الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواجهة أكتوبر وإعادة هيكلة الوعي والمواقف .. القضية الفلسطينية: بين المعركة الأخلاقية والصراع المسلح

همام طه

2023 / 10 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


في كل صراع سياسي أو حربي هناك معركة أخلاقية تدور على هامش الصراع المادي ولكنها تشكّل جوهر الصراع والانتصار فيها هو المدخل لحسم الصراع. في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل فإن معركة المظلوم والظالم هي جوهر الصراع الأخلاقي بين الطرفين. ثمة أرض اغتُصبت من المظلوم عام 1948 وعملية الاغتصاب ما زالت مستمرة لحد هذا اليوم وفي كل لحظة يستمر فيها الاحتلال فإن جريمة الاغتصاب تتكرر وتتجدد وتضاف إليها جرائم الاستيطان والتهجير والفصل العنصري والخنق الاقتصادي. الجرائم مستمرة وآثارها وتداعياتها مستمرة. ومع اغتصاب الأرض تم وضع الإنسان الفلسطيني في مرتبة أدنى سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وفق قوانين الفصل العنصري وسياسات الأمر الواقع. يتجلى البُعد الأخلاقي في الموقف الفلسطيني في الصراع الراهن في عبارة لمواطنة أمريكية مقيمة في غزة إذ قالت: "الفلسطينيون في الجانب الصحيح من التاريخ".
حظيت إسرائيل وما زالت بدعم الحكومات الغربية والرأي العام الغربي. ولكن مع طول أمد الصراع والتحوّلات التكنولوجية والثقافية التي يشهدها العالم أصبحت الشعوب الغربية اليوم أكثر اطلاعاً على واقع القضية وأكثر إدراكاً للبُعد الأخلاقي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأكثر فهماً للمظلومية الفلسطينية وأخلاقية الموقف الفلسطيني وباتت السردية الإسرائيلية عن "الإرهابيين" الفلسطينيين الذي يهددون إسرائيل "الدولة المتحضرة" عاجزة عن الاستمرار في تسفيه القضية والحطّ من شأن الفلسطينيين ونزع الصفة الإنسانية عنهم لتأطير الصراع وتوجيه الرأي العام الغربي لصالح السياسات الإسرائيلية.
إن البُعد الأخلاقي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعطي المواجهة الحالية التي انطلقت في 7 أكتوبر وأطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم "طوفان الأقصى" وأسمتها إسرائيل "السيوف الحديدية" طعماً عاطفياً مماثلاً لطعم ثورات الربيع العربي في وعي الشعوب العربية، فنحن اليوم كشعوب نشعر بالأمل الذي شعرنا به يوم تفجرت ثورة تونس وثورة يناير 2011 في مصر. فلسطين اليوم تتولى قيادة الوعي العربي والهجوم الذي شنّته حماس على دولة الاحتلال الاسرائيلي في مخيال المجتمعات العربية هو انعكاس لروح الثورة على الظلم الكامنة في داخل الإنسان العربي ضد أوضاع الدول العربية التي يهيمن عليها مشهد انعدام العدالة وغياب المساواة والفقر والبطالة والفساد والاستبداد والعنف البنيوي الكامن في صلب الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التقليدية المتآكلة السائدة.
ومع ذلك، لا تهدف هذه المقالة إلى التشجيع على العنف أو التسويق السياسي أو الأيديولوجي للمقاومة بأسلوب خطابي أو إضفاء شرعية أخلاقية على أعمال العنف التي تصدر من الجانب الفلسطيني (على الرغم من منطقية ومشروعية المقاومة باستخدام العنف في القانون الدولي)؛ ولكنها تهدف إلى تقديم محاولة معرفية لفهم هذا العنف في جذوره وسياقاته وتحديد المسؤول الأول عن تهيئة المناخات الدافعة باتجاه هذا العنف.
تجادل هذه المقالة بأن الواقع السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي – الثقافي - النفسي، الذي يعيشه الفلسطينيون هو من إنتاج دولة الاحتلال وما ينتج عن هذا الواقع من عنف تتحمل مسؤوليته دولة الاحتلال.
نعم تمارس المقاومة العنف، ولكنه عنف مفهوم منطقياً وأخلاقياً كعنف يُمارَس دفاعاً عن النفس وفي سياق العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في الأراضي الفلسطينية، وهو رد فعل على عنف الاحتلال الإسرائيلي الذي خلق بسياساته مناخاً مشجعاً على العنف والاتجاهات الأيديولوجية والسلوكية الداعمة للعنف بوصفه مقاومة وعملاً مشروعاً ضد الاحتلال، فنشأ تيار المقاومة بالحجارة أو بالسلاح والجهاد (بالمفهوم الديني) وترسّخ في الوعي الفلسطيني، فليس منطقياً أو واقعياً أن نطالب المظلوم الخاضع لظروف وشروط صنعها الظالم بأن يختار الطرق السلمية في المطالبة بحقوقه؛ لأن البيئة المادية - النفسية لا تشجّع على السلمية بل تغذي الاحتقان والعنف. ثمة واقع مادي اقتصادي واجتماعي قاهر وضاغط صنعته إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها، وهذا الواقع هو الذي يحرّض على المقاومة واستخدام العنف ضد الجانب الإسرائيلي. المقاومة حتمية نظراً للبيئة المادية – النفسية التي صنعها الاحتلال. صحيح أن حماس حركة إسلامية ولكنهم قبل ذلك فلسطينيون وينتمون لطبقات اجتماعية مقهورة تعاني من الضغوط الإسرائيلية منذ عقود. كما أن العلاقة بين المجتمع الفلسطيني كشعب محتل وحماس كحركة مقاومة منبثقة عن هذا الشعب هي أكثر تعقيداً من الادعاءات السطحية بأن حماس تحتجز المدنيين الفلسطينيين في غزة كرهائن أو تستخدمهم كدروع بشرية. المقاومة في المجتمع الفلسطيني عقيدة راسخة والفلسطينيون يفصلون تماماً في وعيهم بين حماس بوصفها حركة مقاومة تحظى بدعمهم وحماس بوصفها حزب سياسي يحكم غزة ويمكن أن ينتقدوا سياساتها في مجال الخدمات أو ممارسة السلطة.
لا يقتصر العنف الذي تمارسه إسرائيل على عمليات القصف على الأحياء السكنية في غزة والذي يذهب ضحاياه أُسر بأكملها ونساء وأطفال فهذا عنف مادي واضح مرئي ولكن ثمة عنف غير مرئي ولكنه يؤدي إلى نتائج مميتة مرئية كالعنف المادي بالضبط وهو العنف البنيوي الكامن في البنية الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها الوضع الشاذ الذي خلقه الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون في داخل وطنهم وفي الشتات على مدى عقود من الزمن كافية لخلق كمّ من مشاعر المرارة والألم والقهر التي تجعل هذا المجتمع منحازاً لفكرة المقاومة ضد الجانب الإسرائيلي الذي يتم تحميله المسؤولية الكاملة، وهو يتحملها فعلياً، عن الظلم الواقع على الفلسطينيين.
وإذا كانت حماس "جماعة إرهابية" كما تصفها إسرائيل فإن "إرهابها" المفترَض هو نِتاج لظروف وواقع صنعته الدولة الإسرائيلية بسياسات التوسّع والتغوّل والاستيطان والفصل العنصري والحصار الاقتصادي والتي تشكّل بمجموعها ما يمكن وصفه بالعنف البنيوي أو الهيكلي الكامن في صميم البنية الاقتصادية – الاجتماعية التي خلقها الاحتلال. إن "الإرهاب" بصفة عامة هو ظاهرة أنتجتها سياسات الدول والنُظم السياسية، فما من تنظيم في هذا العالم يستخدم العنف المشروع "المقاومة" أو العنف غير المشروع "الإرهاب" إلا وكان وجوده مرتبطاً إما بفشل الدولة أو سياسات الدولة التمييزية والفاقدة للعدالة تجاه فئات من المواطنين أو مجاميع سكانية معينة وهذا ينطبق على الوضع في الأراضي الفلسطينية. وبالتالي حين يندلع العنف لا يمكن أن نوجه أصابع الاتهام إلى التنظيمات التي تمارس العنف ونغفل دور الدولة أو النظام الذي غذى نزعة العنف بسياساته. توجد اليوم في تلك المنطقة الجغرافية التي يدور فيها الصراع العسكري بين الفلسطينيين والإسرائيليين دولة واحدة تسمى "إسرائيل" وهي التي ينبغي تحميلها المسؤولة عن العنف والعنف المقابل، فليس ثمة دولة فلسطينية لنحملها جزءاً من المسؤولية. وبدلاً من توجيه الإدانة لهجمات حماس فإن الإدانة يجب توجيهها لدولة الاحتلال التي تتحمّل المسؤولية عن ظهور حماس وحركات المقاومة الأخرى من خلال الاحتلال الذي تمثله وتمارسه هذه الدولة وحوّلته إلى بنية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ورمزية ضاغطة على الإنسان الفلسطيني. مسؤولية العنف تقع على عاتق الدول والأنظمة لا التنظيمات فوجود التنظيمات المسلحة واستخدامها للعنف هو أساساً انعكاس لفشل تلك الدول والأنظمة في تحقيق الاستقرار أو لسياساتها غير العادلة تجاه مجموعات سكانية.
إن ما تمارسه المقاومة الفلسطينية هو عنف مادي واضح ويمكن تشخيصه ولكن ما تمارسه إسرائيل منذ سنوات طويلة (بالإضافة إلى عنفها العسكري الهائل الذي لا يقارن بعنف حماس) هو عنف بنيوي أو هيكلي ضمني ومستتر لكن آثاره واضحة وتتجلى في حالة القهر والقمع الاقتصادي والاجتماعي التي يعيشها الفلسطينيون والفلسطينيات في داخل وطنهم وفي مخيمات الشتات. ووفق دراسات العنف البنيوي فإن العنف المادي المباشر هو نِتاج مباشر للعنف البنيوي الضمني وغير المباشر (1).
والعنف البنيوي بحسب عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ هو الإيذاء أو الضرر الذي يتعرض له الأفراد أو الفئات بشكل خفي في الغالب من النظم والبنى أو الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة عبر غياب العدالة الاجتماعية أو التفاوت في إتاحة الرعاية والخدمات والفرص، أو التمييز على أساس العِرق أو الجنس أو غيرها من أشكال التحيز واللامساواة الممنهجة. ويؤدي العنف البنيوي إلى آثار قاتلة مثل العنف المادي المباشر بالضبط فقد يتوفى ضحايا العنف البنيوي قبل الأوان، ويعانون من مشاكل بدنية ونفسية. لكن رغم وضوح آثار العنف البنيوي إلا أنه من الصعب تحميل أحد المسؤولية عنه (2).
ويمكن أن نفهم العلاقة بين العنف المادي المباشر والعنف غير المباشر (البنيوي) في الحالة الفلسطينية من خلال المتوالية التالية: يمارس الاحتلال الإسرائيلي العنف البنيوي (غير المباشر) المتمثل في واقع الظلم الناتج عن الاحتلال والاستيطان والتطهير العِرقي والفصل العنصري على الفلسطينيين، فيرد الفلسطينيون بالعنف المباشر المتمثل في أعمال المقاومة المسلحة، فيرد الاحتلال الإسرائيلي باستخدام العنف المباشر المتمثل في الأعمال العسكرية كالقصف والاجتياح لفرض هيمنة الأمر الواقع أي فرض البنية التقليدية القائمة على الظلم والتمييز ضد الفلسطينيين وتكريس العنف البنيوي الواقع عليهم (3).
ويرى غالتونغ أن العنف الشخصي ]أو المباشر[ جلي للعيان ]ويشمل العنف الشخصي المباشر في الحالة الفلسطينية أعمال المقاومة التي تمارسها حماس وأعمال القصف التي تمارسها إسرائيل[، أما العنف البنيوي فهو صامت ومستتر، إنه ساكن أو بعبارة أخرى، هو المياه الراكدة ]ويشمل العنف البنيوي في الحالة الفلسطينية واقع الظلم الناتج عن الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والتطهير العِرقي وتغيير الهوية الثقافية للمدن والضغط الاقتصادي[. ويقول العالم النرويجي إن المجتمعات تتعرّف على العنف الشخصي وتسجّله، ولكنها قد تألف العنف البنيوي حتى يغدو كالهواء الذي تتنفسه(4)] وهذا ما يريده النظام السياسي في إسرائيل وهو ما يسعى إليه من خلال التطبيع مع الدول العربية؛ أن تصبح الأوضاع الظالمة والشاذة في فلسطين طبيعية ومألوفة كالهواء الذي يتنفسه الناس![.
المصادر:
(1) Integrated Forensic Assessments: A Psychosocial Approach with the Human Rights Perspective. Brent E. Turvey, ... Karla Valeria Baltazar, in Criminal Profiling (Fifth Edition), 2023.
(2) تعرف على "العنف البطيء" الذي يؤثر على الملايين/ ريتشارد فيشر/ بي بي سي عربي/ نُشر بتاريخ 2 فبراير/ شباط 2021.
(3) المصدر رقم (1) نفسه.
(4) المصدر رقم (2) نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات


.. مظاهرة واعتصام بجامعة مانشستر للمطالبة بوقف الحرب على غزة وو




.. ما أهمية الصور التي حصلت عليها الجزيرة لمسيرة إسرائيلية أسقط


.. فيضانات وانهيارات أرضية في البرازيل تودي بحياة 36 شخصا




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تمتد إلى جامعة لوزان بسويسرا