الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخيال الافتراضي في بيان الصورة والتشكيل. عند أ. د. قصي الشيخ عسكر

جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)

2023 / 10 / 21
الادب والفن


مفتتح..
تدخل الذات الخاصة بالتنافس في مؤدى التعريض الإبداعي من منظور التصور البديهي المعبر عن التصورات المتخيلة إلى حيث صميم أحداث ما بعد الرؤية الزمنية، بصورة تستدل على مكننة العقل المسحور بالدلائل الموضوعية، وهي تحاكي سردية محورية تنم عن العاطفة الأبوية النافذة إلى أعماق النفس، جعلها الكاتب تعبر عن فكرة سلوكية تعالج قصة تنشأ من المعيون المحلي الموروث، باعتبار المُكَوّن العائلي المنفتح على مصاغه المجتمعي أمام ما يوحى به المجازالعقلي إلى الظهور بمظهر العمومية المتبعة بأهوائهم المؤشرة بطبيعة الغفران، من نواتج يبسطها الخيال النوعي بتخصيص الأحكام من منظورها الدلالي على مهوى جناس يسكنه فصيح توليد مكانة الذات المؤثرة بتجلياتها من حيث ما يؤدى من علم البديع المثمر بالمجازات والاستعارات، وتلك السمات العقلية تنسج أحداث التراث من وارد تولدات الصوّر الموروثة.
وهنا تستولد الانفعالات الحسيّة بيانها الموحي من منظور الوعي المعرفي، لأن مبعث العوالم العائلية المختلفة تولد مخزوناً لتفاعلات تحفظ المباني الناطقة بالحدث، حتى وإن أرتبط فعل الخيال بالرومانتيكية المعصومة من الخلل، فهذه حالة سريالية تنشأ من الرياض الإدراكي المعرفي، ومفاتيح الزمن المدور تصاهر موضوعية الانتماء حسب مبعث الاستدلال المنسجم نمطه بالصورة الحسيّة الموضَعة بالأصل السامي من حيث قواعد الكياسة الماهرة في التصور كما هو مرئي، أن تعيش أحداثها في عمق وسعة المتخيل النوعي في خيال المتلقي، ولا أشك أبداً أن الخيال الفلسفي الذي يصاحب زمن القاص قصي عسكر منذ الطفولة "بدون ألقاب" لا يتعدى كونه هو قاص وحسب، إن لم يكن هو كل الجناسات الأدبية نفسها على مستوى حدود الوطن العربي، لأن أعماله المجددة تقوم على أساس اقتراح البدائل من معيون المؤثرات الوجدانية في المنطق الملم بفصاحة الموهبة في المنطق والتفكير والتحديث بأثر الأبعاد الباطنة للنص، وهي تحاكي ميزات الشكل بثوابت البديع في سياقات البلاغة المحصنة بالإتقان والإمعان في بحور جمانة الكلام.
ومن وراء هذا الخزين التنويري الممسك بذكاء التحول السردي للنص القصصي يصَوّر لنا الكاتب إحكام البرهان العقلي على أن يجعل من الصورة الحسيّة تتوسع بها الظواهر المنزهة من التناصات قديماً وحديثاً بميزتها على ما تعتني به خصوصيته الجارية على ما وضعت له الذاتية بمكتسبها على جهة التخيل المصوّر في حالته الايحائية، من خلال ما أشاء له علم البيان المتعالي شأنه بمهارة أدبية جعلت منه مدرسته المعقمة بالبديع تتوسع بحاصلها الفني كذخيرة تستوفي وجودها التاريخي على مر الزمن وجوده الفاعل في الحركة الأدبية على مستوى المكتبة المتقدمة في مصادرها التنويرية المحصلة بما هو في المعاصرة تتواصل حالته التوليدية بما هو آت على أن يكنزه التراث العربي من علوم عُدلت جاذبيتها بواسطة بلاغة مقتضاه على جهة تصوير التصور المنتج على اختلاف المجنسات الفنية بدءاً في الشعر العمودي، ثم التفعيلة، فالرواية، والقصة القصيرة، والقصيرة جداً، ودراساته النقدية المحدثة على جهة التحويل في جناس النقد القديم والمعاصر، ولم يبق له ومن بلاده العراق إلا التكريم بخصوصيته الشاملة على منظور منتجه كما هو المعيون في نظام غزير الفوائد في بيان الصورة والزمن المرسوم على صفحات التاريخ، والحق أن يبقى حاصلاً في تراثه كما هو الحال عند الكثير من البلغاء والنحويين على اختلاف براعة علوم اللغة عندهم.
القصة:
وعلى ضوء سياق ما تقدم في بعدنا النقدي على وفق ما سوف نستعرضه في تناولنا في تصوّر بما نحكم رأينا المحايد لهذه القصة: " صورة على الجدار " نحكم على أن هذا التوليد القصصي يلبي المطلب الذي يستند إلى الثقافة المنتجة لأهمية تستلزم أثر المجازية الذكية في ثنايا النص الإجمالي، ونحن ندرك أن القارئ استجاب لشعبية مكانة هذا النص على أساس شواهد العلوم المبتكرة، خاصة وأنها أي القصة المبتكرة تمنح الوافد الإبداعي مهارة تكشف عن مكننة الخصائص التي وسعت من الندرة الفنية في طبائع علم الاستعارة، وخاصة ما توسعت به لغته المتخيلة بتعدد الأحداث المكتسبة باختصارها المعني بالاستطراد المشبه بغزير الفوائد والحكم كما أشار له الكاتب بعد أن فسر علمه بموزون الفصيح، وفي الوقت ذاته اعتماده على ما حلله علماء البيان من مفهوم الشقشقة في فصاحة الكلام التي تُشَرعْ للمبدع مفتتح الفنون من طراز السبك والتحرير والتندر والتصوير، وهو ما وجدناه في استحضار المكونات الحسيَّة التي تعالج إيراد إبانة الماهية المعبرة عن مفهوم معرفة الذات للمتصورات الخيالية في مكننة المجاز لتصويري، ولربما لو توسع شواهد سياقها السردي المكاني وتعددت مداخلها، من حيث مفهوم الوعي الكامن على الاحتيال اللغوي لأصبح هذا التكوين رواية تعادل مكانة بعزة الرواية العالمية، ولكن كما هو الحال لا بأس في حقيقة الموجود بين أيدينا باعتباره نصاً قصيراً قد كسب المعرفة بدليل الاختصار والتكثيف في الأحداث، بأثر تداعيات الخيال العلمي مروراً بالزمن حتى أصبح تحصيلَ حاصل يتلائم فيتسق، وبهذا تَوَضحَ عندنا اشتقاق الحكاية من الرمزية التاريخية على هذا الحال، وكما اشرنا لنا أن ندخل من بوابة البليغ في هذه القصة كما نجدها قصيرة بالمعنى الموجود في البنية القصية إلى حيث ما تتصوره الأحداث.
يحدو بنا في المفتتح أن نكشف عن المتصور الفني في هذه القصة على مبدأ التوزيع الإيضاحي الذي أقره الكاتب بما اصطفاه بماديته الفنية، وفي هذا الخصوص لنا أن نجعل من بحثنا يتسق مع دخولنا النقدي المحايد في تحليل وشرح مكنونات وآلام تلك الحقبة الزمنية المصوّرة من خلال معيون الخيال الافتراضي، ولأننا قرأنا أفكار الكاتب التي تقول لنا أن المجتمع يتحول على نحو دائم من حيز إلى حيز يتنوع في المعرفة عند البعض، بينما نجده عند البعض الآخر يتفاعل مع الجهل والتخلف، مقابل كبرياء الحدث المتكلم عن صميم الذات الملبية للاختلاف، حسب رؤيتنا التي بنيناها على مبدأ الحداثة النقدية المتطورة في متعة الإيقاع والرشاقة الأسلوبية بما نتوصل إليه من استطراد بين القيمة والإحكام.
ومن قوله نقرأ:
"الرسالة التي وصلت إليّ هذا الأسبوع أصابتني بصدمة عنيفة.
كادت تجعلني أغيّر بعض ما رحت أرسمه للمستقبل
في الوقت نفسه
أرجعتني للماضي البعيد
لسنوات الحرب
لأمّي
للطفولة
للحزن العميق.
يوم وقع الحدث الذي غير مجرى حياتي كنت صغيرا في الرابعة من عمري. أسمع عن أشياء كثيرة وأحداث أفهم معناها وبعضها لا أفهمه. وقد عرفت أن هناك حربا ووعيت أنّ أناسا يقتل بعضهم بعضا.
إذن
هي الحرب التي تغلغلت في ذهني وأنا صغير.
ومازالت بعض صورها تنطبع في ذهني
رأيت والدي يرتدي البدلة العسكرية، ووجدت أمي تصمت وتكاد دمعة تترقرق بعينيها كلما استقبله وهو قادم في إجازة أو ودّعته.."
نجد القاص عسكر وقد تبنى تأملات التنزيل للصورة المحاكية للزمن، ورسم لها الشخصيات المجازية بواسطة الأبعاد بعد أن ربطها بالخداع الإدراكي، على أن تواصل الحياة كما ينبغي، وتربط الحدث بقرينه بتوازن رؤية تتحكم بالتخيلات المعبرة عن المنطق الخاص، وهذه فكرة محورية تتحكم بالنص القصصي الطويل المبتكر من خلق يتأمله وكأنه تمثل في الواقع المنظور، بوصفه معبراً عن الواقعية الإنسانية، وجعل من أن الأفكار تتماهى بحاصل تمثلات من نسيج الخيال المبتكر، فساق الانتقال كإناخة تساور الذكرى المؤلمة المؤطر فعلها بالكوابيس، كما كان الحال عند هوبز وديكارت وإسبينوزا في زمن كان معقداً، فجاءت الرسالة تغيَّر مجرى ما كان يرسمه بطل هذه الحكاية إلى معيون التفكير الرياضي من محسوس رابطة الخيال، وفي ذات المنظور أناف على الخبر الذي جعل وصله يؤسس لملابسة تؤرق عزيمته لما كان يروم التفكير الذاتي في موضوعة حل العقد اليومية المطوعة للروتين السلبي في حياة أشبه بالسوداء تطوق يومه في قوله:
"الرسالة التي وصلت إليّ هذا الأسبوع أصابتني بصدمة عنيفة. كادت تجعلني أغير بعض ما رحت أرسمه للمستقبل / في الوقت نفسه / أرجعتني للماضي البعيد "
ولو دققنا جيدا في باطنية النص الذي نحن بصدد تناوله بالبحث والتحليل نتوصل إلى:
أولاً: رَسَمَ القاص رؤية تلتقط الأحداث وتبسطها على مسرح الحقل المعرفي وهي تمثل محاورة ترتبط بالوجود الإنساني.
ثانياً: استحضار العائلة " الأب والأم " أن يحاكي من خلالهما عطف وتضامن المتلقي مع رؤيته الكلية ذات الأبعاد الحرة بين الزمكان والتاريخ.
ومن خلال هذا المبدأ نجد القاص عسكر تماهى مع الرسالة واستجاب إلى مضمونها، وبالمقابل احتال بما كان قد شرع عليه من مشروع يختص بمحورية ما تطرحه الأفعال اليومية من صميم المشترك المشبَّه أحدهما بالآخر، وعلى أساس هذا المبدأ تمكن من أن يصف قسوة الحياة بزمنين متضادين، بعد أن اشتد جوفه من الألم في ماضيه وحاضره، بإضافة الأحوال المستجدة في ما كانت تتضمنه تلك الرسالة التي لا نعرف خبرها الآتي بالمحتوى المبهم خارج البعد المعرفي بخصوص وسوسة الذات بتصورات المعنى الحرفي الذي تَصَوره القاص وكأنه يواجه حكايات الميثولوجيا المعاصرة بواسطة تنوع الاستعارة الملبية للحدث بعينه، وما جرى في ذلك اليوم بعد تلقيه الرسالة من أوجه وحدتهِ، وذكريات العائلة التي أصبحت من الماضي في وجودها ذكرى محصومة، ولهذا ما كان عند أبيه وأمه فالأمر مختلفاً جداً، ومع هذا الألم والحنين فالمحتوى المجهول بقي سراً بين الكاتب وخبر الرسالة المبهم، بين الحاضر وعبر الزمان بعد أن أصبح الأبن عجوزاً.
نستمر مع القاص عسكر بما يكون مسبوقاً بما أحكم عليه التبديل الأسلوبي في التخصيص السردي بين القصة القصيرة والرواية، ففي هذه القصة بان لنا في مضمونها: أن السردية اتسمت بالمحادثة الذاتية بالمعنى "الروائي" وفي شكلها "قصة طويلة" نتواصل معا في أسلوبية هذا التجديد بما يتواصل هو في قوله:
"كانت الحرب بدأت منذ ولادتي.. لست نحسا ولا أظن أن أي شخص نحس، وإلا لكنا نحن الذين ولدنا قبل أن تندلع الحرب بأيام منحوسين.. وقد رأيت والدي الذي تتشرف غرفة الضيافة بصورته مع الشريط الأسود رأيته يذهب ويجئ بالملابس العسكرية.
خلال إجازاته لا يخرج من البيت.
يظل يلعب معي أو يصحبني فيبتاع بعض الألعاب ويعود إلى البيت. بدا أيضا، لطيفا مع أمي. لا أدري إن كان لطيفا معها قبل أن أولد إذ ولدت بعد سنتين من زواجهما.
في السنة الرابعة حدثت المأساة
صرخت أمي
ولطمت خديها
شقت ثوبها، وكاد يغمى عليها فقد حضر جنود إلى بيتنا بصدوق خشبي لم يخف الرائحة النتنة التي في جوفه.. وقيل وقتها إن الجثة التي أصبحت ممزقة مشوهة، منفخة الملامح.
هي جثة أبي ."
ولأني أجد من خلال تواصلي في قراءة كل أعمال د. عسكر الأدبية المتمثلة بالشعر والقصة القصيرة، والقصيرة جداً، والرواية، فأن أعماله الأدبية لا تحتمل النسخ من بعضها، إنما كل جناس يعبر عن كيانه البنيوي الخاص بتأثير بلاغة العقل، ومهارة عاطفة المراد، والتفاعل مع الصورة المستجدة بأخيلتها، وكل جناس يحتمل التأويل الملتزم ببناء محكم ومتقن ومأمون، بأثر الصفات والمعاني والتركيب اللغوي، وسعة المجاز والاستعارة الدالة بغايتها، إذن فالنص يولد من فيض المتخيل الذاتي للأديب، وهنا تتأثر موسوعة الموهبة الذهنية بالصورة المُحدثة بوازع الزمن بما لها من وجود عيني وملموس على القارئ، ومن أثر هذه الرؤية الإبداعية نجد الأديب عسكر بين فترة وأخرى يفاجئنا بتفاوت بين الجناس ذاته، وغايته أن يطرق المختلف الموجب بجديده، لأنه يضع المواقف المحكمة على أصل يزجى منه المحصن بالتوازن النوعي بغاياته ومعانيه الدالة على المرسل ببديع المرتبة المستولدة للمستحب من يرغبه المطلع على نوعية المُسند بحداثته التي يفاجئ القارئ بالمشروط الخاص، وهو أن يجعل من السياق الجديد يأخذ مستوى له استقلاليته المشهودة بوحدانية جديده تحاكي اثارة الاختلاف النوعي.
نستمر نواجه هذه القصة المركبة من حيث الوعي الشعبي، والمشهور من الأحداث، والمشترك في أصل العائلة قوله:
"ولم تسمح أمي أن أراه. قالت أبعدوه عن المكان، وكنت أبكي لبكائها. بعض أقربائنا رآى جثة أبي مع أمي. كان مشوها إلى حد بعيد، كل أوصافه التي لم يتبيّنها أحد وهو في الصندوق ورائحته النتنة كل ذلك سمعت عنه بعد سنوات، ووعيت مفتخرا أن لي أبا سقط شهيدا وهو يدافع عن الوطن..
يسمّيني الناس ابن الشهيد
وأمي زوجة الشهيد.
التساؤل على ما وصله الحدث،
أمي التي رفضت الزواج لتتفرغ لي، حصلت على امتيازات مادية صرفتها علي تعليمي، وعلى تقدير الدولة والمجتمع، أما أنا فكنت أطالع صورة أبي في الصالة وهو ينظر إلي بعينين مفعمتين بالفرح.
تقف أمي أمامي تربط لي خيط الحذاء وتعدل حزام السروال القصير الذي اعتدت على ارتدائه إلى الصف الخامس الابتدائي ثمّ استغنيت عنه. ذهب عهد الطفولة أصبحت رجلا، وبدلا من أن ألقي تحية الصباح على أبي كل يوم بصوت مسموع تطرب له أمي، رحت أسلم عليه بالسرّ، وأتفاءل بعينيه الودودتين
ثمّ
بعد سنوات طويلة وضعت في الردهة وصالة الاستقبال صورة أمي جنب صورته وعليها شريط أسود!
2..
كان علي أن أرقد فغدا عند الفجر أقصد مطار المدينة لأستقبل ذلك الرجل الغريب!
بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل
هو أو لا هو
المهم أن أصل في الموعد المحدد لأستقبل ذلك الشخص الذي يقول عن نفسه إنه أبي. رأيت صورته التي بعثها لي في الرسالة. إنها تشبه صورة تشخص أمامي على الجدار في الصالة يحفّها من زاوية الإطار الخشبي اليمنى شريط أسود.
لست قلقا، أما الدهشة فقد استهوتني لأنّني أعيش في زمن اللامحال. لم أستغرب من الشارع الذي تغيّر ولا من الأضواء التي بدت تلفظ أنفاسها عند الفجر.كلّ شئ يبدو جديدا بحلّة قديمة وقديما بثوب جديد. لا أريد أن أسأل أحدا فالشارع أشبه بالخاوي، وهناك على الرصيف الآخر أناس يمشون نحو اتجاهات مختلفة.
متأكد أني لست نائما.
من المنعطف الواسع الذي تغيب نهايته عند المنارة الأثرية العالية، انعطفت نحوي سيارة أجرة.
لن يسرقني الوقت إذن.
لوحت بيدي فتوقفت، فتحت الباب فوجدتها تغص بالركاب.
أين ؟
المطار لكن يبدو لا مكان لي.
إصعد..
لا أظن لي مكانا.
بل قلت اصعد هناك أكثر من مكان.
ترددت وتمتمت:
معقول.
لا أدري كيف سمعني السائق:
نعم معقول وأراك لن تجد سيارة أخرى تقلك إلى حيث تريد.
أخيرا
دلفت...
لا أدري كيف جلست. لم أشعر بضيق على الرغم من أن الداخل كان يعجّ بالركّاب. كانوا صامتين. لا أحد يتكلّم ،والغريب أنهم شبه أثير لا يضايقونك في زحمة المكان.
هناك رهبة
دهشة
وبعض الخوف
قلت أدراي بعض هاجس القلق:
لديّ ساعة واحدة على إقلاع الطائرة.
قال السائق الذي لم يلتفت والذي تبيّنت ملامحه أول ما استوقفته ونسيتها الآن:
أتسافر من دون حقيبة.
داريت كذبتي والإحراج:
هكذا تعوّدت.
لا تقلق إذن سنصل في الوقت المناسب
كان زجاج النافذة معتما فلا أبصر مشاهد الطريق، ولفت نظري أنّ الركاب يتهامسون مع بعضهم بعضا من دون أن يلتفتوا لي، وفجأة قطع السائق همسات الراكبين القريبة من الصمت: سننزل لنتناول طعام الغداء في أقرب استراحة!
انبريت محتدّا:
ماذا؟ الطريق إلى المطار ..
قاطعني متحمسا:
عشر ساعات على الأقل أنا واثق أن هذه الاستراحة هي الأفضل
أنا بين مجموعة كثيرة لا أستطيع إحصاءها، تضمّنا سيارة صغيرة،لا معقول في المعقول، أخشى أن أعترض على شئ لا أتصوّره، ماذا لوفاتني الوقت، والسائق يشك أو شك في أني أسافر فقد صعدت معه من غير حقيبة،عليّ أن أقنع نفسي بما يقول ، وبهمس الركاب الذي لا أتبينه.
في منتصف الطريق كما يقول نزلنا، بلغة الأرقام قطعنا مسافة 250 كيلومترا. أظن المسافة بين المدينة والمطار 20 كيلومترا، الذهاب قبل ساعة واحدة يكفي لاستقبال ضيف، فكيف انقلب الوقت إلى أضعافه؟
لا شكّ أن هناك خطأ ما، فأبي، أو الرجل الآخر الذي يدّعي أنّه أبي،يمكنه الانتظار وعلى أقلّ تقدير ربما يمل فيستقل سيارة أجرة ويتوجه إلى بيتنا مباشرة. الرسالة التي بعثها إلى العنوان حيث أقيم تدلّ على أنّه يعرف البيت والشارع.
ولكي أكون على بينة من أمري اتجهت إلى قبو قديم هناك أردت أن يتزحزح شكّي قليلا. تمنيت أن تختلف الرسالة الغريبة القادمة من الخارج بنكهتها وخطّها عن وثائق وتواقيع قديمة جمعتها أمّي مع مستمسكات أبي من نياشين،وسيف، وعصي وبدلات،والبومات صور. وأشياء صغيرة لها نكهة الماضي التي راحت تتلاشى أمّا الذي يهمّني فهو بعض المذكرات والرسائل التي كتبها بخطّ يده.قد أكون خرجت من السيارة لأدخل القبو، أو دخلت استراحة تقع بيني وبين المطار لألتقط أنفاسي، لا أنكر أن الرسالة القادمة من الخارج كانت تطابق تماما خط أبي، وحين رجعت إلى السيارة ثانية لم أجد الركاب. بل لم أعن بالسؤال عنهم.
بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل
هو أو لا هو
المهم أن أصل في الموعد المحدد لأستقبل ذلك الشخص الذي يقول عن نفسه إنه أبي. رأيت صورته التي بعثها لي في الرسالة. إنها تشبه صورة تشخص أمامي على الجدار في الصالة يحفّها من زاوية الإطار الخشبي اليمنى شريط أسود.
لست قلقا، أما الدهشة فقد استهوتني لأنّني أعيش في زمن اللامحال.لم أستغرب من الشارع الذي تغيّر ولا من الأضواء التي بدت تلفظ أنفاسها عند الفجر. كلّ شئ يبدو جديدا بحلّة قديمة وقديما بثوب جديد. لا أريد أن أسأل أحدا فالشارع أشبه بالخاوي، وهناك على الرصيف الآخر أناس يمشون نحو اتجاهات مختلفة."
لو دققنا في البحث الذي نقرأه لوجدنا أثر المعقول الكلي في وصف القاص بما وضع على تعيين شيء بعينيه أدرك على ما هو معنون لأن يكون التوسع السردي من الضروريات لأن يكون نصاً يحتمل البعد المعقول لنص روائي.
أصبح هذا النص جذباً للقارئ بحكم الأسلوبية المركبة التي تعتلي القدرة على البقاء بتوازنه المحكم من رؤيته المثالية التي تعكس طبيعة الذات القصيَّة، خاصة في محاسنة الألفاظ ببعضها البعض عند المتحدث الغائب، بأثر الوارد الموحى بالخيال الموسوعي في بنية النص الأقرب إلى السرد الروائي، كما عبر عن هذا الرأي الأستاذ الأديب مصطفى عبدالله في موقع "المثقف" أن يكون نصاً روائيا لو أزيد عليه بعض البيانات في توسع الأحداث، أي ربط الحالة الوصفية بسياقات فنية متصلة بنواحي السرد التلقائي في بنيوية الصورة القصية، حتى وأن جاءت تلك الأحداث المستجدة تعبر عن التوليد المظنون على أن يكون القياس المركب في تلازم الأحداث مقبولاً، ومن أجل هذا الاعتبار وجب على الكاتب أن يولي النص مبتكرَ التدوير المتعلق بالمبعث الفني الذي كان بطله القاص ذاته، لأن المستقر في معيون سجع الحكاية يعبر عن نفسه، فالراوي حصر خطابه بينه وبين الخيال المنقح بالذكريات وحسب دون خصم أو أشخاص يمثلون العائلة، ولأجل هذا أخذ الراوي على عاتقه معالجة التمثيل الجديد للسرد المستقر بحالته الروائية، وبهذا نجد مختصر الموضوع موجه على أساس الرابط المستقر في بواطنه الحسيَّة بالمزايا المعبرة عن وحدة توليف الحكاية، التي تُساير إحكام البنية على ضوء موسوعتها الخاصة، بالمضمر النافع للسبب ذاته الذي يحرض القاص على أن يجعل الحكاية تكون موزعة على بنية الذكريات المتخيلة بذهنية توحي من معيون موسوعتها الخاصة، على اعتبار أن المفهوم السردي يمثل حالة اجتماعية منوعة ومختلفة بالصحيح والخطأ أو بالكذب أو الصدق إذا عاينا الطبائع على اختلافها في جميع المجتمعات العالمية.
وحتى نحتمي ببلاغة رأينا نقرأ ما يلي للكاتب في قوله:
3
" واستقبلت الرجل الذي يشبه أبي
كان هناك حاجز بيني وبينه.
عشر ساعات في السيارة وربما ساعة واحدة
احتمالات متناقضة لم أتعمّد تجاهلها..
لا أدري كيف ظهر لي القبو القديم بين الزمنين المتناقضين في الطول. مدّ يده لي، فمددت يدي ببرود. لم أشعر برغبة لعناقه.
هذه المرة عدنا بسيارة أخرى، والذي اثارني أني وجدت السائق نفسه.السيارة الأولى التي قدمت بها إلى المطار كانت رمادية اللون قديمة بعض القدم. لا أقول مستهلكة، والجديدة التي عدنا بها أنا والرجل الآخر
وحدنا كنا أنا والرجل الذي يدّعي أنه أبي
واندفع إلى غرفتي وعاد وهو يلهث من الفرح:لابد أن تكون احتفظت ببعض الصور. أعرف البيت جيدا..
قلت بشئ من الضيق:
أنا لحد الآن منحتك الوقت لتتكلم من دون أن أبدي رأيي أستطيع أن أسلمك للجهات الأمنية بتهمة التزوير.
ألا تقتنع بشكلي؟
الشكل لا يدل على أنك هو.
وخطّ الرسالة؟
ممكن أنّك تجيد التقليد.
لكني واثق من أني أبوك العلم تطوّر.. تطوّر جدّا. ماذا تقول عن تحليل الحامض النووي!
الرجل يدينني، ولكنّي أحاول أن أنفيه بعد أن تيقنت من موته قبل أكثر من عشرين عاما:
هل بحثت عني في النتّ؟
نعم وعرفت أن لك صفحة. هناك
لماذا لم تكتب إلي لكان الأمر أسرع.
فقهقه بمرارة وقال:
النت ..ياهو..غوغل ..فيس بوك تغامر بك.تجعلك في وقت طويل وقصير في الوقت نفسه ألم تستفد من تجربة المطار.
علي أن أقنع نفسي أنّه أبي.. صورة الرجل الذي على الحائط بشريط أسود تلاحقني فأشعر يبرود تامّ للرجل الآتي من بعيد:
مهما يكن فأنا وعيت أنّك متّ.
لذلك لم تحضنّي ؟
نعم
اجتازتنا لحظات صمت ثقيلة.. لقد اعتدت على الصورة التي ترمقني وهي على الجدار وعلى الصورة نفسها.. أبي جنب أمي ببدلة العرس.. ومعي في البيت أوالحديقة.. الذي أعرفه مات من زمن
لكن الحرب توقفت بعد أربع سنوات وعرفني الناس والدولة ابن شهيد فكل جوارحي تنطق بموتك.
فقال بتأفف: اسمع الآن الوضع تغير لافرق عند الناس أن أكون حيّا أم ميتا (وهز رأسه مؤكدا) لذلك جئتك عبر رسالة ..لجأت إلى الزمن القديم ولم أدخل لك عبر صفحتك الشخصية عندها لا تقدر أن تتقيّن منّي.
قلت من دون رغبة:
يمكن أن أقول للناس إنك قريبي لكني لا أريد أن أفعل شيئا يزعزع تصوّر الآخرين عن أبي.
تقصد عنّي؟
أبي...
كان قد مات وهو يتطلع في الجدار
تتم القصة المنفعلة "صورة على الجدار" بأحداثها بين اللزوم بأمر الحقيقة، وما نسب للمجاز الكلي في تبني يبدأ من خلال هذه الصورة على الجدار، ويتواص على ذات الطريق وبعد أن ينتهي السرد الزمني للقصة بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل
"هو أو لا هو"
فلو دققنا في السرد المطعم بالذكريات التصويرية لوجدنا أثر المعقول الكلي في وصف القاص بما وضع على تعيين شيء بعينيه أدرك على ما هو معنون لأن يكون التوسع السردي من الضروريات لأن يكون نصاً يحتمل البعد المعقول لنص روائي.
تعود الحكاية إلى الصورة التي مازالت معلقة أو راقدة على الحائط، وهذه بحد ذاتها رؤية اعتبارية تجدد بلاغتها، أن تكَوّنْ هي المستقرة بوحيّها على مبنى الخيال العلمي الذي يؤهل الكاتب أيا كان بالسرد كما تتطلب البنية القصية بأحداثها الواقعية أو عكسها، فهنا نحتمل طرق أبواب ربط الأحداث بالتصورات المبنية على أساس موسوعة المتخيل وقدرته على صناعة نص يحقق النجاح، ولا أخال أن الأديب الشمولي د. قصي الشيخ عسكر غير قادر على موسوعة هذه الحكاية وربط الأحداث وجعلها واقعية على أساس المتصور الواقعي بعينه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب