الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات الدكتور إبراهيم ماخوس - الحلقة الرابعة عشر -

إبراهيم معروف

2023 / 10 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


*بوادر الأزمة داخل الحزب وانعكاساتها السلبية عليه *
وتناقضها مع ذلك المدّ الشعبي المتصاعد !!!

* كان المد الشعبي، الذي تفجر إبان النضال ضد نظام الشيشكلي الديكتاتوري، قد تواصل بعد إسقاطه في مواجهة وإحباط سلسلة المؤامرات الامبريالية الرجعية المتلاحقة، وبلغ ذرى عالية بين (1954-1958) لا في سورية فحسب، بل في العراق والأردن ولبنان ومعظم أرجاء الوطن العربي عامة. حيث كان الحزب يقود معارك الجماهير ضد الأحلاف الغربية، والأنظمة الرجعية التابعة، ودعم الثورة الجزائرية والكفاح المسلح في أقطار المغرب العربي، ضد الاستعمار الفرنسي، ومن أجل الوحدة القومية التقدمية.

ولكن، ومن المفارقات المؤلمة جداً، أن الحزب كان قد بدأ يشهد أزمة داخلية مستفحلة، ويتجوّف تنظيمياً، ويتراخى، ويميل إلى التسيب والعفوية والانفلاش، بفعل الصراع- الذاتي المدمر بين الأستاذين عفلق والحوراني، واختلاف نهجيهما الحزبي، فيهدر- كالعادة، بفعل مشاكله الداخلية -المصطنعة أحياناً- فرصة تأطير ذلك المد الشعبي العظيم، ونقله من مرحلة العفوية التي تهدده بالتبدد والضياع، إلى مرحلة التنظيم الثوري المحكم، القادر وحده على الصمود، وضمان الاستمرارية النضالية والفعالية المطلوبة، لتحقيق المهام الوطنية والقومية المطروحة، والوقاية من الانحرافات، والتصدي الشعبي لها في حال ظهورها.

وقد (سهّلت) تلك الأزمة على (القيادة التاريخية)، الاستهانة بقواعد الحزب ومؤسساته الشرعية المسؤولة، والإقدام على (حلّه) في القطرين (السوري والمصري) استجابة لشرط الرئيس عبد الناصر المسبق ليقبل قيام الوحدة. بل اتخذنها ذريعة (لتبرير) قرار الحل، كما حاول ذلك الأستاذ ميشيل عفلق، في كلمته المطولة أمام المؤتمر القومي الخامس، المنعقد في أواسط أيار(ماي) 1962 أيام الانفصال(1) التي نذكر منها بهذا الصدد:"...إن الحزب عندما عمل الوحدة لم يكن في حالة تمكنه من حمايتها، وأما القبول بحل الحزب فكان خطأً بلا شك، وخطأً كبيراً، (وهذا ما لم يعترف به في المؤتمرين القوميين الثالث والرابع) أيام الوحدة، إلا أنه في واقع الأمر كان تكريساً لشيء موجود وحاصل، ولا أظن أن الكلام هذا يؤخذ بالدقة الرياضية، المقصود أن الحزب في ذلك الوقت كان يعاني من عوامل التناقض والتشويه والانحلال بداخله، ما كان ينذر بأنه سيحل نفسه... الخ" [راجع الخطاب في المصدر المذكور]، ولاحظوا - قبل ذلك- أية قيادة هذه، التي تهدر نضال الحزب الجبار في تلك المرحلة، التي جعلته -حتى في ظل الحكم البرجوازي- يصل إلى رئاسة مجلس النواب!!!؟؟

- وأذكر هنا، بمنتهى المرارة، أن الخلافات (المزاجية) والشكوك المتبادلة انتقلت من داخل الحزب إلى خارجه، حيث بدأت (الأجهزة المصرية) تلعب بين أعضاء القيادة، وقد حدثني المرحوم "محمود رياض" وزير خارجية مصر بعد تجدد علاقة الحزب مع الرئيس عبد الناصر، إثر حركة 23 شباط (فيفري) 1966، (الذي كان سفيراً لمصر في سوريا، قبل الوحدة)، كيف كان يأتي لزيارته كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار، دون علم الآخر، والاستقواء به، قبيل الوحدة، على حد قوله؟! وأرجو أن لا يكون الواقع بتلك الصورة، وأن يكون مجرد "ّتوهم" شخصي فقط، لأنه ساهم في تبهيت نظرة الإعجاب والاستلهام الناصرية السابقة للبعث، وبدء استهانة الرئيس عبد الناصر بتلك القيادة، وأدى إلى الكثير من الكوارث اللاحقة؟!..

- والحقيقة أن (المرض) كان في (الرأس)، ويظهر دوماً –كما ذكرنا سابقا- بمجرد اقتراب الحزب من السلطة، والمشاركة فيها، حيث تتفجر التناقضات داخل القيادة، فيما كان جسم الحزب سليماً، بصورة عامة، وأن الأستاذ عفلق، كان يشعر أن الحزب قد بدأ يخرج عن (طوعه، -كعادته دوماً- إزاء أي تجاوز لشخصه، ذلك أن الحزب بكوادره المتقدمة، قد بدأ يدرك الحقائق، أكثر من قبل، عبر التجارب المريرة التي خاضها إبان مراحل الانقلابات خاصة، وتضعف ثقته (المطلقة) بتلك القيادات، ويتخلى عن نظرته (القدسية) السابقة لها، أقول هذا رغم أني شخصياً، لازلت أحمل مشاعر المحبة والتقدير للأساتذة، رحمهم الله، بغض النظر عن كوني من ذلك الرأي- وعن كل الخلافات الحزبية والسياسية اللاحقة المعروفة-.

المؤتمر التنظيمي: وفي محاولة لتدارك الموقف، وإيقاف التسيب والانفلاش، وإعادة ضبط أوضاع الحزب، وإلزام (نوابه) بمقررات المؤسسات الحزبية المعتمدة، والمحافظة على المكاسب الشعبية المحققة، وتجديد وتوثيق الصلات النضالية المباشرة الحية والمتواصلة بين الحزب والجماهير.. عقد "مجلس الحزب" في القطر السوري (في 9-12 تموز (جويلية) 1957) "مؤتمراً تنظيمياً" ركز على الأسس التنظيمية في حياة الحزب، وأكد على وحدة الحزب المبدئية "الراسخة" و"القيادة الجماعية"، و"اعتماد المركزية في التوجيه، و"رفض أي تصرف شخصي أو اجتهاد فردي إلا في حدود النظام الداخلي، "مع ضرورة وضع "خطة مرحلية" واضحة ومحددة يجري التقييد بها، والعمل بموجبها فقط، و"التمسك بالانضباط الحزبي، وفقاً لدستور الحزب ونظامه الداخلي، وقرارات المجالس الحزبية "كمرجع وحيد"، وتحقيق التماسك الداخلي في الحزب، وتصفية العناصر غير الجديرة بشرف عضويته...الخ"(2).

... ويلاحظ أن هذا "المؤتمر القطري التنظيمي"، كان موجهاً بالأساس لكبح الأستاذ أكرم الحوراني و(كتلة) الحزب البرلمانية، وإلزامهم بقرارات ومؤسسات الحزب الرسمية. "وهذا يجد تفسيره في واقع الحزب المعروف في تلك المرحلة، حيث كانت التناقضات داخل القيادة قد بدأت تخرج من السر إلى العلن منذ عام 1955 بين اتجاهين: الأستاذ ميشيل والأستاذ أكرم، وزاد الطين بلة استدعاء "عبد الله الريماوي " من الأردن، وتفريغه ليعمل متفرغاً في القيادة القومية بدمشق، على أساس تحسين العمل الحزبي كونه "بعيداً عن الأزمة"، ولكنه مارس دوراً أسوأ من دور "الدكتور منيف الرزاز" الذي جيء به في المؤتمر القومي الثامن عام 1965.

وكانت تلك الخلافات تنتشر داخل الحزب بصورة غير موضوعية، وتأخذ شكل اتهامات خطيرة متبادلة، لا تستند على أية حقائق سوى الشكوك والأحقاد الذاتية بين أولئك القياديين!! (وأؤكد من جهتي- وعلى ضوء كل حياتي في هذا الحزب – أنه لا ترقى لإخلاصهم ووطنيتهم ذرة من الشك على الإطلاق)، وأن الخلافات خارج هذا الإطار قطعاً).

"فقد كان الأستاذ ميشيل يعتبر أن أكرم ومجموعة الحزب البرلمانية الكبيرة والنافذة، تستهتر بالحزب، وتستهلك وجوده وسمعته في أعمالها السياسية البعيدة عن مبادئه وأهدافه، وأن هؤلاء جعلوا من العمل السياسي بديلاً كاملاً للعمل الحزبي، وعلى حسابه، ولم يعودوا في جميع اتصالاتهم وتصرفاتهم ونشاطاتهم يرجعون إلى قيادة ومؤسسات الحزب المسؤولة، علماً أن أولئك النواب بمن فيهم، صلاح البيطار بالذات – رفيق حياة الأستاذ ميشيل الأول- أصبحوا أقرب إلى الأستاذ أكرم منهم إليه، لأنه الأكثر نفوذا في الدولة.

وهكذا كان الأستاذ ميشيل يصور للرفاق الحزبيين المقربين منه (ونحن في مقدمتهم) أن الحزب في طريقه إلى الضياع، وأنه لا بد من العمل بكل الوسائل والأساليب لاستعادة هيبة الحزب وسيطرته على (نوابه) و(تركيعهم) نهائياً، وإشعارهم بأنهم غير قادرين على عزله وإبعاده عن الأحداث.

وقد جرى تحريض أولئك الرفاق بصورة غير موضوعية، وتتنافى مع الأخلاق الحزبية، واستخدامهم في ذلك الصراع، حتى إذا أدى غرضه في التشهير بالأستاذ أكرم ومؤيديه، بادر إلى إرسال الوفود لاسترضائهم وإعادتهم إلى القيادة.. (علما أن الأستاذ أكرم كان يفعل الشيء ذاته في دائرته الخاصة أيضا) .. وهكذا دواليك .. الأمر الذي أشاع في الحزب جوا مرضيا خطيرا، وجعل معظم كوادر الحزب المتقدمة، تفقد ثقتها بالقيادة – بعد أن عرفتها عن قرب، وعايشتها، وكشفت خطورة وإسفاف ممارستها المذكورة(3)

والحقيقة أن الأستاذ أكرم، بحكم طبيعته الزعامية المتميزة، وموقعه القومي كرئيس لمجلس النواب، واعتداده الشديد بنفسه، وانطلاقاً من وطنيته (التي لا شك فيها بأي حال)، لا يلتزم (بالتنظيم) (لأنه لم يتكون أصلاً داخل تنظيم حزبي حقيقي – لأن التفاف "حزب الشباب" حوله. كان شخصياً) ولا يتقيد بالانضباط الحزبي، والأسس الديمقراطية النضالية المعتمدة – بل يتصرف كزعيم ومحرك لمن حوله: حزباً وجمهوراً، حسب رأيه وقناعته، واجتهاده الخاص. ويعطي لنفسه الحق في المبادرة والتصرف، بشكل فردي، ومنه ما يراه هو مفيداً للقضايا المطروحة، وبنهج (براغماتي)، لا يرفض التعاون مع أحد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بما يعتبره محققاً لهدفه، وتصوره (الواثق) أنه قادر على (تجيير) كل ذلك لخدمة ذلك الهدف بالذات..!!

ومع التأكيد مجدداً، على وطنية الأستاذ أكرم وشجاعته النضالية، وحيويته الفائقة، إلا أن تجارب الحياة قد برهنت، وبثمن باهظ، أخطاء ومخاطر التفرد. وأن القضايا العامة أكبر وأجل من أن يتحكم بها شخص واحد، مهما بلغ من العبقرية والإخلاص، واستحالة النهوض بالمهام الوطنية والقومية، خاصة في مواجهة الامبريالية الصهيونية، بالنجاح المطلوب، بدون تنظيم ثوري مؤهل. وأن العمل الجماعي الديمقراطي هو المبدأ الذي يجب أن يلتزم به الجميع.

وقد يأتي الوقت المناسب، الذي نستعرض فيه تجربتنا الفاشلة مع الأستاذ أكرم، في محاولات العمل الجهوي الديمقراطي في الثمانينيات واستمراره في عادة التفرد! إذا سمحت الظروف بذلك.

وحبذا لو توفر للحزب قائد يجمع في شخصه كل الصفات الإيجابية لكل أعضاء القيادة المؤسسين والأساسيين: عفلق والبيطار والحوراني والأرثوذي، والدكتور وهيب، وعبد البر.. الخ، إذن لحصل الحزب على قائد ثوري عظيم. ولغياب ذلك، وعدم إمكانية تحقيقه، بل وخطأ وخطر المراهنة على (شخص الزعيم) وحده، بأي حال، مهما بلغ من العبقرية والعظمة والسمو، فالقيادة الجماعية، التي يؤمن بها الحزب، هي الحل الأفضل، والصيغة المثلى، التي يمكن من خلالها استخلاص وجمع تلك الصفات والقدرات الايجابية المتعددة والمتنوعة والمتكاملة، الموجودة في أشخاص القادة، لا "جمعاً كمياً" فقط، بل تحولها إلى حالات نوعية أكبر وأهم، وذلك بصورة ديمقراطية خلاقة، تجسد القيادة الثورية المنشودة – الأمر الذي تزامن - على قصره- بفترات مضيئة في حياة الحزب.

ولكن أمزجة البشر، وعقلياتهم الخاصة، وتراكمات قرون التخلف والظلام المديدة، والتناقضات التي تبرز إزاء القضايا المطروحة، وفقاً للمواقع الطبقية، ودرجات الوعي الاستراتيجي، كانت تحول دون ذلك، بل أن بعضها كان يضعف الرأي الآخر، أو يلغيه.

إن موقف القيادة التاريخية الخاطئ من الانقلابات، وما جرّه ذلك على الحزب والوطن من مشاكل وتضحيات، ثم من القوى التقليدية الإقطاعية – البرجوازية، بعد إسقاط تلك الانقلابات، وإعادة الاعتبار لها ".. وكذلك من "مسألة السلطة"، وإعادتها مجاناً لتلك القوى المذكورة. وأخيراً الأزمة المتفجرة داخل الحزب، التي كادت أن تجهض كل تلك الانتصارات والنهوض الشعبي الذي قاده الحزب، " إن ذلك كله، قد ساهم في إيقاظ وعي العديد من الكوادر المتقدمة على كثير من الحقائق، وانضاج تجربتهم النضالية، واكتشافهم لحقيقة تلك القيادة، وفجيعتهم، بأنها ليست تلك القيادة، التي كانوا (يقدسونها) سابقاً، حيث أثبتت الوقائع عدم قدرتها وجدارتها بقيادة حزب الثورة العربية إلى النصر.

وبالنسبة (لمجموعتنا)، وبعد اهتزاز ثقتنا بتلك القيادة، كنا نتصور أن الثورة الجزائرية هي التي ستقود الأمة العربية، وأن شمس العرب ستشرق من المغرب هذه المرة، التي كونها أهم ظاهرة ثورية معاصرة في الوطن العربي، إلا أنها – ولعوامل وظروف كثيرة: داخلية وخارجية متعددة ومتداخلة، ليس مجال تحليلها الآن- وبعد أن استعادت الاستقلال الوطني من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني، لم يقدر لها رغم مساهماتها المقدرة، وإشعاعها العربي والعالمي التقدمي المؤثر- أن تتصدى لتلك القيادة المنشودة، وحمل المشروع العربي الحضاري الجديد، بل تعرضت – بعد رحيل الرئيس بومدين الفاجع على الخصوص- إلى المحاصرة والارتداد والانكفاء القطري، كسائر الحركات التقدمية الأخرى في سورية ومصر والعراق..الخ.

ذلك أن وضع التيار العربي- الإسلامي- التقدمي في الجزائر مرتبط جدلياً بتأثيرات متبادلة- وإلى حد بعيد، بالأوضاع في المشرق العربي، في حالتي النهوض والانحسار.

وأخيرا، لا بد من المسارعة إلى القول أن القيادة العربية الثورية الحقيقية، لم تتوفر "لحزبنا، ولا لغيره من القوى السياسية في الوطن العربي بأسره- حتى الآن- وهي بالطبع لا تعني شخصاً واحداً، مهما كان وأيا كان، ولا تقتصر على مجموعة أشخاص قيادية محدودة، بل حركة ثورية شعبية كاملة، تضم تحالف قوى الأمة الحية، مؤهلة لتحقيق الثورة القومية- الديمقراطية- الاشتراكية- المعاصرة حتى النصر.

* والخلاصة، فإن الأحداث والوقائع التي جرت في تلك المرحلة الهامة من حياة الوطن والحزب، والتي استعرضناها حتى الآن، وكيفيات تعامل القيادات والحزب عامة مع كل ذلك، كان لها انعكاساتها وتأثيراتها الكبيرة على مجمل مراحل مسيرة الحزب اللاحقة.

هوامش:

1- نضال البعث – الجزء الرابع - (122-153).

2- "نضال الحزب- الجزء الثالث ص (254-258)"، و "دراسة أولية حول نقد تجربة الحزب – الجزء الأول ص (104-105)."

3- لم تستطع قيادة الحزب حلَّ ذلك التناقض بين المد الشعبي المتصاعد بقيادة الحزب، والأزمة الداخلية التي كانت تستفزه وتشله وتهدده بالتفكك!! حيث حل (الوزراء، والنواب الحزبيون) مكان مؤسسات الحزب النظامية في المركز والفروع. كما أن الأستاذ ميشيل كان قد بدأ (يغار) من الأستاذ أكرم، ونفوذه السياسي المتعاظم (كرئيس لمجلس النواب)، والتفاف حتى النواب (ذوي الأصول البعثية، قبل الدمج) حوله بمن فيهم الأستاذ صلاح البيطار. لأنه الأقوى والأكثر سلطةً وحيويةً وحزماً، بينما يعتبر الأستاذ ميشيل نفسه (مهمشاً) فلا يشاورونه مسبقاً، في اتصالاتهم السياسية مع رئيس الجمهورية وغيره، أو يأخذونه معهم إليها...إلخ.

وفي هذا السياق المختلط المضبّب بين: الموضوعية والذاتية- طلب الأستاذ ميشيل (منا نحن مجموعة كلية الطب) أن نتفرغ في مكتب قيادة الحزب، بدمشق بهدف إنقاذ الحزب، واستعادته، وحمايته من التبدد والضياع، وضبطه بصرامة وفق النظام الداخلي، وتصفية الخارجين عليه والمستهترين بمؤسساته الشرعية. وذلك قبيل تخرجنا كأطباء، حيث كنا في السنة الأخيرة. فرجوناه أن يمهلنا حتى نجتاز امتحان التخرج، فلا نضيع سنوات الدراسة السبع عبثاً، ونتحول إلى عالة على أنفسنا وعلى الحزب، وذلك لمصلحة الحزب والمجتمع في الوقت ذاته.

..وبانتظار ذلك، وقبل أن (نتورط) بالتفرغ، وفي "مجلس الحزب" الذي عقد في عام 1955، (وهو الأخير الذي حضرناه)، اكتشفنا حقيقة تلك المناورات المؤسفة، التي كانت تدور في قيادة الحزب. وأن الأستاذ ميشيل كان يريد استخدامنا لإحكام سيطرته على الحزب، وتطويع معارضيه أو تصفيتهم؟!.

• فقد كان الأستاذ ميشيل، يحرض (مجموعتنا) وبقية (المقربين) إليه في لقاءاتنا الجانبية الخاصة معه، ضد الأستاذ أكرم و(مجموعته) الذي علمنا أنه كان يقوم هو الآخر بالشيء ذاته ضد الأستاذ عفلق!!! في إثارة (شكوك) ذاتية متبادلة سخيفة ومتهافتة، لا ترتكز على اي أساس موضوعي لأن –كليهما- وطنيان وقوميان لا يرقى إلا إخلاصهما أي شك. ولكنهما يختلفان في العقلية والنهج والمزاج والممارسة العملية.

ومثال ذلك –كما أذكر- ما قاله لنا الأستاذ ميشيل حول تصريح الأستاذ أكرم لإحدى الصحف اللبنانية التي سألته عن رأيه "بشراء العراق (أيام نوري السعيد) لصفقة أسلحة أمريكية في ذلك الوقت؟..

الذي كان، بما معناه: أنه يرحب بحصول العراق وأي بلد عربي على السلاح.. لفائدته ضد (إسرائيل) وهذا يعني –حسب رأي الأستاذ ميشيل- شيئاً يفوق مستوى الخطورة؟! ذلك أن "قانون الأمن المتبادل الأمريكي" –المعروف- الذي لا يسمح باستخدام السلاح الذي تبيعه أمريكا لأية دولة عربية أو غيرها، ضد (إسرائيل) أو المصالح الأمريكية، بأي حال. بل يحظر بيعه، أصلاً، لأية دولة عربية معادية (لإسرائيل).

فإما أن الأستاذ أكرم لا يعرف ذلك (القانون)، "وتلك مصيبة" وجهل غير مبرر لقائد حزبي وسياسي بمستواه، أو أنه يعرفه ويتجاهله، و(تلك مصيبة أخطر) حسب قول الشاعر:

"إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!"

حتى إذا حضرنا ذلك "المجلس الحزبي"، وعبّر الرفيق نور الدين الأتاسي، عن ذلك، وغيره من (التهم) الأخرى، والتساؤلات التي كان يزودنا بها "الأستاذ ميشيل"، وانسحاب الاستاذ أكرم من تلك الجلسة، وقف الدكتور مدحت البيطار يرد على الرفيق نور الدين، ويهاجمه، ويثني على الأستاذ أكرم. بينما بقي الأستاذ ميشيل صامتاً. عندها انسحب الرفيق نور الدين منفعلاً. فوقفت وقتها، وقلت غاضباً، ما معناه: نحن مازلنا طلاباً أبرياء، وليست لنا –حتى الآن على الأقل- أية مصالح خاصة، تدفعنا إلى اتخاذ مواقف انتهازية على الإطلاق، ونتمنى من أعماق قلوبنا استمرار وحدة قيادة الحزب، وأن لا يوجد فيها أي خلاف، أما أن يحرضنا الأستاذ ميشيل ضد الأستاذ أكرم، الذي لا نكن له سوى المودة والتقدير، حتى يضطر لمغادرة المجلس. دون أن يبادر لتوضيح الأمور، ويدافع عن موقف الرفيق نور الدين، ثم يتم تكليف الدكتور وهيب بوفد، يطلب إلينا أن نشارك فيه، للتوجه إلى منزل الأستاذ أكرم، لاسترضائه، وإعادة انتخابه في القيادة. بعد أن يكون الأستاذ ميشيل قد أحرجه، ونال منه، وجرح أحاسيسه وحاول إذلاله -عن طريقنا- فهذه مناورات لا نفهمها، ولا نشارك فيها، ثم انسحبت بدوري. فلحق بي الأستاذ ميشيل (مهرولاً) على غير عادته الرزينة =حتى "قاعة الشاي" المعروفة في آخر الشارع ذاته، يعاتبنا على تصريحنا بما قاله لنا سراً، عن أكرم. ولما لمناه على تناقضاته، قال ما معناه: "أنكم لا تفهمون ولا تصلحون للسياسة، ولا مستقبل لكم فيها"؟=. ويبدو فعلاً أننا لا نفهم هذا النوع من السياسة حتى الآن. ولا نريد أن يكون لنا مستقبل فيها أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أن الدكتور وهيب كان شديد التألم من ذلك الجو المرضي وخطورته على وحدة الحزب. وكذلك الرفيق "علي عدي" الذي ألقى كلمة عاطفية، وبلغ به التأثر حد البكاء تقريباً.

•وهكذا كان الأستاذ ميشيل يريد أن يطبق مع الأستاذ أكرم نفس النهج الذي اعتاد أن يطبقه مع الأستاذ صلاح. حيث كان يحرض الرفاق عليه –كما ذكرنا- حتى (يتوب) (فيغفر له) ويصالحه بعد ذلك، علماً أن شخصية اكرم المعروفة، لا تحتمل مثل ذلك النهج، الذي كان يعني، في حال استمراره، تفجر الحزب.

ولقد كان ذلك النهج من الأسباب الأساسية في ابتعاد (مجموعتنا) عنه، بعد ان كنا بمثابة (حوارييه) وأقرب الناس إليه.

=ولم يستطع الحزب فعلاً، إيجاد صيغة عملية نظامية فعالة لضبط (نوابه) و(وزرائه)، ومواصلة عمله التنظيمي السياسي وفق برنامج مرحلي واضح محدد وملزم.

ولم نحضر –بعدها- أي مؤتمر حزبي. حيث دعينا (لخدمة العلم) بعد التخرج. ثم بادرنا إلى التطوع في صفوف الثورة الجزائرية، وعدنا بعد "حل الحزب" وقيام الجمهورية العربية المتحدة. حيث تفرغنا لاستكمال اختصاصاتنا الجراحية. وفي فترة الانفصال رفضنا الانضمام إلى (التنظيم الذي كان يقوده عفلق، أو التنظيم الذي كان يقوده أكرم) كما فعل عدد هام من الرفاق الحزبيين الآخرين، حتى حركة 8 آذار (مارس) 1963، أي أن اهتزاز ثقتنا بالقيادة التاريخية كان قديماً، وعودة العلاقة –مع بعضهم- بعد 8 آذار(مارس) 1963 -كما سنرى- لم تكن كالسابق، رغم محاولات الأستاذين ميشيل وصلاح الحثيثة (رحمهما الله) لإعادتها إلى مجاريها الحميمية القديمة.

-ولقد كنت أعرف الأستاذ أكرم –قبل اندماج الحزبين- عن طريق جاره وصديقه الرفيق صدقي إسماعيل (رحمه الله) ثم عن طريق الرفيق الدكتور وهيب الغانم الذي كان صديقه أيضاً. وكنا معجبين جداً بجرأته ودفاعه عن الفلاحين، ووقوفه ضد كل أشكال التدخلات والمشاريع الأجنبية والرجعية في القطر السوري. ومجابهته –وحده كنائب في البرلمان خلال مدة طويلة في البداية، قبل نجاح النائب البعثي جلال السيد عام 1949. لكل القوى الإقطاعية-البرجوازية الرجعية، التي كانت تهيمن على البرلمان والحكم عامة. حيث كان يعتبر صوت الشعب بحق. ولذلك كنا سعداء جداً باندماج الحزبين لاحقاً.

واذكر أننا زرناه مرتين (كمجموعة) بعد الدمج: إحداها، في بيته بدمشق، بعد عودته مع الأستاذين ميشيل وصلاح من روما –كما أظن- عندما جاءت سيارات الشرطة، لأخذه (شبه معتقل) إلى وزارة الداخلية، أو الدفاع (لم أعد متأكداً)، وكيف خرج إليهم شامخ الرأس، ورفض الذهاب معهم، وأصر بشجاعة وكبرياء أن يذهب بمفرده وبوسائله الخاصة لمقابلة "الجهة المعنية"؟ وهكذا كان. وقد انتظرناه أمام المنزل حتى عاد، وربما اعتقل بعد ذلك مع الأستاذين، لم اعد أتذكر بدقة.

والمرة الثانية، زرناه في مكتبه في رئاسة المجلس النيابي لنودعه قبيل سفرنا للالتحاق بالثورة الجزائرية، وهذا كله في تلك المرحلة. أما بعدها فقد اصبحت المعرفة أكثر طبعاً، وخاصة بعد الردة.

-أما الأستاذ صلاح البيطار، فمعرفتنا به قديمة ومتواصلة، منذ بداية دراستنا الجامعية في دمشق، ولكن لم تكن حميمية وفي بيته –كما هو الحال مع الأستاذ ميشيل- بل في مكتب الحزب والجريدة. حيث كنا نعتبره مناضلاً طيباً بسيطا،ً نشيطاً وسياسياً عملياً، أكثر منه مفكراً نظرياً، وقد ضحى من ممتلكاته في سبيل الحزب. وأذكر أننا تلقينا منه رسالة من "روما"، عندما كان الأساتذة الثلاثة هناك، موجهة إلى الجهاز الحزبي يطلب فيها: "أن يدخل الحزب والثورة إلى كل بيت في سورية"!. وقيل لنا وقتها، أنهم كانوا مختلفين في المنفى؟!.

وهذا –كما ذكرت سابقاً عن علاقتنا بالأستاذ أكرم- كانت في تلك المرحلة فقط. أما في المراحل اللاحقة فقد اصبحت المعرفة اعمق. وخاصة بعد الردة، حيث زارني هو والمرحوم أبو كامل محفل في الجزائر لمواصلة محادثات العمل الجبهوي في سوريا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثف غاراته على مدينة رفح


.. مظاهرات في القدس وتل أبيب وحيفا عقب إعلان حركة حماس الموافقة




.. مراسل الجزيرة: شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي على منازل لعدد


.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟




.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة