الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


*سردية واقعية: آخرة -الحاج خَيْري-!

لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)

2023 / 10 / 18
الادب والفن


—كتب:لخضر خلفاوي*
——****——
-… وصلت و حسب طقوسي اليومية بعد الظهر إلى رُكن من أركان اغترابي الفكري و الوجودي لاختلي بنفسي .. كانت ساحة المقهى/المطعم تعجّ بالزبائن في هذا اليوم الجميل حيث أعرف معظم وجوههم دون أكلّف نفسي عناء معرفة كنية الجميع …
قمتُ عند وصولي بطلبي لدى النادل ، لكن كنتُ على وقوف خارجا في حيرة من أمري أواجه مشكلة شحّ الطاولات الشاغرة .. كنت أبحث عن طاولة شاغرة بكرسيها استوطنهما بعزلتي مع نفسي … فكأنّ الجو المشمس و الربيعي في آخر -تشرينياتي الأولى - بهذا الفضاء و هذا المكان كان يداهن مزاجي السريع التقلّب و الالتهاب ، و أنا أعرف أنّ -مَجيئَاتي- و تردداتي على هكذا أمكنة اعتادت جلوسي و مروري و كيميائياتي الفكرية و الإغترابية اللامنقطعة هي آخر أنفاس توديعية لدورة حياة طويلة قضيتها هَهُنا و استعدادا لدورة حياة هناك…!.
لا يمكن أن استريح لدقائق أو لبعض ساعة إلا إذا ركنتُ إلى طاولة منفردا بنفسي و مخرجا أغراضي و أفتح محفظة كمبيوتري المحمول لتصريف استدراكا للوقت الضيق كعادتي بعض من ملفاتي الكتابية أو الاتصال عن بعد ب ( سيرفير ) صحيفة "الفيصل"، و أراقب جديد مواد التحرير التي تم اعتماد برمجة نشرها في النشريات المستقبلية … كنتُ لم انته بعد من همّ صغير مدرج ضمن قائمة الهموم الكثيرة في مختلف -الأحجام - و المتفاوتة الوقع السلبي على مزاجيتي العامة .. اعتقد أن الظروف في الشرق الأوسط و الحرب على "غزة الجريحة" و خط الصحيفة التي أُديرها كانت سببا في ذلك ؛ كون الصحيفة تعرّضت علبة بريدها الإلكتروني الرسمية إلى اختراق أو محاولة للتوغّل كوني واجهت معضلة فتح ( العلبة البريدية الإلكترونية ) و لم تعد كلمة السّر مجدية رغم صحتها و تعذر عليّ لوقت دام نصف نهار لعبَ لعبته القذرة على أعصابي كي أتمكّن من إعادة الأمر إلى نصابه و اطلع من جديد على البريد الوافد خاص بقسم التحرير! كنتُ أقول في نفسي وقت اكتشافي المعضلة : هل للموساد الإسرائيلي ضلع أو يد في ذلك ، أو هل للجهات الأمنية الفرنسية هنا دخل؛ بحكم أن النظام و السياسة الفرنسية متلازمين مع ( الكيان الصهيوني ) المستعمر للأراضي الفلسطينية .. متضامنا مع الكيان الصهيوني قلبا و قالبا و أكّد ذلك الولاء و التضامن اللامشروط مع -إسرائيل -في خطاب الرئيس ماكرون الرسمي قبل يومين و اعتبار العرب و الفلسطينيين المغتصبة أرضهم هناك بالإرهابيين و الهمجيين !.
-كنت ُ أُلوّح ببصري بشيء من القلق لعدم شغور مكان بإمكانه احتوائي و خلوتي لبعض من الوقت الاستراحي المُستقطع من يومي ؛ لكن لا طاولة شاغرة لمن ينادِدْ الوحدة و اغترابه المُستديم! فجأة أُبصِر على محض الصدفة و مخاض قلقي من شح الأمكنة عندما تشرقُ شمس في الشمال .. كانت يدٌ تلوّحُ باتجاهي و صاحبها يومئ باستدعائي ، كانت يد الحاج " بوعزة "…
ثم رافق الإيماءة صوته : تعالَ يا ولدي ! تعالَ! اقبلْ ! ارتاح ! خذْ مكاني و اجلسْ !
**
الحاج بوعزة هو كما ذكرت سابقا شيخ عربي من أصول مغربية تجاوز الثمانين ، يُحب الجلوس و الحديث معي لما تُتاح الفرصة و ذلك ( عندما لا أكون مشغولا ، أو آثر الحديث معه و مصاحبة أفكاره على الانعزال بنفسي و عالمي )…فوحدة هذا الرجل تقسمني إلى أجزاء تذروها رياح الشمال الباردة إلى كم وجهة ..كما يقسم مخترقا "الرّاين" أمصار أوروبا . أعماق هذا النهر العظيمة المهول تبدو لي مظلمة و ضامّة لمملكة الشياطين اللئيمة ، أعرفه جيدا هذا النهر لأنّي مشيت على جسوره الألمانية و الفرنسية و كأن تلك الشياطين المنتعشة في أعماقه أصابتني و -فلذّة من فلذات كبدي - بنصب عظيم لا مثيل له قبل أكثر من سبع حِجَج .. هل كان الرّاين يغار من رَياني الواعدة ؟! -وجهان مرحان ، ضاحكان كنّا أنا و هي .. و كنًا سعيدين ببعضنا و هي تتهيّأ لخوض غمار تجربة دراسية خاصة بالغة الأهمية تشاكسني بمرح و فتوة و بكل آمالها و أحلامها و نحن نتوكأ عند كل فسحة و خرجة صيفية حواف جسر نهر "الرّاين" العظيم .. كنّا نرى تحتنا عبور و انسياب مِلاحِي جميع المراكب و البواخر ..و على المعبر قوافل لا تنتهي من كل أنواع المركبات الخاصة و التجارية وافدة و ذاهبة من / إلى جميع بلدان الإتحاد الأوروبي. لم أكن أدري أنها كانت آخر مرة استطيع فيها الابتسامة و الضحك و المرح مع فلذّة الكبد و لم أكن أدري أن منطقة ( الرّاين) كانت آخر محطة ينتهي فيها انسجامي و استقراري .. بعدها كانت نفسي تحدثني تطيّرا أن منطقة الألزاس هذه اغتالت بنصب شياطين عمق نهرها كل شيء جميل صنعته بكلتا يدي على مرّ تجربة لم تكن هيًنة البناء و لا التحقيق !. لا تحدّثني عن -الرّاين- يا أبا العزّ فلقد سرق منّي ضحكتي و ضحكة صغيرتي الواعدة التي كانوا يسمونها في مقاعد الدراسة قبل المرحلة الجامعية باللؤلؤة النادرة !.. ها هو قد اغتال ابتسامتي و ابتسامتها و أحالنا مُحرّفاً كل الخطط التي رسمناها معاً و حلمنا بها معاً إلى رواق مأسوي من الحياة جدّ شائك و مؤلم ..!.
**
ولد الحاج بوعزة في أعماق الريف للمملكة المغربية و عاش حياة البدو و الريف و الطبيعة دون كل هذه التعقيدات و التطورات و التحولات المهولة التي عرفتها الإنسانية و عالمنا في هذه الألفية.. كنتُ كلما أحدثه عن شيء يقول لي :
-يا ولدي .. أنا لا أعرف هذا ، أعذرني ، فقد ولدت و ترعرعت و تربيت في البراري و الخلاء والممتدّ على لمح البصر مع المعز و الأنعام، لم أتعلم في المدارس، كنتُ بفطرة البدو أدكّ الأراض الفلاحية من كل جهاتها التابعة لعائلتي و عرشي آتيها أنّى شئتُ .. كنتُ أدكّها دكّ المحتاج لأجل البقاء .. حياتنا في ذلك الوقت كانت مرادفا للتحدي ..أو كمن أخذوه عنوة إلى جبل صخري مع طلوع الفجر و أمروه أن ينحته كاملا من السفح إلى القمّة بمعرفته قبل مجيء غروب الشمس ! نحن الذين حفرنا الفقر مذ الطفولة و الحاجة و الجبل بقيَ على حاله إلى يومنا هذا .
-لمّا اشتد عود الحاج بوعزة و صار شابا يافعا و أراد أن يكسر الوحدة بواحدة لا حول لها إلا بالله و البادية و "الخيري" العاشق الواعد .. اختار "الزهراء" ابنة عمه.. كانت حبيبته و من بني جلدته .. فالجلدة في سبعينيات تلك الأرياف تعرف بعضها و على بعضها تنطبق و تقع و إن لم تنطبق و تقع فالأعراف تطوّعها ، تواقعها و توقعها حتما على بعض.
واعدها بالزواج ، بالمودة، بالرحمة كوعد المحاريث للحقول و الأراضي، بدأ يعيش حلم اللمّة و ( عمارة الدار )، لكن اللُّقمة شحيحة و مرّة .. ضاق ذرعا بشقاء الأرض و حرثها و انتظار ما تجود به المواسم انتظار و ترقب و لهفة لاعب لعبة النرد أو كمن يستقسم بالأزلام ! كان كل ذلك الشقاء الذي يمنحه للأرض لا يكفي لسد كل حاجياته من الأحلام و حاجيات من حوله .. فقرر الهجرة إلى فرنسا ..حينها أخبر حبيبته و استشارها و خيّرها بصراحة بين الموافقة و الانتظار أو حرية عدم انتظاره و التسريح بمعروف .. فوافقت على مشروعه و نذرت للرحمن انتظاره !…كانت تقول له قبل الوداع و ركوب الباخرة : انتظار الخيري خير ! انتظار -الخيري- خير و لا خير فيمن لا يفِ بوعده لخيري !!
قبل أن يتزوج بحبيبته و يستقدمها بعد عامين إلى المهجر و يخلفا صبيانا و بناتا، حيث درسوا و تخرجوا و توزعوا جميعهم ببركة الله و الكفاح الطاهر على أمصار أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. جرّب "خيري" العيش و الاندماج المهني و الإجتماعي حال دخوله التراب الفرنسي كل المناطق ، بحثا عن عمل ، عن أي عمل يُمكِّنُهُ من بناء ما حفرته البادية و الريف و قسوة الطبيعة في نفسه من فقد و حاجة العيش الكريم، إلى أن استقر به المقام مجبرا في أبرد منطقة في فرنسا بالشمال الشرقي الحدودي بين ألمانيا و سويسرا ، تدعى الألزاس/ Alsace .
-لقد استوطن بردها عظامي و يرفض هذا الأوّل و الأخير أن يرحل.. أو يستلّ مني ! برد -الألزاس الفرنسي - يا ولدي كيان غاشم غير ناطق لكنه فاعل، يشتغل خرابه بصمت و ببطء ، إنه دائم بداخلي، برد الألزاس يا ولدي ( فاشي )، لهذا استطيع فهم سبب فُتون "هيتلر" السفّاح بها عندما وقع في غرام هذه المنطقة و انتزعها من فرنسا لتكون ألمانية لأكثر من أربع سنوات رغم أنوفهم في حروبه ضد أوروبا و العالم في القرن الماضي …و كانت المنطقة الوحيدة التابعة لفرنسا التي أنشئت فيها محارقا و معسكرا نازيا يسمّى Natzweiler-Struthof. لتصفية عرقية ، سياسية ل المعادين للهيتلَريّة الطاغية !.
هيتلر ضمّ إليه ( الألزاس ) و فرنسا استردتها بمساعدة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية و أنا مذ أنّ ضمّني هذا البرد يا ولدي لم استرد نفسي و عافيتي منه ؛ حرق على مهل دفء صحاري و قفار بيئتي الأولى من أرياف "مرّاكش" بلدي الحبيب الذي جئت به إلى مهجري لأجل القوت.. لأجل القوت يا ولدي لخضر ! …إيه يا ولدي العزيز وجعي متوغّل كتوغّل نهر "الراّين" Rhin لجسد أوروبا انطلاقا من الألزاس و ألمانيا و سويسرا ..و النّمسا و الأراضي المنخفضة .. كم وددت أن أسأل بحر الشمال : أنّى لكَ هذه العظمة في التدفق و البرد ، لقد أوجعتني يا بحر .. سبحان الله.. الرّاين/ الرايخ/ الرّاين/ الرّايخ ! و كأنّ هيتلر أو (الرّايخ الألماني Deutsches Reich الثالث ) / الأمبراطور / كانت بوصلته التوسعية هي ( الرّاين)، يقتفيها محطة محطة و جغرافيا بعد جغرافيا لممارسة طقوس الاستحواذ على كل شيء لإشباع مآرب مرض العظمة !.
أذكر كنت يومها أنصت إليه باهتمام و هو يسرد لواعج الماضي و الحاضر .. كنتُ أقول له مُربّتا على قلبه :
-لا عليكَ يا صاحبي ! لا عليكَ يا أبا العزّ ؛ إنّي أريدكَ أن تبثّ لي بثّك ، ضمّه إلى بثّي ، إنّي أريد أن تبوء بهمّك إلى همّي و أبوء بهمّي إلى همّك و نكون إن شاء الله من أصحاب الدّار ! الأبقى ! الأبقى يا أبا العزّ ! دار الآخرة ! هناك لا برد و لا حيف ؛ عدا رضوان الله !
-كان يردّد: آمييييين يا ولدي ! آمييين يا ولدي ! لكمْ أدعو لك بكل الخير يا ولدي لما استعمل ذلك المرهم المسكّن المؤقت للروماتيزم للآلام المفصلية و العضلية الذي اهديتني إليه و اهديتِنيهُ ذات شتاء قارص لما حدّثتك عن آلام الجسد لثمانيني لا ينتظر من الدّنيا سوى الموت ! يا ولدي لخضر في هذه السّن مع أوزار تعبها فإنَّ الوحدة موتُ ، و الاغتراب موتٌ و انتظار الموت موت ، و الموتُ هو الموتُ .. و لا شيء بعد الموت ! ذلك المرهم السحري لو لم تدّلني عنه لطال جهلي و عدم معرفتي بتواجده في الصيدليات ، لو لا هذا المرهم لماَ عرفت هدنة الآلام الملازمة خاصة عند قدوم البرد الشديد .. لذلك أشرت إليه عند حضور إحدى بناتي كي لاينسون اسمه و علامته و يشترونه لي كلما احتجته. كلّما أسكتُ بمرهمك صياح و صراخ ذاكرة عضلات و مفاصل جسدي و صحتهم التي صرفتها على مناجمهم لاستخراج الفحم و تصنيعه و تكريره .. أي ذلك الألم المنبعث من أدغال عضلات ظهري أو الصاعد من مفاصلي السفلية، العارج من متحف تعب الشغل المتضمّن في جسدي بكل خلاياه و أجزائه في تلك المناجم في أقصى الظروف المناخية .
***
خجلت كثيرا من الحاج بوعزة و هو يهمّ بالنهوض و يدعوني بإلحاح شديد أن آخذ مكانه و كرسيه و طاولته و يؤثر على نفسه الوحيدة في انتظار قدوم وقت صلاة المغرب ليتوجه إلى مسجد تركي ( عثماني) ليس ببعيد عن سكناه تعوّد على الذهاب إليه و الصلاة فيه …
-يا حاج بوعزة مالك تنصرف ؟! ما بكَ !؟ ما هذا الذي تفعله يا رجل .. لا يليق هذا والله ! ! لماذا تغادر ؟! تفاعلت معه و أنا ألحظه يتنازل عن مقعده عن طيب خاطر و طاولته ..
فردّ بأدب معهود:
-لا يا ولدي ( ما فيهاَ باسْ !)، أجلس ، أجلس ، أعرف أنّكِ تحبّ أن تشتغل مستفردا بنفسك و لا تحبّ الإزعاج في هكذا حالات شغل..
فاندهشت لتصرفه و زاد إصراري على بقائه.. و أخذت أبحث عن كرسي ثم التحقت بطاولته و لم أتركه ينصرف لأجلي … و بلباقة و تأثرا بسلوكه ضحيت بالدقائق الأولى التي برمجتها في استغلالها في العمل أثناء هذه الخلوة الطقسية، ثم أخذت أُجاريه و أتناقش معه و أسأله عن حاله و أحوال أهله و أولاده ..
حاولت ككل مرة استطيع فيها تبديد وحدته اللي تصل قلبي مباشرة دون تشفير!.
بينما أنا أدردش معه فإذ به كعادته يقطع حديثي و يخبرني بأمرٍ متأثّر به جدا و هو خبر (الموت) و للموت لدى "بوعزة " رمزيته و معجمه الخاص .. كان يحدثني باكتراث و أسف عن وفاة أحدهم ، زبون اعتاد على هذا المكان كان يعرفه .. :
-ذلك السيد ، اسمه عبد الحق ، هو جزائري الأصل ، ألا تعرفه !؟ أنا متأكّد أنك تعرفه و رأيته ألف مرة لكنك لم تنتبه فقط .. ربما لا تعرف اسمه لكن أنا واثق أنّك تعرفه ! هو يرتدي قبعة دائما بلون رمادي و يجلس في معظم الاحيان هناك مع صحبته (يشير إلى زاوية من زوايا المكان) ! الله أكبر ! حاجة الله ادّاها الله ! مات شابا المسكين ! ربي يرحمه المخلوق !ماتَ و انتهى الأمر!
-كان الحاج بوعزة يحاول أن يؤتي بكل التواصيف والإيماءات الممكنة و المفردات كي يساعدني على التعرف على الرجل الذي مات ، لكنه لا يدري بأن مخّي يشتغل بشكل ( شائك)، و شروحاته لن تجدِ نفعا ، بالإضافة إلى مرضي العضال التنكّسي العصبي و ( الثقوب السوداء ) التي بدأت تُعمّر مُجتاحة هي الأخرى لمملكة الذاكرة الشخصية …رغم عناية أهله له من أولاده و بناته كلما سمحت الفرصة إلا أنّ الوحدة جعلت منه يتحول رغما عن نفسه ( عدّادا ) للرّاحلين و حديث الموت لديه له وقع خاص !..
ذكّرني حديثه هذا بحديث سابق من زمن حين قطع حديثنا فجاة عند تذكره للأمر و بكل اكتراث و تأثر ليزف لي خبرا كاذبا ( دعاية ) سمعها و التقطها بمسجد الأتراك و هو يقول لي و يعيد: السعيد عويطة مات !.. السعيد عويطة! يا الله ! عويطة مات ! هل يُعقل هذا !! السعيد عويطة يموت ! - و كأنّ المشاهير لا يموتون!كنت أقول في نفسي و أنا استمع إليه .
-فكنت أقول له: هل أنتَ متأكّدا !؟ أنا لم أسمع هذا الخبر ! فقد يكون كذب الافتراض و وسائل الإعلام اللارسمية! لكنه كان مصرا على الخبر و بتأثر و تعجب كبيرين!
لمّا لاحظتُ أنه متعنّت و مصرّ و مكترث و غير مصدق ما صدّق من خبر وفاة العدّاء المشهور عالميا فقلت له بلين و لطف بعد أخذ و رد أن كل من عليها فانٍ و لا أحد يسلم منها، إذا كان عظام التاريخ من أنبياء و رسل قبض الله أرواحهم دون استثناء و دون مشورة في أجل مسمّى فلا سعيد عويطة و لا أي مشهور أو إنسان عادي و ما من دابة على وجه الأرض إلا و يقبض الله روحها …
و عدتُ إليه بهذا المنطق و التوضيح أشرح له أن جميعنا سيرحل لا شكّ في ذلك ..
:عبد الحق و عباد كثيرون ممن تراهم الآن أمامك في هذه الساحة سوف يرحلون كلهم و يعوّضون بآخرين، نعم يا حاج .. سيذهب الله بهم جميعا إلى الآخرة و يعمّر هذه الساحة بناس وقوم آخرين .. عسى تكون الآخرة أفضل بالنسبة لمن اشتغل عليها و لها و لم تغره الحياة الدّنيا و نسى ربه و سبب وجوده في هذه الحياة !
-الآخرة ! هيه الآخرة ! كان يردد الكلمة لكن ترديده ذلك فيه نبرة شكّ أو شيء من الالتباس و بدا عليه عدم فهم الموضوع أو تخوف منه !
-نعم الآخرة يا بوعزة ! الآخرة ، الحياة بعد الموت ! هؤلاء سيحييهم الله جميعا من الأجداث و لو كانوا ترابا أو رمادًا .. الدّنيا هي أولانا ( الأولى )، و ربنا يذكرنا و يحذرنا في وقت واحد بأن أُخرانا ( دار الآخرة ) هي خير و أبقى لمّا يحيينا و يحاسبنا !
-يرد: خير!؟ أبقى! كيف!؟ نحياَوْ مرة اخرى !!
كان بادٍ عليه كل الالتباس حول ماهية ( الدار الآخرة ) و الحياة بعد الممات .. و خصوصا لما ذكرتُ أنها -قد تكون- خيرا أمّا البقاء فهي باقية في كل الحالات ! و أنّ الحياة مهما كانت هي (فانية ) بكل حالاتها .. لكنه عاود بجدية / الجاهل /لا غبار عليها في طرح السؤال علي:
-أوَ تعتقد يا ولْدي أن ( دار الآخرة) هي خير من ( الدّنيا )!؟
الحاج بوعزة رجل يعزه -محبة - الجميع من كل الأعراق ، أكرادا و أتراكا و عربا و قبائلا .. لطيف مع الجميع و الجميع يبادله اللطف و حسن المعاملة، مواضب على عبادته ، هادئ الطبع ، بشوش ، مبتسم ، يسلم الناس من لسانه و يده حاج و معتمر لبيت الله، وجهه يترادف مع البرّ و الإحسان و علاوة على هذا أحبه لأنّ سنّهُ يذكرني بوالدي، خيري يذكرني بعزيز على قلبي و هو والدي ، لهذا أصبر عليه و على ثيم حكاويه ؛ لأنّي أريد أن أشعر نفسي بأنّي بحضرة والدي ..كان الحاج بوعزة بمثابة ريح بالوكالة لمخيال والدي !
عند سماعي هذا التساؤل كدتُ أن اغترّ و تأخذني العزة بإثم تجربة النّزر القليل( أو شوية معرفة) تحصّلت عليها في غضون عقدي الخامس !
- استدركت نفسي و استغفرت الله في سرّي و قلت في خلدي ياه يا لخضر ! أوَ تعجب لعدم تأكّد إيمان الحاج بوعزة المدعو - خيري - بأخْيَرَيّة(الآخرة) على الدّنيا و دكاترة و علماء ( قيل عنهم علمانيون / لا دينيون ) أي يرتكزون على العلم (الظاهر) الدنيوي و علومهم الدنيوية و شهاداتهم الكبرى و جدّ مشهورين مات منهم الكثير و مازال منهم من ينتطر أجله على قيد الحياة لا يعترف أصلا بوجود الله أو بشيء اسمه ( الحياة بعد الموت )…بل هناك من يعتبر الخالق و كل المعتقدات و الديانات و الكتب السماوية أساطيرا و اختراعات بشرية و أنّ الإنسان لمّا يموت انتهى الأمر و لا شيء يُذكر بعد ذلك و من الغباء تضييع الوقت في تخيّل حياة بعد الموت ، في اعتقادهم ما -الحياة- إلا تلك -اللحظة - التي يتاح فيها القبض سريعا على ملذاتها و شهواتها من خمر مباح و سكر و جنس ( زنا) و تعدد العلاقات .. كله مباح دون قيد من أكل و رفث في الأشياء باستمتاع دون حدود و لا حدية، و هكذا كل "لحظة" إباحة مطلقة لإسعاد هوى و نزوات الإنسان الحيوان تمحو الأخرى حتى تصلَ ساعة الفناء و حسبهم ؛ -إن وُجِدَ- إله أو ربّ ما في كل هذا الوجود فلا يمكن إلا أن يكون في صيغة أو صورة (محبّة).. -مَحَكّة- ليس فيها كراهية و لا عقاب و لا حساب : الله هو محبة للّهو و للزنا بكل فروعه و الشرب و السكر الواسع .. محبّة ل ( الرذائل) حسب توصيف من يؤمن بإله واحد و بدين توحيدي مُعيّن!. العلمانيون و أدعيائهم و موالوهم يرونها ملذاتا مشروعة و من حق البشري أن يستهلكها دون أي رادع و لا وازع فالحرام هو منع الإنسان من إشباع نزواته التي خُلقت معه !.
رُحتُ أشرحُ له حسب ( مُعتقدي) و ملّتي:
طبعاً يا حاج بوعزة و الله يقول /بل تؤثرون الحياة الدّنيا و وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ/ ألستَ من يذكر اسم ربّكَ و تُصلّي ؟!
قال نعم : .. طبعا! .. استغفر الله ! ألطيف ! كيف لا أذكر الله و لا أصلّي له !!! و هو يتابعني باهتمام شديد و أنا أشرحُ له اللبس! فقلت له ابشر يا حاج ! ابشر يا رجل ! سوف يحييكَ الله ثانيةً و ليبعثنّكَ بعثاً جميلا بحياة أبدية و بعمر الشباب ، ستكون شابا وسيما بعمر ثلاثين عاما ! .. و سَتُحاسبُ يوم إحيائك حسابا يسيرا لطيفا لطف الله ، ينزع من قلبك كل حَزن، كل غِلّ و ستذهب تنعم متمطًيا بين أهلك و أحبابك في جنتك حيث تكون ( اللحظة ) أبدية من السعادة لا تكلّ منها أبداً و لا يصيبنّك منها و فيها لا نصبٌ و لا ملل كما يحدث في الدار الأولى هذه .. ابشرْ يا "خيري".. أو تعتقد أنّكَ ستموت عابدا ذاكرا لله دون أن ترى معبودك و لا تتقاضى منه جزاء عبادتك و عملك في الدّنيا !؟.. يا عبد الله ! يا حاج بوعزة ! الله لا يكذب و لا يخلف الميعاد فهو يقول لك : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ/ و يقول لكَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ/
-كان الحاج خيري ينظر إليّ باهتمام و تعجب كبيرين و أنا أحاول تبسيط شروحي له لما ورد في الذكر الحكيم و علامات الرضا تبدو على محياه كأنه طفل صغير بشرته أو وعدته بجائزة و صدّق ذلك الوعد و وثق فيه و اطمأن إليه !
-إذن ( الآخرة) خير من الدّنيا يا ولدي ! بارك الله فيك ! الله يبشرك بالخير ! و لم يتمم جملته حتى رأيت دمعه ينساب دون وازع و هو مطأطأ الرأس و يردّد بلهجة انفراجية كبيرة :(الحمد لله ! الحمد لله !) الله يبارك فيك يا ولدي ! الله يبارك فيك و يبشرك بالخير !. لقد غلبته دموع حب الله و لطفه ..
كان ذلك الموقف زعزع كياني و أخلط قراري و أنا أرى الحاج بوعزة يتنفس الصعداء و يفهم أن (الآخرة) هي حياة خيرٌ و أبقى للمؤمنين الصّادقين مع الله ..
فهمت من سلوكه و منطقه أنه لم يكن بغير المؤمن بالبعث و بحياة أفضل و أبقى من الحياة الدّنيا ، بل لم يكن -بسبب ظروفه و مسيرته - مركّزا على تفاصيل الحياة بعد الموت.. الحاج بوعزة واحد من أولئك الذين عاشوا كادحين من أجل لقمة العيش لم ينساقوا وراء الفساد و لم يتورطوا في حياة الرذائل و المعاصي ، و لم ينشغل بالجدل اللامنتهي بدخول الجنة أو النار من عدمه … كان فقط يعتقد حقّا أن الله محبّة مُطلقة ..كل ما كان يفعله صرف عمره بالتقسيط على عياله و عبادة الله حسب معرفته لا لأنه وعده بالجنة و بحور العين و بأنهار من خمر ، بل كان الحاج بوعزة عبداً من عباد الله يعبد ربّه لأنه كان يرى بقلبه أن خالقه أحقّ بالحُبّ و بالعبادة و الربوبية و الطاعة ، فلم يساوم الله و لم يبتزّه و لم يمنّ على ربّه عبادته له .. كان يعبده بكل حب و إخلاص و لم تكن تفاصيل الحور و أنهار اللبن و الخمر و باقي الملذات تكّثّف من هوسه بالعقاب أو الجزاء !
عندما انصرفت و دخلت للبيت، تذكّرت أمراً متأخرا و بندم شديد و حسرة تبعها خجل عظيم من نفسي و ما أنسانيه إلا مرضي العصبي اللعين الذي عشّش في مؤخرة جمجمتي كوني انصرفت و نسيت دفع ثمن الشاي على حسابي الذي طلبه الحاج بوعزة لنفسه لمّا دعاني للجلوس بمكانه.. و كذلكَ أسردُ القصص الإنسانية!
*باريس الكبرى جنوبا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس