الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صيغ التفضيل غير الرافعة

عبد الله خطوري

2023 / 10 / 29
الادب والفن


أرق تعبير عبرت به العرب أغزل بيت شعري قالته العرب أهجا تعريض كنى به العرب وما إلى ذلك من أجمل وأرثى وأشنع من ملفوظات الانفعال الفطرية الساذجة البسيطة المبالغة فى إصدار أحكام عامة مطلقة دون قيود أو حدود تظل سمات تميز النقد الانطباعي أو التأثري أو ما يشبهه عن غيره من المقاربات النقدية .. هذا النوع من الخلجات النفسية الأولية يعتمد على خطرات ذاتية محضة تنبجس تحت تأثير مقاربة عجلى وآنطباعات أولى مباشرة سريعة لحظية ذوقية أو مزاج خاص فردي بعيدا عن المقاربة الفكرية المتأنية الموضوعية التي تتغيى دراسة الظاهرة الإبداعية دراسة متريثة ممنهجة معمقة .. إنه محصلة خواطر وجدانية وصيغ إنشائية وأحكام جزئية عامة سريعة غير معللة، يصف فيها الناقد إعجابه أو نفوره من النص دون أن يبين الأسباب التى جعلته يرى رأيه أو يستبط حكمه .. وهذا النوع من التعالق البسيط مع النصوص ذاع وآنتشر في قراءة قدمائنا للشعر العربي المعاصر لهم في أزمنتهم، فتراهم يجزمون في الأحكام جزما قطعيا فيه إطلاق مبني على صيغ " أعتقد أظن أحسب وأخال ..." وغيرها من ألفاظ الشك والرجحـان التي تنصب مفعوليْن ولا ترفـع شعرا ولا ذائقـة نقدية ولا تربي ملكة ولا تصقل مهارة بقدر ما تساهم في إغلاق باب المقاربة التحليلية للنصوص بطرق "علمية" أو تكاد تكون كذلك .. بالإضافة إلى طابع هذه الأحكام التجزيئي للإبداع الشعري، لم تكن مثل هذه الرؤى الانطباعية ترنو الى القصيدة إلا من خلال أبيات بعينها تلقطها ذائقة العرب الجمعية تسدل عليها أحكاما ثابتة قارة مبنية على أعراف بدوية جمعية متوارثة لمعنى الجمال التعبيري النظمي أنتجت مثل ذي العبارات الرنانة الفضفاضة بصيغ تفضيل غارقة في المبالغات حاجبة للمنافسة في القول الشعري الى درجة أننا إذا سايرناهم في بلاغة وفصاحة الأبيات فإننا لا يمكن أن نستشف في مثل تلكم الانطباعات بلاغة نقدية مادامت تكتفي بالمرحلة والخطوة الأوليين في مقاربة النصوص دون تجاوز ذلك الى النقد التحليلي الموضوعي ..
لقد وصل المنجز الشعري العربي في العصر المسمى "جاهليا" ذروة كبرى من البلاغـة والفصاحة لم يستطع الرقي لها أو أن يوازيها المنجز النقدي الذي ظل بطبيعة المرحلة المعيشة وظروفها البدائية البدوية الصحراوية الفطرية أقرب الى "السذاجة" والسليقة النقدية منه الى النقد التحليلي الموضوعي..
الأمر هنا شبيه بما نلاحظه الآن في قرانا وبوادينا من تواتر سمعي للذاكرة النظمية والشعرية وتناقلها بين الناس بين القبائل عن طريق الروايـة الشفهيـة في المناسبات المختلفة كالأسواق و الأعراس واللقاءات التي قد تجتمع فيها الجموع وتتداول أمورها الحياتية والأخروية .. مثل هذه المناسبات تذكرنا بأسواق المربد وعكاظ ومجنة .. ولا تكتب القصائد في قرانا، بل تظل ظاهرة سماعية تنتقل من لسان لأذن الى لسان ثم أذن وهكذا .. تماما كما كان في العصور العربية القديمة .. ان النقاد واللغويين والنحاة وعلماء الآلة والمهتمين بتفسير القرآن وفهمه واستنبـاط أحكامه كانوا يعودون مرارا الى هذا الشعر اعتمادا على الرواية الشفهية باقصاء الكتابة والتدوين، فلم يكن يروى عن صحفي لأنه معرض للخطا والتصحيف، ووضعت شروط و قواعد للاستشهاد بالشعر تدخل فيها عوامل كثيرة يضبطها جرح وتعديل صارمان من أجل الحفاظ على قداسة المتن القرآني وعدم تعريضه لسوء الفهم والتأويل، فازدهرت علوم كثيرة وظفت كلها من أجل إضاءة السور والآيات، وفي إطار هذا النشاط العلمي الزاهر بدأ النقد الأدبي العربي يعلن عن بداياته الأولى الحقيقية بعيدا عن الأحكام الجاهزة التي تفضـل بيتا على بقية المنظومة الشعرية آعتمادا على ذوق مفرط في إحساسه.وظهر التدوين والجمع و التصنيف والتبويب والتوثيق والتحقيق والترجمة عن اللغات الأخرى وكتابة نظريات في مفاهيم أدبية ونقدية أنتجت نقدا مستقلا له أسسه وقواعده حتى أصبحت تلك العبارات الطنانة التي تجعل بيتا أشعر بيت قالته العرب من باب ما يروى من الطرف والأخبار والملح وقصص العرب يسمع ويؤخذ به لفهم حيوات البدو وطريقة عيشهم وفهمهم وتعاملهم مع الجمال في القول الشعري دون يعتد به في المفهوم النقدي الجديد .. قد نفهم ونتفهم ونقبل ونستسيغ تلك المفاضلات والأحكام المطلقـة ونجد أكثر من مبرر لصيغ التعجب ولا تعجب وهي تنطق بلسان أصحاب الشأن الحقيقين في زمنهم ومكانهم المعيشين لانهم بمنطوقهم ذاك يتمثلون شروطهم الحضارية ويعبرون عن بيئتهم وظروفهم الحياتية الثقافية؛ لكن الأمر يبدو غريبا سمجا نشازا ونحن نلوك صيـغ التفضيل هذه نجترها في زمننا هذا، بل إن المسألة قد تكون تغدو خطيرة بالنسبة لشبابنا المقبل على الحياة الثقافية بسَيْرِهم في ركاب الإعجاب بالشذرات والمقتطفات والنتف الشعرية دون محاولة قراءة فعلية وفاعلة للتراث الشعري العربي القديم؛ ثم إن صيغ الإطلاق والتفضيل الموروثـة تدعي لنفسها الاستقصاء لمادة شعرية عربية قديمة لازلنا نبحث في مصداقية نصوصها توثيقـا وتحقيقـا، لأن عبارة من مثل : " أفخر وأشجا بيت قالته العرب " و رديفاتها "الأروع" و"الأنبل" و"الأيسر والأعسر" و. ... توحي لنا بأن المتكلم استقصى جميع المتون الشعرية العربية وخرج بهذا الحكم.. ومثل هذا الادعاء قد نفهمه من لدن آبائنا القدامى الذين عاشوا في البدايات الأولى للشعر العربي، لكنه أمر غير مستساغ وراثته عنهم في زمن التدقيق والتحقيق والمحاولات المتعددة والمتنوعة للمقاربات الشعرية بمناهج شتى حديثة وقديمة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي


.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض




.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل


.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا