الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنعتاق

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 10 / 29
الادب والفن


هواجس السيد نون
٣٥ - الإنعتاق

كان السيد نون يحلم.
وفتح عينيه بتعب عندما سمع صوتا قادما من وراء الباب، يخبره بأن الباب غير مقفل ولا داعي للبحث عن المفتاح، فدفع الباب بهدوء .. ودخل، يستقبله الدفء والضوء المنتشر في أرجاء المكان، غير أن رائحة المطبخ النفاذة كانت أقوى من أن تجعله يركز حواسه على الدفء والضوء، بالاضافة إلى أن رأسه بدأت تدور، تدور بشدة.. الرائحة القوية والضوء الذي يجبره على إغماض عينيه، الضوء الذي بدا له يزداد قوة لحظة بعد اخرى. لاشك ان المجهود الذي بذله لارتقاء درجات السلم هو السبب في تنفسه السريع، وفي الصوت الذي في داخل صدره، مثل الطبول الافريقية. قبل أن يتمكن من الوصول إلى حجرة النوم بادره صوت قادم من المطبخ: هل الأخبار جيدة ؟بخصوص العمل .. ؟. طوال اليوم كان ينتظر هذا السؤال، أداره في رأسه عشرات ومئات المرات، ووضع في ذهنه عدة إجابات محتملة، غير أنه الآن ليس له، أم لم يعد لديه من القوة ما يدفعه إلى الرد مباشرة، فدخل إلى الغرفة واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه، وأحس على الفور حين أغمض عينيه بأن السرير قد بدأ يدور ويدور مثل مروحة، محدثا ضجيجا رهيبا في داخله، وشعر بأن السرير سوف يطير فجأة ليلتصق بالسقف، وحين يفتح عينيه يتوقف الضجيج لحظة، يتوقف السرير عن الدوران، وتبدأ الجدران تتحرك، تقترب .. تقترب منه حتى تلامس انفه، ثم تبتعد، وتقترب ثانية، في حركة متوازنة تشبه أمواج البحر، وتناهى إلى سمعه صوت آخر غريب، بجانب  اذنه بالضبط مختلطا بامواج البحر، وأدار رأسه بحركة بطيئة، فرأى الكرسي القديم يجانبه يتنفس بعمق، شهيق .. وزفير منتظم، وأحس بامعائه تصعد إلى حلقه، لحظة سمع صوتا قادما من المطبخ يدق بعنف يشبه دقات مطرقة حديدية على عصب معين في دماغه : هل تستطيع أن تساعد في إعداد المائدة .. العشاء جاهز .. وسيبرد !! ودون أن ينهض، تمكن بواسطة قدمه اليمنى من دفع الباب وإقفاله، وأحس بموجة من الهدوء الخارجي، للحظة .. للحظة فقط، ذلك أن الموسيقى الداخلية لخلايا دماغه عادت ترتفع.. وترتفع حتى تنفجر في صوت مرعب لحظة انفتح الباب بعنف، واندفعت موجة هوائية باردة، ودارت عدة دورات محمومة في أرجاء الغرفة المعتمة، تحركت عدة أشياء، الجريدة والأوراق المكدسة بجانب السرير، وسقطت الصورة المعلقة على الجدار المقابل على الأرض، ثم انصفق الباب بصوت مدو.. وعم الصمت.. واستقرت النسمة الهوائية بإعياء على الكرسي العتيق متأملة انعكاس الأشياء في المرآة، وزجاج النافذة.. الألواح الخشبية القديمة، والمعطف المعلق على الجدار.. لن أعود..، خيل إليه أن النسمة تخاطبه في صوت خافت يشبه الهمس.. لن أعود ثانية إلى هناك .. وتناهى إلى سمعه شيء يشبه ضحكة هادئة بعيدة .. سأبقى هنا .. هل تعرف .. أفضل أن أظل سجينة في هذه المغارة على أن أعود إلى هناك .. أعني إلى تلك الصحراء.. وكان متأكدا بأنه هو الذي يتكلم، إي أن الصوت لم يكن صوته ومصدره الكرسي الذي بجانب السرير.. لقد قذفت بي عاصفة رملية حمراء وسط البحر .. ظللت اطفح فوق الماء زمنا طويلا .. تتقاذفني الآمواج، حتى حررتني  فجأة موجة بحرية قادمة من الأعماق، لا أدري بأية صدفة، ولا الاتجاه الذي قذفتني فيه، أنا القادمة من أعماق الصحراء؟؟ غسلتني في المياه المالحة، وتركتني ملتصقة بصخور الشاطئ ثم قذفت بي في هذه الحجرة الضيقة، بجانب السرير. الصوت يبدو وكأنه يزداد انفعالا، وكلما أغمض عينيه كان صوت تنفسها يزداد قوة وعنفا، حتى خيل إليه بأنه فحيح أفعى، لم يكن يقوى على تبادل الحديث معها فهو لم يكن يرى سوى الكرسي الذي كان مقعده ينتفخ وينكمش ببطء يبعث على الدوار، وتمنى لو تتركه وحيدا مع أصواته الداخلية التي تشكل هذه الاوركسترا الموسيقية الغريبة. وانفتح الباب فجأة، وسمع صوتا مألوفا يقول له عدة كلمات متقطعة مبهمة لم يتمكن من التقاطها وتجميعها في ذهنه، حيث كان يتابع بعينيه النسمة الهوائية التي خيل إليه أنها نهضت بذعر بتأثير الهواء القوي الذي اندفع من النافذة، وخرجت بسرعة مصدرة صوتا قويا مرعبا يشبه الصفير. وحينما اغمض عينيه رآها تحتضن بشوق الموجة البحرية الملتصقة بصخور الشاطئ، وتعودان معا إلى أعماق المياه المالحة، وتغوصان إلى الأعماق مصدرتين صوتا خافتا يشبه حشرجة الموت. وترائى له حصانا أبيض يندفع، يبرز من الأمواج، وينطلق على الشاطئ.. يعدو .. بينما طفل صغير جالس على كومة من تبن البحر ينظر إليه مسحورا. وتختفي الصورة ويبدأ شيء ما يغلي في داخله، وعرق غزير يتصبب من جبينه ومن تحت إبطيه، وأحس بقميصه ملتصقا بظهره، ولسانه وكانه التصق بحلقه، إنه بحاجة قاتلة إلى رشفة من سائل ما تبلل شفتيه ولسانه وحلقه المتيبس، فطلب بصوت واهن كاس ماء..، ثم عاود الطلب بصوت أقوى، وفي المرة الثالثة، وحين لم يسمع جوابا، بدأ شيء آخر شديد الحرارة يوخزه في صدره ويحرق رئتيه من الداخل، فنهض مسرعا وكأن قوة شيطانية أنسته تعبه وفقدانه لحواسه، وفتح الباب محموما، فاستقبلته على الفور غيمة من الدخان ورائحة شيء ما يحترق، فهرع إلى المطبخ، أطفأ موقد الغاز، وفتح النافذة ليخرج الدخان الكثيف، ودار حول نفسه عدة دورات كالمجنون، وحين لم يجد أحدا، شعر بشيء شديد المرارة يصعد إلى حلقه، وفجأة رأى ورقة صغير على الطاولة، تحت الوعاء البلاستيكي الذي يحتوى على الملح، أخذ الورقة بيد مرتجفة، وحين حاول قراءتها، كانت الكلمات تقفز قفزا من الورقة وتنشب مخالبها الغجرية الحادة في عنقه ووجهه وعينيه .. لقد مللت العيش وحيدة مع الجدران، وداعا ايها الرجل الجدار !! قالت له الورقة البيضاء، ونظر إلى الجدار أمامه، نظر بتركيز شديد، يريد أن يرى ذلك الشيطان الذي يفسد حياته ويحيلها إلى رماد ودخان، أو لعله يرى أثار المحبرة وقد رسمت صورة ما، أو شكلا تجريديا بواسطة الحبر السائل على الجدار، ولكن لم يكن أمام عينيه سوى ذلك الجدار الكلسي الأبيض، يحدق فيه بفراغ مرعب، وذلك السلب المطلق يخرج له لسانه، ويزيد من غليان الغضب في أعماقه والإحساس بفشله في التواصل وفي الخروج من قوقعته. أصابعه كانت ترتعش وشفتيه تتمتمان بشيء ما، وفي هذه اللحظة، في هذه اللحظة بالذات، حين نظر إلى علبة الملح في يده، أحس بها وكأنها جمرة تحرق جلده، وتبعث ألما رهيبا في عظامه، فقذف بها بعنف على الجدار المقابل، فأصدرت صوتا مكتوما، وتبعثر الملح على أرضية المطبخ، وعندها فتح الباب، وخرج مسرعا إلى الشارع، حيث الفضاء الواسع حيث ندف الثلج تتساقط في حركة مستمرة، خفيفة، محولة الشوارع إلى مساحات بيضاء ناصعة وعلى جانبيها أشكال مربعة أو مستطيلة متجاورة، محاطة بخطوط داكنة رقيقة. البرد يتخلل العظام مثل إبر فولاذية حادة، وفي صدره تغلي أحاسيس وكلمات ومشاريع قادمة لتغيير مجرى حياته، ويحرك يده في جيبه ليتحسس ذرات الملح اللزجة الملتصقة براحة يده وأصابعه، ويسرع في خطاه، وكأنه يريد أن يصل إلى مكان ما في وقت معين، ولكنه يعرف جيدا أنه ليس له إي مكان محدد للذهاب إليه .. انه يسير فقط .. يحرك قدميه بألية وبدون وعي.. وكأن السيد نون يحاول أن يهرب من حلمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات