغاً من المال لشراء الهدية التي يرغب بها الرجل السبعيني أولريش: "المبيت لليلتين في برميل نبيذ".
كانت أمنية البروفيسور هذه مفاجأة حقيقية له، توقع للوهلة الأولى بأن الأمر رمزي وقد يعني بأنه يرغب باحتساء النبيذ على مدار يومين، ثم اكتشف ـ بعد أن بحث في الإنترنيت ـ بأن رغبته لا تكمن في شرب النبيذ بكمية كبيرة بل النوم فعلاً في غرفة مصمّمة على هيئة برميل نبيذ، وتكلفة الليلة الواحدة تصل إلى مئتي يورو بحسب الموقع والخدمة.


تمتم وهو جالس خلف طاولة مكتبه: "ولله في خلقه شؤون!".
شبك يديه خلف رأسه وحدّق في السقف وفكّرلو كان مكان "أولريش" ما الذي قد يختاره هدية!
لم يتطلب الأمر منه طويلاً حتى وجد مبتغاه. همس لنفسه وهو يبتسم: "المبيت لليلتين تحت قبة الشقلقليعة".


"الشقلقليعة" هي الكلمة المحكية باللهجة العامية وبها يود القائل وصف ضريح الوليّ الصّالح الشيخ "حسن قليعة الحكيم" في قرية "كفرية" التابعة لمدينة اللاذقية. تقول الحكاية بأن الشيخ قليعة اغتيل مظلوماً قبل مئات السنين وبأن القاتل أصابته الحمّى وجاءه الشيخ في المنام منذراً واعداً إياه بالمسامحة إذا ما أخبر العامة بفعلته وبنى قبّة في قمة ذاك الجبل المنعزل عن البشر، المكان الذي رمى فيه جثمان الشيخ بعد أن قتله، ورفعها بنفس مستوى عمق اللحد وتزيين الضريح بالأغطية الملونة المحبّبة إلى قلب النبي محمد، وعليه أيضاً أن يبني بجوارها حجرة لتصير مجلساً آمناً للفقراء الزائرين طالبي الخير والشفاء والرزق والباحثين عن الحماية والأمان والمعرفة والخلاص. إذا لم يأت الأولياء الصالحون إلى جبال الفقراء وقراهم، يأتي الفقراء برفقة جبالهم وقراهم إلى قمم ومقامات الأولياء ليغدون أكثر قرباً من الله. الأولياء هم حرّاس أبواب السماء، هم سعاة بريد الفقراء إلى الله. "من لم يقدر أن يزورنا فليزر صالحي موالينا، يكتب له ثواب زيارتنا"، نقلاً عن أبي الحسن (عليه ‌السلام).


في هذا المكان الصغير كان له ـ في مرحلة الطفولة ـ ذكريات وصور ومشاهد كثيرة يعجز قلمه عن استحضارها كما يريد.


كانت حياته في الماضي مثل عطلة سعيدة ملبّدة بالفقر الدائم، لم يبق له منها إلا مثل هذه الذكريات التي يداوي بها الأحلام السيئة التي عاشها في المستقبل.


كان الفقر دائماً حاضراً في حياة الكثير من السوريين (الشرفاء)، أولئك الذين لم تمنحهم الحكومة الفرصة للسرقة أو لعل الفرصة قد سُنحت لهم دون أن يجرأوا على استثمارها خوفاً من عقوبة أو فضيحة. ما مرّ عقد من الزمن إلا وكان الفقر مخيّماً في قرى وجبال البلد، الفقر هناك متجذِّر ومتأصِّل فيها منذ عشرات السنين ولو لم يكن الأمر كذلك لما تشكّلت الأحزاب وبُنيت الجوامع والسجون على حساب المدارس ولما تأسّست فروع التلصلص والتجسس والمخابرات بهذه الكثافة ولما خُنقت الحريات العامة وتبهدلت حياة الناس. وإذا ما مرّ عقد من الزمن وانخفض فيه منسوب الفقر كنتيجة لحدوث تطورات وقفزات وأنماط اقتصادية عالمية جديدة والتي تنعكس بشكل مؤقت إيجاباً على الشعوب الفقيرة وتلاه عقد آخر من الزمن تميّز بهبوط وعودة مستوى المعيشة إلى الحضيض فهذا لا يعني أن الفقر لم يكن متواجداً. من هو الذي استطاع في الماضي أن يقتني دراجة هوائية أو أن يشتري بوط رياضة من ماركة معروفة، من هو الذي استطاع أن يتحمل أعباء شراء آلة موسيقية أو أن ينتسب إلى نادي فني موسيقي أو من كان لديه القدرة على شراء حقيبة مدرسية جميلة أو حتى علبة سردين ليأكلها بمفرده! والتساؤلات ذاتها تنطبق على الحاضر رغم أن معايير الفقر اليوم تغيرت عن معاييره في الماضي بسبب التطور التقني والعلمي عالمياً ومع هذا يبقى الفقر فقراً ملوناً بالأسود يجب محاربته.


وكان في قريته العديد من الصيّادين الحاذقين .. وذات يوم خريفي وبينما كان أحدهم يحمل بندقيته واقفاً على رصيف الشارع عند شجرات السروّ الموزعة في طريق القرية محاولاً إصابة أهداف يرميها له أحد الجيران باتجاه الغيوم، مرّ سرب بط بحري عالياً فوق بيوت القرية. حينها توقف الصيّاد عن اللعب وراح يطلق نيران بندفيته على الوفد الزائر للقرية، هطلت السماء بطّاً بحرياً أخذ يلملمها كلبه الوفي. حين تمكّن بعض البط من النجاة هدأت ضجة النيران وتجمع الأطفال حول غنائم لحم الطيور. من أحد البيوت القريبة صدح المُغنِّي الإمام "هتقولي الفقرا ومشاكلهم دي مسائل عايزا التفانين أنا رأيي نحلها رباني ونموّت كل الجعانين". أيادي الأولاد تمتد إلى الطيور المُدمّاة بخجل واشتهاء، في الوقت نفسه تمتد يد الصيّاد إلى غلة محصوله مناولاً إياهم عدداً من الطيور. وفي القرية كان ثمة عائلة فقيرة كبيرة العدد هاجرت من قرية بعيدة وكان أحد أولادها حاضراً حين توزيع الغنائم. ناوله الصياد بطتين وهو يقول له: "اذهب إلى أمك واِسألها إن كان مسموحاً لكم بتناول هذا النوع من البط الغريب الذي لا يُنتف ريشه بل يُسلخ الجلد عنه وإذا ما وافقت عد إليّ لأعطيك واحدة إضافية أو أكثر". يومها قبض الولد على حصته بأصابع قوية وهرع إلى المنزل لسؤال أمه. قالت الأم حين فهمت فحوى السؤال: "عد بسرعة إلى الصياد اِشكره وأخبره بأن أمك لا تقرف أبداً من لحم هذا البط". حين رجع الولد إلى الجوقة كان الصياد قد فرغ لتوّه من توزيع غلته.


رغم الفقر هذا كانت كل أسرة مُدانة ـ سراً أو علناً ـ بإيفاء نذر كبير أو صغير لأحد المزارات الموزّعة بالمئات في أماكن هادئة مدهشة على قمم الجبال والهضاب.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا