الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروفيسور في ضيافة الشيخ قليعة 4

علي دريوسي

2023 / 10 / 19
الادب والفن


في الوقت الذي يقضي فيه الزُوّار ساعات مرح وحبور في الأحاديث والطعام والشراب والغزل والتعارف وتبادل الابتسامات يكون أصحاب النذر منشغلين حتى آذانهم بتفاصيل لا يمكن إدراكها ببساطة: القراءة على السكاكين، الذبح، إزالة الدماء، نقل الماء بالقربة على الحمار من أسفل الوادي وقد تجفل الدابة وتحرن إذا ضُربت، نفخ الذبيحة من سيقانها، سلخها، تقطيع اللحم، رمي الفضلات، إرسال الجلد والكرشة إلى خادم المزار كعلامة شكر، توزيع بعض اللحم النيء على فقراء المزار، جمع الحطب، إيقاد النار، تهدئة الأصوات العالية، حفظ اللسان عند الغضب، تجهيز القدور وغسلها، سلق اللحم، تحضير الطبيخ، إشعال صحون البخور، الشطف والتنظيف، الدعوة للصلاة، الصلاة، توزيع الزكاة، فرش الرياحين، سكب البرغل المطبوخ مع الحمص وزيت الزيتون في غضائر تعود للمقام، تقسيم اللحم حصصاً متساوية ووضعها بأناة على البرغل في كل غضارة، ويبدأ العد التنازلي في الثالثة بعد الظهر بتوزيع الغضائر على الزوّار، تتردد كلمات "تقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال"، الطعام يأتي أولاً ومن ثم الأخلاق والقيلولة، تأخذ نساء العائلة بغسيل الآواني والقدور وتنظيف المكان وكنسه وشطفه، ومن ثم يسترخي صاحب النذر وعائلته دون أن ينسى أن يضع حصص سائقي الميكروباصات جانباً إل حين قدومهم، تهدأ القلوب والنفوس ويهبط الرجال جميعهم في سهوب قيلولاتهم التي اعتادوا عليها.

"يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شُكوراً". سورة الإنسان

بينما الأولاد يلعبون، يتراكضون، يتعارفون، يتعاركون، يتدحرجون أو يتسلقون أشجار الصنوبر لجمع العلكة من على أغصانها، تزور بعض النسوة مقام الشيخ قليعة، يقبّلن المدخل من يمينه ويساره، يخلعن أحذيتهن ويدخلن بوقار واحترام وتهيب، يدرن حول القبر، يقبلن حجر المقام اقتداء برسول الله حين كان يقف عند الحجر الأسود ويقبله، ثم يبربرن أشياء لا يفهمها إلا هن، البعض منهن يستلقين جانب المقام ويأخذن قيلولة قصيرة على أمل أن يحلمن خلال هذه الدقائق أحلاماً سعيدة قد تتحقق لهن ولأسرهن، بعض النسوة ينتظرن دورهن كي يستلقين على بطونهن لتقوم ابنة الواحدة منهن أو قريبتها بدحرجة حجر إسطوانية الشكل على ظهورهن لتخفيف آلامهن المزمنة، عند انتهاء طقوسهن هذه ينهضن، يقطفن الخلعات من أقمشة المزار الملونة ويلفهن على معاصمهن وقبل أن يغادرن المكان المقدّس المريح هانئات البال يتركن بعض النقود في صندوق المزار الحديدي المقفل، يخرجن من باب المقام بحذر شديد ووجوههن مصمغة على أشياء يرونها ولا يرونها تحت قبة المقام الغامضة بينما ظهورهن مثل مصدات تعكس أشعة شمس المكان.


خلال كل هذه الطقوس وقبل توزيع الغضائر بقليل يصل فؤاد العائد منذ أيام إلى قريته بعد أن أمضى أكثر من سنة في دول الخليج، صاح أحد الرجال المنتشين بسخرية مبطنة "أن لا تصل أبداً خير من أن تصل متأخراً "، كان فؤاد صباح ذلك اليوم منشغلاً بتجارته، رفض علانية أن تسافر زوجته دونه مع الميكروباص برفقة الآخرين، سافر معها بسيارته البيضاء الأنيقة برفقة ولديهما، هناك تحت خيمة المزار وارفة الظلال راح يحكي للفضوليين المدهوشين من حوله بينما زوجته تشوي اللحم للغداء مجيباً عن سؤال أحدهم بخصوص سعر سيارته وكيف للإنسان أن يشتري سيارة في بلدان الخليج:
ذهبت مرة مع زوجتي ـ وها هي قربكم شاهدة على كلامي ـ إلى معرض تجارة سيارات لأتفرج على السيارات وأسأل عن أسعارها، ولن يكون هذا هو المعرض الوحيد الذي سنزوره كما قررنا، كنا نخطّط في الأشهر القادمة لشراء سيارة متواضعة، لأننا لم نكن نملك المال الكافي للشراء مباشرة ولا بد لنا أن نأخذ قرضاً من الشركة حيث نعمل لتغطية النفقات. هناك استُقبلنا باحترام من قبل شخص أوروبي في نهاية عقده السادس بدا عليه التواضع في لباسه والذوق في تعامله. حين عرّفنا عن نفسه أدركنا بأنه مالك الشركة (في العادة نادراً ما تلتقي بالمالك لأن لديه من يعمل في كل مجال ضمن شركته وفي ورشة الميكانيك الضخمة الملحقة بالمعرض). بعد عدة دقائق كسر الحواجز بيننا بأن خاطبنا بطريقة حميمية وكأنه يعرفنا منذ سنين ثم نهض وعانقتي وهو يقول "رأيت المسيح لتوّي يخاطبني أن أقوم لأعانقك". ثم روى لي حكايته مع السيارات وكيف تطورت تجارته وأرباحه وكيف أسس مشروعه هذا بدءاً من الصفر. بعد حوالي الساعة كنا قد وقّعنا عقد شراء سيارة حديثة من عنده غالية الثمن دون أن ندفع من المبلغ أي فلس، فقد أخبرنا المالك بأن المسيح قد ظهر له قبل توقيع العقد وخاطبه أن عليه أن يبيعنا السيارة بالتقسيط المريح طويل الأمد لأننا ناس موثوقون وطيبون، لدرجة أننا لم نوقّع على تعهد بهذا. بعد أسبوع دعانا إلى أحد المطاعم للاحتفال بالسيارة الجديدة كما طلب منه المسيح.
جلجل فؤاد بضحكته وهو يقول: دفعنا له لم من الجمل أذنه وها نحن هنا ولن نعود إلى دولة أبو ظبي بعد اليوم وليبلط البحر هو ومسيحه.


لم ينتبه فؤاد أن نهيدة، زوجة المرحوم خاله، كانت تجلس على بعد خطوات منه واستمعت إلى حديثه كاملاً وهي تلعنه في سرها. كانت نهيدة إمرأة عصابية جحودة حقودة عديمة الذوق، هوايتها النميمة والثرثرة الفارغة وابتكار الشائعات وتصديقها، كانت تكره أقرباء زوجها ـ الذي هجرها سنوات طويلة قبل موته ـ وتتمنى القبر أو القبو لهم أو موتهم وهم في الرحم، كلما سافر أحد أفراد عائلة زوجها بغرض العمل في السعودية أو بلدان الخليج وكلما سمعت بأنه استقر وحالفه التوفيق في الحصول على فرصة عمل، كانت تعد لنفسها وجارتها فنجاني قهوة في منزلها الكئيب وتبدأ بنسج إشاعة تطيح بنجاحه. إذا سافر الرجل مع زوجته تقول لجارتها بأنه وظّف زوجته في بيت دعارة وإذا سافر الثاني وحيداً ـ دون زوجته وأولاده ـ تقول لجارتها بأنه لا يفعل شيئاً في الغربة سوى تأجير مؤخرته لأبناء الخليج وإذا سافر الثالث تقول لجارتها بأنه يعمل في شبكة للنصب والاحتيال والتجارة بالعذراوات ... وهكذا ... وجارتها تصدّق كل ما تقوله نهيدة رغم أنها تعلم علم اليقين بأن هذه المواصفات القاتلة والحارقة والجارحة تنطبق قبل كل شيء على أفراد عائلة نهيدة، أبناء وبنات أخواتها وإخوتها.


يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا