الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروفيسور في ضيافة الشيخ قليعة كاملة

علي دريوسي

2023 / 10 / 24
الادب والفن


تفحّص بريده الإلكتروني ليجد في أحد "الإيميلات" التي وصلته رسالة مفادها أن زميلاً له في الجامعة سيحتفل بعيد ميلاده السبعين وما زال على رأس عمله "اختصاص تحكم وقياسات"، وعلم من الرسالة بأن الزملاء يجمعون له مبلغاً من المال لشراء الهدية التي يرغب بها الرجل السبعيني أولريش: "المبيت لليلتين في برميل نبيذ".
كانت أمنية البروفيسور هذه مفاجأة حقيقية له، توقع للوهلة الأولى بأن الأمر رمزي وقد يعني بأنه يرغب باحتساء النبيذ على مدار يومين، ثم اكتشف ـ بعد أن بحث في الإنترنيت ـ بأن رغبته لا تكمن في شرب النبيذ بكمية كبيرة بل النوم فعلاً في غرفة مصمّمة على هيئة برميل نبيذ، وتكلفة الليلة الواحدة تصل إلى مئتي يورو بحسب الموقع والخدمة.
تمتم وهو جالس خلف طاولة مكتبه: "ولله في خلقه شؤون!".
شبك يديه خلف رأسه وحدّق في السقف وفكّرلو كان مكان "أولريش" ما الذي قد يختاره هدية!
لم يتطلب الأمر منه طويلاً حتى وجد مبتغاه. همس لنفسه وهو يبتسم: "المبيت لليلتين تحت قبة الشقلقليعة".

"الشقلقليعة" هي الكلمة المحكية باللهجة العامية وبها يود القائل وصف ضريح الوليّ الصّالح الشيخ "حسن قليعة الحكيم" في قرية "كفرية" التابعة لمدينة اللاذقية. تقول الحكاية بأن الشيخ قليعة اغتيل مظلوماً قبل مئات السنين وبأن القاتل أصابته الحمّى وجاءه الشيخ في المنام منذراً واعداً إياه بالمسامحة إذا ما أخبر العامة بفعلته وبنى قبّة في قمة ذاك الجبل المنعزل عن البشر، المكان الذي رمى فيه جثمان الشيخ بعد أن قتله، ورفعها بنفس مستوى عمق اللحد وتزيين الضريح بالأغطية الملونة المحبّبة إلى قلب النبي محمد، وعليه أيضاً أن يبني بجوارها حجرة لتصير مجلساً آمناً للفقراء الزائرين طالبي الخير والشفاء والرزق والباحثين عن الحماية والأمان والمعرفة والخلاص. إذا لم يأت الأولياء الصالحون إلى جبال الفقراء وقراهم، يأتي الفقراء برفقة جبالهم وقراهم إلى قمم ومقامات الأولياء ليغدون أكثر قرباً من الله. الأولياء هم حرّاس أبواب السماء، هم سعاة بريد الفقراء إلى الله. "من لم يقدر أن يزورنا فليزر صالحي موالينا، يكتب له ثواب زيارتنا"، نقلاً عن أبي الحسن (عليه ‌السلام).

في هذا المكان الصغير كان له ـ في مرحلة الطفولة ـ ذكريات وصور ومشاهد كثيرة يعجز قلمه عن استحضارها كما يريد.
كانت حياته في الماضي مثل عطلة سعيدة ملبّدة بالفقر الدائم، لم يبق له منها إلا مثل هذه الذكريات التي يداوي بها الأحلام السيئة التي عاشها في المستقبل.

كان الفقر دائماً حاضراً في حياة الكثير من السوريين (الشرفاء)، أولئك الذين لم تمنحهم الحكومة الفرصة للسرقة أو لعل الفرصة قد سُنحت لهم دون أن يجرأوا على استثمارها خوفاً من عقوبة أو فضيحة. ما مرّ عقد من الزمن إلا وكان الفقر مخيّماً في قرى وجبال البلد، الفقر هناك متجذِّر ومتأصِّل فيها منذ عشرات السنين ولو لم يكن الأمر كذلك لما تشكّلت الأحزاب وبُنيت الجوامع والسجون على حساب المدارس ولما تأسّست فروع التلصلص والتجسس والمخابرات بهذه الكثافة ولما خُنقت الحريات العامة وتبهدلت حياة الناس. وإذا ما مرّ عقد من الزمن وانخفض فيه منسوب الفقر كنتيجة لحدوث تطورات وقفزات وأنماط اقتصادية عالمية جديدة والتي تنعكس بشكل مؤقت إيجاباً على الشعوب الفقيرة وتلاه عقد آخر من الزمن تميّز بهبوط وعودة مستوى المعيشة إلى الحضيض فهذا لا يعني أن الفقر لم يكن متواجداً. من هو الذي استطاع في الماضي أن يقتني دراجة هوائية أو أن يشتري بوط رياضة من ماركة معروفة، من هو الذي استطاع أن يتحمل أعباء شراء آلة موسيقية أو أن ينتسب إلى نادي فني موسيقي أو من كان لديه القدرة على شراء حقيبة مدرسية جميلة أو حتى علبة سردين ليأكلها بمفرده! والتساؤلات ذاتها تنطبق على الحاضر رغم أن معايير الفقر اليوم تغيرت عن معاييره في الماضي بسبب التطور التقني والعلمي عالمياً ومع هذا يبقى الفقر فقراً ملوناً بالأسود يجب محاربته.

وكان في قريته العديد من الصيّادين الحاذقين .. وذات يوم خريفي وبينما كان أحدهم يحمل بندقيته واقفاً على رصيف الشارع عند شجرات السروّ الموزعة في طريق القرية محاولاً إصابة أهداف يرميها له أحد الجيران باتجاه الغيوم، مرّ سرب بط بحري عالياً فوق بيوت القرية. حينها توقف الصيّاد عن اللعب وراح يطلق نيران بندفيته على الوفد الزائر للقرية، هطلت السماء بطّاً بحرياً أخذ يلملمها كلبه الوفي. حين تمكّن بعض البط من النجاة هدأت ضجة النيران وتجمع الأطفال حول غنائم لحم الطيور. من أحد البيوت القريبة صدح المُغنِّي الإمام "هتقولي الفقرا ومشاكلهم دي مسائل عايزا التفانين أنا رأيي نحلها رباني ونموّت كل الجعانين". أيادي الأولاد تمتد إلى الطيور المُدمّاة بخجل واشتهاء، في الوقت نفسه تمتد يد الصيّاد إلى غلة محصوله مناولاً إياهم عدداً من الطيور. وفي القرية كان ثمة عائلة فقيرة كبيرة العدد هاجرت من قرية بعيدة وكان أحد أولادها حاضراً حين توزيع الغنائم. ناوله الصياد بطتين وهو يقول له: "اذهب إلى أمك واِسألها إن كان مسموحاً لكم بتناول هذا النوع من البط الغريب الذي لا يُنتف ريشه بل يُسلخ الجلد عنه وإذا ما وافقت عد إليّ لأعطيك واحدة إضافية أو أكثر". يومها قبض الولد على حصته بأصابع قوية وهرع إلى المنزل لسؤال أمه. قالت الأم حين فهمت فحوى السؤال: "عد بسرعة إلى الصياد اِشكره وأخبره بأن أمك لا تقرف أبداً من لحم هذا البط". حين رجع الولد إلى الجوقة كان الصياد قد فرغ لتوّه من توزيع غلته.
رغم الفقر هذا كانت كل أسرة مُدانة ـ سراً أو علناً ـ بإيفاء نذر كبير أو صغير لأحد المزارات الموزّعة بالمئات في أماكن هادئة مدهشة على قمم الجبال والهضاب.



تستعد الأسرة صاحبة النذر لهذه المناسبة كاستعدادها لتزويج إبنها البكر:

توفير كل قرش على مدار السنة لشراء الأضحية (جدي أو خروف أو أكثر) وتربيتها وعلفها وتسمينها على مدار أشهر حتى يأتي موعد إراقة دمها قرب المقام المُراد.
تحضيرات السفر إلى المقام على مدار أيام وليال.
السعي إلى تحقيق المصالحات بين الأولاد في الأسرة الصغيرة وبين أفراد العائلة الكبيرة من جهة الأم وجهة الأب.
إعداد قائمة بأسماء المعزومين رجالاً ونساء (من العائلة والأصدقاء والجيران).
سعادة أطفال الأسر المعزومة هنا لا تقدر بثمن.
التركيز على دعوة المخطوبين والمتزوجين حديثاً والعائدين من السفر.
مراعاة خاصة لشخص أو أكثر من العائلة ـ تجنباً للغضب المفاجيء ـ ممن يوصفون بكلمة (الله يستر منه .. هادا زنبوره كبير) أو (هادا لا يعجبه العجب ولا الصيام برجب) لفرط حساسيته تجاه الآخرين.
دعوة الشيخ المرافق للرحلة.
تهيئة سكاكين الذبح.
دعوة الشخص المناسب الطاهر النظيف (رجل أو إمراة) الذي سيطبخ البرغل ويسلق اللحم ويقسّمه حصصاً متساوية.
تحديد الأسماء المشاركة في سلخ جلد الذبيحة وتقطيعها.
تقديم جلد الذبيحة وأمعاءها هدية لخادم المقام (أسرة فقيرة تسكن في بيت من الطين والقش على أطراف المزار).
تأمين حزم الرياحين عن طريق جمعها من وديان القرية.
وضع مبلغ محدد للزكاة.
شراء قوالب الثلج الكبيرة.
وضع خطة لتجنب المناوشات والخصومات بين أولاد أصحاب النذر بسبب الحساسيات والعمل وتقسيم المهام.
حجز باصين أو ثلاثة على الأكثر بسعة ثلاثين إلى خمسين مسافراً وقوفاً وقعوداً.
البحث عن سائق ومعاون له من الشباب المهرة الأقوياء الصادقين الوفيين بمواعيدهم.
الاتفاق مع السائق أو مع مالك الباص على أجرة الرحلة لتقسيمها على عدد المعزومين فالرحلة ليست على حساب أصحاب النذر.


وتستعد بدورها كل أسرة معزومة:

التأكيد على رغبتها في المشاركة بالرحلة المخطّط لها لإيفاء النذر.
تثبيت عدد المقاعد المُراد استخدامها في الباص ودفع أجرتها.
الوصول في الوقت الصحيح لموعد إقلاع الباص دون تأخير.
تجهيز وسائل التسلية واللعب والفرح:
المسجلة والبطاريات والكاسيتات، المنقلة ، الضامة، أوراق الكوتشينة، الشطرنج، ملابس مريحة وبطانية للجلوس، قضبان الدبق، الدربكة، العود، المزمار والطبل ...
تحضير الزاد (الزوّادة):
جبس، بطيخ، علب سردين، زجاجات العرق، خيار، بندورة، ملح، زيتون، زيت، بطاطا مسلوقة، بيض مسلوق، عنب، جبنة البقرة الضاحكة، خبز، شاي وقهوة وسكر، بذر عباد الشمس، السجائر وعلب الكبريت، صحون وسكاكين وملاعق وكؤوس ...
بعض المدعوين من (ضباط، مثقفين أو عائدين من سفر) يضيفون إلى زوادتهم دجاجة لشوائها هناك أو كيلوا من اللحم وبعض الفواكه والمازوات نخب أول.

***



ينطلق الميكروباص في رحلته إلى المقام في السادسة صباحاً.
سيعود في السابعة مساء لإرجاع الناس إلى بيوتها في القرية بحسب الاتفاق.

المزار في قمة الجبل يبتعد عن الشارع الإسفلتي مسافة ليست بالقصيرة، الدرب الموصل من الشارع إلى المزار ترابي مغبر وعر وضيق. يحمل الآباء أطفالهم على الأكتاف، يحمل الشباب اليافعون جداتهم المعمرات أو أمهاتهم المريضات أو المقعدات على ظهورهم القوية. يحمل أحد أولاد أصحاب النذر الخروف المنذور. من النادر أن تجد شخصاً لا يحمل بين يديه شيئاً، فتراه يحمل على الأقل جبسة كبيرة. في الطريق يستريح المتعبون قرب جدول ماء، يغسلون وجوههم وأياديهم، يشربون الماء، بعضهم يتمكن من قطف ثمرة تين، أو رمّان أو إجاص أو تفاح من حقل مجاور وبعضهم يبحث عن التوت البري.

حين وصول المعزومين إلى قمة الجبل تنقسم أسرهم إلى قسمين، قسم منهم يتدفق إلى غرفة المقام والغرف المجاورة له لأخذ ما يمكن أخذه من حصر ومخدات وطرّاحات والقسم الآخر يبدأ بحثه عن مكان مناسب للجلوس وتمضية النهار فيه. بعض المدعوين ممن تعودوا على المشاركة السنوية في هذا الطقس يصل بسرعة إلى هدفه، فهم يعرفون تفاصيل الجبل والمزار، وأين هي الأماكن الرومانسية الهادئة والمخفية عن أنظار الفضوليين. أما أسرة أصحاب النذر فستكون إحدى حجرات المقام محجوزة لهم سلفاً.

في حوالي الساعة التاسعة صباحاً يكون قد استقر معظم المعزومين تحت أظلال الأشجار وبدأوا بإشعال نيراتهم الخفيفة لتحضير قهوة الصباح وأبريق الشاي، إلا قسم قليل منهم يكون قد جلب معه بوتوغاز صغير مخصّص للرحلات، تبدأ استعدادات الناس للفطور، ومن لديه طفل حديث الولادة يبني لطفله سريره المحمي من البرغش والحشرات والمعلّق بغصن الشجرة.

ها هو طفل يبكي طلباً للنوم وها هي أم تهدهده، تدمع عينيها وهي تترنم:
"سألت العين .. حبيبي فين .. أجاب الدمع راح راح منك .. حبيبك ما سأل عنك .. وخلا القلب في نارين".

وها هو رجل "حربوق" فطن انتشى تحت شجرة الصنوبر قبل أن يبدأ النهار، حجز خطيب ابنته تحت أنظاره وراح يسليه بأحاديث لا معنى لها والصهر الجديد يتحيّن فرصة الهروب مع خطيبته سلمى بعيداً عن أنظار عمه الأحمق الذي يقص عليه خرافات مُبّهرة ومحشوة بالخرافات:
"كان الشيخ الحاتمي الذي يتبعه والدي يمتطي في الليل حصانه الأبيض ويطير عالياً، يمر بطريقه على زميله الشيخ الغانمي الذي كان بدوره ينتظره على حصانه الطيّار ليطيران معاً إلى الشيخ المعلاوي، فيجدانه بانتظارهما على حصانه المبرقع، وبعد السلام والعناق يطير الثلاثة لمحاربة اليهود الصهاينة في إسرائيل ثم يرجعون إلى البيت قبل طلوع الشمس، يتوضؤون ويصلون الفجر ثم ينامون برفقة زوجاتهم الآمنات الحنونات".

وتحت شجرة في أسفل الوادي، شجرة غير صالحة لمكوث عائلة استند جعفر إلى جذعها وراح يقرأ مراراً رسالة كانت مديحة قد كتبتها له في فصل الشتاء دون أن تسنح لها فرصة اللقاء به قبل هذا اليوم، أن التقته قرب المقام ناولتها له وهربت إلى شجرة أمها وأبيها:

"أكتب لك اليوم يا جعفر والمطر ينهمر في الخارج، أكتب لك وأنا بجانب المدفأة وأشعر بالسعادة لأنني وحيدة في البيت في هذا المساء الرومانسي. كل يوم تخطر لي أفكار كثيرة وأقول لنفسي بأني سأكتبها لك. عندما أبدأ بالكتابة تهرب كل هذه الأفكار لتحل محلها أقمار جديدة .. وهكذا دائماً حتى أنتهي من كتابة الرسالة ولا أكون راضية عنها. لا أعرف فعلاً ماذا فعلت بي، أحسّ أن حياتي انقلبت كلياً رأساً على عقب منذ اِلتقيت بك على باب المدرسة. أشياء كثيرة وكلام أكثر أخبئه في داخلي لأقوله لك. حدث هذا منذ سمعت صوتك. لكنني الآن لا أعرف ماذا أقول لك لذا أرجو أن تعذرني فأنا لا أجيد التعبير كثيراً وأتمنى منك أن تقرأ ما بين السطور والكلمات. غريبة هي الحياة لأنها تجعلنا أحياناً لا نفهمها كما حصل لي معك. ما هذه الأقدار العجيبة التي جعلتني ألتقي بك ذاك اليوم. هذه المصادفة جعلتني أسمع اسمي بطريقة جديدة لم أعهدها في أحد من قبل. لا أعرف، أحسّ أن اسمي لم أسمعه بهذا الجمال من قبل إلا منك".
ها هو شيوعي جلس مع زوجته وأولاده في ظل شجرة بعيدة عن الأنظار، راح يُقلّب سفافيد اللحم فوق النار وبجانبه كأسه من حليب السباع ويحكي نكتة لشخص مثقف مرّ به لإلقاء التحية:

ذات مرة اِلتقى مختار قرية "س" مع مختار قرية "ع" مصادفة في أحد ممرات غرف التحقيق في مركز مخابرات العاصمة. ولأنهما كان يعرفان ويفهمان بعضهما جيداً ضحكا على حالهما ووضعهما المزري:
قال مختار قرية "ع": هل تعلم بأن طبيب الأسنان في قريتنا صار يقتلع الأسنان والأضراس عن طريق الأنف!
قال مختار قرية "س": لا والله. خير؟ ليش؟
أجاب مختار قرية "ع" هازئاً: لم يعد أحد يجرؤ على فتح فمه في قريتنا.


أحد الشباب يمر بمجلس الشيخ راضي يرفع كأسه عالياً ويقول له من باب المشاكسة والمزاح:
"قدحك يا شيخ".
يجيب الشيخ على الفور ودون ان يُتعب نفسه بالنظر إلى وجه الشاب:
"قدح أمك وأبوك".

***

في الوقت الذي يقضي فيه الزُوّار ساعات مرح وحبور في الأحاديث والطعام والشراب والغزل والتعارف وتبادل الابتسامات يكون أصحاب النذر منشغلين حتى آذانهم بتفاصيل لا يمكن إدراكها ببساطة: القراءة على السكاكين، الذبح، إزالة الدماء، نقل الماء بالقربة على الحمار من أسفل الوادي وقد تجفل الدابة وتحرن إذا ضُربت، نفخ الذبيحة من سيقانها، سلخها، تقطيع اللحم، رمي الفضلات، إرسال الجلد والكرشة إلى خادم المزار كعلامة شكر، توزيع بعض اللحم النيء على فقراء المزار، جمع الحطب، إيقاد النار، تهدئة الأصوات العالية، حفظ اللسان عند الغضب، تجهيز القدور وغسلها، سلق اللحم، تحضير الطبيخ، إشعال صحون البخور، الشطف والتنظيف، الدعوة للصلاة، الصلاة، توزيع الزكاة، فرش الرياحين، سكب البرغل المطبوخ مع الحمص وزيت الزيتون في غضائر تعود للمقام، تقسيم اللحم حصصاً متساوية ووضعها بأناة على البرغل في كل غضارة، ويبدأ العد التنازلي في الثالثة بعد الظهر بتوزيع الغضائر على الزوّار، تتردد كلمات "تقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال"، الطعام يأتي أولاً ومن ثم الأخلاق والقيلولة، تأخذ نساء العائلة بغسيل الآواني والقدور وتنظيف المكان وكنسه وشطفه، ومن ثم يسترخي صاحب النذر وعائلته دون أن ينسى أن يضع حصص سائقي الميكروباصات جانباً إل حين قدومهم، تهدأ القلوب والنفوس ويهبط الرجال جميعهم في سهوب قيلولاتهم التي اعتادوا عليها.

"يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شُكوراً". سورة الإنسان

بينما الأولاد يلعبون، يتراكضون، يتعارفون، يتعاركون، يتدحرجون أو يتسلقون أشجار الصنوبر لجمع العلكة من على أغصانها، تزور بعض النسوة مقام الشيخ قليعة، يقبّلن المدخل من يمينه ويساره، يخلعن أحذيتهن ويدخلن بوقار واحترام وتهيب، يدرن حول القبر، يقبلن حجر المقام اقتداء برسول الله حين كان يقف عند الحجر الأسود ويقبله، ثم يبربرن أشياء لا يفهمها إلا هن، البعض منهن يستلقين جانب المقام ويأخذن قيلولة قصيرة على أمل أن يحلمن خلال هذه الدقائق أحلاماً سعيدة قد تتحقق لهن ولأسرهن، بعض النسوة ينتظرن دورهن كي يستلقين على بطونهن لتقوم ابنة الواحدة منهن أو قريبتها بدحرجة حجر إسطوانية الشكل على ظهورهن لتخفيف آلامهن المزمنة، عند انتهاء طقوسهن هذه ينهضن، يقطفن الخلعات من أقمشة المزار الملونة ويلفهن على معاصمهن وقبل أن يغادرن المكان المقدّس المريح هانئات البال يتركن بعض النقود في صندوق المزار الحديدي المقفل، يخرجن من باب المقام بحذر شديد ووجوههن مصمغة على أشياء يرونها ولا يرونها تحت قبة المقام الغامضة بينما ظهورهن مثل مصدات تعكس أشعة شمس المكان.

***

خلال كل هذه الطقوس وقبل توزيع الغضائر بقليل يصل فؤاد العائد منذ أيام إلى قريته بعد أن أمضى أكثر من سنة في دول الخليج، صاح أحد الرجال المنتشين بسخرية مبطنة "أن لا تصل أبداً خير من أن تصل متأخراً "، كان فؤاد صباح ذلك اليوم منشغلاً بتجارته، رفض علانية أن تسافر زوجته دونه مع الميكروباص برفقة الآخرين، سافر معها بسيارته البيضاء الأنيقة برفقة ولديهما، هناك تحت خيمة المزار وارفة الظلال راح يحكي للفضوليين المدهوشين من حوله بينما زوجته تشوي اللحم للغداء مجيباً عن سؤال أحدهم بخصوص سعر سيارته وكيف للإنسان أن يشتري سيارة في بلدان الخليج:

ذهبت مرة مع زوجتي ـ وها هي قربكم شاهدة على كلامي ـ إلى معرض تجارة سيارات لأتفرج على السيارات وأسأل عن أسعارها، ولن يكون هذا هو المعرض الوحيد الذي سنزوره كما قررنا، كنا نخطّط في الأشهر القادمة لشراء سيارة متواضعة، لأننا لم نكن نملك المال الكافي للشراء مباشرة ولا بد لنا أن نأخذ قرضاً من الشركة حيث نعمل لتغطية النفقات. هناك استُقبلنا باحترام من قبل شخص أوروبي في نهاية عقده السادس بدا عليه التواضع في لباسه والذوق في تعامله. حين عرّفنا عن نفسه أدركنا بأنه مالك الشركة (في العادة نادراً ما تلتقي بالمالك لأن لديه من يعمل في كل مجال ضمن شركته وفي ورشة الميكانيك الضخمة الملحقة بالمعرض). بعد عدة دقائق كسر الحواجز بيننا بأن خاطبنا بطريقة حميمية وكأنه يعرفنا منذ سنين ثم نهض وعانقتي وهو يقول "رأيت المسيح لتوّي يخاطبني أن أقوم لأعانقك". ثم روى لي حكايته مع السيارات وكيف تطورت تجارته وأرباحه وكيف أسس مشروعه هذا بدءاً من الصفر. بعد حوالي الساعة كنا قد وقّعنا عقد شراء سيارة حديثة من عنده غالية الثمن دون أن ندفع من المبلغ أي فلس، فقد أخبرنا المالك بأن المسيح قد ظهر له قبل توقيع العقد وخاطبه أن عليه أن يبيعنا السيارة بالتقسيط المريح طويل الأمد لأننا ناس موثوقون وطيبون، لدرجة أننا لم نوقّع على تعهد بهذا. بعد أسبوع دعانا إلى أحد المطاعم للاحتفال بالسيارة الجديدة كما طلب منه المسيح.
جلجل فؤاد بضحكته وهو يقول: دفعنا له لم من الجمل أذنه وها نحن هنا ولن نعود إلى دولة أبو ظبي بعد اليوم وليبلط البحر هو ومسيحه.

***

لم ينتبه فؤاد أن نهيدة، زوجة المرحوم خاله، كانت تجلس على بعد خطوات منه واستمعت إلى حديثه كاملاً وهي تلعنه في سرها. كانت نهيدة إمرأة عصابية جحودة حقودة عديمة الذوق، هوايتها النميمة والثرثرة الفارغة وابتكار الشائعات وتصديقها، كانت تكره أقرباء زوجها ـ الذي هجرها سنوات طويلة قبل موته ـ وتتمنى القبر أو القبو لهم أو موتهم وهم في الرحم، كلما سافر أحد أفراد عائلة زوجها بغرض العمل في السعودية أو بلدان الخليج وكلما سمعت بأنه استقر وحالفه التوفيق في الحصول على فرصة عمل، كانت تعد لنفسها وجارتها فنجاني قهوة في منزلها الكئيب وتبدأ بنسج إشاعة تطيح بنجاحه. إذا سافر الرجل مع زوجته تقول لجارتها بأنه وظّف زوجته في بيت دعارة وإذا سافر الثاني وحيداً ـ دون زوجته وأولاده ـ تقول لجارتها بأنه لا يفعل شيئاً في الغربة سوى تأجير مؤخرته لأبناء الخليج وإذا سافر الثالث تقول لجارتها بأنه يعمل في شبكة للنصب والاحتيال والتجارة بالعذراوات ... وهكذا ... وجارتها تصدّق كل ما تقوله نهيدة رغم أنها تعلم علم اليقين بأن هذه المواصفات القاتلة والحارقة والجارحة تنطبق قبل كل شيء على أفراد عائلة نهيدة، أبناء وبنات أخواتها وإخوتها.

***


بعد الظهر، بعد انتهاء القيلولة يبدأ بعض الزوّار بتقطيع الجبس والبطيخ، النراجيل موقدة، يختلط دخانها بدخان السجائر ودخان الحطب المشتعل والبخور والأجساد، القهوة حاضرة وكذلك الشاي وبذور عباد الشمس .. تحت الأشجار تصدح المسجلات بأغاني عبد الحليم وأم كلثوم ووديع الصافي وسميرة توفيق وفهد بلان وسمير يزبك وفؤاد غازي .. الخمرة تدور بالرؤوس .. الرجال منتشون .. بدايات عشق وأحاديث عن الحب والمستقبل .. مع اقتراب الساعة من السادسة عصراً يكون الزوّار قد نظفوا أماكن جلوسهم ولملموا البقايا والأوساخ وضبضبوا أغراضهم ونفضوا الطرّاحات والمخدّات والحصر وأعادوها إلى إحدى غرف المزار .. مع اقتراب الساعة من السادسة عصراً يتدرج الزوّار كلهم بتؤدة باتجاه المزار، يقتعدون حجارة ودرج وعتبات ساحة المقام المغسولة بالماء متوزعين على محيط دائرة إهليلجية .. ويعلو الحق والصفاء والتأمل مع خبطات دلعونا وقرع الطبل وأنين المزمار وتلاوة المهاهاة وإطلاق الزغاريد .. وتستمر الرقصات رغم وصول سائقي الميكروباصات وتناولهم لحصصهم المدعومة في الغضائر، يأكلون ويشربون العرق وينتشون قبل انطلاقهم بباصاتهم التي سيعتلي الزوّار الشباب ظهورها متابعين ثورة المواويل والمزاح.

في معمعمة الفرح والنشوة والمرح لم ينتبه أحد لغياب الرجل الطيب جابر صاحب المزاج الناريّ، كان قد جلب معه قضبان الدبق التي يعملها بنفسه من ثمار شجرة الدبق التي زرعها في داره قبل سنين طويلة، حين تنضج حبّات الدبق كروية الشكل يستخرج عصيرها الكثيف ويمزجه بالعسل ثمّ يلصقه على عيدان الريحان، كما اللحم المفروم على السفافيد. في الصباح، عند نبعة الماء، كان جابر قد هرب من زوجته التي لا تعتبره إلا أخاً لها ساعياً وراء صيد العصافير، لم تهتم الزوجة لغيابه فلديها كومة عمل لهذا اليوم، هي من سيطبخ للزوّار وهي من سيشرف على ملء الغضائر ونظافة المكان.

قبل أن يتعرّف جابر على هوايته الجديدة "صيد العصافير" التي تعلق بها كثيراً، كان مقامراً سكيراً ومدخّناً من طراز رفيع، وكان حنوناً ووفياً وكريماً. كان رجلاً بسيطاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة وكان يعمل في ضواحي العاصمة بصفة مستخدم مدني في قطاع الجيش. تعوّد أن يقضي إجازاته القصيرة في القرية، يشرب العرق ويدخّن علانية ويقامر مع المعارف والأصدقاء سراً. إذا ربح القليل من المال اشترى به الخضار والفواكه لبيته وإذا خسر ماله انتقل إلى طاولة أخرى ليتابع لعبه بالمراهنات الخفيفة. ذات يوم سمع بارتفاع سعر العرق والسجائر، غضب من القرار الحكومي الأرعن، أمسك بزجاجة العرق التي كان يستعد لشربها ورماها بكل ما اعطاه الله من عزم فوق بلاط بيته ثم "جعلك" علب سجائره ورماها في سطل الزبالة. بعد أسبوعين لم يعد للقمار أي معنى في حياته دون عرق وسجائر فأقلع عن تعاطيه بين ليلة وضحاها وبقي وفياً لقراراته هذه حتى مماته. بعد ذلك بأشهر قليلة قدّم استقالته في قطاع الجيش وعاد إلى منزله في القرية واحترف العمل الحر في سوق الخضار.

في صباح يوم المزار نشر جابر قضبان الدبق بين أغصان الأشجار في الحقول المُعتنى بها والمحيطة بجبل المقام وانتظر فترة زمنية قصيرة قبل أن يستفقدها ليجد العصافير المغرّر بها قد علُقت بالدبق. حرّرها جابر من قيودها، ذبحها حلالاً بسكينه الخاصة ثم نتف ريشها ونظّفَ أحشاءها فصارت جاهزة للشوي ووضعها في سطل بلاستيكي وأحكم تغطيته وأعاد نشر عيدان الدبق وراح يطوف سعيداً مستكشفاً تضاريس السهل والجبل وهو يتمتم: "ما أجمل الطبيعة هنا، ما أجمل سماء المزار".

في تلك الساعة كان صياد آخر من قرية مجاورة للمزار قد اِصطاد العصافير بوساطة الدبق أيضاً، وكانت لا تزال حيّةً في قفص بين يديه، وكان يراقب تحركات جابر، مرّ الصياد بسطل جابر، فتحه وأخذ منه العصافير المذبوحة والمنتوفة ووضع العصافير الحيّة في السطل بديلاً عنها ثُمَّ غطاه وغادر إلى منزله.

رجع جابر إلى سطله بدفعة ثانية من العصافير التي ذبحها ونتف ريشها، فتح غطاء السطل ليضعها مع الدفعة الأولى وإذ بالعصافير تطير مزقزقة خارج السطل، سقط جابر على الأرض من شدة رعبه ثم أتته القوة لينهض وليركض عبر الحقول تاركاً خلفه كل شيء، راح يركض دونما هدف وهو يهذي كأن جنيّاً مَسّ عقله.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا