الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الندبة الثالثة (قصة قصيرة من سلسلة الندبات)

حسام عتال

2023 / 10 / 25
الادب والفن


كان يوماً اعتيادياً في أوائل صيف من أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت باصات النقل الداخلي تتقدم تباعاً لتصل إلى محطة الحجاز في دمشق، دخانها الأسود ينفث من أعلى مؤخرتها مضيفاً لحرارة الجو رائحة المازوت المحروق ولزوجته. بعد التفافها حول الساحة ينفصل كل باص منها عن البقية ويميل إلى الجانب الآخر من الشارع نحو موقفه المخصص. المكابح تصدر أصوات تنفيس حادٍّ لهوائها وكأنّه سجالٌ لجوقةٍ يقودها مايسترو مستتر خلف الأبنية التي كُسِيت واجهاتها بقشرة من الشحّار الداكن.
راقَبْتُها وهي تتدافع ببطء وكأنها عربات قطار متصلة، متسائلاً: ما الذي دفع مسؤولي باصات البلدية ليجعلوا العوادم تمتد من مؤخرة الباصات حتى أعلى السقف؟ كان جليٌ من الطريقة الخرقاء التي ثُبِّتت بها تلك العوادم في مكانها أن هذا التصميم ليس أصلياً، هل كانوا يعتقدون أن رفع العادم مسافة مترين عن الأرض سيخفف من التلوّث بالدخان وسمومه.
لم يكن هذا سؤالي الوحيد! بالرغم من القيظ، ورائحة الدخان التي تزكم أنفي، وأواره الذي يلدغ أغشية عينيّ، فضولي الغريزيّ لم يتوانَ أو يتلكأ، وكأنه تمطى بسبب سخونة الجو. اتسع فضولي ليشمل سمات ومزايا ركاب الباصات، في باصات القصاع وجدت ركاباً قصيري القامة، سمر السحنة، بعيون غامقة اللون، معظمهم ارتدى ثياباً أوروبية حديثة؛ تلك الثياب كانت مكشوفة الكتفين ومفتوحة الصدر عند النساء، فيما تنانيرهن قد انحسرت حتى منتصف الفخذين. بينما أولئك الذين استقلوا باصات الميدان والصالحية كانوا خليطاً من رجال أكثرهم بزي تقليدي، ونساء جُلَهُنَّ محجبات بفساتين طويلة؛ لكنهم، نقيض ركاب القصاع، كانوا طوال القامة، ببشرة بيضاء، وعيونٍ فاتحة اللون. في ذاك العمر لم أكن أدرك الفرق بين سكان سوريا الأصليين ذوي الأمارات المحليّة الثريّة بنضارتها، وبين مزيج الشعوب التي استوطنت دمشق في أوقات لاحقة، من أواسط آسيا والقوقاز والبلقان وغيرها. ولكني في الوقت ذاته كنت بعمر قد بدأت فيه بإدراك فروقٍ من نوع آخر، أمور غريزية دفعتني للشك والتكهن: أليس أكثر عدلاً لو أن نساء المنطقتين يتبادلنَ طريقتهن في الملبس؟ تبدد رغد خيالاتي المترفة عندما لمحت اللوحة الأمامية للباص الذي أنهى للتو التفافه حول ساحة المهاجرين، هذا مبتغاي، من حسن حظي أنه لم يتأخر كثيراً هذه المرة. وضعت يديّ في جيبي وتحسست الفرنكين سعر التذكرة مطمئناً لملمسهما المعدنيّ، كانا الشيء الوحيد البارد في خضم حرارة الظهيرة في هذا اليوم الصيفي الدمشقي الحار.
الركاب المنتظرون يمسحون عرق جباههم بأكمام قمصانهم وقد أخذت بقع العرق بالاتّساع تحت آباطهم، يتململون ناقلين وزنهم من رجل لأخرى. بدؤوا الآن التدافع فجأة حول الباب الخلفي قبل أن يقف الباص أو يفتح بابه. لم يعر أحدهم بالاً لي، أنا الطفل ذو العشر سنين، وجسدي النحيل ينعصر في خضم هذه الموجة البشريّة. مع تكدسهم غابت عني الزرقة الصافية لسماء دمشق، وما عدت أرى سوى قمصاناً وأحزمة وبناطيل وتنانير أو بلوزات؛ جيب هنا، سحّاب هناك، أو صف أزرار ينتهي عند ياقة مزركشة. طغت رائحة عرقهم النفاذة على رائحة دخان المازوت، واشتد تدافعهم فبدأت قدماي بالارتفاع عن الأرض، أحسست باختناق وأنّ صدري بدأ يطبق علي. أصبت بذعر شديد، ومن فرجة صغيرة لمحت عموداً معدنياً، فمددت يدي لأتمسّك به في محاولة لاستعادة توازني، احترقت يدي وكأني قد قبضت على حمم بركانيّة؛ إذ إنّ العمود الذي تمسكت به كان أنبوب العادم، المخرج الذي ينقل لهيب وقود المحرك لكي ينسكب في الفضاء المحيط. حرارة الصفيح لسعتني وامتدت من يدي عبر ساعدي وكتفي ليشع نارها في كل خلية من جسدي، التصقت يدي وعندما سحبتها شعرت أن جلدتها قد تقشرت. بدون وعي ارتميت خلفاً بأعجوبة متجاوزاً كتلة الأجساد المتراصّة، نظرت إلى يدي ورأيتها تنتفخ أمام عيني كبالون أحمر، تحرك الباص وتركني أنظر حولي في الفراغ الذي تركه.

كيف لي أن أسال المساعدة… الناس بين مشغول يشق طريقه إلى غايته، أو منعدم الصبر يتطاول بعنقه متطلعاً باتجاه الباص القادم…. لمن ألجأ… أين تقع أقرب نقطة إسعاف؟

مذهل كيف ينقل حدث بسيط الإنسان من حال لضدّه، قبل ثوان كنت أسرح بذهني وسط زحام وضجيج، الآن أحسبني وحيداً تائهاً في فلاة ممتدة دون شريك. أغمضت عينيّ واعتصرتُ جفنيّ في محاولة مني لنسيان الألم ولكي أستحضر الأماكن الطبية التي أعرفها حولي، مشفى المجتهد الوطني ليس بعيداً وأنا أعرف الطريق إليه، خالتي الممرضة تعمل هناك، وقد زرتها سابقاً للعناية بجروح سابقة كانت أكبر من أن تلتئم دون قُطَب، أو في أحيان أخرى كنت أذهب عندها لإيصال بعض الكتب أو أشرطة الموسيقى والأغاني التي كانت تتبادلها مع أمي وإخوتها. المشفى يبعد خمس عشرة دقيقة مشياً عبر شارع خالد بن الوليد، قد أصل هناك خلال عشر دقائق إن ركضت.

ركضت... ركضت قابضاً على معصم يدي محاولاً قطع الدم عنها، لوهلة تمنيت لو أني استطعت قطعها للتخلص من الألم. يجب أن ألهي نفسي عن التفكير بيدي، أن أفكر بشيءٍ آخر، شيءٌ أحبه يروّح عن نفسي: تخيلت أني ألعب الدحل في الملعب الترابي خلف بيتنا، وأني قد ابتكرت طريقة خاصة وأصبحت أصيب هدفي من على بعد أمتار، كل مرة، وأن مجموعة الدحل التي ربحتها قد تراكمت وملأت ثلاثة قطرميزات زجاجية كبيرة، نصفها من الدحل الثمين "أبو شعرة"، وأني قد وضعت القطرميزات تحت سريري وكنت أخرجها كل ليلة وأضع ضوءاً كشافاً يضيء محتواها في الظلمة، وأستمتع ببريقها اللماع ينعكس على جدران غرفة النوم وسقفها بأطياف قزحية، حاجبةً انطباع أضواء السيارات الذي يظهر ثم يدور حول الغرفة مع قدوم كل سيارة من الشارع المجاور.
لكن الألم لم يهدأ، بل زاد… هل هناك علاقة جدلية بين ما يبهج وما يؤلم؟ إذاً ماذا لو فكرت بشيءٍ كريه، يكون أسوأ من حالتي اللحظية هذه، يرتفع درجة عن ألمي، فيجعله أهون؟
تذكرت شلة الأولاد الزعران، الذين يكبروننا سناً، بزعامة جورج، أطولهم، وأكثرهم غباء، كانوا يسرقون منا كرة القدم في الحارة ويسبوننا من خلال أوصاف جنسية محورها الأمّ والأخت.
لا فائدة حتّى الآن من محاولاتي كلّها لنسيان الألم!
ماذا لو استحضرت هيئة الأستاذ أحمد في مدرستنا، ببذلته الفضفاضة التي تزيد عن مقاس جسده النحيل بعدة مقاسات؛ الرجل البغيض الذي كان يحلو له أن ينقص درجاتنا عندما يصحح مواضيع التعبير، حجته في ذلك أن ما كتبناه لا يتطابق حرفياً مع ما أرادنا أن نعبر عنه. ابن الكلبة، قلت من تحت أنفي، ولكن مرة أخرى دون جدوى... المعاناة مع جورج وعصابته، وتحمّل تفاهة مائة أستاذ على شاكلة أحمد لا تعادل ذرة مما أحس به الآن من ألم!

بما أنّ الأفكار نفسها لم تفلح في التخفيف من ألمي، فربما لعبة الأفكار ذاتها قد نفعتني، فها أنا ذا أخيراً أمام درج المشفى العريض. في تلك الحقبة كانت المباني العامة الحكومية مفتوحة الأبواب دون حراسة أمنية خاصة، لم يكن المجتمع السوري قد تعسكر بعد، ليس هناك مفارز للجنود في كولبات، وبنادقهم الروسية تستند على الحائط، بعضهم يحتسي الشاي الثقيل، وآخرون يفتشون المراجعين ويضربون التحية للمتنفذين، كما ستصبح الحال بعد سنين قليلة. صعدت الدرجات المؤدية لقسم التوليد في الطابق الثاني، صدمتني رائحة البهو المميّزة؛ الرائحة البيولوجية الحادة المنبئة عن ولادة إنسان جديد. في إحدى غرف المخاض المفتوحة الباب، رأيت خالتي تعاين صبية لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، قد استلقت على سرير معدني ضيق، ثيابها الريفية الفاقعة الألوان الملقاة على كرسي مجاور تدل على فقرها، يداها تضغط على أسفل ظهرها وهي تصرخ من أوجاع المخاض، رجلاها منفرجتان وقد انزلق الغطاء كاشفاً عن ساقين سمراوين مشدودتين تتصبّبان عرقاً، لم يبدِ أحد اهتماماً بوجودي وكأنني عضو طبيعي في مسرح الخلق هذا.
تقدمت وبيدي اليسرى ربتّ على كتف خالتي، كانت تملأ إبرة حقن من أنبوبة زجاجية بنية، ثمّ تشرع بنقفها بإصبعها كي تلتقط محتواها: "سااااامو" صاحت ببهجة عندما التفتت إليّ، مستخدمة الاسم الذي كانت تدلعني العائلة به، وضعت "السيرنج"على الطاولة جانبها مشيرة لطالبة التمريض أن تكمل المهمة. مددت كفي الأيمن لكي ترى الحرق الأحمر، فتحت فمها مشدوهة، وتأملته وهي تحضن يدي في يديها بحنان من يحمل طيراً صغيراً أزغبَ قد أسقطته الريح من عشه، ثم رفعت رأسها واحتضنتني بنظرة هي وحدها من يستطيع أن يغدقها؛ نظرة تحمل عتاباً وحباً ولوماً وشفقة في وقت واحد، هي من صنف المخلوقات التي لا تجيد العبوس، ربما بسبب وجنتيها البارزتين اللتين تضفيان على وجهها ابتسامة أبدية، كررتْ مرة أخرى: "ساااااااامو"! قبل أن تستدرك وتقول بجدية: "حسام! "شو اللي صارهالمرة"؟
وأنا أحكي لها ما حدث، رأيت دموعي في عينيها، ظلّت تهز رأسها وتنبس تحت أنفها:
ـ "شو هالشعب هذا؟ شو هاالناس؟ أولاد الشرموطة، لا ضمير ولا أخلاق، ما بيتركوا مجال لطفل يركب الباص"!
بعد لحظات ومض بريق في عينيها، سألت بتدبّر وكأنها تذكرت شيئاً خطيراً:
ـ و… وماذا كنت تفعل في محطة الحجاز؟
ـ "كنت في الطريق لبيت عمتو أم تحسين".
استقام رأسها وانخفضت كتفيها، ثم زفرت:
ـ "ساموو… لوحدك"؟
ـ نعم! وعندما رأيتها قد رفعت حاجبيها استنكاراً، أسرعت مكملاً:
ـ "الماما تدعني أذهب لوحدي من زمان... من السنة الماضية".
صفنتْ وهي تنظر للأرض تحت قدميها، وأسندت ذقنها بكفيها مهمهمة ـ أمي كانت أكبر إخوتها التسعة، وبعد وفاة والدها بعمر مبكر كانت المسؤولة عن حياتهم وأحوالهم ودراستهم ـ بمَ تهمهم خالتي؟ هل خطر لخالتي خاطر من أيام طفولتها عندما كانت والدتي بمنزلة أمٍّ ثانية لها؟ هل دفعت على عاتقهم مهام الكبار قبل أن يتاح لهم أن يعيشوا أطفالاً، دون التزام أو مساءلة، كما تتخيل خالتي أن هذا هو حالي اليوم؟
أردت طمأنتها أن الأمر ليس كذلك، فاستطردت:
ـ "والله سهلة خالتو، من الرصيف المقابل لحديقة التجارة، أستقل الباص حتى محطة الحجاز ومن هناك أنتقل لباص المهاجرين، ثم أنزل في موقف العفيف، وبعدها أمشي طلوعاً في قاسيون وفي الحارات لأصل لجب التوتة. هناك على زاوية سبيل الماء…"
أسهبت بالإيضاح لأني أردت إقناع خالتي بأنني جدير بهذه الزيارة، فقد كنت أحب تلك الرحلات الصغيرة التي كانت والدتي تسمح لنا بها في صغرنا، أحب تفاصيلها الصغيرة، في طريقي أطبع في ذهني رسم البيوت والمحلات والشوارع والناس كأني أسجلها على فلم فوتوغرافي. حين انتظار الباص في محطة التجارة كنت أستمتع بمراقبة الكوّاء في محله وهو يغسل ويكوي الثياب، أتابع حركاته الرتيبة وهو ينفض القميص ثم يضعه على طاولة الكوي شاداً أطرافه ماسحاً تجاعيده براحتىّ يديه وبشكل ميكانيكيّ رتيب، وبينما يلتقط لفافة التبغ المتدلية من زاوية فمه بسبابته وإبهامه ويضعها بحذر على طرف طاولة الكي، ثم يكبس بقدمه اليمنى فينزل غطاء الآلة العلوي على القميص، ناشراً حواليه البخار المضغوط، صوت هسيسه يمتد حتى يمتلئ به المحل الصغير، يختفي الكوّاء وراء هذا البخار. ثم مع انجلائه يعود للظهور كملاك من خلف سحابة، وبشكل سحري قد عادت سيجارته إلى موقعها في زاوية فمه، بينما هو ينفض القميص من جديد، يضعه على علّاقة معدنية قبل أن يتناول قطعة ثياب أخرى.
أحجمت عن تفاصيل أخرى، لم أخبر خالتي كم كنت أتمنى عندما يصل باص التجارة وأصعد درجاته، أن يكون الجابي المخصص له هو أبو خالد. كانت خالتي قد بدأت بتحضير صينية معقمة كي تضمّد يدي ولم أجد قصة أبو خالد مناسبة للحال الذي كانت فيه: أبو خالد الرجل النحيل ذو الشاربين الأكثر نحولاً، شعره المدهون بالزيت قد انحسر حتى منتصف رأسه، بلهجته الميدانية وخفة روحه كان هو الرجل الذي طبع في نفسي الصورة النمطية للرجل الدمشقي؛ جالساً وراء كرسيه المحاذي للباب وهو يجمع ثمن التذاكر ويعطي لكل راكب تذكرة حمراء، بين فينة وأخرى يتعمّد أن تقع التذكرة على الأرض، وعندما ينحني الراكب لالتقاطها يصيح:
ـ "لك شيل إيدك من جيبته"! ثم يراقب، دون أن يخفي ابتسامته الساخرة، الراكب مرتبكاً وهو يتحسّس جيبه الخلفي ليطمئن على محفظته. مرة أخرى يمد يده بتذكرة نحو المرأة البدينة التي تصارع درجات الباص صعوداً، عندما يهتز الباص وقت إقلاعه، قائلاً:
ـ "خذي أختي اتكمّشي بهذه التذكرة مشان ما تقلبي على ضهرك".
عندما بدأت خالتي بوضع المرهم الأصفر على يدي ولفّها بالشاش المدعوم بوسادة صغيرة من القطن، كانت ما تزال تسبّ الذين رأتهم السبب في حرق يدي، أدركت أن فرصتي قد ضاعت اليوم، وستبقى الحكاية حبيسة ليوم آخر؛ حكاية ما يتمادى به أبو خالد بعد التفاف الباص عند ساحة السبع بحرات تاركاً وراءه بنايات شارع بغداد السكنية، عالقاً في زحمة الشوارع التجارية خلف طابور طويل من السيارات والباصات، يتقدم أمتاراً قليلة ثم يقف، الركاب يشيرون له فيدعهم ينزلون في منتصف الطريق بين المواقف المخصصة، والزمامير تزعق في كل اتجاه، بسبب أو بدونه، آنذاك يبدأ أبو خالد بالدعاية لمحلات التسوق:
ـ "باتتتتا أحسن كنادر… لحّق حالك قبل العييييد، شي بيضاين شغل أوروپي". أو بالاعلان للأفلام عند مرور الباص أمام دور سينمات الفردوس والأهرام والسفراء: "راقصة على الجراح، روحوا شوفوها، بس بالليل هاااا، ولاتاخذوا الأولاد الصغار معكم، إيواااا. عاريات بلا خطيئة، قال بلا خطيئة قاااال، ياعيني على الكلميندو!"
حين انتهت خالتي من تضميد يدي، واضعة الشريط اللاصق على كومة الشاش، همستُ لها أني سأعود مباشرة للبيت، ولن أكمل مشواري لزيارة بيت العمة. لم أزعجها بإعلان خيبتي عمّا سأحرم اليوم منه؛ لن أمشي متسكعاً في أزقة الجبل القديمة الضيقة، ولن أراقب بيوتها المتراصّة بحيطانها الحجرية العالية، ولن أتلصص وراء نوافذها الصغيرة أترقب أعين البنات وهي تطل منها راصدةً الرائح والغادي؛ بعضهنّ يبتسم بخجل ثمّ يتواريْنَ بسرعة، بينما أخريات يجرؤْنَ على الابتسامة، أو الغمز، أو حتى التلطيش الصريح:
ـ "وووين رايح ياحلووو، تعال حوّل لعنّا شوي".
يقلْنَ ذلك وهنّ يربتنَ على ظهر قطتهنّ المدللة المستلقية بخدر على عتبة النافذة. لم أكن أملك الشجاعة الكافية للرد بعد، وأحياناً أتلَبَّكُ في خطاي فأدوس في أخدود الماء المتجمّع في منتصف الطريق، لونه بني عكر، مياهه تجمعت من العديد من أنابيب المواسير التي تخرج من حيطان البيوت وتريق الماء في الزقاق كأطفال مدرسة قد انتهوا من حصة مملة واصطفوا يبولون على الحائط بنسق واحد؛ تتسلل المياه بين الحجارة المرصوفة، ساخنة غطتها غشاوة رقيقة من البخار، تتجمع في أخدود في منتصف الزقاق قبل أن تصبّ في بلاليع الصرف بأغطيتها المدوّرة من حديد الزهر الثقيل، رائحتها البيولوجية لا تختلف كثيراً عن الرائحة التي تزكم أنفي الآن وأنا أبصر بطرف عيني ولادة إنسان جديد، دلالة أن ما يجري وراء تلك الحيطان الصامتة ما هو سوى امتداد لما أشهد بدايته الآن.

خالتي، وأمي، كما رفاق جيلهما، لم يكونوا يشاطرونني شغفي بتلك الحارات والبيوت، ارتقاؤهم في السلّم الاجتماعي كان يعني الانتقال لمنزل حديث في بناية عالية جديدة، تحوطها الجناين، وتطل على شارع واسع. بيوتها إسمنتية، زجاج شرفاتها لامع، ورخام حيطانها مصقول، يصلها الماء في أنابيب، وتخرج مخلّفاتها من مواسير أخرى، كلاهما مطمور تحت الأرض، بعيد عن الناظرين، رائحته ولونه مدفونين تحت طبقات التراب والإسفلت. هكذا كان شأن البيت الذي توجهت نحوه عائداً، يدي ملفوفة بالشاش الأبيض بحجم كرة القدم، لا يشغل بالي سوى خشيتي أن تمنعني أمي من زيارة بيت العمة العربي القديم، في جادّة ضيقة مطمئنة، أعلى جبل قاسيون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس