الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمردُ فرانكنشتاينْ شِيلِي

عبد الله خطوري

2023 / 10 / 26
الادب والفن


لقد آرتأيتُ وأنا أقارب هذا الموضوعَ، أن لا أستحضرَ في تلقيه صور أغلفة كتاب من هذا النوع الملتبس أو غلاف بعض الأشرطة السينمائية التي تعاملتْ معه آقتباسا حَرْفيا مباشرا أو حِرَفيا غير مباشر .. فضلتُ عوض ذلك آستحضار صورة مؤلِفةٍ (بكسر اللام بصيغة آسم فاعل من غير الثلاثي) عمل مليئ بالمُسوخ والتحولات، لتَظْهَرَ لعيان الأذهان المفارقةُ بين الحُسن والقُبح، بين الكاتب وعمله، فالرائي لصورة المؤلِفة الحسناء لا يصدق أن صاحبتها كاتبة لتشوهات ماسخة ممسوخة ومرعبة، بما في العملية من عنف وتعنيف وقساوة مبالغ فيها .. المسوخ هنا ليست من قبيل مجازات كافكا في تحولاته، بل هي أقرب إلى كيميائيات (الدكتور جيكل والسيد هايد) ل(روبيرت لويس ستيفنسون) .. وما سيليها من نظائر مشابهة استهوت شركات الأفلام فعملت جهدها الى نقلها على الشاشات كطريقة من طرق الإثارة وتغذية غرائز استهلاك كلما هو غريب شاذ خارج عن المألوف ...
الرواية تتحدث عن الطبيب "فيكتور فرانكنشتاين"، ابن "ألفونس فرانكنشتاين" و"كارولينبيوفورت" .. طالب ذكي يدرس الطب والتشريح .. يكتشف في المختبر طريقة يستطيع بمقتضاها بعث الحياة في المادة، فيبدأ بإنتاج / "خلق" مخلوق هائل الحجم عن طريق الجمع بين أشلاء آدمية متفرقة، ليكون الناتج كينونة من فوضى في منتهى البشاعة .. لم يقصد فيكتور فرانكنشتاين أن يخلق مسخًا، لكنه عندما صنع "إنسانًا" من أعضاء الجثث وبث فيه طاقة الحياة، ترك المجال لمخلوق رهيب يتحرك بحرية في البيئة الريفية المحيطة .. لقد ارتكب خطأ ما جعل هذا "المخلوقَ" غاية في القبح، وقبل أن تدب الحياة فيه ببرهة يهرب "فيكتور" من المختبر، ليكتشف بعد ذلك أن صنيعه خرج عن السيطرة إلى درجة قتله أخ "فيكتور" وتوجيه التهمة للخادمة وإعدامها ... الطبيب "فرانكنشتاين" يعلم أن مسخَه هو المسؤول عن هذه الأحداث، لكن ما عساه يفعل بعد أن تفاقمت الأمور وبدأت تخرج عن السيطرة .. يبدو أن المراد من هذا الجنوح نحو العنف وسفك الدماء لفت نظر الطبيب الى منتوج ما جنت يدااه .. لقد تعقدت الأمور الآن، فهاهو ممتوجه يأتيه الغريب يطلب منه أن يُنتجَ له آمرأة مناسبة لأنه يشعر بالوحدة .. لقد اكتسب صفات سلوكية إنسانية بسرعة لافتة تعلم فيها القراءة والكتابة، بيد أن شكله الحقيقي المرعب يقف حاجزا أمام محاولاته الحثيثة للتواصل والمجتمع .. لذا، كان لزاما إيجاد علاج يخفف من تبعات تواجد شاذ في حياة شاذة لا أمل فيها لا رجاء ... يوافق "فرانكنشتاين" على "صناعة" أو "خلق" آمرأة لائقة بمسخه، ويذهب لهذا الغرض مع صديقه "هنري" إلى أسكتنلندا، وقبل أن يهم بـصناعة المرأة آعتراه خوف عواقب تكرار المنتوج السابق بمُواصفات ماسخة شريرة، فعمد إلى تدمير ما بدأه قبل لحظات من إتمامه له .. وهنا يشعر "المسخ" الذي كان يراقب عمله سرا بغضب هائل فيحاول قتل الطبيب الذي يتمكن من الفرار عائدا إلى بلدته ليتزوج هناك ... ولكن الفاجعة والمصائب تتبعه، حيث يطارده صنيعُه ويقتل زوجتَه في ليلة الزفاف نفسها، ويموت أبوه " حزنا من الأحداث الرهيبة التي قاستها العائلة، فيقرر حينئذ البحث عن هذا المسخ ليضع حدا لسلسلة المآسي هذه، فيذهب لأجل ذلك إلى القطب الشمالي يقفو آثار المسخ هناك ...
تعكس الرواية تيمات متعددة وتجليات فنية شتى، لعل من أهمها على سبيل الحصر لا الاستقصاء ما يلي :
_السَّيرُ في طريق كتابة التحولات، نذكر هنا مثالا من البدايات ل(تحولات الحمار الذهبي) للوكيوس أبوليوس .. بصيغة : (الجسم حيوان والعقل والقلب بشريان )
_السير على منوال الكتابة القوطية التي كانت منتشرة في عصور أوروبا الوسطى
_الفنطاستيك العجائبي بتوابله التقليدية الموروثة عن العصور السابقة ...
_الكتابة على طريقة الخيال العلمي التي بدأت تظهر وتنتشر وستتطور مع أعمال (جول فيرن) الاستباقية ..
_حدود وظيفة العلم ببيولوجيته التي صنعت المسخ من أبدان وجثت موتى وفيزيائيته التي بثت فيه الطاقة .. أ هي نسبية أم مطلقة ..
_المعرفة ذات النتائج الوخيمة أو الجهل الآمن .. ما الخيار ؟! .. ما العمل !؟..
_علاقة العلم بقيم الإنسان والإنسانية
_مدى التحكم في سرية التجارب العلمية وتطويقها .. ما العمل إذا خرجت الامور عن السيطرة .. ولعل هذا المنحى مبحث العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية قديمة حديثة ومعاصرة ...
_اعادة التفكير والتأمل في نظرية الخلق الإلهي للبشر بتوابلها الفلسفية المعروفة:
علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة الخالق بخلقه / المطلق والنسبي / الكمال والعطب / البدايات والنهايات/ الوجود والعدم / القدر / الحرية / الطاعة / التمرد والعصيان / الخير والشر / تحمل المسؤولية / الرعاية / الفوضى/ النظام / القتل ...
_التأمل في كينونة الإنسان ذي النزوعات الغامضة الحافلة بالمفارقات والتناقضات حتى غدا ما يعرف ب : (الفصام) خصيصة عادية لا مرضا يستوجب علاجا ما .. هو ذا وجود الإنسان منذ آنحداره الأول أعراض وجع معيش لا علاج له .. وجود يعاش كما هو وكفى ...
... "ماري وولستُنكرافت شِلي".. هو اسم مؤلفة هذا الجو القاتم المشحون بالفضاعة، لم تعش جوا سوداويا أو ظروفا كئيبة لتجعلها تنسج مثل هذا النسيج؛ بل بالعكس، عاشتْ في جو ثقافي أدبي شعري رومانسي لا تعيقه صعوبة العيش ولا ضنك الحياة، فهي زوجة شاعر معروف وسليلة عائلة أدبية.وهي رغم كل هذه المُفارقات الصارخة في روايتها هذه، ظلت وفية للأحاسيس الرومانسية التي طالما كتب بها زوجها وكتبت بها هي نفسها.فالكتابة عن المسوخ والمتحولين والوحوش الذين في صفة الإنسان ليست كتابة رُعب من أجل الرعب أو للتسلية بل تتضمن في طياتها مدلولاتٍ إيحائيةً عميقةَ الجذور؛ إذ يمكن النظر إلى هذا المخلوق الوحش الغريب كصورة للتمرد الوجودي الذي سلكه المخلوق اتجاه الخالق طيلة المسار الوجودي للإنسان إبتداءً من حكاية "إبليس" الرافض الذي أبى الانصياع للأوامر الإلهية مرورا بكل المتمردين في الأساطير والحكايات الانسانية على مر التاريخ قبل برومثيوس سارق نار الحكمة وبعده ...
إننا هنا أمام صورة متنافرة مشتتة .. مرآة لااا تعكس صورة صاحبها، بل تخدشها، بل تقلبها، بل تشوهها، كما هو حال صورة الكاتبة في عملها مشوهة تماما عما هي عليه في الحقيقة .. الوحش في بداية المطاف ونهايته من خطرات شيلي من بنات أفكارها المستعارة من تجربة الكتابة قبلها، وهي إذ تستعير أو تعيد انتاج أو تبدع انما تعبر عما يمور داخلها من أحاسيس متأججة .. وحشها في كتابها تعلم القراءة والكتابة وله إحساس مرهف آستطاع به تذوق أشعار ميلتون في فردوسه المفقود، ذاك الكتاب الذي طالما أعجبت به الكاتبة، وهو أقرب الى النباتي منه الى آكلي اللحوم كيفما كانت .. أليس ذلك وغيره تجليا من تجليات أحاسيس شيلي تبثها كتابتها بطرق مضمنة أحيانا وصريحة أخرى .. وما جدوى الكتابة فوق ذلك وذاك إن لم تساهم ولو بقدر معين في تخفيف من لواعج أصحابها .. الكِتابة فلذة من فلذات كاتبها، هي ككينونة فرانكنشتاين فعل تمرد رافض ثائر على كل شيء حتى على مَنْ يكتبها، إنها إعادة إنتاج التمرد الأزلي الذي طالما سلكه الإنسان بخروجه كمخلوق عن طاعة خالقه ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي




.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو