الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة تحليلية ونقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية من 1965 الى 2023

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 10 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


" البوليس السياسي لا يزال يقطع الكونكسيون عن منزلي ، وسأضطر للخروج رغما عني لأرسل هذه الدراسة من Cyber "
1 – شكل الكفاح ضد المشروع الصهيوني في فلسطين ، حتى قبل التأسيس الرسمي لدولة إسرائيل الديمقراطية سنة 1948 ، بل منذ فرض الانتداب البريطاني في عام 1920 بوجه خاص ، عنصرا مركزيا في النضال القومي العربي ، ضد الوصاية الغربية الامبريالية . وقد دشنت حرب سنة 1948 بين الدولة الجديدة ، دولة إسرائيل وجيرانها ، مرحلة اخذت فيها الأنظمة السياسية العربية على عاتقها ، وبصورة مباشرة ، هدف تحرير فلسطين . بيد ان الهزيمة التي لحقت بجيوش هذه الأنظمة والدول ، قد اثارت موجة أولى من التجذر المعادي للإمبريالية في المنطقة ، تسببت باسم فلسطين ، في حين ان الدافع كان هو الرغبة في السيطرة على الحكم للوصول الى الثروة ، في انقلابات عسكرية قادها العسكر باسم القومية العربية ، فشلت هي بدورها في انجاز التحرير الذي سوقته للشعوب التي كانت كما لا تزال ، غارقة في ضروب الجهل والتفقير . العراق ، سورية ، ومصر جمال عبد الناصر ، واليمن الجنوبي الماركسي .
وقد أعلنت الأنظمة الجديدة جميعا عزمها على الثأر من إهانة سنة 1948 المنسوبة الى الأنظمة السابقة ، لا سيما وان اشتراك دولة إسرائيل الشابة في العدوان الثلاثي الإسرائيلي ، الفرنسي ، البريطاني على مصر سنة 1956 ، جاء ليؤكد تماما دورها كدركي حراسة للإمبريالية في الشرق الأوسط Un gendarme de l’impérialisme au moyen orient .
لكن التقاعس الذي أبدته الأنظمة ( القومية ) ، وهي من اساء للحركة القومية العربية ، في وجه استفزازات الدولة الإسرائيلية المتجبرة والمتغطرسة ، قد غذى التشكيك بها . ففي ظل سيطرة العسكر باسم القومية العربية ، ستحصل طبعا نكسة 1967 هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فان الانتصار النهائي لحرب التحرير الجزائرية في سنة 1962 ، مكن من الترويج لمفهومي " الكفاح المسلح " ، " الحرب الشعبية " ذات الأصل الماوي Mao Tsé Tong ، وحث على تقليدها لتحرير فلسطين . وقد انتظمت شتى تعبيرات الحركة القومية العربية من اجل ذلك ، وجرى خلق " منظمة التحرير الفلسطينية " OLP ، طبعا تحت الوصاية المصرية ، وبقرار من القمة العربية الأولى ، في عام 1964 ، لأجل احتواء الدول ، لموجة التجذر الجديدة التي بدأت ترتسم معالمها بشكل واضح ومرتب . هذا وقد دخلت شتى اتجاهات الحركة القومية المعارضة ، أي التي كانت خارج نظام العسكر ، هي أيضا ، ميدان المنافسة .
والحال ان اكثرها تخلفا من حيث الأيديولوجية ، " حركة فتح " الاخوانية ذات الأصول السلفية ، كان لها فضل تدشين " الكفاح المسلح " ، في اول يناير سنة 1965 . وكانت هذه الممارسة ، بالرغم انها إيديولوجياً غارقة في يمينيتها ورجعيتها ، تنفي أي وجه اجتماعي للنضال ، تكون كافية لعزل " فتح " عن الأنظمة السياسية العربية ، خاصة النظام السوري الذي عجز في القضاء على معارضيه في الحركة ، والنظام العربي ، ومصر ، والأردن ، والمملكة العربية السعودية ، باستثناء اكثرها جذرية ، نظام يسار البعث الذي استولى على الحكم في سورية سنة 1966 . أي البعثيين الذين منهم من اغتاله حافظ الأسد ، واكثريتهم تم رميهم لعشرات السنين في السجون المظلمة .. وهنا ولحسم الصراع مع الرافضين لهيمنته ، استعمل أحزاب لبنانية كحركة " أمل الشيعية " ، وجماعات منشقة عن " فتح " تدعي يسارها كجماعة ابي موسى المؤيد من قبل النظام البعثي بدمشق . وهنا نذكر بان الصراعات داخل " فتح " ، وبين " فتح " والمنظمات المعارضة لها بالساحة الفلسطينية او اللبنانية ، كان يبدو تصفية حسابات بين الأنظمة ( القومية ) العراق وسورية ، وحتى اليمن الجنوبي .. مما مكن إسرائيل من التحكم في مصير كل منظمات منظمة التحرير الفلسطينية . وهنا استعملت إسرائيل العملاء من الداخل كالقيادي الإسرائيلي القائد بحزب البعث السوري " إلي كوهين " الذي كان قبل اكتشافه ، يتطلع ان يصبح رئيسا للجمهورية السورية .. وإنّ من اكتشفه ليس المخابرات السورية ، بل المخابرات الروسية ..
ان الهزيمة الساحقة التي منيت بها جيوش الأنظمة ( القومية ) العربية ، امام الجيش الإسرائيلي في يونيو 1967 ، قد أكملت تجريد الأنظمة السياسية البرجوازية الصغيرة ، من مصداقيتها ، وسمحت لموجة التجذر الثانية بالتدفق ، على صعيد حركة الجماهير هذه المرة ... ، فان التعبيرات الرئيسية من هذه الموجة ، ألا وهي منظمات الكفاح المسلح المشار اليها عادة بتسمية عامة هي " المقاومة الفلسطينية " ، شهدت نموا كبيرا جدا في سنتي 1968 و 1969 ، وبالأخص في الأردن .
وقد وضعت يدها سنة 1969 على " منظمة التحرير الفلسطينية " الرسمية OLP ، بعد ان سبقت الاحداث بالكامل هذه الأخيرة .
كانت تلك المنظمات امتدادات فلسطينية لشتى اتجاهات القومية العربية البرجوازية الصغيرة . فعدا حركة " فتح " سابقة بالذكر ، كانت المنظمات الرئيسية هي " الصاعقة البعثية " ، الوثيقة التبعية لحزب البعث السوري ، وللدولة السورية . و " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " التي تزعمها جورج حبش ، الذي رفضت فرنسا علاجه بتعليمات من تل أبيب التي طالبت فرنسا بتسليمه لها ، وابو علي مصطفى الذي اغتالته بمكتبه طائرة إسرائيلية ، واحمد سعدات الذي سلمه جبريل الرجوب الى الشاباك الإسرائيلي .. فالجبهة انبثقت عن حركة القوميين العرب الناصرية ، وليس عن اتجاه " ميشيل عفلق " الذي توفي بالعراق بعد خلاف جذري مع البعث السوري .. وقد عرفت هذه الأخيرة تجذرا أيديولوجيا نتيجة ازمة الناصرية عقب هزيمة 6 يونيو 1967 ، وهزيمة البعث السوري في نفس الحرب ، حين مكن حافظ الأسد إسرائيل من دخول الجولان ، بعد انسحابه منه من دون حرب ، وانتهى المطاف ب " الجبهة الشعبية " الى تبنيها الماركسية – اللينينية ، بعد ان سبقها الى ذلك في سنة 1969 ، جناحها اليساري المنشق عنها بزعامة ناييف حواتمة الأردني الأصل ، والذي أسس " الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين " ، ( لا حقا الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ) . ولم يبق خارج نطاق المقاومة الفلسطينية ، بين التيارات المضادة للإمبريالية بالمنطقة ، سوى الستالنيين Josef Staline ، على الرغم من محاولة خجولة أُجهضت بسرعة البرق . ويجد ذلك تفسيره في سببين : خطأ الستالينية ، الستالينيين الاصلية ، بتأييدهم لتقسيم فلسطين في عام 1949 ، ودعمهم " للتسوية السلمية " التي نص عليها القرار رقم 242 ( مجلس الامن ) ( نونبر 1967 ) الصادر عن المجلس في منظمة الأمم المتحدة . وهما موقفان كلاهما حصرا ، من خضوع الستالينيين للاتحاد السوفياتي المنحل .
هذا وقد شكل اقتحام منظمات المقاومة الفلسطينية للساحتين الإقليمية والعالمية ، بعد سنة 1967 سنة النكسة ، واقعا غير قابل للارتداد ، وذا بعد سياسي مهم ، وليس ببعد قانوني .
فتأكيد منظمة الأمم المتحدة ، ودول العالم بما فيه الدول الغربية ، بوجود الشعب الفلسطيني ، سيُجْهد إسرائيل وجارتها الأردنية ، لمحو هويته بالاجتهاد لتحويله الى " عرب إسرائيليين " في جانب من الحدود ، و " اردنيين ( غربيين ) ( الضفة الغربية ) في الجانب الاخر . هذا وقد جندت المنظمات الفلسطينية معظم الويتها اصلا في صفوف الجزء الثالث من اجزاء الشعب الفلسطيني ، لاجئي المخيمات ( شرق ) الأردن ، ولبنان وسورية ، المطرودين من المناطق التي سيطرت عليها اسرائيل عامي 1947 و 1948 . ان ( م ت ف ) ، بضمها مجمل تلك المنظمات بعد عام 1969 ، قد فرضت نفسها عبر السنين ، كقيادة للنضال القومي لمجموع الشعب الفلسطيني ، وبالتالي كتعبير عن هوية وكرامة وطنيتين طالما أُهينتا ..
2 – بالرغم من التنوع الأيديولوجي الكبير لمنظمات المقاومة الفلسطينية ، ولكن أيضا داخل اوسعها ، " حركة فتح " ، حيث تعايشت تيارات تراوحت بين السلفية والماوية Le Maoïsme ، فان عدة سمات سياسية وعملية كانت مشتركة بينها ، وشكلت في الواقع حدودها العضوية . ان هذه السمات تتعلق بميزتين سياسيتين :
-- القصوية : هنا سنجد ان مصطلح وشعار تحرير فلسطين ، كان هو الهدف المشترك في اسم جميع المنظمات الفلسطينية ، ولا يمكن مماثلته بتحرير الجزائر مثلا . ففي هذه الحالة الأخيرة ، كان ميزان القوة على الأرض ، بحيث ظهر الهدف معقولا . بينما الهدف في الحالة الفلسطينية يتعدى حجمه بكثير ، إمكانات الشعب الفلسطيني وحده ، لا سيما وان اكثر من ستين في المائة من الفلسطينيين ، يقيمون خارج فلسطين الوطن التاريخي ، ويخضعون لحكومات عربية شتى ..
من جهة أخرى ، فان تمسك السكان اليهود الإسرائيليين بارض الميعاد ، هؤلاء السكان المطرودين من بلدانهم الاصلية ، من قبل الاضطهاد العنصري ، والمزروعين في فلسطين من قبل الحركة الصهيونية ، هو تمسك أقوى بما لا يقاس ، مما كان لذا المستعمرين الأوروبيين في الجزائر ، الذين كانوا يحوزون على وطن اصلي هو فرنسا . علاوة على ذلك ، فان دولة إسرائيل بالإضافة الى القوة المادية والعلمية ، والعسكرية الهائلة التي تتميز بها ، هي في نظر الامبريالية الامريكية ، جزء لا يتجزأ من ارضها الخاصة بها . ان تحرير فلسطين في تلك الشروط مجتمعة ، تحريرها بمعنى التمكن من تفكيك الدولة الإسرائيلية ، مهمة صعبة ، وسيكون لها صيت . لكن لا يكفي لتحقيقها " الحرب الشعبية " ، او " حرب الشعب الطويلة الأمد " التي دعت لها المنظمات الفلسطينية بمجملها . لذا فمع افتقادها لأهداف انتقالية كالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط من الأراضي المحتلة سنة 1967 ، اقتصرت هيمنة المقاومة الفلسطينية ، خلال سنواتها الأولى ، على سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ، الذين جعلهم وضعهم الاجتماعي الهامشي يتقبلون القصوية . هذا وقد اتسم مفهوم الكفاح المسلح الفلسطيني ذاته بالأوهام القصوية . فبدل تصور نشاطات المقاومة المسلحة كعنصر من عناصر استراتيجية ثورية شاملة ، مكمل لمختلف اشكال تعبئة الجماهير ، درج تصورها على " الطريقة الجزائرية " ، أي كوسيلة ملائمة لهدف التحرير ، وقادرة على تحقيقه . وقد حتّم ذلك التصور بلوغ مأزق في أمد قصير ، مأزق يفسر لجوء المنظمات الفلسطينية المتزايد ، منذ 1967 ، الى نشاطات من النمط الارهابي خارج ارض فلسطين ، وخارج المنطقة العربية ( اغتيال وصفي التل رئيس وزراء الأردن بمطار القاهرة .. عملية ميونيخ في سنة 1971 .. قلب النظام في الأردن الذي أدى الى سبتمبر الأسود 1970 .. ، خطف الطائرات وتفجيرها في المطارات ، تشكيل حكومة فلسطينية الى جانب الحكومة اللبنانية ، والتجاوزات الخطيرة للنظام العام والامن اللبناني .... الخ ، ما اسفر عن الحرب الاهلية في سنة 1975 ... الخ ..
-- القطرية الفلسطينية : لقد اقترنت قصوية المقاومة الفلسطينية ، بعجزها عن الانخراط في استراتيجية ثورية إقليمية شاملة . بل وبحفز من الأوهام التي نجمت عن نموها بالغ السرعة في عامي 1967 و 1969 ، آمنت المقاومة بإمكانية ، إنْ لم يكن بقرب انتصارها الخاص بها على الدولة الإسرائيلية . فلم تُبْد وبالتالي ، وفي احسن الأحوال ، سوى اهتمام ثانوي جدا ، بما كان يفترض به ان يشكل طليعة ثورية مهامها . أي تعبئة الحلفاء الذين ليس لنضال المقاومة من دونهم ، أي افق انتصار واقعي .
أولا . الجماهير الكادحة في البلدان العربية ، وخاصة البلدان حيث يتركز اللاجئون الفلسطينيون ، وحيث كانت قواعد الكفاح المسلح موجودة . والحال ان ( م ت ف ) OLP ، بوضعها المصالح المباشرة لنشاطها الخاص بها فوق أي اعتبار – وهو خيار تبين لاحقا انه خاطئ كليا -- ، اتفقت مع الحكومات العربية باسم النضال المقدس ضد العدو القومي المشترك ، بدل دمج قواها بقوى الجماهير الكادحة من اجل الإطاحة الثورية ، بالأنظمة السياسية الموجودة ، وقيام حكومات مستعدة حقا لدعم نضال الشعب الفلسطيني ، ومن ثم ، الجماهير الكادحة اليهودية ، ولا سيما جماهير اليهود الشرقيين الأكثر اضطهادا . والحال ان نزع الصهيونية عن قسم جذير بالذكر من السكان اليهود الإسرائيليين ، يقتضي ان يبين بوضوح ، من جهة ، التناقض بين مصالح الشغيلة اليهود ، ومصالح المؤسسة الصهيونية البرجوازية ، ومن جهة أخرى ، وحدة مصالحهم التاريخية مع مصالح مجمل شغيلة المنطقة . ويتطلب هذان الهدفان السياسيان ، تصورا برنامجيا امميا للمصالح الإسرائيلية ، يعترف بالواقع القومي الذي خلقه الاستعمار الصهيوني ، وممارسة سياسية وعسكرية تأخذ هذا التصور بعين الاعتبار . غير ان السلوك العسكري المشترك بين المنظمات الفلسطينية جميعها ، وتصورها السياسي والبرنامجي المهيمن – باستثناء عابر وهامشي في حالة الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية – تعارضا بالضبط مع الاعتبارات المذكورة .
كانت اوخم عواقب القطرية ، قطرية المقاومة الفلسطينية ، هي ارتهانها بالأنظمة السياسية العربية . فسواء حركة " فتح " التي جعلت من " عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية " ، أيديولوجيتها الرسمية ، او الجبهتان الشعبية ، والشعبية الديمقراطية ( لاحقا الجبهة الديمقراطية ) اللتان كانتا تتكلمان باسم الثورة العربية – ناهيكم بالصاعقة ، وهي افراز مباشر للنظام البعثي اليساري السوري – فجميع المنظمات الفلسطينية قد ارتهنت منذ نشأتها بهذه او تلك من دول المنطقة . فارتبطت الجبهة الشعبية بنظام البعث العراقي ، والشعبية والديمقراطية بنظام البعث السوري ، و" فتح " بمجمل الدول العربية ، وعلى الأخص بأكثرها رجعية ، أي المملكة العربية السعودية . وقد اختارت هذه الأخيرة اغراق محروستها بأموال طائلة بالنسبة لحركة تدعي انها ( ثورية ) ، بقصد جلي يرمي الى التحكم فيها ، من خلال الإدمان على الثراء الذي خلقته عند الحركة . فكانت جميع المنظمات اذن تابعة ماليا الى درجة او أخرى ، بالرغم من محاولات التمويل الذاتي المسلح التي بذلتها منظمات منظمة ، كالجبهة الشعبية .
3 --- حملت " حركة فتح " مجمل السمات الموصوفة أعلاه الى حدها الأقصى . وبفضل مرونة ايديولوجيتها ، والمجد الناجم عن دورها الرائد ، وآخرا وليس أخيرا ، بفضل وسائل مالية فاقت بكثير وسائل منافسيها ، فرضت " فتح " نفسها سريعا جدا ، كمنظمة الأكثرية ، والمنظمة المهيمنة في المقاومة الفلسطينية . ومع تضخمها ، الذي تجلى في التزايد الهائل لجيشها من " المقاتلين المحترفين " ، ولعدد المستفيدين من اعاناتها بشتى الدواعي ، عرفت " فتح " سيرورة تبقرط لا تقل سرعة ، تغذيها وفرة مواردها في اطار التبذير الخارق . وقد تدعّمت تلك السيرورة من خلال الاندماج عام 1969 ، بين منظمات الكفاح المسلح او ( م ت ف )، OLP ، التي غدت هكذا تحت هيمنة " فتح " . طبعا ذلك الاندماج كان تجسيدا لزواج " فتح " مع البرجوازية الفلسطينية الممثلة داخل المجلس الوطني الفلسطيني ( الذي يُعيّن منذ تأسيسه سنة 1964 ، ولم يُنتخب قط ) . كما لانخراطها الرسمي في جامعة الدول العربية التي تشترك فيها ( م ت ف ) OLP ، وهي ذاتها بنت الجامعة العربية .
لقد إلتفّتْ مجمل الرجعية العربية والفلسطينية ، حول منظمة ياسر عرفات ، بغية تقزيم الخطر الذي شكله الصعود الزاخر لحركة اللاجئين الفلسطينيين المسلحة . هكذا ، فإن قيادة " فتح " ، غذت مرتهنة بصورة دائمة بالتوازن بالغ التقلب ، بين ضغط الجماهير التي كانت تؤطرها ، وضغوطات مموليها العرب . ورغم ذلك ، فإن تبرجزها البيروقراطي المتسارع ، هو الذي كان يحدد قراراتها ، في التعيين الأخير ، كلما اضطرت الى الاختيار بين الضغوطات المتناقضة .
تلك كانت الحال على الأخص ، عندما كانوا بالأردن قبل سبتمبر 1970 ، في فترة 1969 – 1971 ، حيث أخذت قيادة " فتح " على عاتقها ، قمع أيّ تدخل من قبل منافسيها اليساريين ، في الشؤون السياسية والاجتماعية للمملكة الهاشمية الملك حسين ، وذلك باسم الأولوية المطلقة ل " التناقض الرئيسي " مع الدولة الإسرائيلية . هكذا جردت قيادة " فتح " المقاومة الفلسطينية من سلاحها المعنوي ، في وجه الملكية الهاشمية ، التي كانت تستعد بكل وضوح ، لإزالة حركة جماهيرية مسلحة ، تحملتها رغم أنفها ، مع علمها بانها متناقضة موضوعيا مع سلطتها الخاصة بها . فلم يكن ممكنا ان تبقى ازدواجية السلطة الى الابد في الأردن ، بالرغم من أوهام التعايش التي روجتها قيادة " فتح " . بيد انه من بين الطرفين ، كان الطرف الوحيد العازم على حسم تلك الازدواجية لصالحه ، هو النظام الملكي الهاشمي . هكذا ، فعندما شنت الأخيرة هجومها الكبير ضد المقاومة الفلسطينية في عام 1970 ، وجدت بوجهها قيادة " فتح " مترددة ، وملتزمة بموقف دفاعي صرف ، وحريصة فوق ذلك على التمايز عن منافسيها اليساريين ، الى حد القاءها بمسؤولية المعارك عليهم ، والى التجريد من السلاح المعنوي ، عندما وافقت قيادة ياسر عرفات على نزع سلاح المليشيات ، وسحب المقاتلين من المدن ، وجمعهم في مناطق معزولة ، لم يجد جيش الملك حسين الذي أكثرية من البدو ، بخلاف الجيش السوري الذي جهازه يكونه المدنيون وليس البدو ، صعوبة كبيرة في طردهم منها ، عام 1971 ، منهياً بالتالي الوجود الفلسطيني المسلح بالأردن .
ان تلك الهزيمة الخطيرة ، لم تكن نتيجة ميزان قوة موضوعي ، بل حقا نتيجة سياسة محددة ، لا سيما وانّ فلسطينيي الأصل ، لا يشكلون غالبية سكان الأردن ( الضفة الشرقية ) المدنيين وحسب ، بل يشكلون أيضا غالبية جنود الجيش الملكي ( جيش التحرير الفلسطيني في الأردن ) .
لقد انجز سحق ( م ت ف ) OLP في الأردن ، سيرورة انحطاطها البيروقراطي ، من خلال استشهاد خيرة مقاتليها في المعارك ، واكثرهم اخلاصا لقضية شعبهم ، من خلال انقطاع علاقاتها المباشرة ، بأهم قاعدة جماهيرية كانت بحوزتها بالأردن ، من خلال تدني المعنويات الذي عقب الهزيمة ، ومن خلال انكفاء مؤسساتها الى بلد آخر ، هو لبنان ، حيث كان بالإمكان التمتع بالامتيازات البيروقراطية على اكمل وجه .
4 – كان محتما ان يترافق التحول البيروقراطي ، و" البرجوازي " فيما خص قيادة " فتح " ، الذي عرفته المنظمات الفلسطينية ، بمراجعة برنامجية . وقد نُسبت الهزيمة الأردنية الى " اليسارية " ، خاصة الجبهة الشعبية ، والجبهة الديمقراطية ، والحزب الشيوعي الفلسطيني ، والشعبية / القيادة العامة ... الخ ، وأُعيد النظر تدريجيا في قصوية سنوات العز والمجد . فأُضيفت لها نظريا – حلت محلها في الواقع – " أدنوية " ( من أدنى ) ، اكثر انسجاما بكثير ، مع طموحات البيروقراطية الفلسطينية الجديدة .
فبعد ان اكتست طابع جهاز دولة حقيقي ، لكنه في " المنفى " ، اخذت الأخيرة تبحث منذ ذاك ، عن السبيل الأقصر الى الحصول على ارض خاصة بها ، تستطيع ان تنعم عليها بدون موانع ، بامتيازاتها التي تغذيها الهبّة النفطية . وقد أُبقي على هدف تحرير فلسطين كأفق بعيد ، اقرب الى الطوبى الرسمية ، منه الى البرنامج الحقيقي للتحرير . وغدا الهدف المباشر الجديد ، الذي وُصف بالواقعي ، والقابل للتطبيق وللتحقيق ، هو انشاء " دولة فلسطينية مستقلة " في الضفة الغربية ، وقطاع غزة " يهودا والسامرة " ، الارضين الفلسطينيتين اللتين احتلهما الجيش الإسرائيلي عام 1967 / ، عام النكسة الذي تلى عام النكبة .
كان هذا الهدف الجديد واقعيا في ذهن دعاته ، بقدر ما يمكن بلوغه بدون التغلب عسكريا على الدولة الصهيونية . أي بناء " الدولة " بالوسائل السياسية والدبلوماسية ، المرفقة بكفاح مسلح فقط هكذا طابعه الأساسي ، ليصبح وسيلة ضغط إضافية . ان المراجعة طالت دور الكفاح المسلح وليس اشكاله ، فهذه لا زالت على حالها حتى اليوم .
ان الجبهة الشعبية / الديمقراطية ، التي اتخذ انحطاطها شكلا خصوصيا هو السّتْلنة ، أي التحول الستاليني ، والاصطفاف وراء الاتحاد السوفياتي المنحل ، كانت الأولى في الدعوة للمراجعة البرنامجية . امّا قيادة " فتح " ، فلم تتبنى علانية تلك المراجعة ، الاّ بعد الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 1973 ، وهي حرب خسرتها جيوش الأنظمة العربية ، وربحتها الدولة الإسرائيلية الديمقراطية . وبعد انْ قدّرت ان الظروف السياسية الجديدة التي خلقتها الحرب – ولا سيما التعاظم الكبير لثقل الدول العربية الدبلوماسي ، بفضل القفزة الهائلة للمداخيل النفطية ، بالإضافة الى مؤتمر " جنيف " بين الدول المتحاربة ، تحت رعاية الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي السابق المنحل – جعلت " تسوية سياسية " للنزاع العربي / الإسرائيلي معقولة . فقررت قيادة " فتح " المطالبة بحصتها من الحلوى المتمثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 ، والتي يشكل ردها من قبل إسرائيل ، الشرط المطلق لأيّ " تسوية شاملة " .
وقد تم تبني برنامج " الدولة الفلسطينية " من قبل (م ت ف ) OLP ، التي تهيمن" فتح " عليها ، منذ عام 1974 . غير ان التبني جرى بصياغات تدريجية ، من " السلطة الوطنية على كل ارض محررة ( 1974 ) ، الى " الدولة المستقلة " ( 1977 ) . هذا وأياً كانت الصياغة ، فان البرنامج الجديد ، كان مبنياً على سفسطة . وبالفعل ، فإذا كان الهدف حقا هو انشاء " سلطة وطنية مستقلة " ، وذات سيادة ، كتعبير جزئي عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، وذلك في " يهودا والسامرة اليهوديتين " ، عدا انه لمن الوهم بالكامل ، ادعاء الحصول على استقلال في " دويلة " واقعة كليا في أراضي يهودية ، بين فكي الكماشة الإسرائيلية ، ظهرها الأردن في جانب ( الضفة الغربية ) ، والى البحر والصحراء في الجانب الاخر ( غزة ) " يهودا والسامرة " . وهما أراضي يهودية .. وإسرائيل الدولة القوية الديمقراطية تفصل بين الجانبين . فعندئذ يكون من المستحيل بشكل مطلق بلوغ ذاك الهدف ، من خلال انسحاب بالتراضي ( بالتفاوض ) للجيش الإسرائيلي من الأراضي التي دخلها في سنة 1967 ( عام النكسة ) .
ففي اكثر الاحتمالات تفاؤلا ، قد ترضى الدولة الصهيونية اليهودية بانسحاب جزئي جدا من ( الضفة الغربية ) ، التي تملّكت حتى الآن ما يزيد عن ثلثي الأراضي اليهودية المسترجعة في حرب 1967 ، ومن قطاع غزة ، يهودا والسامرة ، مرفق بشروط جبرية قمعية وتعسفية ، سوف تجعل من تلك الأراضي نوعا من " البنتوستانات " ( اسم يطلق على الدويلات الكرتونية السوداء ، التي خلقها النظام العنصري في جنوب افريقيا ضمن حدود دولته ) ، وذلك لقاء استسلام سياسي تام وكامل من قبل الدول العربية ، على طريقة محمد انوار السادات .. بل ، وبما ان الشعب الإسرائيلي يشتغل على مستوى الأرض ، ارض الميعاد التي حدودها غير نهائية وغير محددة ، وجيرانها المفترضين غير معروفين . أي دولة يهودية ، حضارية ، حاخامية ، طقوسية ، تشتغل على الرجوع الى إسرائيل العظمى كما كانت اكثر من 3000 سنة قبل الميلاد ، فحتى الحلم بدويلة الكارتون لن تتحقق ابدا ، و( حق العودة ) تبخر بأصول الدولة اليهودية ، وليس الدولة العلمانية ..
ان تقرير مصير فلسطيني حقيقي ، حتى ولو افترضنا كحلم وليس كواقع ، اقتصر على يهودا والسامرة ، لا يمكن تحقيقه عبر " التفاوض " مع الدولة الإسرائيلية .. فلابد من فرضه بالنضال وبالقوة . بهذا المعنى ، فإن هذا الهدف الذي تكمن أهميته ، في انه يتيح تعبئة اكثر كثافة ، من الجماهير الفلسطينية في الأراضي المعنية ، كما يتيح كسب دعم قسم غير هزيل ، من السكان اليهود الإسرائيليين . هذا الهدف اذن يكتسي طابعا انتقاليا . انه مكمن لمطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط للجيش الإسرائيلي من الأراضي التي دخلها سنة 1967 ، ولا بد من اكماله هو أيضا ، بذلك التقرير للمصير الجزئي الاخر للشعب الفلسطيني ، الذي يمر عبر الإطاحة الثورية بالأنظمة ( العميلة ) ، وعلى رأسها النظام الملكي الهاشمي الأردني ، ثانية المضطهدين الرئيسيين لذاك الشعب بعد الدولة السورية ، وبعد الدولة الإسرائيلية . ان تقريري المصير الجزئيين هاذين ، هما مرحلتان انتقاليتان نحو الهدف الاستراتيجي ، الا وهو ( تحطيم ) الدولة الصهيونية الذي يقتضي الشروط الموصوفة .. حلم طوباوي .
بالرغم من ان قيادة " فتح " ( م ت ف ) ، كانت تدعي سنة 1974 ، انها تتبنى التفسير " الانتقالي " للهدف الجديد ، فإن السياق السياسي لمشيئتها بذاته ، لم يترك مجالا للشك في نواياها الحقيقية المتجهة نحو " الحل التفاوضي " . هذا بالأصل ما أكدت عليه ، في تلك الفترة ، " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " ، التي قررت مقاطعة الهيئات القيادية في ( م ت ف ) OLP ، واسست جبهة الرفض مع منظمات ثانوية . وقد أعطت قيادة ( م ت ف ) ، أكثر فأكثر ، أولوية اهتمامها بالنشاط الدبلوماسي ، بدءا من عام 1973 ، مستفيدة من الشروط الجديدة التي خلقتها حرب الكيبور " أكتوبر " سنة 1973 ، فان برنامجها الجديد الأكثر ( مشروعية ) بكثير ، في انظار موسكو ، والأنظمة العربية ، والدول " الغير منحازة " ، وحتى بعض القطاعات الامبريالية ، قد أتاح لها تحقيق خطوات في المجال الدبلوماسي . وهكذا ، فإن ( م ت ف ) ، بعد ان علقت حصلة سنة 1974 على الاعتراف بها ، بصفتها " الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني " ، من قمة " لاهور" الإسلامية ، وقمة الرباط العربية البربرية . والحال ان المقاومة الفلسطينية لم تجد من ينافسها ، بعد عام 1967 ، في مجال الكفاح المسلح ضد الدولة اليهودية الصهيونية . لكن ما انْ وضعت ( م ت ف ) نفسها ، في أفق الاشتراك في تسوية تفاوضية ، حتى اصطدمت بمنافسة حقيقية جدا من قبل النظام الملكي الأردني . لذا اصرت على حقها المطلق في تمثيل الشعب الفلسطيني ، الذي اعترفت لها به ، شتى حليفاتها من الدول العربية والإسلامية وغيرها ، بطيبة خاطر ، بفعل الدولار ( السيطرة على الجهاز المالي ) ، يزيدها كون هذه الدول تعلم علم اليقين انّ ( م ت ف ) OLP وحدها ، قادرة على تمثيل الفلسطينيين بمصداقية في تسوية تفاوضية ، و انّ ( م ت ف ) وحدها ، بإمكانها الاسهام بفعالية في نزع فتيل احد اخطر المسائل ، التي تهدد استقرار النظام الامبريالي الإقليمي والعالمي . وفي سنة 1974 ذاته ، نشأ أيضا التحالف المميز بين ( م ت ف ) والاتحاد السوفياتي السابق والمنحل ، الذي كان يصف " فتح " ، قبل بضعة سنوات ، بأنها مغامرة ، و " تروسكية " ، وانقلابية ... الخ .
5 – ان اختيار ( م ت ف ) لاستراتيجية تسوية تفاوضية ، حتى ولو تضمنت تركيباً من اشكال نضال مختلفة ، قد أدى بصورة حتمية في مسارها السياسي اللاحق ، فان هدف " الدولة الفلسطينية " ذاته ، لا يمكن بلوغه بقوى الشعب الفلسطيني وحدها ، حيث ان الدولة الإسرائيلية ، والمؤسسات الصهيونية ، لو اضطرت الى الاختيار بين احتمالي انسحاب غير مشروط من الأراضي التي استولت عليها سنة 1967 ، أو ضمها رسميا مع طرد معظم سكانها ، لن تتردد في اختيار الاحتمال الثاني ، لان دولة إسرائيل هي دولة يهودية ، حاخامية ، طقوسية ، تقليدانية تحن الى إسرائيل المذكورة في القران في عدة مناسبات ، منذ اكثر من 3000 سنة قبل الميلاد . فهي تشتغل للوصول الى اكتمال ارض الميعاد ، من خلال بناء الحضارة اليهودية التي تجمع وتميز شعب الله المختار . لذا يقتضي الهدف المذكور أعلاه ، دينامية قوى تسير في اتجاه الهدف الاستراتيجي الأقصى ، لكن قيادة " فتح " الاخوانية في بدايتها ( م ت ف ) ، لم تكن اطلاقا مستعدة للبحث عن وسائل هذه السياسة الأخيرة ، المتناقضة مع طبيعتها البيروقراطية البرجوازية ، وارتهانها المالي بالمملكة العربية السعودية . فعوضا عن السعي لنيل دعم الجماهير الكادحة في البلدان العربية ، وفي إسرائيل ، والاندماج الكامل ، دون لبس ، في النضال العالمي ضد الامبريالية ، سعت قيادة ياسرعرفات ، وقيادة " فتح " ، وراء وسائل سياستها الخاصة بها لذا الرجعية العربية ، والامبرياليات الأوروبية ، وجماعات يهودية صهيونية معتدلة ، ووضعت في طليعة أهدافها ، الحصول على اعتراف بها من قبل الامبريالية الامريكية ، وهي الوحيدة القادرة على فرض " تسوية " على الدولة اليهودية الصهيونية ، رغم انف هذه الأخيرة .
ومع ذلك ، فان الازدواجية ذاتها التي اتسمت بها مواقف قيادة ( م ت ف ) ، وهي تركيب من التصريحات المعادية للإمبريالية ، وغمزات العين لها ، أي للإمبريالية ، تلك الازدواجية التي تعكس ازدواجية موقعها الاجتماعي السياسي ، كقيادة برجوازية مرتهنة بالتوازن بين الحركة والجماهير التي تستمد منها قوتها السياسية ، من جهة ، وعملاء الامبريالية العرب الذين تستمد منهم موارها المالية الضخمة ، من الجهة الأخرى . ان هاتين الازدواجيتين إذن ، لم يكن اطلاقا بإمكانهما إرضاء الامبريالية الامريكية ، وكم بالأحرى الصهيونية . لذلك سعى الطرفان الاخيران بلا ملل وبلا كلل ، وعبر شتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة ، لتحطيم العنصر الأكثر جذرية في المعادلة برمتها . الا وهو حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة ، التي بات لبنان بعد الخروج من الأردن في سنة 1971 ، ملاذها الرئيسي ، حتى دخول الجيش الإسرائيلي الى لبنان سنة 1982 ، وطردها الى الملاجئ البعيدة عن الأرض التي كانوا يتنازعونها مع إسرائيل .. تونس ، اليمن ... الخ ، فاصبح يطلق عليهم للتمييز ، بفلسطينيي الشتات .
هذا وقد اصبح جليا منذ عام 1974 ، ان الجيش اللبناني الرجعي ، عاجز عن انجاز المهمة بقواه الذاتية وحدها . فالوجود الفلسطيني المكثف بلبنان ، لتعويض الخروج من الأردن ، حيث اقاموا دولة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية ، مما تسبب في الحرب اللبنانية التي دامت خمسة عشر سنة .. انتهت بخروج ( م ت ف ) في سنة 1982 من لبنان ، وتحت تفرج النظام السياسي العربي الرجعي ، الذي لا يحرك دجاجة عن بيضها ، فأحرى ان يجابه إسرائيل الدولة العظمى والديمقراطية .
لقد حللت واشنطن الوضعية الجديدة ، لكنها لم تصل الى كشف سبب العقم في الساحة السياسية ، لان واشنطن اعتقدت ان الإنجاز سيصبح ممكنا ، لو أضيفت الى القوى المذكورة ، قوى الميلشيات المسيحية والرجعية ، خاصة الاخوان المسلمون ، او جماعة السنة .. فأقحمت هذه الأخيرة في المعركة في سنة 1975 ، ولم تفلح سوى في اثارة رد فعل قومي طائفي ، من قبل اغلبية سكان لبنان المسلمة ، الامر الذي أدى الى تفجر الوضع السياسي بالدولة اللبنانية ، والى تقوية سلطة ( م ت ف ) في لبنان ، بشكل بالغ الخطورة على لبنان البلد ، ولبنان الدولة . بيد ان قيادة هذه الأخيرة ، أعطت دوما الأولوية لشتى الزعامات البرجوازية المسلمة ، سواء كانت سنية او كانت شيعية ( حركة أمل نبيه بري الدكتاتور ) ، او درزية ( كمال جمبلاط الذي اغتالته المخابرات السورية ، وبعده ابنه وليد جمبلاط ذا الف موقف في اليوم ) . وقد ذهبت الى حد مد يدها مرارا عديدة ، لكن بدون جدوى ، لأقصى اليمين المسيحي ، أملها عقد سلم معه .
ولما أصبحت القوى المسيحية اليمينية الرجعية ، على وشك الانهزام التاريخي سنة 1976 ، تفاوضت واشنطن مع النظام السوري ، واعدة إياه ، بالكف عن الالتفاف عليه ، في سعيها وراء سلم منفرد مصري – إسرائيلي ، وهو الهدف الذي جهد " هنري كسنجر " من اجله منذ سنة 1975 . وقد تكلفت دمشق ، لقاء ذلك ، بإنقاذ حلفاء الامبريالية الامريكية والإسرائيلية ، وبإعادة النظام البرجوازي في لبنان .
لقد اصطدمت المحاولة السورية ، بمقاومة عنيفة جدا من قبل الجماهير اللبنانية والفلسطينية ، ورغم ذلك ، افضت الى هيمنة النظام البعثي السوري على مجمل الأراضي اللبنانية ، الحزب السوري القومي الاجتماعي ، و حركة " أمل " الشيعية ، شمالي " الخط الأحمر " الذي حددته إسرائيل ، هيمنة تحققت بموجب اتفاق عقد مع قيادة ( م ت ف ) ، تحت رعاية سعودية ( مؤتمر الرياض في اكتوبر1976 ) . اما الأنظمة العربية ، فقد اختارت الثرية ، عشية انتخابات الرئاسة الامريكية .
لكن التغيير جاء من الانتخابات الإسرائيلية سنة 1977 ، مع وصول حزب " الليكود " يمين اكثر من محافظ ، الى السلطة ، بقيادة رئيس الوزراء " ميناحيم بگين " ..
ولما اتضح ان آفاق " تسوية شاملة " تفاوضية أصبحت معدومة ، انطلق السادات في عملية السلام الشهيرة ، التي نفذت بعد شهور في سبتمبر 1978 ، على اتفاقية " كمبد يفد " . وقد وجد النظام البعثي السوري نفسه من جديد ، وبحكم الظروف ، في المعسكر المضاد للأمريكيين ، فجددت تحالفها مع ( م ت ف ) ، واليسار اللبناني ، على حساب المعسكر المسيحي الرجعي . ولم يبق سوى التدخل الإسرائيلي المباشر ، كوسيلة أخيرة ضد المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع اليسار اللبناني ، و سورية . فجرى اجتياح إسرائيل أوّل سنة 1978 ، اقتصر على لبنان الجنوبي ، وافضى الى انتشار قوات الأمم المتحدة في تلك المنطقة .
ان هذه القوات ، بدل ازعاج ( م ت ف ) وحلفاءها ، شكلت بالأحرى – موضوعيا – درعاً لها . فتحتم اجتياح ثانٍ أوسع نطاق واطول مدة بكثير ، وجرى بالفعل في يونيو 1982 ، عندما اكتملت شروطه ، " رونالد ريگن " Ronald Reagen في الحكم في واشنطن ، والانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء منجز ..
6 – ان حصار بيروت العاصمة من قبل الجيش الإسرائيلي ، وامام تفرج وتواطئ النظام السياسي العربي المهزوم ، وضع قيادة ( م ت ف ) ، أمام خيار بين احتمالين لا ثالث لهما : إمّا خيار المقاومة العنيدة ، مع الاخطار الاكيدة التي تنطوي عليها ، لكن مع امكانية حقيقية في النجاح ، حيث ان الجيش الإسرائيلي بعيد عن ان يكون جيشا لا يتزعزع ، كما اثبتته لاحقا انهزامه امام مقاومة الجماهير في " غور الأردن "، وفي جنوب لبنان ، او استسلام سياسي ، بحيث تحافظ قيادة ( م ت ف ) على أثاثها .. بنقله خارج لبنان .
ان هذا الخيار الأخير ، الذي كانت قيادة " عرفات " مستعدة لاختياره ، بطبيعتها الاجتماعية السياسية ، هو الذي ساد منذ أيام الحصار الأول ، عندما بدأت مفاوضاتها مع مبعوث الرئيس " رونالد ريگن " ، حول شروط اجلاء المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت . وبعد مساع جهيدة ، توصلت قيادة ( م ت ف ) ، الى الخضوع لكافة الشروط الامريكية ( خطة فليب حبيب ) ، بما فيها تدخل قوات متعددة الجنسيات الامبريالية . وحصلت بالمقابل على وعد ، باعتراف إدارة " Reagen " ، بضرورة انسحاب إسرائيلي من يهودا والسامرة ( الضفة و القطاع ) ،لأجل قيام " حكم ذاتي فلسطيني " فيهما ، بشرط حازم فرضته الإدارة الامريكية ، هو ان يكون ذاك الكيان مرتبطا بالأردن . وقد اعلن هذا الموقف الرسمي الأمريكي الجديد ، غير المنصوص عليه ، في اتفاقات " كمب ديفيد " و " اتفاقية وادي عربة "، في اليوم ذاته الذي اكتمل فيه جلاء قوات ( م ت ف ) عن بيروت . انه " مشروع Ronald Reagen " في اول سبتمبر 1982 .
بجلائها عن العاصمة اللبنانية ، خسرت قيادة ( م ت ف ) القاعدة والمكان الأخير ، حيث كان بإمكان المقاتلين الفلسطينيين العمل بشكل مستقل ، لا سيما وانها قبلت بتوزيعهم على ارجاء المنطقة العربية . كانت بذلك قد تبوأت الهدف الأساسي من الانتصار الإسرائيلي الأمريكي ، الا وهو نسف القوة مانعة الاستقرار ، التي شكلتها حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة ، حيث وجدت القيادة ذاتها في الامر ما يناسبها . إذ انها تحررت في الوقت نفسه ، من الضغط المحرج الذي ارتهنت به حتى ذاك التاريخ . ومنذ ذاك ، اعتبرت ان ايديها باتت اكثر طلاقا بكثير ، للسير حتى نهاية خيارها السياسي الذي قررته في السبعينات ، لا بله لتعديه حيث ان منطق الاستسلام القسري ، قد جرها الى التخلي عن برنامج " الدولة الفلسطينية المستقلة " ، الذي بدا في نهاية المطاف ، وكأنه يكاد لا يكون اكثر " واقعية " من قصوية الماضي ، لأجل تبني " الخيار الأردني " الذي فرضه الرئيس " Reagen " .
هكذا . فلمّا تجاوب الملك الأردني حسين ، مع مشروع Reagen بسرعة اكثر من سرعة البرق ، واقترح إقامة " كنفدرالية اردنية – فلسطينية " ، لم يتردد عرفات في الاستجابة لدعوته ، وذهب بنفسه الى عمّان لبدء محادثات ، وليس مفاوضات حول حيثيات تعاونه الجديد مع الملك الهاشمي ..
هذا وحتى بعد بيروت ، وفي اطار سياسة برجوازية ، لم يكن الخيار الأردني مفتوحا امام قيادة عرفات ، كانت ثمة خيار اخر كان ممكنا قبل الحرب الاهلية السورية ، هو الخيار السوري . غير ان هذا الأخير ، كان يحتم مواجهة مع واشنطن ، في تواصل مع السنوات السابقة لاجتياح عام 1982 ( لم يَرِدْ حتى ذكر بالاسم لهضبة الجولان السورية ، التي احتلتها اسرائيل سنة 1967 ، في مشروع Reagan ) . وكان الخيار ذاته يعني ايضا ، بالنسبة لقيادة عرفات ، القبول بالوصاية السورية ، وتأجيل احتمال الحصول على دولة خاصة بها ، حتى ولو كانت ملكيتها مشتركة مع الاردن ، الى اجل غير مسمى . ونتيجة للسرعة القصوى في استباق تراكم الاحداث التي تهطل مثل قطرات الشتاء ، سنجد ان عرفات آمن بوعود مشروع Reagan ، دون ان يخلو الامر من سذاجة يمينية . فاختار بالتالي الانخراط في الاطار الذي حدده هذا الاخير ، وتوصل في ابريل 1983 الى مسودة اتفاق مع الملك حسين . وهنا إنما ان عرفات كان يعلم ان خياره الجديد ، لابد ان يثير معارضة واسعة من قبل سورية اولا ، وكذلك من قبل معمر القذافي ( ليبيا ) ، المعارضتين للسياسة الامريكية ، ثم من قبل اليسار الفلسطيني ، الجبهة الشعبية ، والجبهة الديمقراطية ، والجبهة الشعبية القيادة العامة ... وبما في ذلك الجناح الراديكالي داخل منظمته " فتح " الانتفاضة ، جماعة " ابو موسى " الموالي لدمشق .. فعرفات رغم انه على علم بما كان ينتظره من قبل المعارضة ، فهو اختار عمدا قطع الجسور مع خصوم الخيار الاردني الاشد حزما ، منذ مايو 1983 ، بحيث يتمكن من المضي قدما في علاقاته مع الملك حسين . وقد أدت الاشتباكات مع سورية ، وحلفائها الفلسطينيين التي تلت ذلك ، الى اجلاء انصار عرفات في ديسمبر 1983 ، عن الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت السيطرة السورية . لقد كانت تلك الحرب التي دارت ، تحظى بدعم جزء من الحركة الوطنية اللبنانية ك " حركة أمل الشيعية " ، والأحزاب المسيحية اليمينية اللبنانية ، وقد أدى الزعيم الوطني اللبناني كمال جمبلاط ثمن الحروب التي دارت بين النظام البعثي السوري ، وحلفاءه من الفلسطينيين المتعاونين مع النظام السوري ، وبين الحركة التقدمية اللبنانية الفلسطينية ، ثمنا لذاك الصراع الذي اضعف الجميع ، ومكن إسرائيل من الانتصار في مشروعها الرامي ، الى قطع دابر الحركات والمنظمات المعادية للدولة العبرية بالمنطقة .. فاغتيال كمال جمبلاط ، يحمل بصمات المخابرات السورية المسيطرة بالسيف على الساحة اللبنانية ..
واثر مغادرته ( عرفات ) طرابلس ( السنية ) لبنان الشمالي ، توجه مباشرة رأسا الى القاهرة ليلتقي فيها الرئيس المصري حسني مبارك ، عراب المشروع الإسرائيلي بالمنطقة ، خارقا بذلك المقاطعة العربية الرسمية للنظام المصري ، التي اقرت منذ توقيع السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل " كمب دايفد " .
كان عرفات يشير بذاك السلوك ، ودون أي لبس ، الى انه اختار وضع نفسه في اطار السياسة الامريكية في الشرق الأوسط . وبقي له الامل بان تؤدي الجهود المركبة لمبارك ، وللملك حسين ، وملك المملكة العربية السعودية ، والحسن الثاني ملك المغرب ، .. الى الحصول على اعتراف رسمي به من قبل الولايات المتحدة الامريكية ، مكافأة له على خيانته ( سلوكه ) .
7 – ان المعارضة الفلسطينية الأكثر جذرية ، للسياسة الجديدة التي انتهجتها قيادة عرفات ، جاءت من صفوف حركة " فتح " بالذات . لذا " فالانتفاضة " ، كما درجت تسميتها ، تمثل في الواقع ، الاستمرار الراديكالي لخط " فتح " في سنوات 1967 وحتى 1970 . أي انها اعادت انتاج السمات الاصلية والموصوفة أعلاه ( الفقرة 2 ) ، لكن بشكل اكثر انسجاما من " فتح " في تلك الفترة ، التي كانت ترتبط بالسعودية ، وتهادن الأردن ، وهما نظامان وثيقا الارتباط بالإمبريالية ذاتها ، التي اشارت اليها مجمل المقاومة الفلسطينية ، بوصفها عدوا ، بمثابة الدولة الصهيونية .
ان ذلك يعني أيضا ، ان انتفاضة " فتح " التي تزعمها " أبو موسى " ، لم تشكل بأي حال نهجا جديدا للمقاومة الفلسطينية . بل اعادت انتاج عيوبها القطرية والفطرية . هذا ما كان قد تجلى بوجه خاص ، في موقفها إزاء النظام السوري ، واداته الفلسطينية ( الصاعقة ) ، التي لم تجد سبيلا الى التمايز عنه في المجالين السياسي والعملي ، وذلك بحجة التحالف " الاستراتيجي " معه . والحال انه على الرغم من الفائدة التي لا جدال فيها ، بالنسبة لمنظمة فلسطينية مسلحة ، تعمل انطلاقا من لبنان ، في عقد تحالف مع النظام السوري ، يمكن إبقاء هذا التحالف عند مستوى تكتيك جبهة موحدة ، مع الاحتفاظ باستقلالية سياسية ، تتجلى بإبراز الفروقات بدل طمسها ، كما هي الحال قبل الخروج من بيرت الى الشتات . وقد مارست ( م ت ف ) بمجملها هذا النوع من التحالف ، بدون تواطئ بين عامي 1977 و 1982 ، وذلك لمّا كانت قوات النظام السوري تسيطر مباشرة ، على قسم من الأراضي اللبنانية ، بما فيها بيروت الغربية ، ومنطقة المقرات الفلسطينية .. ، أوسع بكثير مما كان قبل الاجتياح في سنة 1982 . وحتى ولو افترضنا ان دمشق باتت ترفض ان تتكيف كذلك ، وتسعى لفرض هيمنتها بالقوة ، لبقي بُعْدٌ امام اليسار الفلسطيني ، خيار بناء نفسه بالرغم من القمع السوري . لكن وكما هو ملاحظ ، فان هذا القمع لم يفلح في منع التيار العرفاتي ، من اعادت بناء نفسه في لبنان . لا بل حتى من فرض نفسه من جديد كتيار الاكثرية ، ضمن السكان الفلسطينيين في لبنان .
أمّا الانتفاضة ، فبتفاديها أيَّ احراج للنظام السوري ، لا تفقد اعتبارها في نظر الجماهير السورية وحسب ، بل أيضا ، وخاصة في نظر أكثرية الجماهير الفلسطينية ، التي بدون دعمها ، ينعدم مبرر وجود الانتفاضة .
وأمّا يسار المقاومة التقليدي ، الجبهتان الشعبية والديمقراطية التي سبق ان اجتمعتا سنة 1983 في " قيادة مشتركة " ، فقد تبنى بداية النزاع بين عرفات وخصومه ، موقفا توفيقيا منسجما مع موقف موسكو ، الحريصة على عدم قطع الجسور مع قيادة ( م ت ف ) OLP الرسمية ، بأمل انها سوف تتخلى عن الخيار الأردني الأمريكي ، سواء عن قناعة او عن خيبة .
ان هذا الموقف ، قد نسفه سلوك وتصرف قيادة عرفات بذاته ، عندما دعت ، بغطرسة كلية ، ومن جانب واحد ، الى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني ، الذي طالما ضمن تشكيله بالتعيين ، أكثرية مريحة للقيادة المذكورة منذ عام 1969 ، وذلك في عمّان ( الاختيار دال على ما فيه وعلى من وراءه ) ، في نونبر 1974 ، طالبة من الملك حسين جزار سبتمبر الأسود ، إفتتاح الدورة . وقد انقطع التحالف بين الجبهتين الديمقراطية والشعبية ، اثر قرار الأخيرة التخلي عن الموقف التوفيقي ، بعد ان فقد مصداقيته ، والانضمام الى انتفاضة " فتح " ، و " الصاعقة " ، ومنظمات أخرى ثانوية لتشكيل جبهة " الإنقاذ " الوطني الفلسطيني ، وهي جبهة قومية تحت الوصاية السورية .
أمّا الجبهة الديمقراطية ، فقد بقيت بالتحالف مع الحزب الشيوعي الفلسطيني ، وفية للاتحاد السوفياتي السابق المنحل ، الذي وإنْ عبر اكثر فاكثر عن استيائه من عرفات ، لم يقبل ان يتخلى عنه ، أملا باستعادة هذا الأخير ، او على الأقل ، استعادة ( م ت ف ) الرسمية التي يقودها ..
8 – ان أهمية ( م ت ف ) بقيادة عرفات في نظر موسكو ، لا تنجم فقط عن صفتها الرسمية ك " ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني " ، وهي صفة ساهمت موسكو مساهمة كبيرة في إقرارها من قبل الأمم المتحدة ، وصفة قد تخول عرفات على " السلام الأمريكي " . ان تلك الأهمية تنجم أيضا ، وعلى الأخص من واقع لا جدال فيه ، هو ان الصفة تلك تتناسب مع تأييد أكثرية الشعب الفلسطيني لقيادة عرفات الذي مات مسموما ، ولا سيما أكثرية السكان الفلسطينيين في ( الضفة الغربية وغزة ) يهودا والسامرة .
وبالفعل ، فان الجانب الوحيد الإيجابي نسبيا في منعطف قيادة عرفات ( م ت ف ) سنة 1974 ، كانت زيادة الاهتمام بتعبئة جماهير الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل في سنة 1967 ، التي باتت القيادة الفلسطينية تطالب بها لإقامة " دويلة مستقلة " فيها ، فان برنامج ( م ت ف ) الجديد ، بالرغم من قرائنه اليمينية الرجعية ( يجب ان يبقى في البال انها لم تكن صريحة في البدء ) ، كان اكثر قدرة بكثير ، على كسب أكثرية سكان الأراضي المذكورة مِمّا كانت القصوية السابقة . والحال ان أولى المصالح المباشرة لهؤلاء السكان ، هي في التخلص من الوجود الإسرائيلي . انهم بالتالي ، وباستثناء اقلية راديكالية نقدية ، خاصة بين الشباب ، مدفوعين بصورة طبيعية الى تأييد ما يظهر لهم انه السبيل الأقصر للتحرير من السيطرة الإسرائيلية ، سواء كان السبيل اردنيا او فلسطينيا ، او منذ 1973 ، اردنيا فلسطينيا . وتتضافر مع هذا الضغط الموضوعي ، عوامل اقتصادية اجتماعية ومادية ، تربط جزءا من الوجهاء الفلسطينيين بالعرش الهاشمي ، وجزء اخر بقيادة ( م ت ف ) ، مع حيازة كل جزء على أنصاره الخاصين به .
هكذا وجدت قيادة عرفات نفسها خاسرة على كافة الأصعدة ، بعد ان وقعت في فخ خيانتها الخاصة بها التي غدتها الاوهام . وقد مدت لها الجزائر ، بمباركة موسكو ، خشبة خلاص ، بالدعوة الى إعادة توحيد ( م ت ف ) . هذه الدعوة قد تروق بعض معاوني عرفات الأكثر تشكيكا في نهجه ، غير ان هذا الأخير ، مقامرا بكل ما لديه ، فضل الاتكال على حسني مبارك الأكثر صهيونية من الصهاينة انفسهم ، وصدام حسين الدكتاتور ، حليفيه الراهنين ، وعلى الملك فهد ملك المملكة العربية السعودية ، سنده الدائم ، ليضغطوا على الحكم الأردني ، ويجبروه على التعاون معه من جديد . فعرفات يعلم انه ، بخلاف الملك حسين الذي هو منافس مباشر له ، لا يزال سائر الحكام الرجعيين العرب ، يحتاجون اليه كحليف سياسي . لكن هذا الواقع لا يمنعهم من الضغط عليه ، كي يمضي حتى نهاية استسلامه ، ويعترف رسميا بالقرار 242 الصادر عن مجلس الامن الدولي ( نونبر 1967 ) ، كما كانت واشنطن تطالب به .
ان هذا الاعتراف كان يعني بالنسبة لعرفات ، رمي ورقته الأخيرة ، الامر الذب يطالب لقاءه بضمان رسمي لاعتراف واشنطن به . ومهما تكن نتيجة هذه المساعي ، فان محصلة نشاط قيادة عرفات ، هي افلاس كامل في النهج الرجعي الذي اختارته عمدا .
9 – ان المقاومة الفلسطينية منذ بدئها الصراع السياسي ، يبدو انها تعيش اليوم ازمة عميقة جدا ، ولا يحمل أي من مكوناتها ، بما فيها ( اليسارية ) ، وعدا بتجاوز هذه الازمة . لان التجاوز يقتضي في الواقع ، تغييرا جذريا في الاستراتيجية وفي التكتيك ، بينما يمثل ( اليسار ) الفلسطيني ، في احسن الأحوال ، ومن خلال الخطاب السياسي بعد فشل البندقية ، استمرا ر وإعادة استمرار للماضي في برنامجه واشكال وجوده الذي اصبح باهتا وشبه منقرض .
منذ بداء الصراع السياسي والصراع الفدائي ، كانت الحصيلة هي الفشل ان لم نقل الإفلاس التام . ولنا ان نتساءل اليوم . اين منظمة التحرير الفلسطينية ، وأين بالبرامج التي طرحوها وبقيت مجرد حبر على ورق ؟
ان مشكلة القيادة الفلسطينية انها شعاراتية فقط . والسؤال . كيف لمنظمة التحرير التي تعيش الى جنب الدولة الإسرائيلية ، ان تجهل مشروع الدولة الإسرائيلية ، الذي لا يعني الدولة بمفهوم القانون الدولي ، وانما هذه الدولة قد تم حسمها نهائيا عندما اعترف بها العالم ، واضحت عضوا بالأمم المتحدة ، واعترف بها الحكام العرب باستثناء النظام الجزائري الذي لا يزال وحيدا متشبثا ب " جبهة الصمود والتصدي " التي تحللت وأصبحت في خبر كان ، وهي الجبهة التي لم تتصدى لعلان ، ولا صمدت امام فلان .. انقرضت تلك الجبهة ، حينما سقطت دولها ، واطيح بقادتها ..
ان مشروع إسرائيل الكبرى والعظمى ، هو الاشتغال على مشروع الأرض ، ارض الميعاد التي جيرانها المحتملين غير معروفين ، وحدودها الامنة غير معروفة . وان الحديث عن مشروع الأرض ، ارض الميعاد التي بها شعب يلقبونه بشعب الله المختار ، هو الحديث عن الحضارة الإسرائيلية عبر التاريخ ، وهو الطقوس والحاخامية ، والتقاليد المرعية منذ اكثر من 3000 سنة قبل الميلاد . وعند تيقننا بان هذه الحضارة هي الحضارة اليهودية ، فان سندها واصلها يبقى التوراة والزبور .. وهذا اصل الخلاف مع سندات غير السندات اليهودية .. والامر الخطير هنا ، الاستقواء بالدين للسهولة على فرض الفكرة ، فكرة إسرائيل شعب الله المختار .. ومن ثم فان الصراع التي تخوضه الحركات الاسلاموية ، وحركات الإسلام السياسي ، وفي الهجوم على الثقافة اليهودية ، هو بدوره مشروع ( حضاري ) يستهدف اصل الدولة القطرية والإقليمية ، لبناء الدولة الأممية التي هي دولة الخلافة الإسلامية ..
من هنا تكون المواجهة الحضارية بين اليهودية ، والحضارة اليهودية التي هي الإسرائيلية ، مواجهة دينة بالأساس ، وهذه الحقيقة تعطي لإسرائيل الحق الإلهي في الدفاع عن مشروع الدولة الحضارية ..
والسؤال . هل الدولة الحضارية اليهودية ، و الحاخامية ، والطقوسية ، والتقليدانية التي تشتغل على ارض الميعاد الغير معروفة الجيران ، والغير معروفة الحدود ، وهنا نعتبرها دولة عنصرية ، ستسمح ل ( م ت ف ) ، ان تؤسس او تنشء حتى " دويلة مستقلة " ، وسط الأرض الكبيرة التي لا تعرف حدودها وجيرانها الغير معروفين .. الخ .
وبما ان الطقوس اليهودية ، هي من يحدد نوع الدولة اليهودية الحضارية ، وهي من تتكلم وتعبر شعبها بشعب الله المختار ، فان اكبر خطأ استراتيجي سقط فيه عرفات ، وسقط فيه محمود عباس ، وقيادة ( م ت ف ) ، كان فخ Madrid ، وبعده فخ Oslo ، لان الفخين اللذين سقطت فيهم ( م ت ف ) ، عندما قبلت ان تفاوض من لا تعرف شيئا عن مشروعه ، كان اكبر رصاصة تم توجيهها لرأس ( م ت ف ) ، وكان الضربة القاتلة لهزيمة عرفات وبعده محمود عباس ، ودخول منظمات التحرير التقليدية في الجمود . فهل لا يزال من يسمع عن " فتح " الانتفاضة ، وعن " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " ، و " الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" ، و" الجبهة الشعبية – القيادة العامة -- ، و " جبهة النضال " ، و" الصاعقة " ... الخ ..
ومن خلال المشهد نكاد نجزم بالانقراض لهذه المنظمات ولمنظمة ( م ت ف ) عامة ، لأنه حين دخلت تفاوض في Madrid ، وفي Oslo ، والمحادثات وليس المفاوضات ، مرت عليها من سنة 1982 ( مدريد ) ، من 1993 ( أوسلو Oslo " اكثر من أربعين سنة ، ولينتهي المسرح بتأييد واشنطن ، والعواصم الاوربية ، لمشروع ارض الميعاد ، وهناك من يعبر به بشكل صريح ، وهناك من يخفي راسه في التراب ، وهو مع إسرائيل ارض الميعاد .. تكون تصريحات كل الإسرائيليين من خلال الأحزاب التي تمثلهم ، ومن خلال الحكومات المتعاقبة قد انهت مع المحادثات ( المفاوضات ) ، ويعلن الجميع ومن دون استثناء ، رفضهم لفكرة " الدويلة " الفلسطينية ، والرفض المطلق لحق " العودة " .
فكيف تجهل قيادة منظمة التحرير المفاوض الذي يفاوضها ، وتجهل المشروع الذي يشتغل عليه . فهي تتفاوض وكانت تتفاوض على ماذا ؟
وسنعطي بعض الأمثلة على دعم كل دول الغرب ، ومن دون استثناء لمشروع الدولة اليهودية .
عندما غزا صدام حسين الكويت ، وبعد الأجواء التي كانت تنتظر الحرب ، خرج صدام حسين بتصريح جد خطير ، عندما اقترح مقايضة الخروج من الكويت ، بخروج إسرائيل من يهودا والسامرة ( الضفة والقطاع ) . ففي الحين ثار كل الغرب في وجهه ، ورفضوا سماع تصريحه الذي اعتبروه غير مقبول .. وهذا دليل ساطع على رفض الغرب ، بل كل الغرب لإقامة ولو " دويلة " قزمية بارض إسرائيل العظمى ، التي لا تزال تبحث عن حدودها كما كانت منذ اكثر من 3000 سنة قبل الميلاد . نعم ورغم ذلك ذهبت قيادة المنظمة ، تفاوض السراب في Madrid ، وفي Oslo ، وكانت النتيجة بعد اكثر من أربعين سنة مرت كلها في الكذب ، وكانت مناورات إسرائيلية ذكية ، هو الرفض الإسرائيلي التام لسماع " دويلة " فلسطينية ، ولو كانت منزوعة السلاح ، وتحظى بالمراقبة المباشرة لإسرائيل .
كذلك . الكل يتذكر اكبر خطأ استراتيجي قام به صدام حسين ، عند غزوه الكويت المسالمة ، عندما قال . اذا هاجمت إسرائيل العراق ، فانه سيحرق نصف إسرائيل .. وكان للتصريح هذا ، ان هز الغرب ، وتصريح وزيرة الخارجية الامريكية ترد عليه حالا ، قائلة سنرجع العراق الى 300 سنة الى الوراء . وعندما اندلعت الحرب ، كان المعنى من تصريح Madeline Olbrait ، هو الرفض الكامل لنشوء ولو " دويلة " فلسطينية وسط الدولة الكبرى إسرائيل ..
فلو كانت قيادة ( م ت ف ) تدرك مشروع الدولة اليهودية ، وهي تجهله بالتمام ، وتعرف مع من تتفاوض ، وهي تجهله بالتمام .. هل كان بعد 42 سنة من المفاوضات ، ان تنتهي بالقطع الإسرائيلي .. لن تكون هناك ابدا " دويلة فلسطينية " ، ولا تفكير في " حق العودة " . ان السبب في هذه النكسة التي اصابت الفلسطينيين ، ليس إسرائيل ، بل قيادة منظمة التحرير ، ، خاصة عندما اغرقوهم في ثروة الدولار، فتسابقوا على تغيير أسلوب العيش ، ونمط التفكير، وتنافسوا في ارتداء اللباس الأوروبي المصنف ، والاحذية المصنفة ، والبدلات الأكثر من مصنفة ، والعطر المصنف ، والساعات السويسرية المصنفة ، وركوب السيارات الغالية الثمن .. فتحولت قيادة منظمة التحرير الى مخبرين عند الشاباك ، والجيش الإسرائيلي ، واصبح الدولار الإسرائيلي في شكل ضرائب ، ودولار دول الخليج .... يصب في جيوب ( القادة ) ، فتوسخوا ونفحت بطونهم ... واصبحوا من المتاجرين بهموم ومآسي الفلسطينيين ، الذين يعيشون في ملاجئ بالدول العربية حياة اكثر من صعبة .. واسألوا ياسر عرفات الذي مات مسموما ، ومحمود عباس ومن معه : من اين لك هذا ؟ . واسألوا حسين الشيخ المنسق البوليسي مع الشاباك على عهدة محمد دحلان .. لتبقى الافواه مفتوحة من شدة الصدمة . ومرة أخرى هل سبق لإسرائيل ان اغتالت معارضا إسرائيليا بأوربة ، او بداخل إسرائيل ؟ وهل هناك إسرائيلي واحد يقبع في السجون الإسرائيلية بسبب أفكاره او مواقفه او كتاباته ... الخ .. وهنا من سمم ياسر عرفات ، وحينها كان محمود عباس رئيس ( الحكومة ) ، ومحمد دحلان وزيرا للداخلية ..
وابحثوا عن ثروة قادة الدولة ، لتجدوهم بدون ثروة . أناس عاديين ، يسكنون شققا عادية ، خاصة وان القانون الإسرائيلي يدخل الى السجن حتى الرؤساء اذا اساءوا الى مال الشعب ، او مارسوا التحريض ضد النساء ..
ومرة أخرى اين منظمات ( م ت ف ) ؟
لماذا اختفوا ، وعوضهم في استعمال الرصاص شباب لا علاقة لهم لا ب " فتح " ولا " بالشعبية ولا بالديمقراطية " ..
فلسطين انتهت .. وجريمة حماس مؤخرا لتقديم نفسها كبديل عن ( م ت ف ) ، فشلت بانتحار الجماعة الذي عرى على حقيقة الاسلامويين بمختلف تنظيماتهم وتياراتهم ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله