الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10

نعيم إيليا

2023 / 10 / 28
الادب والفن


صدقت سَمَر!
سمر ابنة خالتي فيوليت كانت على حق إذ رأت في الوعكة التي ألمَّت بي فألزمتني الفراش ما يزيد عن أربع وعشرين ساعةً؛ إنذاراً بما قد تتلطَّخ به نفسي من دُهْمة الاكتئاب، إنْ أنا لم أبادر فأحتط لنفسي من دهمته الكريهة.
قد يكون لي، أنا المأسور الذي تحت قبضة التذكر القهري وتداعي الخواطر في رزيئة يوم من أعظم الأيام عليَّ وعلى أصحابي وأشدها هولاً، أنْ أقدّر إنذارها على معنى النبوءة، بل إني لأقدِّره حقاً على معنى النبوءة تقديراً ينأى به عما استكثف به فضاءُ لفظ التخمين، وما شاكل لفظ التخمين كالتوقع والاحتمال، من معانٍ هلامية متشابكة متعاظلة.
أوَليست النبوءة علماً بما سيحدث في عاجل من الزمان أو آجل، ثم إخباراً به؟
فإنْ كانت النبوءة كذلك – وهي كذلك بلا ريب - وكان الذي أخبرتني به سمر منذرةً قد تحقّق حدوثُه بالفعل في عاجلٍ من زماني؛ فإني إذن حين أحمل إنذارها في لحظتي هذه على معنى التنبُّؤ، لا أكون أتيتُ إلا بالحق، بالحق كلّه لا بنُتفة واحدة منه أو نتفتين.
إن النساء – ومردُّ هذا في تقديري إلى مسؤوليتهن الطبيعية البيولوجية عن بقاء الجنس البشري مسؤوليةً أزيدَ وأضخم حجماً من مسؤولية الذكور. فللنساء أرحام، وأرحامهن على وصف كاتب محت الأيام اسمه من ذاكرتي، ولم تمحُ إعجابي بأدبه المسفوك في نصرة حقّ النساء: هنّ أسطورة خَلْق، سِفْر تكوين، شجر دهري يثمر للبقاء ثماره، تربة خصبة تنبت للحياة نباتها - لديهنَّ عَينٌ داخلية أمضى بصراً من تلك التي للذكور البائلين على الحيطان، وأحدُّ... عينٌ حديد لها قدرة خارقة على أن ترصد أبعدَ ممَّا ترصده العين الخارجية.
ولو أنَّ سائلاً قام الآن ليسألني، وهو ينوي أن يعارض بسؤاله رأيي.. أن يدحضَه:
"إن كان الأمر كذلك كما تدعي، فلماذا عدد النبيّات في التوراة بل في أكثر أديان وثقافات العالم، أقلُّ بكثير من عدد النبيّين؟" لعِيَّ لساني عن الجواب، ولعامَ ذهني في فراغ خلوٍ من كل شيء إلا من لطخة سحابةِ الفعلِ (أدري) منفياً بلا.
أهذا تقدير مني؟
أأنا أقدّر وقوع حدث لم يقع؟ أأنا أتخيل – بتعبير أجلى وأوضح - أن أُحصَب بهذا السؤال من فم سائل مجهول أيِّ سائل يزور على حين بغتة خيالي؟
كلا، فإنّ لهذا السؤال سائلاً معروفاً من قبلي حقّ المعرفة.. سائلاً معلوماً لدي منه كيف يفكر، ولماذا يفكر على هذا النحو من التفكير. هذا السائل هو صديقي المتصف بالشكاسة جوزيف كيفاركيس مدرس الرياضيات. جوزيف هو الشخص الوحيد من بين جميع الشخوص الذين أعرفهم، والوحيد أيضاً بين هؤلاء الأصدقاء المقربين مني يشاكسني في كل طالعة ونازلة من شؤون الفكر والحياة. لجوزيف – والحق لا ينبغي أن يوارى – ذهن لا يكلُّ عن التدقيق في المسائل والقضايا التي تعرض له. ذهن جوزيف يمتاز بفاعلية لا تسند ظهرها إلى جُدران الخمول والدعة واليقين. ولأنه بين هؤلاء مجتمعين يكاد يتفرد بهذه الصفة، كان الشخصَ الذي لا يبادهني منه أن يطرح عليّ سؤالاً كهذا السؤال... سؤالاً يرتزُّ ارتزاز مسمار يُدقُّ في لوح من الخشب الصلب المتين.
مَن يجهل حقيقة جوزيف وما طبع عليه من فطنة ودهاء؛ فلن تأخذه الريبة ببراءة سؤاله من الخبث والمكر والرغبة في التوريط. سيظن ظناً أنَّه لا يغترض من سؤاله غير أن يعلم بأمر ليس يعلمه، أو قد يظن أنّ منطق القضية المفترِشةِ ذراعَ الجدل بما تحويه من فِكَر هو الذي أوجب سؤالَه، على نحو ما يوجب السؤالَ، منطقُ من يزعم أنّ العدد من اختراع العقل. وغاية الزاعم من هذا الزعم، نفيُ وجود العدد في الطبيعة، أو في الواقع:
"وكيف ذلك؟ أفي طوق العقل أن يخترع شيئاً لا وجود له في الواقع؟".
فإن هذا السؤال لممَّا يستدعيه منطقُ تلك القضية، قضية الاختراع والعقل، إنه لمما يستوجبه بتلقائية تماثل انسياب قطرات المطر على زجاج أملس لنافذة لا وقاء لها من المطر. وله، أي للذي يجهل حقيقة جوزيف، العذرُ كلُّ العذر.
فأما أنا - أنا الذي لا أجهل حقيقته – فأنَّى لي العذر إنْ لم أفهم الغرض من سؤاله؟
لا عذرَ لي! سأنال وصم البلادة، إن لم أدرك على الفور أنه يغترض من سؤاله أن يحرجني، أن ينقض به ( بسؤاله ) رأيي فيتولاني من نقضه الإحراج. كان جوزيف في مبتدأ صداقتنا، يخالني واحداً من هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً ثابتاً بأن آراءهم صادقة على الدوام صدق الحقائق المطلقة والبديهيات المسلَّم بها من الجميع. فكان يطيب له انطلاقاً من خيلولته تلك أن يعاكسني، أن يعارضني، أن يقف لي بالمرصاد كلما أبديت برأي، وكلما توجهت بنظر.
جوزيف كان يعلم – وأنا على يقين كلّي من أمر علمه هذا، وإلا بطل ما قلت فيه من نباهة وفطنة - أني سأعجز عن الإجابة عن سؤاله إجابة صريحةً محكمة لا لَبس فيها ولا مجمجة فأكون بهذا؛ أي بعجزي عن الإجابة، قد أقمت البرهان بنفسي على انتقاض تصوري، أعني على انتقاض رأيي في أن للنساء عيناً داخلية أمضى بصراً، وأحدَّ من تلك التي للرجال.
وإني لأعترف في قرارتي، لست أستحيي من الاعتراف بأن سؤاله كان قد تعتعتني عن الردّ، أعجزني عنه! بيد أن المعاندة والمكابرة نهتاني عن الاعتراف بذلك علانية أمام الجميع. رحت في تلك السهرة أداري عجزي وأموّهُه بدلاً من الاعتراف به. جعلت أقابل برهان جوزيف المستتر في طيات سؤاله المسمار بمثال الساحرات العرَّافات اللواتي إنْ أحصى مؤرّخٌ أعدادهن في صفحات التاريخ؛ كنّ أحصى عدداً من الساحرين العرافين.
في تلك السهرة - وقد فار النقاش في طناجرنا فوراناً - عزَّ عليّ كثيراً أن تنهار دعائم رأيي انهيارَ دعائم حضارة سادت طويلاً.. شقَّ عليّ أن يتقوَّض بناء تصوري كما يتقوض جبروت مصارع جَبْرٍ شجاع في حلبة المصارعة، بلكمة سؤالٍ خفيف بسيط إلى حد السذاجة، إلى حد التفاهة والسخف.
كانت جارتي آيلين، صديقةُ زوجة ميخائيل كفرزي شاميرام حاضرةً في تلك السهرة. حضور آيلين زاد في بلوتي، أرّج نار محنتي. بل لعلَّ آيلين التي ستصير زوجتي بعد مرور عامين تقريباً على وقوع هذه (الكارثة) الذهنية، هي التي كانت السبب الأول فيما ابتُليت به في تلك السهرة المشؤومة، بالنسبة إلي، من حَبَطٍ وفسولة.
آيلين كانت تُرعي سمعها باهتمام بالغ، وبتأثّرٍ شديد إلى المناقشة الفائرة في قدورنا، وفي مقلتيها المخضلَّتين بأنداء عاطفة جياشة، بوحٌ صريح جريء بتأييدها المعاضد لي على جوزيف كيفاركيس خصمي في الرأي، وبوحٌ صريح بثقتها المفرطة بمنطقي وأفكاري. كنت أقرأ هذا البوح المخطوط في مقلتيها الفسيحتين فيختلجني من قراءته انفعالان متناقضان: طيباً لذيداً كان أحدُهما، وكان الآخر خبيثاً بغيضاً.
يا لَتلك الأيام !
قد خلت تلك الأيام. وما أنا بآسف كاسفٍ على أنها خلت، لست حزيناً أسوانَ على أنها مضت وانقضت إلى غير رجعة. في تلك الأيام، كنت إذا ارتجَّ علي في مناقشة مسألة ما يعارضني فيها معارضٌ، عصفت بأعطافي انفعالاتٌ هوج.
في تلك الأيام، كان في وهمي القاصر الطفيف، وبتأثير من حماستي الغبية، حماستي التي لا أحسب أني أخلُّ بشروط البلاغة وقواعدها إذا ما شبهتها بحماسة الفرد العمياء لقبيلته أو لدينه، أنَّ مناقشة قضية ما، معركةُ تحدٍّ لرسيل لي في لعبة الشطرنج. فأتوجع توجُّعَ من هدم البغيُ داره إذا هزمني، وأسعد سعادة مَن فاز بمأمول طال اشتياقه إليه إذا ما هزمتُه.
بعد منتصف الليل، ونحن في طريق عودتنا إلى بيوتنا في حيّ الوسطى بنهاية سهرتنا تلك في منزل صديقنا اسفيندار وزوجتِه المضيافة، نمشي متَّئدين في شارع القوتلي أطولِ شوارع المدينة الصغيرة وأوسعِها، والشارع مضاءٌ بمصابيحَ كهربيةٍ، كانت تمجُّ في عينيّ شعاعاً أصفر تمازجه حمرةٌ خفيفة، والقمر محتجبٌ، ونسائم الخريف أحسُّها نفثاتِ محزون، ولا دامرُ ليلٍ سوانا في الشارع الصامت المقفر من أوله إلى آخره، نبّهَ دماغي من سَدَره آخرُ ما كانت شاميرام فاهت به، حتى تلك اللحظة، من قول.
شاميرام كانت تتكلم مذ ودّعنا اسفيندار وزوجته، ومذ افترقنا عن جوزيف وزوجته وعن صديقنا الغريق آرام هذا الذي تعتصر كيانه الآن دوامة النهر كما يعتصر ثعبان الأناكوندا العملاق فريسته (آرام كان عزَباً مثلي وقتذاك) حينما بلغنا في سيرنا الساحة التي يجتمع فيها نهاراً باعةُ الخضار والفواكه على تخوم حيّ (البشيريّة) المتواضع العتيق. وهي إذ كانت تتكلم، كنت أسمع نغمة صوتها يضخِّمها صمتُ الليل. كنت في الطرف الآخر أمشي إلى جانب ميخائيل كفرزي بخطوات فقدت إيقاعها المنتظم، غير أنّ نغمة صوت شاميرام التي قد أظن أنها كانت مزدحمة بمشاعرها وأفكارها الخاصة، لم تكن تتجاوز حتى تلك اللحظة سمعي إلى دماغي. كانت نغمة صوتها تدخل في أذني، لكنها سرعان ما كانت تخرج منها كما دخلت غير محدثة فيه أثراً من آثار الوعي والإدراك:
"والأنكى من كل هذا أن زوجة جوزيف التي هي امرأة مثلنا، ما فتئت تؤازره طيلة النقاش على رأيه الظالم في النساء".
كان هذا قول شاميرام، قولُها الذي نبّهَ دماغي، أيقظه من سدره. وإذ وعيتُه، أسرعت فعقّبت عليه، وأنا أتكلَّف لنفسي ابتسامة لو كنتُ وقفت أمام المرآة فنظرتها، لرأيتها عليلة شاحبة صفراء صفرة شعاع مصابيح شارع القوتلي:
- لا، ليس الأمر كذلك. جوزيف ليس من الذين يرون المرأة باخسة ناقصة. نظلمه إذا حملنا كلامه على هذا المحمل.
وإذا بجارتي آيلين التي ستصير زوجتي فيما بعد، تتناول قولي من الطرف الآخر فتعقب عليه بصوت ارتعشت أوتاره تحت ضغط شيء ما. ربما كان التهيُّبَ، ولربما كان الحياء:
- لم يكن جوزيف في كل الأحوال موفَّقاً كما كنت أنت موفقاً. كلامك أحلى من كلامه، كلامُك يقنع، وكلامه لا... فماذا يعني أن يكون عدد الأنبياء في العالم أكثرَ من عدد النبيّات؟ أيعني هذا شيئاً؟ ليعنِ شيئاً ! فإنه، وإن عنى شيئاً، ليس حجةً مقنعة.
فكان أن لكز ميخائيل كفرزي في نهاية تعقيبها جنبي بمرفقه. ولللَّكز من ميخا معنى لم أُبهم عنه، فهمته على الفور. اللكز من ميخا كناية حسية عن معنى لم يخفَ علي بالرغم من سيطرة البلادة على أحاسيسي. ليست هي المرة الأولى التي يكنّي فيها ميخا عن هذا المعنى، عن هذا المعنى الذي كان يطيب له أن يشنّف به سمعي كلما دقّ الكوز بالجرة.. يكني عنه باللفظ الصريح تارة، وبالحركة المرئية المحسوسة تارة، وبالإيماء الخفي تارة: „ آيلين تحبك، إنها متيمة بك، فماذا تنتظر؟".
ميخا من هواة جمع الرأسين المتفرقين على مخدة واحدة - كذا بتعبير العامة - وله في هذا الميدان حكايات يطول سردُها. لكني كنت في شُغُل عن فحوى كنايته الحسية المفهومة الواضحة؛ لذا لم أستجب لها بردٍّ، كما لم أستجب برد أيضاً، ولا حتى بتعليق سريع عارض، على قول شاميرام:
"التنبّؤ مشروط بالتفرغ من مشاغل الحياة اليومية. ومن المؤسف أن جوزيف قد أغضى عن واقع المرأة الاجتماعي، تجاوز في حديثه عن أن المرأة مشغولة جلّ وقتها بتدبير شؤون البيت، وتربية الأطفال، وتوفير مستلزمات الراحة لزوجها…". مع أن قول شاميرام لو كان ذهني انصرف إليه فتدبَّره، لألفاهُ لا شرحاً مقبولاً لرأي آيلين وحسب، بل تفسيراً معقولاً أيضاً لجذر المشكلة التي تجاذبنا بحميّة أطرافها طويلاً في سهرتنا لدى اسفيندار وزوجته من جهة، وشهادةً مبطَّنة لي من جهة ثانية.
لقد بقيتُ منطوياً على همّي. فلا كناية ميخا سَرَّت عني، ولا شهادة آيلين لي أني كنت موفقاً، على حلاوتها وهسيسها الذي داعب غروري، والذي لو كنت في حال مخالفة لحالي تلك، لعبق بغروري فانتشى منه انتشاء المخمور، ولا شهادة شاميرام المبطَّنة استطاعت هي الأخرى أن تسرّيَ عني.
كنتُ كالضَّبِّ وقتذاك إذ أوى إلى جحره.
على أنّ هذا الذي تحقَّق حدوثُه في حياتي من نبوءة سمر، لم يحدث بتراخٍ، ببطء، بتدريج وفق نظام التراكم الكميّ المعروف، بل حدث على نحوٍ مباغت! على نحو مباغت حدثَ كما يحدث أن ينزف فجأة جرحٌ مضمَّد يابس يخمشه ظفر.
حدث هذا في اليوم الذي أعقب الوعكة مباشرة.
كان يومي الأول في الكلية عقب تلك الوعكة المفاجئة يوماً سريالياً بحق! لم أدخل قاعة المحاضرات مع مَن دخلها من زملائي الطلاب وزميلاتي لمَّا حان وقت الدخول، كما كان يتوجب عليّ أن أفعل. مدرِّسُ مادة المسرح المعيد (سميح جبُّور) يقف على مدخل قاعة المحاضرات بقامته المائلة إلى القصر متأبطاً حقيبة محاضراته الجلدية البنيّة المسطَّحة هاشّاً ينتظر دخول آخر طالب إليها. وكنت أنا هذا الطالبَ الأخير. رآني المعيد تجمّدت في مكاني على بعد أمتار قليلة منه بهيئة مريبة؛ فانقلبت سحنته من الهشاشة إلى الانقباض. ولم يعتّم أن سألني بنبر تفجّرت منه دهشة عارمة: "خير، ما بك؟ ... "
كان عليّ، بمقتضى قواعد الأدب والتهذيب، أن أجيب عن سؤاله. سؤالُه في الحقيقة – سيتبين لي هذا لاحقاً - لم يكن خرج بتاتاً عن معنى الاطمئنان على صحتي إلى معنى آخر مناوئ له. لكنَّ صوتاً في داخلي، داخلي الذي مار فجأة بأمواج من مشاعر سوداء ملتطمة ساخطة أشد السخط على سلطة العقل، صوّتَ بي ألا أردّ جواباً على سؤاله. كان شأني معه في ذلك الموقف الدرامي الفريد... ذلك الموقف الذي سيكبِّدني آجلاً وخزات من عقلي ولكمات موجعة من ضميري، كشأن المتغطرف الناقص يغيظه سؤالٌ محرج فاضح فيلوذ منه بقوقعة الصمت متوهماً أنه بالصمت إنما ينال من السائل؛ وبالصمت إنما يرذّل سؤالَه المحرج الفاضح.
لم يكن للتعالي مطرحٌ في طبع المعيد سميح جبّور. للمعيد هيئةٌ ترتاح إليها عينُ الناظر، ويستنيم إلى لطف معانيها قلبُه. هيئة المعيد جبُّور تستحضر في خيال الناظر إليها هيئةَ ممثل بارع قد نجح في استمالة قلوب المتفرجين. روحٌ كروح هذا الممثل البارع تجمّل هيئةَ المعيد، روحٌ مِلاكُها الرشاقة والحلاوة والانبساط. ولأن المعيد سميحاً كان كثير التواضع متأهباً دائماً لتقديم خدماته الفنية والأدبية والعلمية لكل محتاج منّا إليها، ناهيك عن خبرته في مجالات الحياة العامة التي أيضاً لم يكن يبخل بها على أحد؛ حظي منا بغير قليل من المحبة والتكريم.
وأنا، أنا الأحمق الناكر لكل ما هو جميل فيه، أنا الغبي الذي بالرغم من كل هذه الصفات المؤنقة المجتمعة فيه، لم أنزّه سؤاله عن الاستعلاء والاستفزاز.
أضجَّ ذاك الصوتُ الطائش الأرعن في رأسي، قبل أن أفتل عنه وجهي، وأغُذَّ في السير باتجاه الكافتيريا:
"هِه، يتعجّل منك الدخول؟!
من هذا الذي يتعجله منك هكذا بلهجة المتورم تيهاً وغطرسة؟ من هذا الذي يخاطبك بلهجة الضابط الصارم الفظّ يخاطب مجنَّداً غِرّاً؟ من هذا؟ من عساه أن يكون؟ مدرّسٌ خائب دُعبوس! ألا يعرف من أنت؟ أنت تلميذ جَدّك، وريث حكمته. أنت تجيد الفرنسية، فهل يجيدها هو كما تجيدها أنت؟ أنت تتكلمها بطلاقة مثل أبنائها الذين ولدوا عليها، فهل يتكلمها هو بمثل طلاقتك أنت؟ أبداً، فعلامَ إذاً...؟ علام يتغطرس عليك مَن ليس يصحّ له أن يتغطرس عليك؟"
وتردَّد في صدري، وأنا أُقلع عنه، مثلُ لهاث المجهَد... ندبٌ وتعجب مغلَّفان بأقوى مشاعر الحنق والتبرم والاستياء:
„ يا لَعبث الدنيا، يا لمنطقها، ما أشدَّ قبحَه! “
كانت الكافتيريا أقفرت من الطلاب، وممن اعتاد التردُّدَ عليها في أوقات الفراغ من المهنيين العاملين في الكلية أعمالاً يدوية، ومن الموظفين الإداريين. طالبٌ واحد من السنة الأولى، شخصٌ واحد من كل الأشخاص هو علوان الشيخ حمد لم يكن غادرها. كان علوان انتحى ركناً منها، وانكبَّ على أوراقه. فلما أحسّ بي، وأنا أخطو بانفعال قاصداً الطاولة، طاولتَنا المعروفة التي في منتصف الكافتيريا، رفع رأسه عن أوراقه نحوي، ثم نهض بخفة، فاتجه إليّ حيث كنت قاعداً، وهو يبتسم لي ابتسامة تناثرت منها مفرداتٌ من الود جلية. لكنّ عيني كمِهتْ عنها، لم تبصر في ابتسامته من حقيقة الود مفردةً واحدة. لم تبصر في ابتسامته سوى أضداد الودّ الذميمةِ المستقبحة. أبصرَتِ التملّقَ والمداهنة والتكلف وشيئاً من المقت.
بجلافةٍ لم يعهدها أحد فيَّ من قبل، ولم أعهدها أنا أيضاً فيَّ من قبل، اعتذرت بالصداع وبالتعب عن تلبية طلبه حين رجا إليّ أن أترجم له بيتاً استعسرت عليه ترجمته من قصيدة للشاعر (بودلير) كانت شغلته بروعة أفكارها وفخامة بنائها الهندسي، على حد تعبيره.
علوان من طلاب السنة الأولى، ولم يكن لي اختلاط بطلاب السنة الأولى. لكني مع ذلك كنت لا أجهله ولا يجهلني. كان علوان عُرف بل اشتهر في الكلية بفضل شعره مذ ألقى قصيدته الحماسية باللغة العربية في حفل أقامته منظمة اتحاد الطلبة في مناسبة قومية يدعونها يومَ الأرض.
- أجلبُ لك شراباً ساخناً يزيل الصداع. أيَّ شراب تستسيغ فأجلبَه لك؟
هكذا عرض عليَّ علوان معروفه، عرضه بأدب خالص نقيّ لا زيف فيه. علوان شاويٌّ من عشيرة الشوايا المنتشرة في أرض الرقة ودير الزور. وإنَّ المعروف في هؤلاء الشوايا سجيّةٌ، وهم يبذلون ما عذب من معروفهم لكل ظامئ. يبذلونه بصدق لا يتلوّن بألوان تميهُه وتكّدر نقاءه. قومٌ رداؤهم الطيبةُ لا يخلعونه إلا إذا تعرضت عقيدتهم، أو تقاليدُهم، أو أعرافهم لنقد جارح وهجوم سافر مكشوف، أو إذا أطمعهم بخلعه شيخٌ منهم ساقط الرأي، لئيم الطبع، نزق، فاقد الضمير. لكنّ عرض علوان هذا الذي كان عليّ أن أشكره عليه ممتنَّاً، لم يرُق لي، لم أستعذبه! وكيف كان لي أن أستسيغه، وقد كنتُ الذي نظم فيه المتنبي بيته المشهور: "ومَن يكُ ذا فم مرّ مريضٍ، يجدْ مراً به الماءَ الزلالا" ؟!
قمت من مكاني قومة المستفَزّ لأمر جلل، وقد انسدل التجهّمُ على وجهي. لم ألوِ على علوان، لم أودّعه. خرجت من الكافتيريا، واتجهت نحو موقف الباص، وأنا ألعن الزمان الذي أتاح للشاويّ دراسةَ آداب اللغة الفرنسية.
في حي السليمانية ترجّلت عن الباص أمام سينما سوريا. إلى جانب السينما يقع مطعم صغير كان افتتحه حديثاً شابٌ كرديّ إيزيديّ حسن الطباع من عفرين. دلفت إليه. طلبت زجاجة ليتراً من الكونياك الأرمني الحارق لا كأساً واحدة منه. وجعلت – وأنا الذي لم يعتد على شرب الكحول – أفرغ منه في جوفي تباعاً بلا حذر ولا مراعاة كأساً تلو كأس وأنا أطعم من السجق الحلبي المقليّ المفلفل الحِرّيف، وأترع رأسي من أخيلتي المريضة، وأفكاري الرقيعة حتى عقرتني سورة الكحول.. حتى أذهبتِ الرشادَ مني، فصرت في أسوأ حال. ولولا أن صديقي خالد صفيّة الإدلبي مرَّ مصادفةً بالمطعم بعد خروجه من السينما وهو جائع فرآني على تلك الحال فانتشلني من ورطتي الموحلة بوحلٍ لازب؛ لأرسلَ صاحبُ المطعم الكردي ذو الثوب النظيف أجيرَه إلى بيتنا ليستدعي أبي أو أخويَّ.
ويا له من شَنار أن يُستدعى أبي فيراني متمرغاً كالخِنَّوص في حمأة السكر!
في الصباح كان الخُمار، كان الصداع، كان التشوّشُ والوهن، وكان اعتلال المزاج. إلا أنني لحسن حظي لم أنل تثريباً من أحد، حتى سمر المشهورة عندي بكثرة اللوم، لم تلمني.. لم تقرعني بإيماءة من إيماءاتها ولا بحركة من تقاسيم وجهها، ولا بلفظ منطوق من شفتيها. كذبة خالد البيضاء، انطلت على جميع أفراد أسرتي الصغيرة. زعم لهم خالد أني أسرفت في الشراب في عرس صديق من أصدقائنا بأسلوب كاد يجعلني أنا أيضاً أصدق زعمه الكاذب، أنا الذي كان الكونياك الأرمني الثقيل المركَّز الكاوي عطَّل وعيَه، وخربط نظام عمل أعضاء بدنه.
وجاء يوم الأحد، وحان العصر منه فخرج الجميع إلى الكنيسة لحضور إكليل لميا في آنق زيّ وبأسطع رائحة؛ إلا سمر التي اعتذرت عن الخروج معهم. سمر ادَّعتِ الانشغال بمشروع من مشاريعها الهندسية. أما أنا فقلت لهم بلهجة قاطعة:
- لا أحضر عرسها !
ولم يُكترث برفضي حضورَ إكليلها وحفلة عرسها، لم يطلب مني أحد أن أقدم له تفسيراً لرفضي حضور إكليلها بخلاف ما كنت أتوقع. لكأن رفضي كان في نظر الجميع أمراً طبيعياً مفهوماً لا يتطلّب استفساراً أو تفسيراً.
أذكر أني رحت أفكر في موقفهم، في موقفهم مني. رحت أحاول أن أستبطن ما قد يكون دار في خَلَد كل منهم إذ أعلنتُ بحزم عن رفضي.
أمي التي كانت تعلم أني أحب لميا، لا بد أن تكون سُرَّت بزواج لميا من رجل آخر، كما سرت به سمر. تخيلت أمي تواسيني، تهدهد قلبي المكلوم بمثل ما كانت سمر تهدهده وتواسيه. تخيلتها تميل على أذني فتبث فيها سرَّها الذي كانت كتمته عني طويلاً: " احمدْ ربَّك على أن تزوجت لميا! بزواجها أنقذت لميا قدميك من السقوط في هاوية بعيدة القرار... ".
أمي كانت تربطها علائق صداقة طيبة بأم لميا الست أليس. كانتا تتزاوران في الآحاد بعد قداس الأحد غالباً. وما كان أحلى وأمتع.. ! ما كان أُميلح جلسات الصديقتين وبخاصةٍ حين تنضم إليهما عمتي أنطونيا! كنت إذا حضرت مجلساً من مجالسهن اتفاقاً، التصقتُ بمكان قعودي منهن فما أقوى من طلاوة أحاديثهن وأفاكيهها على القيام والمبارحة.
وكذلك لميا فإنها أيضاً كانت تزورنا، وكانت أمي تسعد بزيارتها، تكرمها بأطايبها التي تصنعها بيديها في مطبخها، وتطري ذوقها المتحضر الأنيق.
قطُّ لم آنس من أمي حركة ملتوية تعبر عن تبرم منها بلميا، قط لم تبلغ أذني نأمةٌ من أمي تشي بأنها لم تكن تضمر للميا إيثاراً ومحبةً صادقة. لكن أمي مع حبها لها لم تكن تمنّي نفسها بأن تصبح لميا زوجة لابنها، لبكرها. فكأنها في هذا كانت على تواطؤ خفيّ واتفاق سري غير معلن مع سمر.
وقد شرعتُ إذ ذاك أتخيل أمي تُلَسِّنُ على لميا بلسان حاد قاطع كسكين مطبخها: تستهجن أخلاقها، تجردها من الوفاء والإخلاص، تنعتها بالخيانة والأنانية، تحطّ من عليائها، ثم تأخذ تُكبِر موقفي الرافض حضور إكليلها. بيد أني ما كنت أتخيل أمي جادة صادقة في نعت لميا بها صدقَ سمر في نعتها لميا بها، وذلك حين كنت أتخيلها تجور عليها بتلك النعوت الشنيعة الظالمة، تلك التي كانت لميا عنها في الحقيقة بعيدة بُعدَ السَّفهِ والطيش عن حكيم عاقل مجرِّب. غاية أمي من إلصاق تلك النعوت الشنيعة بلميا، كانت أن تسوّد صورة لميا في عيني لا أن تندد بها وتعيّرها حقاً؛ فلعلي بتسويد صورتها أسترد – في تقديرها، في ظنها، في رجائها - عافيتي الروحية المفقودة.
غاية نبيلة ولكنْ بأسلوب جائر سيكون من شأنه أن يفرغ محتواها من النبل!
وإنه لمن المحقق عندي، أن أمي لو كانت بالفعل واستني كما تخيلتها واستني، لانقلبت مواساتها عندي إلى نقيضها، فتمزقت بمواساتها روحي.. فتهتَّك نسجُها تهتُّكَ أسمال المعدمين البائسين، لتهتك كما كان يتهتك نسجها، حين كانت أذني تصيخ قهراً إلى سمرَ تجرّح لميا بلسانها الرميض المبريّ لجرحها بعيوبٍ مختلَقة كانت لميا في الواقع بريئة منها كلَّ البراءة.
لميا هي لميا في مهجتي. لميا هي لميا... خليةٌ بيضاءُ حمراءُ في دمي. فهل تسودُّ صورتها في عينيّ وفي قلبي؟ هل أسلو عن لميا، وهل أتأسّى وأنا من عشقها والهٌ دَنِف مثل ابنِ الملوَّح بليلى، والفتى فيرتر بلوتّه؟!
فأما أبي الذي لم يكن قرأ قصة حبي، فإنه لو كان يعلم بما كان بيني وبين لميا من وشائجه، كما كانت أمي تعلم، لكان اقترح علي بسخرية لاذعة أن أتصرف تصرُّفَ عادل بطمان إثر أن خانت حبيبته ميثاقَ حبهما بالزواج من مغترب من أقربائها من بلدة الغسانية التابعة لجسر الشغور في محافظة إدلب.. لكان أبي اقترح أن أتأثر هذا العادل الذي كاد يقلب بحماقته فرحة العرس إلى مأتم. وما أظلم مَن يقلب فرحةَ عرس إلى مأتم!
أعرف أبي. أبي ما كان خاطبني إلا بلغته الخاصة قائلاً:
"لأنك لا تملك سلاحاً، خذ حجراً بدلاً منه واشدخ به رأس العريس. إنّ الطبيعة تُحِقُّ لك أن تفعل ذلك؛ ولأنها تحقه لك فسيرأف بك قانونُ العقوبات حين تمثل أمام القضاء „.
وأعرف أيضاً شقيقيَّ جان وريمون. أعرف أنهما ما كان سيجول في خلدهما أن يواسيا شقيقهما الأكبر في محنته مواساةَ مَنْ بين قلبه وقلبي تآلف واندماج. إن هذا منهما لثابت لديّ، لا أستريب فيه ولا بمقدار خردلة.
لو كنت بُحْتُ لشقيقيَّ بما كان قلبي يفيض به من جوى وحرقة، لتعجبا..! لكان لسان حالهما: أيجوى قلبُ شاب ويحترق من فراق فتاة والفتيات من حوله أكثر من هموم القلب وأشجانه؟! بل إنهما، لو كنت بُحْتُ لهما بأوجاع قلبي، لتندَّرا عليّ وجعلاني مضغةً في الفم. ولربما صخَّ سمعي من أخي ريمون كلامٌ خليع مبتذل ملطخ بالدَرَن من مثل: أما كفاك أنك تمتعت بها كلَّ هذا الوقت...؟
هؤلاء أسرتي الصغيرة. ليس بينهم فرد واحد شاركني في مصابي مشاركة فعلية حقيقية لا في الواقع ولا في الخيال؛ فكان أن تولّد عن ذلك في نفسي شعورٌ بالاغتراب لم يفارقني مدةَ أزمتي النفسية.. شعورٌ بأنني كائن من عالم آخر.. شعورٌ بأنني غريب بينهم، مستوحد ليس يمتُّ إليهم بإصرٍ واحد من أواصر الشبه والقربى.
وأقبلتُ بتأثير هذا الشعور الممِضّ على قراءة الروايات والقصص ولاسيما تلك التي يجسد أبطالها شعورَ الاغتراب القاتم المرِّ والمرعب بنهم المنهوم، وأهملت دروسي وواجباتي واعتزلت مؤانسة أصحابي ومشاركتهم فيما كانوا يخوضون فيه. كما انجذب عقلي بتأثير هذا الشعور أيضاً، إلى بحوث مشاهير علماء وأطباء النفس وتحليلاتهم وعلى الأخص بحوث سيجموند فرويد وكارل غوستاف يونغ، وإلى آراء الفلاسفة في الاغتراب من هيغل وماركس إلى هايدغر وسارتر مروراً بكيركيغارد وأضرابه.
مرّت شهور ثِقال على انتقال لميا من بيت أهلها في حلب إلى بيت زوجها في الشام.
كنت في خلوةٍ في بيتنا في الغرفة المخصصة للدرس ولغير الدرس من أنشطتنا الكثيرة المتنوعة - وهي الغرفة التي ندعوها المكتبة - أقرأ رواية (الغريب) لألبير كامو، إذ دخلت عليّ سمر.
بلمحة خاطفة مني إلى وجهها، علمت أن تحت لسانها نبأ. جلست سمر على الأريكة قدامي، أخذت ترقبني، وهي تنقر برؤوس أصابعها على سطح الطاولة نقراً خفيفاً ولكن متوتراً. فلما طال تغافلي عنها، قامت من مكانها كالحرداء. لكنها مع ذلك لم تغادر غرفة المكتبة، أسندت ظهرها إلى بابها المغلق وقالت وهي ترنو إلي:
- أتدري ب...؟
ثم سكتت كمن ينتظر. سكوت سمر أثار فضولي. وضعتُ الرواية جانباً. بحشرجة المستفيق تواً من نومه، أجبتُها:
- أدري بقدوم عطلة عيد الفطر، وماذا بعد؟
قالت:
- وتدري أنك ستقضيها معي في زيدل.
- لا أدري.
- بل تدري.
قالتها بلهجة المخالف المصرّ على تنفيذ خطته. سمر كانت خططت قبل أكثر من أسبوع لقضاء عطلة عيد الفطر في حمص، في (زيدل) عند أخوالي، وألحّت عليَّ بنيّة منها حسنة أن أكون بصحبتها. كان بودّ سمر أن أبتعد شيئاً عن المواطن التي تستثير دفين اكتئابي.
- أمن أجل هذا قطعتِ عليّ حبل القراءة؟
فأجابت بلكنة المستخفّ:
- لن يفوتك شيء إذا انقطع حبل قراءتك، هذا أولاً. ثانياً، عليك أن تعلم أني ليس لأجل هذا الغرض قطعت عليك حبل القراءة…
- ثالثاً؟
- لا وقت لدي لممازجتك. ألا تعلم لماذا قطعت عليك حبل قراءتك هذا المرصَّع بالجواهر؟
- أعلم ... لإزعاجي.
- لم تحزر.
- حقاً...؟
- قلت لك لا وقت لدي لهذرك ومماحكاتك، اسمع...
تظاهرت بأني لا أرغب في أن أسمع منها شيئاً. بتأففٍ مصطنع حلت دون أن تتمَّ كلامها:
- لديّ ما هو أهم من سماع أخبارك
فخزّتني بنظرة متحدية ثم قالت:
- ألا ترغب في أن تسمع مني خبراً عن أهل لميا؟
وإذ ذاك لم أستطع أن أمضي في إظهار اللامبالاة، فقدتُ القدرة على إظهارها. ولا بد أن تكون سمر لمحت بارق الفضول وقد اشتعل في أحداقي كما اشتعل في صدري. ولا بد أن يكون هذا البارق نقل إليها رغبتي المشتعلة في سماع الخبر نقلاً أميناً:
- بهذركَ في عطلة العيد، أنسيتَني أن أخبرك بآخر أخبارهم. أحقٌّ أنك لا تدري بالخبر؟
كنت انقطعت عن زيارة أهل لميا مذ تزوجَتْ لميا، وانقطعتُ عن الذهاب إلى الكنيسة كيلا ألتقي بأهلها وجهاً لوجه: بأمها الست أليسْ، وأبيها الدكتور باسيل جرمانوس، وأخيها جورج، وأختها نيللي. بتُّ أتجنّب أن ألتقي بهم في أي مكان من الأمكنة التي يمكن أن ألتقي فيها بهم؛ لا لأنني بتّ أكرههم فلا أحب لقاءهم بدافعٍ من الكره. لا، فإن كلّ معاناتي من حبي الخائب للميا وكآبتي السوداء، لم تسمح حتى لشرارة خامدة دقيقة لا تستبين لدقتها من شرارات الكراهية بملامسة قلبي أو كبدي.
أخوها الطالب في كلية الطب والذي له الاسم نفسه الذي لي (جورج) لم يكن يُسَرُّ بلقائي في كل مرة نلتقي فيها، على عكس والده ووالدته وأخته نيللي. فإذا تصادف أن رآني ولميا منفردين، تجهّم، وغشيت وجهه مسحةٌ من الامتعاض. ومع ذلك فقد احتفظت له في صدري بمحبة أخوية ثابتة ركينة.
هل يمحو الزمن من ذاكرتي صدى حدث وقع لي مع جورج أخيها في مسبح (سيروبيان) في بستان الباشا؟ لن يمحوه! ... حدثٌ كلما تذكرته، تساكبت على قلبي من تذكره قطرات منعشة من محبة هادئة وحنين شفٍّ رقيق.
كنت بصحبة لميا وأمها وشقيقتها نيللي، ولم يكن جورج على علم بأني في صحبتهم. كان تأخر عن اللحاق بنا في المسبح العائلي بسبب عطل بسيط طرأ على سيارته أوقفها عن السير فانهمك بتصليحه على بساطته. فلما تمّ له إصلاح العطل – والحق أنه لم يتمّ له إصلاحُه إلا بعون تلقّاه من جارهم الأرمني خاجيك - لحق بنا. فما كاد يجلس إلى الطاولة ليستريح، وكان التعب بادياً عليه، حتى كشّر عن أنياب أحسستها تبخّ على وجهي سمَّ الغضب. حدث ذلك في اللحظة التي وقعت عينه عليّ. كنت واقفاً على طوار المسبح أستعد للقفز في الماء خلف لميا، فتراجعتُ لأسلّم عليه. مددت يدي فأشاح عنها، ومدّ يده إلى قنينة ماء، رفعها إلى فمه، فجذبت يدي إلى خصري العاري بسرعة، وقلت له متغاضياً عن الإهانة:
- تأخرتَ...؟
فردَّ بتبرطم وقحة:
- أما كان الأولى بك أن تأتي المسبح بمرافقة ابنة خالتك سمر، أو ابنة عمتك مارييت؟
فإذا بوالدته الست ( أليس ) تنتهره وتفهمه أنها هي التي عزمت عليّ أن أرافق شقيقتيه. ثم طفقت بعد ذلك تبلسم خاطري بلسانها العذب الشافي كنبتة لسان العصافير.
أم جورج، الست أليسْ، كانت تودُّني حقاً، تحبني محبة تلمّستُها في مواقفها التي لا تحصى مني. وما أكثر المرات التي كانت تظهر فيها إعجابها باتقاني اللغة الفرنسية، وتسدي إليَّ شكرها على مساعدتي ابنتها لميا في حذقها!
ولئن كانت الست أليس فرحت بزواج ابنتها، فإن فرحتها لم تنغصّ عليَّ. إنها أمّ ومن حق كل أم أن تفرح بزواج ابنتها ممن تختاره ابنتُها.
ثم رويت للميا ما جرى لي مع جورج بحذافيره دون نقصان، عندما صرت إلى جانبها عائماً في الماء بعيداً عن أخيها، فاغتاظت منه لميا، وأبت إلا أن تبهدله على تصرفه الهمجي الأرعن وتصفعه بلفظ منها رادع. لكني استطعت أن أقنعها بأنَّ تصرفَه معي، تصرفٌ طبيعي مألوف من أخ يخشى على سمعة أخواته، وأرضيتُها حين أكَّدت لها أنَّ تصرفه (الهمجيَّ) لم يترك كدمة على جلدي السميك.
- لا أدري.
أجبتُ سمرَ بغنّة فاترة بعد إذ تمكَّنت من أن أعقل لهفتي التي استعرت إلى سماع الخبر عن الانكشاف التام لها.
- خالتي هي التي أعلمتني.
- بم أعلمتِك؟
- بمَ؟! أتخفي عني أنها لم تعلمك بالخبر؟
- بالقطّارة أسحب منك الخبر. لو كانت أمي أعلمتني بما أعلمتك، فعلام جئتِ إلي لتعلميني بما أعلمتك أمي، وأنا عالم به؟
- لا تتفلسف! قل لي: ألن تزعل؟
- أزعل؟ ممَّ عساي أزعل؟
- ألن تزعل إذا علمتَ أنهم هاجروا؟
- هاجروا؟ من هؤلاء الذين هاجروا؟
- أهل لميا.
- أهل لميا؟! أهل لميا هاجروا…!؟
صدمني النبأ، وقع على رأسي وقعاً دوّخني، كاد يطيّر عقلي. كنت أتوقع حدوث كل شيء ما عدا هجرة أهلها. وإذا أنا بعد لحظة وجوم ذاهلة أهبّ أتمتم بهينمةٍ كمن يهذي:
„ هاجروا؟ أحقاً هاجروا؟ إلى أين؟ ولماذا؟"
فأما سمر فلم تفاجأ بما رأته من آثار الصدمة عليّ، لم تجزع بل أقبلت عليّ تبذل جهدها في التفريج عني. تملَّصتُ منها، خرجت كالملدوغ من المكتبة إلى أمي. وجدت أمي في الصالون أمام التلفزيون تتابع حلقة جديدة من مسلسل كانت شغفت به:
- أصحيح أنهم هاجروا؟
بحدةٍ ألقيت عليها السؤال. نكهة تداني نكهة الغيظ فاحت من سؤالي. ولأنَّ أمي كانت مندمجة في الفرجة، لم تعرني أذنها، ولم تشتمَّ رائحة ما انتشر من سؤالي. فلما ألحفت عليها، ردّت متململة من دون أن تحيد بوجهها عن شاشة التلفزيون:
- ماذا تبغي؟
- أصحيح أنهم هاجروا؟
- مَن؟
- آل جرمانوس.
- آل جرمانوس هاجروا.
- متى هاجروا؟
- هاجروا. فماذا تبغي أكثر من أنهم هاجروا.
- لكنكِ لم تخبريني بهجرتهم وأخبرت سمر.
هكذا كالطفل محنقاً بربرتُ بكلام لا معنى له.
ضاق ذرعُها بي، لوحت أمي بذراعها في سأم وقالت:
- لست متفضية لك. اذهب إلى أبيك. هيّا اذهب، أبوك في مكتبه لم يغادره بعد.
كان الدكتور الجراح باسيل جرمانوس والد لميا، قد أسرّ لأبي صديقِه الوفيّ الحميم بأمر هجرته إلى ميشيغان. أبي هو الشخص الوحيد الذي كان يعلم بأمر هجرة عائلة جرمانوس من حلب إلى أميركا. لكن أبي لم ينبئ أحداً بذلك السر، حتى أمي لم ينبئها به احتراماً منه لرغبة صديقه الذي رجاه أن يكتمه إلى يوم تحلّق بهم الطائرة من مطار دمشق. ولم يكن الدكتور باسيل أطلع أبي على (سر) الهجرة فقط، بل كان أطلعه على سرّ آخر أشأم منه وأرهب. أطلعه على حادثة اختطافه من إحدى خلايا تنظيم الإخوان المسلمين في حلب. في اشتباك لهؤلاء المتطرفين مع رجال السلطة في حي الكلاّسة أصيب أميرهم بجرح بالغ الخطورة من طلق ناري. الأمر الذي استلزم علاجه على وجه السرعة. ولمَّا لم يكن من سبيل إلى علاجه في عيادة طبيب جراح، أو في مستشفى خاص أو حكومي، لجأوا إلى الخطف. خطفوا والد لميا باسيل جرمانوس، وهو في ذلك الوقت من أشهر أطباء الجراحة في حلب، خطفوه من عيادته في حي التلل.
ثم إنهم لما استوثقوا من نجاح العملية التي أجراها والد لميا لأميرهم، واطمأنوا على نجاته من موت كان محتَّماً لولا مبضع الجراح باسيل جرمانوس، كافأوا الدكتور بإطلاق سراحه بالرغم من خلوّ لائحة أخلاقهم من بند مكافأة طبيبٍ ليس على عقيدتهم، وليست بينه وبين السلطة من عداوة كالتي بينهم وبينها.
وحي التلل - بالمناسبة - هو الحيّ الذي سمعت صديقاً لجدي فانياً قد ذهب في العمر، وأنا في حوالي السابعة من عمري، وكان جَدي أخذني معه إلى الكاراج الذي كان يملكه ويديره في باب الفرج، يقول في حكاية تسميته بالتلل أن السُّنَّة من المسلمين الحلبيين، كانت لهم واقعةٌ مهولة يشيب من هولها الفتيان - على وصف الراوي لها - جرت لهم مع العلويين الذين كانت ركدت ريحهم بزوال دولتهم في حلب، دولة الحمدانيين. وفيها تمكن السنة من الظفر على العلويين، فأعملوا في رقابهم السيف، ثم لمّوا جماجمهم في الموضع حتى غدت تلالاً. وقد سمعت الواقعة، وأنا في الجيش، رواها لي عسكري متطوع برتبة مساعد من قرية (بسنادا) في محافظة اللاذقية كان يحمل حقداً على العثمانيين أشد سواداً من الفحم. لكن رواية المساعد لهذه المذبحة الهمجية البربرية كانت مختلفة قليلاً عن رواية الشيخ الحلبي المتهدم. اختلفت في تاريخ وقوعها وفي بعض التفاصيل الصغيرة الأخرى، كما اختلفت في المناسبة التي دعت إلى روايتها. فالشيخ الحلبي رواها ليفسر بها سبب تسمية الحي (بالتلل). أما المساعد فرواها على مسامعي كي يقول لي: نحن أيضاً عانينا من الاضطهاد كما عانيتم، بل نحن ما نزال نعاني من الاضطهاد أكثر مما تعانون.
وقال والدي في أسف:
- خسرتُ صديقاً كان سنداً لي… سنداً لجميعنا!
فسألت والدي بسذاجة مفرطة، وكنت توهمت أني نجحت في إخفاء ما كان أصابني من كرب عنه:
- أما كان في وسعك أن تمنعه من الهجرة؟ لماذا يهجر البلد طبيب بشهرة وثراء الدكتور باسيل جرمانوس؟
ولا أدري! ما السبب الحقيقي الذي جعل أبي يعبس في وجهي؟ أبي عبس ثم دار نصف دورة بكرسيه خلف مكتبه المزدحم بأكداس من الأضابير مصفوفة على جانبي آلته الكاتبة، ولما عاد بكرسيّه إلى وضعه السابق واجهني بقوله:
- لستَ على ما يرام. أتظن أني لم ألحظ ما أنت فيه من شحوب واضطراب؟ ما بك؟ ممّ تشكو وامتحاناتك ليست على الباب؟
أنكرتُ:
- أنا بخير، ما بي مما لحظتَه شيءٌ. جورج صديقي، وقد حزنني أن هجر البلد. هذا كل شيء.
- أولى بك أن تغبطه بالهجرة.
- أغبطه؟!
فاجأني قوله، فاندفعت إلى سؤاله:
- هل ستغتبط إن أنا هاجرت عن البلد إلى فرنسا؟
- مصيرنا أن نهاجر.
هكذا ببرود نطق قوله هذا، فاتسعت دائرة الدهشة في قلبي الذي كان متخماً بمشاعر الاغتمام، حتى كادت تلك الدهشة تُنصِل حُمَّة ذاك الاغتمام، وتخفّفُ من أجيجها:
- لكنك لم تكن يوماً تفكر في الهجرة !
- أحداث هذه الأيام ترغمنا على التفكير فيها.
وإذا بالدهشة تطفر من قلبي إلى وجهي. لا مُشاحَّةَ في أنها طفرت من قلبي إلى وجهي! أبي الذي كان يتمعّن في صفحتي قد استبصرها، واستكشف مصدرها، وإلا ما كان علَّل لي في الحال لماذا بات يفكر كالآخرين في الهجرة، وهو الذي لم يسبق له أن فكر في الهجرة لرغبة منه فيها:
- جَدُّك هاجر عن انطاكية هرباً من الظلم، من تداعيات الحرب، من المجاعة، من التعدي على الأملاك والكرامة. وأسلافنا من الهوموسابين هاجروا أيضاً عن مكان ما في أفريقيا هرباً من ظلم الطبيعة، من تقتيرها عليهم. ربما كانت لهجرتهم عنها دوافع أخرى غير هذا الدافع. إن هذا لجائز. غير أنه لا يهمني الآن. لا يهمني أن أعرف هذه الدوافع على وجه التعيين. حسبي أن أعلم أنهم هاجروا، وأن وراء هجرتهم سبباً ما يسوغ هجرتهم. إن الهجرة قضية. إنها سبب ينشأ ونتيجة تقع. إنها قضية الإنسان في كل زمان ومكان. فإذا حلّ الشؤم بمُقام الإنسان، فلا مفرّ له من أن يهاجر عنه - إن استطاع - إلى حيث يأمن على نفسه من الشؤم والضيق والخطر.
هتفت:
- كأنك خائف من أن يلمّ بنا ما ألمّ بغيرنا.
قال بهدوء الحكيم:
- الخوف من الملمات، حكمة الطبيعة فينا.
وما أتمّ قوله الحكيم هذا، حتى مدَّ يده إلى المقلمة، فاستلَّ منها قلماً ثم شرع يخربش به في ورقة بيضاء أمامه على عادته حين يستغرق ذهنه في تأمل قضية ما. فلما نفثتُ من فمي نحوه شيئاً مما كان يغتلي في صدري من رجاء وكرب، قائلاً:
- ليت أنهم لم يهاجروا! هجرةُ الأصدقاء، تحدث فراغين فراغاً في المكان وآخر في القلب.
كفّت يدُه عن الحركة. ولكن لا ليعلِّق على ما نفثتُ أو يعاكسه برأي منه، وإنما ليكشف لي عما كان يشغل حيّز تأملاته في تلك اللحظة:
- لو أنّ عمّك إدمون كان جاداً في عزمه، لكان سبقنا ومهّد لنا الطريق إليها، كما مهدها لأبي جورج أخوه ميشيل المقيم في ميشيغان. إن عمك إدمون أقدر مني على هذا الأمر. وجوده في دمشق العاصمة يتيح له تنفيذ ما يدعي أنه عازم عليه.
- تعتب على عمي إدمون؟!
- أعتب؟ لا، الحق أنني لا أعتب عليه هو. أعلم أنه جاد في عزمه. لكنها امرأة عمك تبيخُ عزمَه، وعمك مع الأسف طوع بنانها.
وكأني ما جئت إليه إلا لهذا الشأن من شؤون عمي وزوجة عمي، إذ رحت أؤيّد ما قاله فيهما:
- هو ذاك، إنها امرأة عمي. هذا الذي استكشفته أنا أيضاً أثناء زيارتي الأخيرة. امرأة عمي كالنخلة جذورها ممتدة في أرض الشام على عمق عميق، وقلبها مقيَّد إلى أهلها بوثاق ثبت من حرير.
- قد أعلّق الأملَ عليك. فاجتهد.
ولم يلبث أن انصرف عني إلى آلته الكاتبة، فنهضت وأنا أجمجم بكلام لم ينتهِ إلى سمعه، بكلام لو كان سمعه، لآلمه سماعُه لا محالة: "لا تعقد الأمل عليّ. إني حتى لو تحقق المستحيل فحصلت على بعثة دراسية إلى باريس، لن أسعى إلى الإقامة فيها مهاجراً ".
ثم عدت أدراجي إلى المكتبة وما زال دماغي يضطرم بلهيب هجرة آل جرمانوس.
منكود منحوس أنا!
قد كان لي أمل في أن أرى لميا يوم تزور لميا أهلها في حلب. فأما وقد هاجر أهلها عن حلب، فأنَّى لي من بعد أن هاجروا أن أحظى برؤية لميا؟
وكما تفنى في الحال واللحظة حبَّةُ الغمام تقذفها يدٌ في كور حداد مجمَّر، هكذا في اللحظة في الحال، فني أملي في أن أرى لميا!
ولأن العامَّ كثيراً ما ينشأ عن الخاص، فلسوف ينشأ في نفسي من هجرة آل جرمانوس عن حلب شعورٌ ملبَّد بالمقت، مَقْتِ الهجرة عامةً. والنفس تمقت ما يجلب لها الكدر والحزن والفراغ المصمَتَ والتشاؤم والخوف والقلق. لقد أمسيت كلما بلغني أن فلاناً هاجر أو سيهاجر، نهباً لهذا الشعور الملبَّد بما تمقته النفس. وهو الأمر الذي سيثير تعجب أصحابي، أستثني منهم اثنين هما خلدون فنصة وميخائيل كفرزي فإنهما أيضاً يمقتان الهجرة كما أمقتها، ولا أدري إلى متى سأظل أمقتها، ولا أدري أيضاً إلى متى سيظلان يمقتانها. لكنّي أدري أن دواعي المقت لدى كل منهما، ليست هي دواعي المقت لدي أنا.
أما آرام هذا الذي تقبض أنفاسَه الآن تياراتُ دوامة النهر المتقلبة المتلوّية الغشوم، هذا الذي هاجر عن اليابسة إلى خِضمٍّ من الماء الغدور، هذا الذي هاجر عنا إلى المجهول، فإنه ( كان!) شديد التعجب مني، كان أشدّ تعجباً من كل هؤلاء الذين يحلمون بالهجرة من أصحابنا.
إني مذ عرفت آرام، عرفت توقه إلى الهجرة.
وما أكثر الذين باتوا يتوقون إلى الهجرة! وما أكثر الذين هاجروا في الأعوام القليلة المنصرمة، ما أكثرهم هؤلاء الذين خرجوا من مصرهم كما خرج النبي موسى بقومه من مصر الفراعنة إلى " أرضٍ تفيض لبناً وعسلاً " … إلى أرض كنعان!
وآرام…؟ لقد أبى آرام إلا أن يكون واحداً من هؤلاء المهاجرين الكثر. قد (كان) آرام واحداً منهم! لكن آرام لم يهاجر هرباً من البؤس من الفاقة من التعتير وحسب، بل هرباً أيضاً مما كان يَسِمُه (بالانعتاق). كان للهجرة في وجدان آرام يوم هاجر معنى آخر غير مادي. كان لها في وجدانه معنى العبور من برزخ الأسر إلى الانعتاق، معنى العبور من عتمة الليل المخوفة إلى ضوء النهار المشعشع بالأمان، معنى العبور من القبح إلى أجمل ما كان يستشعره ويتحسسه من معاني الحياة.
يوم دعانا جوزيف كيفاركيس لقضاء عطلة يوم الجمعة في (تل تمر) بضيافة أهل زوجته، في ربيع السنة الأولى من إقامتي في القامشلي، تجاذبنا حديثَ الهجرة ونحن جالسون على بُسُط فرشت لنا على أرض مفلوحة تحت شجرة لوز مزهرة في كَرْم حميه والد زوجته. فحين وقف آرام على ما في نفسي من مقت للهجرة، انبرى لي دهشاً:
- لا أكاد أفهم! إن كنت تمقت الهجرة، فأنت إذن تمقت سعي الإنسان إلى الخلاص من الجحيم.
- من الجحيم؟!
أبديت عن دهشتي أنا أيضاً، ثم مددت صوتي بلفظ الجحيم مستفسراً:
- وما هذا الجحيم؟
فرد على الفور:
- ... ألا تملك من أمرك شيئاً. أليس جحيماً ألا تكون أنت كما تحب أن تكون؟ أليس جحيماً ألا يكون لك رأي وموقف؟ أليس جحيماً أن يُنكّل بك إن شئتَ أن يكون لك رأي وموقف، أو شئت أن تحيا حراً كما تشتهي أن تحيا بلا أغلال؟
أجبت موافقاً إياه:
- بلى، إنه الجحيم.
فتفرس فيَّ مستغرباً، ثم سألني:
- فما مقتك للهجرة؟
أجبت كالمنكر سؤاله:
- أليس من حقي أن أمقتها؟
قال:
- نعم ولا. في كل الأحوال فإني لا أحرمك من حقك في مقتها، أنت حر. لكني لا أفهم كيف تمقتها وهي سعي الإنسان إلى الخلاص.
- أمقتها لأمر يخصني. أما أن يكون سعي الإنسان إلى الخلاص (بها) بها هي دون سواها، فأمرٌ لا أقرّك عليه. أليس يجدر بنا أن نسعى بغير الهجرة إلى الخلاص؟
- بغير الهجرة؟ أي شيء مجد في هذا السبيل غير الهجرة؟ غريب! إن رأيك فيها مطابق لرأي ميخا. فهل هو الذي أعداك من رأيه؟
فالتفتَ إليه ميخا وقال بلهجة الواثق وهدوئه وهو يحلّ عقدة ربطة عنقه المشدودة:
- رأينا هو الصواب! أما سمعت بقول الشاعر: „ بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ، وأهلي وإن ضنُّوا عليّ كرام“؟
ورأيت آرام يبتسم ابتسام المشفق قبل أن يقول لنا:
- هذا ما تعتقده أنت ويعتقده معك جورج. ولكن ما قيمة هذا الذي تعتقدانه؟
لو كان رأيك صائباً، ما كان مستحيل التحقق. ثمَّ، ما هذا الذي يقوله شاعرك المصاب بالمازوخية الوطنية؟ هلاَّ تمعَّنتَ فيه؟ متى كانت البلاد الجائرةُ عزيزةً؟ ومتى كان كريماً مَن يضنّ عليك ويبخل؟
فتربع ميخا في جلسته على بساطه، أسند ساعديه إلى فخذه وهبّ يتغنى بالطبيعة من حوله محبوراً مثل شاعر تأجّجُ في أطرافه عاطفةُ فتى لم يبلغ مرحلة النضج من يفاعته:
- بلادنا شمسها دافئة طالعة، مياهها عذبة، سهولها فسيحة خضراء، بلابلها مغردة، هواؤها نظيف منعش. يا أخي، أجِلْ نظرك فيما حولك، فماذا ترى؟ هل سترى أجمل من هذا البستان؟ هل سترى أرحب من هذا الفضاء؟ هل سترى في بلاد الغربة نهراً أعذب ماءً من الخابور، هل...؟
فاعترضه جوزيف. خرج جوزيف فجأة عن صمته ليدعم رأيَ آرام، ويصوغَه بعد ذلك في جملة منطقية أكثر إحكاماً وبياناً، قال:
- … ولأنَّ الخلاص بالهجرة ممكنٌ؛ ولأنه محال بغيرها. فليس من الحكمة أن ندع الممكنَ، ونختارَ المحال.
فصاح آرام صيحة الظافر وقد برقت ثناياه:
- عظيم، عظيم! هذه هي المسألة !
كانت حشرة من حشرات الأرض بحجم نملة صغيرة سوداء بُنيّة تدب على ظاهر يدي التي كنت أستند عليها في جلستي على البساط، فاستقمت في جلستي لأنفض يدي متأهباً للرد على جوزيف. لكن جوزيف، وكان إلى جانبي، ضغط بأصابعه على عضدي. ترجّاني جوزيف بما صدر عنه من حركة أن أكفّ عن الكلام، فاستجبت لطلبه متخلياً عن عنادي. كان حزن ناحل قد تسلل إلى عينيه، فأدركت على الفور أن ذكرى شقيق زوجته الذي كان له رأي وموقف فقضى بسببهما في معتقله تحت التعذيب، تعاوده.
…………..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض