الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هلاوس في عنبر العقلاء (٦)

علا مجد الدين عبد النور
كاتبة

(Ola Magdeldeen)

2023 / 10 / 31
الادب والفن


نوبة الهلوسة الخامسة عشر

أصواتٌ تأتي من بعيد لم تميزها ، جفنيها ثقيلان كقوالب الاسمنت ، تحاول فتح عينيها بلا فائده ، بدأت الاصوات في الوضوح شيئاً فشيئاً ، إنهما سيدتان ، تتحدثان عن زوجيهما ، ووجبة غداء تنويان إعدادها .
من جديد تحاول فتح عينيها ، تنجح هذه المره أن تفتحهما للحظة لم ترى فيها سوى خيالات بعيدة ، حركت يدها فأسرعت إليها إحداهما قائلةً : حمداً لله على سلامتك ، هل تسمعينني ؟
أومأت برأسها أجل .
: سنستدعي الطبيب في الحال .
إستطاعت أن تفتح عينيها هذه المرة ، رأت سيده بدينة ترتدي ملابس التمريض ، إذن هي في مشفى . حاولت الكلام فلم تستطع فأشارت إلي الممرضة لتساعدها على الجلوس .
رأسها مشوش و حنجرتها يابسه كالحجر
لحظات وحضر الطبيب ، فحصها بعناية ثم سألها : هل تستطيعين الكلام ؟ اشارت بالنفي
: هل تعرفين ما هو إسمك ؟
: هل تعلمين ماذا حدث ؟ ، ماهو آخر شيء تتذكرينه ؟ لم تستطع الرد ، هي لا تذكر شيئاً على الاطلاق .
هل تعرفين من هي منى ؟ ألا يبدو هذا الاسم مألوفاً لك ؟ ، أومأت بالنفي .
لا تقلقي لقد تعرضت لحادث وأنت فاقدة للوعي منذ عشرة أيام ، من الطبيعي أن تعاني من بعض التشويش .
وجه الطبيب بعض الملاحظات الى الممرضات و إنصرف إلى مكتبه .

ساعدتها الممرضات على الاستحمام ، لفت انتباهها كم الكدمات التي غزت جسدها ، وجرح غائر بكتفها . كيف كان حالها إذن منذ عشرة أيام ؟ ما هو نوع الحادث الذي اصابها ؟!
بعد إسبوع ، أذن لها بالمغادرة ، أخبرها الطبيب عن ماضٍ مروع لسيدة تدعى "منى" ، وحيدة لأبوين متوفيين ، تزوجت من ثري أجنبي أذاقها من الحياة مرها ، إعتدى عليها بالضرب وأطلق عليها الرصاص ثم إنتحر .
كانت تقف أمام المشفى بذاكرة ممحاة لن تحاول إستعادتها ، حلت رباط شعرها وخلعت حذاءها وسارت حافية مستمتعة بأشعة شمس وعدتها بأن تحظى بميلاد جديد و صفحة بيضاء عليها أن تملأها بذكريات من الفرح والسلام .




النوبة السادسة عشر

غريبة هي الحياة ، كأنها سباق أو لعبة عليك أن تخوضها دونما تدريب ، لا أعرف حقاً هل هي عادلة أم أن الخالق تعمد تصميمها بهذا الشكل لحكمة لا يعلمها غيره .
نحن نولد بصفحات بيضاء بلا خبرة ولا أدوات تؤهلنا لخوض هذه الحياة ، تتلقفنا يدُ آباؤنا لتعلمنا وتحقننا بمعلومات يقولون عنها أنها "حقائق ، عقائد ومسلمات" ونصدقهم بل ونؤمن بكل ما يقولون .
كل منا يرى العالم كما رآه أسلافه ، و نسير إلى موتنا على نفس الطريق الذي رسم لنا .
قليلون هم من يتساءلون ، و نادرون هم من يجدون إجاباتهم الخاصة ، والأكثر ندره من يستطيعون التغيير .
كتب يوهان غوته "أعمق موضوع في تاريخ الانسان هو صراع الشك واليقين"
بينما قال بيتر أوستينوف "الحقيقة طموح ليس في متناولنا تحقيقه".

أما لعبه الحياة ، فيكمن الظلم فيها بمرورها السريع ، فمن طفوله ساذجة لمراهقة متمردة يليها شباب مندفع ثم تأتي مرحلة نضج لا تستمر كثيراً ثم يبدأ الجسد في الانهيار ، فتخون الذاكرة ويضيع التركيز ثم نفقد القدره على الكلام والجدال والتواصل ، وحدهم الجاهلون بالسر يثرثرون كثيراً ، أما من عرف حقيقة الحياة فيلوذ بالصمت ، وكأن الخالق وضع هذا الترتيب لضمان إبقاء معنى الحياة والهدف منها سراً لا يباح . فتموت أجيال وتأتي أخرى بتفاؤل ساذج لتخوض من جديد هذه المتاهة بنفس الأسئلة باحثة عن إجابات حتى وإن توصلت إليها لن تكشفها لأحد.

النوبة السابعة عشر

الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً ، الشوارع ساكنه مظلمة إلا من بعض المناوشات بين القطط والكلاب ، مرت بينهم بجسدها النحيل المتخفي تحت معطفها السميك وخطواتها المتسارعة التي منعت قدميها من ملامسة الأرض ، عبرت الطريق من ميدان الأوبرا حتى منتصف كوبري قصر النيل ، تلفتت لتتأكد أن لا أحد يراقبها ثم أخرجت لفافة سوداء ، قلبتها بين يديها كمن يفكر في التراجع ، ثم ألقتها في الماء .

إلتفتت من جديد لعل مشاهداً لما حدث قد يظهر في ايه لحظة ولكن لا مجنون غيرها قد يعرض نفسه لبروده هواء النيل في ساعات الصباح الأولى و في شتاء كهذا ، أرخت قدميها وجلست متربعه على الرصيف ، احكمت إغلاق معطفها و أطرقت تفكر ، كان يجب عليها التخلص من هذه الآلة ، لا أحد سيصدقها ، إن الناس تكره الحقيقة ، يحبون من يخدرهم بآمال ربما لن تتحقق ، لقد فعلت الصواب .

لم تكن تتخيل أن رحلة صيفية على شواطئ الغردقة قد تغير عالمها إلى الأبد ، ولم تكن لتصدق أن مجرد كرة صغيرة قذفها الموج أمامها هي آلةٍ للزمن تستطيع من خلالها السفر إلى أي وقت تريد .

في البداية كان الأمر مربكاً ولكنها راحت تتنقل بكل فضول وسذاجة بين الأزمان المختلفة ، رأت محمد أنور السادات وهو يعد فنجان قهوة لعبد الناصر ، لم يكن الفنجان مسموماً كما إدعى البعض ، لم يضع فيه السادات سوى جوزة الطيب ، التقرير الطبى لوفاة ناصر انتهى إلى أن الوفاة حدثت نتيجة أزمة قلبية مفاجئة ، وكان هذا منطقياً لقد دخن عبد الناصر أمامها عشرون سيجارة في ساعه واحدة فقط !!

لقد سافرت إلى العام ١٩٨١ و حذرت السادات من حضور العرض العسكري وأبلغته بأسماء قاتليه ، لازالت تذكر رائحة زنزانة الإنفرادي التي حبست فيها ، قبل أن تقرر الهرب بعد إغتيال السادات .

انتقلت إلى لندن ٢٠٠١ ، شاهدتهم بأم عينها وهم يلقون سعاد حسني من شرفه منزلها ، حاولت منعهم ولكنهم ألقوها خلف السندريلا فاستخدمت الآله ونجت بأعجوبة قبل أن ترتطم بالأرض .

لم تكن تعلم أن دوامة الفضول هذه سوف تبتلعها فظلت ترتحل من زمن لآخر ومن عصر لآخر ، وجدت نفسها راعياً للغنم في تلال الصين ، ومحارباً من محاربو الفايكنغ ورغم انها ماتت بشكل بطولي إلا انها لم تسكن مع الإله "أودين" في "فالهالا" ( عالم الآلهه !! .
راقبت نشأة الديانات السماوية و عاصرت الطوفان الكبير الذي أغرق المعمورة ، ركبت مع النبي نوح سفينته ، و عبرت البحر مع نبي الله موسى ، ثم عادت بالزمان لما يسمى بالديانات الارضية ، في ذلك العصر كان الناس يقدرون الأرض فهي منبع الخير و الحياة ، كانت المرأة مقدسة ، رحمها الواهب للحياة قدس الاقداس وحيضها مبارك ، لم تكن عورة ولا نجس ، ودت لو بقيت في هذا الزمان إلى الأبد ، ولكن جهلها بلغة الناس وقتها منعها من البقاء معهم .
ثم فجأة قررت أن تعرف أصل الحكاية ، ضبطت مؤقت الجهاز إلى ١٣ مليار سنة ، إنه وقت الانفجار العظيم علها تعرف كيف نشأ هذا الكون ، وانتقل بها الجهاز إلى الأرض ، في حياة هي أكثر تطوراً مما يعيشه الناس في زماننا الحالي ، وفجأة إنفجر كل شيء وعم السكون ، ثم ما البثت الحياة أن بدأت من جديد ببدائية العصور الحجرية .

أبواق السيارات أفاقتها من شرودها ، أحدهم يخرج من شباك سيارته غامزاً لها : إيه يا موزة عاوزة توصيلة !!
انتصبت عائدة إلى بيتها ، سعيدة بالتخلص من آلة كانت أكثر صدقاً من أي مبشر أو رسول ، آلة لم تحذرها من إقتراب الساعة ، لم تدعي تواصلاً مع الخالق ، آلة تقول بكل صدق إن هذه الحياة ما تلبث أن تنتهي حتى تعود من جديد في دائرة من الخلود اللامنتهي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟