الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشراقات المشاعر الوطنية في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي -عيد الجلاء-*

محمد المحسن
كاتب

2023 / 10 / 26
الادب والفن


توطئة : للوطن في نفوس ابنائه من الوشائج ما يجعله متوهجاً في القلوب و قد انبرى الشعراء الوطنيون لترجمة ذلك التوهج شعراً و مشاعراً ،فكان من بينهم شاعرنا التونسي الكبير د-طاهر مشي الذي برز وتميّز بنزعته الوطنية،فجمعت-بعض-أشعاره بين صور الوطنية في أبهى حللها،و مكر السياسة،بين روحانيات التصوّف و الصراع المادي،بين الرومنطيقية والوطنية،الشاعر الوطني المُرهف و الحزين أحيانا كأغلب الشعراء الوطنيين،وهو كذلك الشاعر العاشق،عاشق تونس الجميلة :
"فدعنا أيا شعبنا نستعن
على مجد تونس كفانا رياء
فكل الورى للعلا يطمحون
لهذي البلاد لهم انتماء.."

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الشعر هو لغة القلوب ومرآة النفوس، يعبر عن الخلجات الغامضة ويكشف عن الإحساسات الدفينة،يخاطب الوجدان والعاطفة ويستلهم الوحي والخيال وينفذ إلي أعمق ما فى الإنسان و الطبيعة، يقوم علي اللفظ الرشيق و التصوير الدقيق والتشبيه العميق والنغم الرقيق وقد سمى الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.
قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه.
الوطن في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب..هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله،ووطن المكان وأوطن أى: أقام متخذا إياه محلا وسكنا يقيم فيه،فالوطن هو المكان الذي ارتبط به الإنسان،فهو مسقط الرأس،ومستقر الحياة،وسكنه روحاً وجسداً،وهام به حباً وحنيناً، فحب الوطن والالتصاق به وحب البقاء فيه من الأمور الفطرية لدى الإنسان.
والمتأمل لقصيدة شاعرنا التونسي الكبير د-طاهر مشي (عيد الجلاء) يجد حب تونس يسري بين شرايينه وينبض به قلبه وقلمه..فها هو يقول على هامش الإحتفاء بعيد الجلاء:
عيد الجلاء
سلاما لمن خلد المجد يوما
وصان البلاد وصاغ الوفاء
وصد الطغاة العصاة أبيا
وذاد الحمى في زمان الرياء
لتبقَ بلادي برمز السلام
يغني بها الطير أنّى يشاء
وفي حضنها شعبنا يستكين
ومن أجلها قد يروم الفناء
مضى العهد كانت بلادي سبيلا
وطاغ بها يستبيح الحياء
فكانوا رجال البلاد العظام
كسد منيع بأرض النقاء
فمنهم زعيم ومنهم جنود
ومنهم رعاة بذاك المدى
بعزم يصدون ظلم الأعادي
سقوا أرضنا الطهر سيل دماء
ومن طيبها الأرض جادت عطورا
ومن عزمهم عم فيها الضياء
لنمضِ على عهدهم صامدين
وفي ذكرهم شعبنا في احتفاء
نصوغ القصائد في كل عيد
ونذري دموع المآقي هباء
فدعنا أيا شعبنا نستعن
على مجد تونس كفانا رياء
فكل الورى للعلا يطمحون
لهذي البلاد لهم انتماء
أنا من نسجت الحروف إليهم
أنا من سرجت حروف الهجاء
وفي كل نظم لهم فيه بيت
وفي كل بيت إليهم بناء
أجدني كطيف يجوب الدروب
وصوت يجيب يرد النداء
وطود نجاة بكل البحار
وجسر عبور لهم والرداء
فكانوا سلاما لقلبي الأبي
وكنت على العهد رغم العناء
فسرنا على دربهم من سنين
فكم من شهيد سما للعلا
وفي نشوة الصب تجري الدموع
لنحيَ بذكراه عيد الجلاء

(طاهرمشي)

اتسمت القصيدة بعمق الدلالات اللغوية المفهومة المعنى وبعيدة السفسطة الألفاظ المبهمة وبلغة منسجمة ومترابطة تتسم بالجمالية،وبذلك فإن وجهة نظر د-طاهر مشي تتفق مع قول البحيري على أنَّ النص بشكل عام هو " إبداعات لغوية يستدعيها واقع معين,أو وجهة فعلية معينة, ويجب أن تدرك في إطار هذه الخاصية على أنها أبنية للمعنى "1.
وبذلك استطاع الشاعر دفع مخيلة القارئ إلى التفاعل الحقيقي والتأثري مع بُنية النص والفكرة الأساسية الذي تضمنها وفي مفهوم آيزر " نوع من التفاعل الوجودي بين الذّات القارئة والبنية النصيّة لتوليد معنى ما وقيمة أدبية ما لا تعودان بالتحديد إلى ملكية خاصة بالنص ولا إلى ملكية خاصة بالقارئ ولكنها تعود فقط إلى تلك النقطة التواصلية التي توجد بينهما بهذا المعنى هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكاً لها"2.
ما يميز أسلوب ولغة الأديب التونسي الفذ د-طاهر مشي،لغته "الجبرانية"،وثقافته الواسعة العميقة،هذا الأمر يتجلى في شعره ونثره..،كذلك هو يفلح في احداث صداع إيجابي للقارئ، مصحوب بعصف ذهني،يحتم على القارئ طرح الأسئلة العميقة والهامة والتي تتفاعل بقوة مع النص،يترك طعم النص تحت حافة اللسان لفترة طويلة،"د-طاهر مشي" شاعر مجرب ملم بخفايا الأدب والإبداع.
وإذن؟
هو شاعر إذا،لا يحب ان يمر القارئ على قصيدته مثل سحابة مسرعة غير حبلى بمطر الخير،بل يحب أن يلثم القارئ أريج القصيدة المعتق،يعلق طيبها بذاكرة لا تشيخ،يشحذ مخزونه الفكري والثقافي،تستنهض القصيدة جحافل العواطف النصف معطلة،تبوح له بأسرارها ويبوح لها بفيض من المشاعر الصادقة،فالقصيدة التي لا تثير القارئ ولا تنجب الأسئلة هي خارج الابداع.
وما يلفت النظر في جل قصائد الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي(قصيدة عيد الجلاء نموذجا) اللغة الشعرية الراقية والمميزة، "د-طاهر مشي" لا يكرر كلمات الغير ولا يستعير عذب الشعر من فحول الشعراء،بل يجتهد حين يغزل لنا الجمل والصور الشعرية المبتكرة والجديدة،لغة "الطاهر" اقرب الى لغة الشاعر الكبير "جبران خليل جبران"،حيث تتوافق الصور الشعرية مع الفلسفة العميقة،ونصرة المظلوم والدعوة الى السلام والحق والطهارة والصدق.
خلاصة:
الشاعر فنان يرسم لوحة تشكيلية بالكلمات لن يتذوق جمالها إلا عاشق الجمال.والناقد مرآة من زجاج مجهري يظهر ذلك الجمال لضعاف البصر في شاشة الشعر.
والقصيدة التي طرّزها الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي جاءت في شكل لوحة فنية في منتهى الروعة والجمال بل كهف من الكنوز..
على سبيل الخاتمة:
يبقى الشعر على رغم تواريه خلف ظلال فنون أدبية أخرى في عصرنا الحاضر شمسًا تضيء بالحقيقة،وقلبًا ينبض بالعاطفة،وصدقًا يحكي مرارات الواقع،وعبقًا يعطر حدائق الحياة، وإلى جانب هذه الشعرية الإنسانية المرهفة تتحول القصيدة إلى بندقية تذود عن حياض الوطن، ورصاصة تخترق جبين الغدر،وسمًّا زعافًا يسري في جسد الخيانة.
واتخاذ الوطن ساحة للإبداع الشعري رسالة سامية يتلقاها الشعراء راية من رايات الفخر، ويبذلون الوسع لكي يرتقوا بكتاباتهم في هذا المضمار.وكم خلد الوطن على مدار التاريخ شعراء عشقوا تراب الوطن،وتغنوا بفضائه البهيج،وناضلوا وكافحوا مثل جندي باسل يبذل روحه ودمه فداء لوطنه.ويحق لنا أن نفخر بهؤلاء الشعراء،وأن نحفل بإبداعاتهم،وأن نسلط الضوء عليها،لارتباطها بقيمة عالية،وهي حب الوطن والتفاني والإخلاص لأجله.وكم يحق للشاعر الذي يعد لسان الأمة أن يفاخر بوطنه،وأن يفسح المجال لهذا الوطن المعشوق لكي يتنقل بين قوافيه في تجليات مختلفة.
على خطى هؤلاء الشعراء المبدعين،يطل علينا الشاعر التونسي المبدع د-طاهر مشي في قصيدة وطنية(عيد الجلاء)،تتجاوز ثنائية الأنا والآخر،والسائد والمهمش،ليشرق الوطن (تونس) فيها جليًّا،ويطغى بعنفوان محبته والغيرة عليه على معظم طروحاته الشعرية التي تنوعت مساراتها.فنراه يتجلى أمًّا رؤومًا تحتضن أبناءها،ومعشوقة حسناء ألهبت قلوب محبيها،وشبابًا متجددًا يطمح نحو العلياء،وطهرًا نقيًّا لا تشوبه شائبة.
ومن هنا،يلمس من يتأمل أبيات الشاعر "الطاهر" اتجاهه نحو إحكام أبياته الشعرية،من حيث المعنى واللفظ والموسيقى،لتصبح كالحكم التي تتناقلها الألسنة،وتطير بها الركبان،وتوظيف الحكمة في الأبيات الشعرية الوطنية قيمة عالية ترفع مكانة القصيدة،وتحيل رمزيتها الطاغية إلى عمق فلسفي يتقرر إدراكه في خلجات القلب وبواطن الروح.
لذا أدعو القراء الكرام للولوج إلى مخازن هذه القصيدة العذبة (عيد الجلاء) والاغتراف من معادنها النفيسة.إكراما لوطنية هذا الشاعر الفذ الذي ذاع صيته في أرجاء تونس وخارجها.
وأخيراً،فإن ما زعمنا انه قراءة،ليس إلا مفاتيح قراءات أخرى نأمل أن تدرس جوانب أغفلناها.
قبعتي يا شاعرنا الكبير-د-طاهر مشي.

هوامش:
*عيد الجلاء هو عيدٌ يحتفلُ به التونسيون في يوم 15 أكتوبر،وهو تاريخ جلاء (إخراج) آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية يوم 15 أكتوبر 1963.
1-رشيد يحياوي: قصيدة النثر ومغالطات التعريف،علامات،م8, ح32, آيار 1999،ص56.
2-حميد لحمداني,القراءة وتوليد الدلالة،م. ث. ع ( بيروت ) ط1, 2003, ص70.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا