الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في حياتنا رجل .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 10 / 24
الادب والفن


حينما رحل أبي عن عالمنا ، وتركنا أنا وأمي وحيدتين .. كنت فتاةً صغيرة في أولى متوسط .. لم تجد أمي مناصا من أن تنكب على ادارة شركة أبي الضخمة ، وترتيب أمورنا الحياتية ، ورغم تفانيها واجتهادها إلا أن المهمة قد تجاوزت قواها . لم يستمر الأمر طويلاً حتى اقتحم حياتنا ( غسان ) .. شاب طموح كان يعمل أجيراً لدى والدي .. دخل هذا الغسان بيتنا من باب شبابه ووسامته وفحولته ، وبعد مرور عام ونيف تزوج أمي .. !
استطاع غسان بشبابه الآسر ، ورجولته أن يجد الطريق الأسهل الذي يتسلل به الى ضعف أمي .. يقولون : لكي تتحكم بإمرأة عليك أن تسيطر على جسدها .. إنه المفتاح السحري الى كل مفاصلها ، وهذا ما حصل مع أمي التي وسعت من صلاحيات غسان في الشركة ، ومنحته أكثر مما كان يحلم به ..
لم تخفى علي نظرات أمي الغريبة التي كانت تخصني بها ، وهي ترى جسدي يستعد لسنوات التفتح والنضج بسرعة مدهشة ، وتراني أقترب رويداً من الأنوثة الكاملة :
— والله وكبرتِ يا مريم .. ما شاء الله ، وأصبحتِ صبية حلوة .
وانسابت بعد ذلك سنين حياتنا هادئة وادعة ..
وحينما كنت اخطو فوق سنواتي السادسة عشرة ، بدأت أنتبه الى ملاحقة غسان لي بنظراته المتلهفة حيثما أذهب ، وتبنيه لأفكاري وآرائي مهما كانت صبيانية ساذجة على حساب أفكار أمي وآرائها الراجحة في كثير من الأحيان .. يبالغ في تدليلي ، ويغرقني بالهدايا بمناسبة وبدونها ، ولا يطالبني بشيء سوى قبلة على خده ، أو قبلة يطبعها هو على وجنتي .. أحس بعدها برعدة تسري في كل أوصالي .. ! الغريب .. أن ما كان يقوم به غسان بدأ يروق لي ، ويداعب خيالي ، ويرضي فورة الأنوثة التي تمور في داخلي ، ويشعرني بالزهو كوني فتاة جميلة مرغوبة .. !
هل تعتقدون بأن ما يدور بيني وبين غسان كان خافيا على أمي ؟ أبداً .. يعتقد البعض بأن المرأة الجميلة غبية .. إن كان هذا الكلام ينطبق على بعض الجميلات إلا أنه لا ينطبق بالتأكيد على أمي . لقد كانت جميلة لكنها ذكية لماحة لا يفوتها شيء ، إلا بمزاجها وبما يتماشى مع خططها .. !
لقد نشبت بيننا حرباً خفية محورها غسان .. تصوروا البنت وأمها تتنافسان على من يفوز بقلب رجل واحد ، وكنت في الغالب أنا المنتصرة بنضارة شبابي ، وليس بشيء آخر .
لاحظت بأن العلاقة بين أمي وغسان بدأت تسوء وتتدهور ، وبدأت المسافة بينهما تتسع حتى لم يعد يربطهما شيء إلا عقد الزواج .. أخذ يسهر كثيراً خارج البيت .. لا يأتي إلا قرب الفجر مخموراً ، وأصيب بيتنا بحالة اكتئاب مفاجئة حولته الى ما يشبه المقبرة الصامتة .. كنا نجتمع على الغداء .. نأكل في صمت كما لو كنا في مأتم .. !
وفي يوم فاجأني غسان مبتسماً :
— مريم .. تفضلي هديتك ..
وبحركة رشيقة اختطفتها من يده ، وبلهفة مزقت الغلاف ، ثم أخذت أتقافز بقوامي السامق الجميل ، وشعري المتهدل ، وعيناي الضاحكتين ، ثم هتفت في فرح :
— آي فون 15 .. واو .. شكراً .. شكراً مرة أخرى من القلب .. من أين حصلت عليه ؟
ردَّ .. مسمراً عينيه فيَّ لا يحولهما كأنه لا يرى في تلك اللحظة أحداً غيري :
— صديق أهداه لي .. لم أجد من هو أغلى منك لاهديه اليه ..
أجبت بدهاء :
— لكن الهدية لا تُهدى ..
— لابد من إستثناءات ..
وثبتُ بخفة الى عنقه ، وأنا أكركر مسرورة ، وقبلته من وجنته .
وفي غمرة فرحتي التفتت الى أمي .. رأيتها وقد استحال وجهها غائماً شاحباً محتقناً ، وعيناها المذعورتين الرطبتين تتنقلان بقلق بيني وبينه .. كأني أرى أمامي وجهاً آخر منكسر لا أعرفه .. وجهاً لامرأة مفزوعة ، ثم تهاوت جالسةً على المقعد . كانت تحبه .. شديدة الغيرة عليه حتى مني أنا ابنتها .. تترصد كل شاردة أو واردة تصدر عنه .. تداخلت أفراحي مع أحزاني ، وفي تلك اللحظة .. اجتاحني شعور صادق بالرثاء لها .. !
وذات ليلة .. بينما نحن نيام حدث شيء لم يكن في حساب أحد :
اقتحم غسان غرفتي مندفعا وهو يتمايل ، واندس فوراً بجانبي في الفراش .. أحسست بتردد أنفاسٍ ثقيلة مخمورة تلفح وجهي تكاد أن تخنقني . أفقت من نومي مفزوعة .. نظرت اليه في دهشة وسخط ، وأنا أرى أصابعه تعبث بأزرار ثوبي .. أصابتني رعدة كادت أن تجمّد الدم في عروقي .. إنتفض جسدي بقوة كأن مدداً من حياة ضُخت في شرايينه .. أوشكت أن أُطلق صرخة استغاثة عندما كتمت يده الأخرى على أنفاسي ، ثم همس : ششش .. بقيت أبحلق في وجهه في جزع كأني غير فاهمة لما يدور حولي ، ثم ملأ صوته الصمت ، وهو يردد في حرارة كلمات كأنه يقرأها من كتاب مفتوح :
— مريم ، حبيبتي .. لا تخافي .. لن أمسك بسوء .. أحبك أحبك .. أريدك .. أنا أتعذب .. لا استطيع أن أواصل حياتي بدونك .. أرجوك افهميني ..
أبعدت يده من بين أزرار ثوبي ، وأعدت تزرير المفتوح منها .. اعتدلت في جلستي ، وساويت من نفسي ، ثم همست بصوت مستنكر :
— أرجوك غسان .. لا يصح ما تفعله .. لو عرفت أمي ستقلب الدنيا على رأسينا .. من فضلك تماسك واعقل .. حرام هذا الذي تفعله بأمي وبي وبنفسك .. حرام حرام ..
لفّت وجهه الشاحب المتعب مسحة حزن :
— صدقيني .. انني حزين عليها .. لا أستطيع أن أحس بها في قلبي .. إن قلبي فارغ من ناحيتها .. أنه ملكك أنتِ .. لقد ملأتِ علي قلبي وكل كياني .. أنتي من أريد .. انك امرأة عمري كله ، ولن أتنازل عنك حتى لو كلفني ذلك حياتي .. أحبك ليس بيدي .. لقد نفذ صبري .. ماذا أفعل .. ؟
ثم انقض فجأةً على شفتيّ .. أبعدته بكل ما أوتيت من قوة .
قلت وأنا مبهورة الأنفاس ، وجسدي يرتجف من الرغبة والخوف والتوجس :
— أرجوك غسان توقف .. كفى .. لا تعذبني .. أنا ..
لم أكمل جملتي حتى رأيت أمي تقتحم علينا الغرفة ، والشرر يتطاير من عينيها .. رأته رابضاً فوقي ، وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة .. سحبته من شعره وسحلته فوق بلاط الغرفة ، ثم حدقت فيه باشمئزاز ، وبصقت عليه .. أما أنا ، فأنهرت تماماً .. انفجرت بنوبة حارة من البكاء دون أن أعرف لماذا أبكي .. أعليه .. ؟ أم على نفسي .. ؟ أم على ما آلت اليه أمورنا .. ؟ لا أدري .. ثم تناولت الروب ، وأنا أجفف دموعي ، ولففت به جسدي ..
اكتسحتْ وجه أمي غَمامة سوداء من غضب عارم ، وصرخت في وجهه بدفقات متشنجة من سباب وشتائم :
— سافل منحط أتيت بك من الرصيف ، وعملت منك بني آدم ، يا كلب ..
انتصب بسرعة واقفاً ، وبصق على الأرض .. هز يده في حركة ساخطة ، ثم أدار عينيه الثملتين نحوها ، وانطلق هادراً :
— — أنا أولى بالفضل .. ( وهو يشير بسبابته الى صدره .. ) أعطيتك أغلى ما أملك وما تفتقدين .. شبابي .. أيتها العجوز المترهلة ..
ردت وكل شيء فيها يرتعش حتى منخراها :
— ستندم على كل كلمة قلتها ، يا حقير ..
قهقه وقال بصوت مخمور ولسان متعثر :
— أندم .. ! على ماذا ؟! على عقب سيجارة انتهيت من تدخينها .. ؟
ثم استدار وخرج يدمدم حانقاً ..
شعرت كأن روحي انسلت من جسدي ، وخرجت معه .. لم أصدق ما حدث .. كأنه كان حلم في منام .. !
لم تأخذني في أحضانها .. لم تهدئ من روعي .. لم تقبلني .. حتى لم تطبطب على ظهري ، وانما اكتفت ، وهي في وقفتها أن قالت بكلمات متعثرة مرتبكة :
— هيا قومي .. غيري ثيابك ، وانسي ما حدث ، وحاولي أن تنامي ..
ثم خرجت مسرعة ..
لم أتمكن من إكمال نومي .. مضت لحظات الليل بطيئة ثقيلة ، وأنا أتلوى في فراشي البارد كالموجوعة ، وأردد في أعماقي كلمات غسان آلاف المرات ، وأدعو الله أن يساعدني .. كلمات حفرت لها مكانا خاصاً في قلبي ، وفي لب ذاكرتي الى الأبد .. لم ينجيني من جحيم نفسي هذا سوى التعب الذي أسلمني بهدوء الى نوم قلق مضطرب .. !
هكذا .. انتهى يوم من أسوء أيامنا ملأته أحداث مفجعة لا تُنسى .
لم تنسى أمي أن تعاتبني في صباح اليوم التالي متسائلة لِمَ لم أستغيث .. كأن شكوكها دفعتها الى الاعتقاد بأني كنت على موعد معه .. أقسمت لها بأغلظ الايمان بأني تفاجأت به مثلها تماماً .. لم أهتم إن كانت صدقتني أم لا .. ! تركتها لظنونها وغادرت .
وقعت كلمات غسان وقع الصفعة الثقيلة عليها .. لم تكن بالشيء الذي يمكن نسيانه بسهولة كأنها ذكرتها بثقل الحقيقة الصادمة .. حقيقة انسانة مهزومة أمام الزمن الذي بات يستل من عمرها كل يوم شيئاً .
كان التأثر واضحاً عليها .. انعكس على تصرفاتها .. تضحك أحيانا وتبكي بصوت مفجوع أحياناً أخرى .. أصبحت خسارتها لغسان ، وأفول أيامها شغلها الشاغل . أخذت تقف ساعات مزروعة أمام المرآة تحدق في وجهها الذي أخذت الشيخوخة تهاجمه بلا هوادة رغم الاهتمام المفرط وعمليات التجميل التي تنفق عليها الملايين .
كان من الطبيعي أن يقف منها غسان هذا الموقف .. شاب في بداية العشرينات وجد نفسه مرتبط بامرأة بعمر أمه .. لم يلحق أن يتمتع بها حتى بدأ وجهها يذبل ويشيخ ، وأسمنها الرفاه والكسل وقلة الحركة .. لم تكن بالنسبة له أكثر من فاكهة ذابلة في غير موسمها على وشك التعفن !
لم تهدأ روح العداء بيننا حتى بعد أن غادر غسان البيت ، ربما كانت تحملني مسؤولية طلاقها منه . لم تستطع أن تهرب من ذكرى سنواتها الجميلة التي عاشتها معه ، وهي تستعيد شبابها الآفل في الفراش ، فاعتبرت غيابه عنها خسارة وهزيمة لامرأة لا تطيق الهزائم .. !
لقد ورثت عن أمي أسوء لعنتين .. جمالها ونرجسيتها ، ربما يتصور البعض بأني لا أحب أمي .. ابداً .. أحبها كما لم أحب انساناً في حياتي ، لكني ولأسباب أجهلها لا أسمح لأحد أن يقف بيني وبين ما أريد !
انقطعت علاقة غسان بأمي وافترقا نهائياً ، لكنها لم تنقطع بي . أنه الخفقة الأولى لقلبي ، وأول انتصار لي في الحياة .. لا نزال نتواصل .. منطلقين في رحاب الحب الواسعة ، وقد عزمنا على أمر ، وننتظر اللحظة المناسبة لتنفيذه .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط