الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَثالبُ الحَياةِ في حضرةِ القَتل

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 10 / 22
القضية الفلسطينية


أمرٌ شاقٌّ أن نَكتبَ عنِ الحياةِ وسطَ كُلِّ هذا المَوتِ الذي يَحوطُنا كالهَواء. لعلَّه ليسَ شاقًّا على البعض، ولعلَّه مُستحيلٌ عندَ بعضٍ آخر. لكنِّي منَ البَعضِ الثَّالثِ الذي يَرتكبُ الحياةَ رغمَ شِقَّتِها في حضرةِ هذا الكَمِّ المَهول منَ المَوت! أرتكبُها بكُلِّ ما يَعنيه «الارتكابُ» من مَعاني الإثم. صِرتُ أتساءَلُ كثيرًا عن الحياةِ في هذه الأرض؛ هل حقًّا باتَ العَيشُ على هذه الأرضِ إثمًا؟! أجدُ صعوبةً في طَرحِ السُّؤال بهذه الصُّورة على غيري لئلَّا أُتَّهمَ بالتَّشاؤمِ، ولئلَّا أتَّهمَ نفسي بعدمِ الانحيازِ إلى الحياة مُقابلَ القَتل! حتَّى أنِّي أشعرُ أنَّ السُّؤالَ، بصيغتِه هذه، هو سؤالٌ ناقصٌّ. وأدركُ جيِّدًا أنَّ أحدَ أخطرِ ما يُبقينا في أزمتِنا هو السُّؤال النَّاقص، فتحديدُ السُّؤالِ هو أوَّلُ خَطوةٍ في الإجابةِ عنه. مِن هُنا أجدُني مُضطَّرًّا لإعادةِ ترتيب أسئلتي.

أعدتُ ترتيبَ السُّؤالِ أعلاه فلم أجدْ له أفضلَ من هذه الصِّيغة؛ هل حقًّا باتَ العيشُ على هذه الأرض إثمًا؟ لا يبدو أنَّني مُتشائمٌ ولستُ مُنحازًا إلى القَتل. لعلَّه سؤالٌ جديرٌ بأن يُطرحَ بالصِّيغةِ التي طُرحَ عليها، وإنَّهُ لأمرٌ غايةٌ في التَّعاسةِ والخطورةِ على حدٍّ سَواء أنَّه بعدَ ثلاثمئةِ ألفِ سنةٍ من تطوُّرِ الإنسان، وآلاف السِّنين من القوانين والشَّرائع والأديان، وألفين وبضعِ مئاتٍ من الفَلسفة، وزُهاء قَرنين من التَّطوُّرِ العِلمي والتَّكنولوجي، مؤسفٌ وخطيرٌ أنَّه بعدَ كُلِّ هذا، ثَمَّةَ بُقعةٌ بائسةٌ في هذه الأرضِ لم تزلْ تَسألُ وتُسأَلُ عن حقِّها في الحياة! ولم تَزلْ الكِتابةُ عن الحياةِ وما تَعنيه، بالضَّرورة، من حُبٍّ وأحلامٍ أمرًا شاقًّا على مَن لم يُدركْهُمُ القَاتلُ بَعد. ولطالَما كانتِ الأمورُ الشَّاقَّةُ هي الأكثرُ ضرورةً لنا وإلحاحًا علينا. لعلَّها الدُّنيا بقساوتِها وعُمقِها لا تتردَّدُ في أن تقولَ لنا؛ «لا يُؤسفُني أيُّها الإنسانُ أن أُصارحَكَ بحقيقةِ أنَّ الذي تحتاجُه هو أمرٌ بسيطٌ جدًّا وسَهلٌ جدًّا، لكنَّ الذي تُريدُه هو أمرٌ بسيطٌ أيضًا، لكنَّه شاقٌّ جدًّا. لا تَلُمْ دُنياكَ أيُّها الإنسان، لا تَلُمْها فهي ليست إنسانًا». يَلوحُ في أُفُقِ هذه الأرضِ سؤالٌ شاقٌّ على أنفُسِنا ومَشاعِرِنا؛ أيُّ عالمٍ هذا الذي نحتاجُ فيه إلى كُلِّ هذا الكلام لتأكيدِ حقِّنا في أن نَحيا؟ حقِّنا في ألَّا يكونَ قَتلُنا وحياتُنا سواء؟ أمرٌ مَعقولٌ أنْ نُناضلَ لكَي نحيا كما نُريد، لكن من غيرِ المَعقولِ أنْ نُناضلَ لكَي نحيا. نحيا فقط! هكذا كالحيوانات! حتَّى الحيوانات لها حقٌّ بأن تعيش على هذه الأرض، فأيُّ عالمٍ هذا الذي نُسْلَبُ فيه حقَّ الحَيوان كُنَّاهُ؟! ألم نَكُنْ حيواناتٍ قبل أن نتطوَّر؟! فلماذا يُستكثرُ علينا حقًّا عُمرُه أكثر من ثلاثمئةِ ألفِ سنة؟!

أشهدُ على نَفسي أنْ لا شيء في هذا الوجود يُقلقُني كما يَفعلُ السُّؤال! حتَّى الموتُ لا يُقلقُني بقدرِ ما تَفعلُه التَّساؤلاتُ عن مذاق الموت مثلًا، أو عمَّا هو كائنٌ بعدَ هذا الموت. وأحدُ هذه الأسئلةِ قد داهمَني أثناءَ كِتابتي للعباراتِ التي اختلقتُها على لِسان الدُّنيا أعلاه، ومؤدَّى هذا السُّؤال؛ هل نحنُ نحتاجُ الحياة أم نُريدُها؟! لستُ أدري ما الذي يُقلقُني في صيغةِ هذا السُّؤال. لعلَّه التَّخيير بين طَرفَيْن يُشكِّلانِ معًا إحدى أخطرِ الثُّنائيَّات التي تتحكَّمُ بسلوكِنا، نحنُ بني الإنسان دونَ غيرِنا منَ الخلق، ورؤيتِنا لأنفُسِنا وللعالَم ولوجودِنا فيه؛ الحاجةُ والإرادة. أو الحاجة والرَّغبة على وَجهِ الدِّقَّة. للوَهلةِ الأولى سأُجيبُ بأنِّي لا حاجةَ لي بحياةٍ لا أُريدُها، ولكنِّي سأفترضُ أنِّي أكتبُ هذه الإجابة في مكانٍ مُحدِّدٍ من هذا العالَم. مكانٌ ليسَ فيه خياراتٌ كثيرة لأنواع الحياة والموت؛ إمَّا أن تكونَ قَتيلًا أو أنَّكَ تنتظرُ ذلكَ! بعبارةٍ أشدُّ قَسوةً؛ مكانٌ ليسَ فيه إلَّا القَتل، والأحياءُ فيه أحياءٌ حتَّى إشعارٍ ليسَ ببعيد. بعبارةٍ قاتلةٍ؛ أنا أكتبُ تلكَ الإجابةَ في فلسطين. وحتَّى يَكونَ احتمالُ الموتِ قَتلًا أقربَ إلى الحقيقةِ منه إلى الاحتمال؛ أنا الآن في غزَّة. لا أعتقدُ أنَّ إجابتي ستبقى كما هي حين أدركُ أنَّ الطَّائرةَ الإسرائيليَّة على وَشَكِ أن تقصف. قد لا يبدو أنَّ العبارةَ الأخيرةَ مُبرِّرٌ كافٍ لتبرير هذا التَّبدُّل في الإجابة، لكنَّها ستكونُ كذلك لو قيلَتْ هكذا؛ «... حينَ أُدركُ أنَّ قَتلًا على وَشَكِ الارتكاب، وأنْ ثَمَّةَ ثوانٍ قليلةٌ ستمرُّ حتَّى أعرفَ إن كُنتُ قد قُتلتُ حقًّا أم أنِّي سأبقى على لائحةِ الانتظار لغارةٍ أُخرى». عندَ انتهاءِ كُلِّ غارةٍ أفهمُ مَعنى العبارةِ التي يُردِّدُها النَّاسُ خارج فلسطين؛ «نجا من ماتَ وماتَ مَن نجا»! الكُلُّ يُردِّدُها، والكثيرُ يعيشُها؛ في سوريا، العراق، اليمن ولُبنان. لكن لا أحد يعيشُها بعُمقِها وقساوتِها كما يفعلُ أهلُ غزَّة!

في غزَّة يتبدَّلُ كُلُّ شيء! لا شيء هُناك إلَّا القَتل! حتَّى الأسئلةُ هُناك تتبدَّل. كُلُّ أسئلةِ النَّاس في غزَّة يُمكنُ لمَن يتذوَّقُها أن يحسَّ بطعمِ القَتل الطَّاغي على نكهةِ الحياةِ فيها! لكنْ في حضرةِ القَتلِ على سبيل الإبادة تَموتُ كُلُّ الأسئلةِ ويَبقى سؤالٌ واحدٌ يسألُه كُلُّ حَيٍّ في غزَّة؛ «وِينْ نْرُوحْ؟!». في حضرةِ سؤالٍ كهذا تتبعثرُ الكلمات وتتشظَّى الأحرف، تمامًا كأجساد الفلسطينيين. لكنَّ عبارةً واحدةً فقط تبقى جديرةً بأن تُكتَبَ، كإشارةِ النَّصر التي ترفعُها كفُّ فِلسطينيٍّ مَقطوعةٌ. عِبارةٌ واحدةٌ لا سَبيلَ في النَّفسِ إلى غيرِها؛ «إنَّ كوكبًا يُسألُ عليه مثلُ هذا السُّؤالِ هو كوكبٌ حقيرٌ لا يَصلُحُ للحياة».

رغمَ أنَّ الإنسانَ يُدركُ أنَّه لا مفرَّ منَ الموتِ، لكنَّه لم يزل يَفِرُّ منه. لطالَما أرَّقني سؤالٌ مَفادُه؛ هل التَّاريخُ هو مَسيرةُ الإنسانِ في إقبالِه على الحياة؟ أم أنَّه مسيرةُ فرارِه منَ المَوت؟ أم أنَّه فرارٌ منَ الحياة؟! لعلَّه ليسَ فرارًا من الحياة بقدرِ ما هو تعالٍ عليها. تعالٍ من حياةٍ إلى أُخرى أسمى مِنها في العالَم نفسِه الذي وُجِدَ فيه. أيًّا كانتِ الإجابةُ التي لا أبحثُ عنها الآن، يبقى الموتُ أحدَ الأمور التي لن يتصالحَ معها البشر! ولو قُدِّرَ لأحدٍ أنْ يطَّلِعَ على الغَيب فيرى الأرضَ والسَّاعةُ قد جاءتْ والقِيامةُ قابَ قَوسَيْن أو أدنى، فلن تَهولَه أهوالُ القِيامة! لن يأبَه بكُلِّ الخَراب الذي يحلُّ بالأرض والكَون! شيءٌ وحيدٌ سيشغلُه عن كُلِّ هذا؛ إنَّه ذلكَ البَشريُّ الأخير الهاربُ منَ الموت في حضرةِ القِيامة! قد يسألُ نفسَه؛ لماذا لم يُنهِ اللهُ القضيَّةَ في لحظةٍ واحدة؟ قد يُجيبُه اللهُ، أو أحدُ الملائكة، أنَّ اللهَ لا يَحرمُ الإنسانَ من مُمارسةِ حقِّه في الهَرَبِ من المَوت. يَترُكُ له أنْ يُمارسَ غريزةَ البقاء كما يحلو له. حتَّى هذا الحقَّ سُلِبَ من أهل غَزَّة! هذا مَعنى سؤالِهم «وِينْ نْرُوْحُ؟!».

ثَمَّةَ أسئلةٌ أُخرى من تلكَ التي تبدأ بـ «لماذا» وتنتهي بعلامتَيْ استفهامٍ وتعجُّبٍ، لكنِّي سأحبسُها في رأسي الآن لأنِّي أخشاها بحقٍّ، لا لشيءٍ إلَّا لأنَّها أسئلةٌ تَبعثُ على البُكاء! طبعًا لستُ أخشى البُكاء، لكنَّ الكلامَ أعلاه قد استهلَكَ كميَّة الدَّمعِ المُمكنِ، بيولوجيًّا، للإنسانِ أن يبكيَها. ولا طاقةَ عِندي لتحمُّلِ الشُّعور بالعجز عن البُكاء من أجلِ القَتلِ الذي يُرتكبُ في غزَّة. لا أُطيقُ الشُّعورَ بعَجزَيْن؛ عجزُ النُّصرَةِ وعجزُ البُكاء! لذلكَ سأكفُّ عن طرحِ الأسئلةِ ريثَما تمتلئُ عيناي بالدَّمع من جديد، وسأكتبُ دونَ أسئلة.

يعتقدُ البعضُ أنْ لا يُمكنُ للإنسان أن يَكتبَ بعُمقٍ عن شيءٍ يُريدُه في غِيابِه، وبعضٌ آخرٌ يَرى أنَّ الكِتابةَ عن هذا الشَّيء لا تكونُ عميقةً إلَّا في غِيابِه. أنا من البَعضِ الثَّالثِ الذي يرى كِلا الاعتقادَيْن على حقٍّ؛ في حضرةِ ما نُريد إنَّما نكتبُ عن فَرحِنا به، وفي غِيابِه نكتبُ عن حاجتِنا له. هذا يَسري، باعتقادي، على كُلِّ شيءٍ نعرفُه إلَّا الله، فالتَّعاطي معَ الله هو تعاطٍ خاصٌّ به.

عودًا على غزَّةَ، والبُقعةِ العربيَّةِ البائسةِ من هذا الكَوكبِ المسكين، نحنُ إذ نكتبُ عنِ الحياةِ إنَّما نكتبُ عن حاجتِنا لها، وتحديدًا عن تلكَ التي نُريدُها وليسَ التي تُرادُ لنا. ولذلك، لستُ أرى مُبرِّرًا لبقائي على هذه الأرضِ سوى المُقاوَمة التي بدونِها لا تُصبحُ الحياةُ في هذا العالمِ إثمًا وحسب، بل خطيئةً لا تقلُّ عن خطيئةِ إبليس؛ مُقاوَمةُ ما يُرادُ لنا لأجلِ ما نُريدُ لأنفُسِنا. وإلّا فما مَعنى الحياة وسطَ هذا القَتل؟!

السُّؤال! الأسئلة! نسيتُ أن أكتبَ أعلاه أنَّ هذه الأسئلةَ تطرحُ ذاتَها في نفسي دونَ إذنٍ منِّي. وأيُّ سؤالٍ سقطَ الآن؟! إنَّه السُّؤالُ عنِ المعنى! ما مَعنى حياتِنا؟ قد يبدو للوهلةِ الأولى أنَّه ليسَ منَ الأسئلةِ التي تبدأ بـ «لماذا» وتنتَهي بعلامَتَيْ استفهامٍ وتعجُّب. كلَّا! هذا السُّؤالُ مُتعلِّقٌ بأصعبِ «لماذا»، وأكثرِها دمويَّةً على الإطلاق، قد يطرحُها الإنسان؛ لماذا نُقتل؟ لماذا نُحرَمُ حقَّنا في أنْ نموتَ؟ لماذا الحياةُ على هذه الأرضِ أمرٌ شاقٌّ في وَسَطِ هذا القَتلِ الذي يَحوطُنا كالهواء؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -