الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يدفعون إلى العنف ويدينونه

راتب شعبو

2023 / 11 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


بعد إدانة قتل المدنيين، وإدانة كل أنواع الجرائم التي يرتكبها هذا الطرف أو ذاك، والكلام عن الردود المتناسبة وغير المتناسبة ... الخ، يبرز سؤال تلقائي هو لماذا الإلحاح الشديد على هذه الإدانات والسكوت التام عن إدانة انتهاك مستمر لحقوق صريحة يعرفها ويقر بها المجتمع الدولي منذ عقود، ويعرف الجميع أنها مصدر ووقود الانتهاكات الحالية التي لا يكف العالم عن المطالبة بإدانتها؟
ما يجري في الواقع يتجاوز هذا السؤال البسيط المتكرر، في الواقع يتم استخدام إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين (من الحق إدانة قتل المدنيين) ليس فقط من أجل تبرير قتل أضعاف مضاعفة من المدنيين الفلسطينيين، بل أيضاً، وهو الأهم، من أجل تمرير وتكريس واقع انتهاك الحقوق الوطنية الصريحة للشعب الفلسطيني. هذا هو أخطر ما يجري، وهذا ما يجعلنا نقول إن الإلحاح الشديد على إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين بوجه خاص (حتى الآن يكتفي الغرب الرسمي بإبداء الأسف ولا يدين قتل المدنيين الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزة)، لا يصدر عن حرص على المدنيين بقدر ما يصدر عن حرص على محو حقوق وطنية، وإخفائها وراء دخان كثيف يثار حول الهمجية والفظائع التي ارتكبها مقاتلو "حماس" وراح ضحيتها مدنيون اسرائيليون.
المنطق السياسي السائد في الغرب حيال ما يجري في فلسطين اليوم يسير في الواقع عكس المنطق، فبدلاً من اعتبار أن العدالة هي الأساس الذي يبنى عليه السلام، والذي من شأنه أن يفكك تشكيلات العنف، يذهب إلى اعتبار أن القوة الكاسحة (قوة الجيش الإسرائيلي مسنوداً بأقوى الاقتصادات وأقوى مصانع الأسلحة وأقوى الجيوش في العالم) يمكن أن تبني سلاماً على جثة العدالة، على غرار حروب المستوطنين الأمريكيين ضد الهنود الحمر. غير أن هذا المنطق الإجرامي، لسوء حظ أصحابه، لا يمكن تطبيقه في القضية الفلسطينية التي لها مكانة مهمة لدى شعوب واسعة تشمل ليس فقط الشعوب العربية بل وغالبية المسلمين في العالم. ما يعني أن هذه القضية غير قابلة للموت، وأنه لا يمكن حلها بالقوة بل بالعدل.
يمكن لكاتب عربي بارز مثل "الطاهر بن جلون" أن يقول في الصحف الفرنسية، تماشياً مع الموجة الغربية الكاسحة لإدانة عملية "طوفان الأقصى" وعزلها عن كامل سياق الصراع، إن القضية الفلسطينية ماتت في السابع من أكتوبر. أي إن الانتهاكات والفظاعات التي جرت في هذا اليوم بحق أفراد مدنيين اسرائيليين، وهي ممارسات مدانة بحد ذاتها من غالبية الناس، تلغي الانتهاكات الاسرائيلية التي سبقتها وتلتها، وتجعلها منسية، وهي انتهاكات بحق شعب كامل، كما تجعل قضية هذا الشعب تموت. ولكن يمكن لأي متابع أن يقول إن العالم يفكر في الموضوع الفلسطيني اليوم أكثر مما كان يفكر فيه قبل عملية طوفان الأقصى. الأمين العام للأمم المتحدة يعيد عملية "طوفان الأقصى" إلى سياقها حين يصرح إن هجمات حماس لم تأت من فراغ، معظم سياسيي العالم يتذكرون القرارات الدولية الخاصة بفلسطين ويفكرون في أسباب فشل اتفاق أوسلو ... الخ. وفي المحيط العربي، يلغي زعماء عرب لقاء قمة مقرر مع الرئيس الأميركي خلال زيارته التضامنية مع إسرائيل، ويرفض زعماء دول عربية وإسلامية توقيع بيان مشترك لا يطالب بوقف القصف على غزة، وذلك كله تحت ضغط حراك شعبي واسع لدعم غزة.
كل هذا يقول إن الموضوع الفلسطيني بعد "طوفان الأقصى" هو أكثر حياة مما كان عليه قبلها، وذلك على عكس الكلام عن موت القضية الفلسطينية. صحيح أن الاهتمام بالموضوع الفلسطيني اليوم ثمنه دم فلسطيني غزير وآلام مهولة، لكن من يراقب ير أن مسيرة الإجرام الإسرائيلي المتمثلة في القمع والقتل والتضييق والحصار والمصادرات والتوسع وتفتيت المناطق وتقطيعها كي لا يبقى مكان للكلام عن دولة فلسطينية ... الخ، كانت متواصلة ولا تكف عن تغيير الواقع بصورة يومية في اتجاه تمويت القضية الفلسطينية، مدعومة بتفوق هائل في القوة العسكرية والاقتصادية، قياساً على ما يملكه الفلسطينيون، دون أي إدانة أو رد فعل عالمي مؤثر.
من يراقب ير أن العالم لا يتوقف للنظر في الموضوع الفلسطيني إلا عقب عملية فلسطينية، وقد مالت العمليات في الفترة الأخيرة إلى أن تكون فردية في مناطق ال48، مثل عمليات الطعن أو الدهس، هذا في حقيقته هو تعبير عن يأس المظلوم، وليس عن نزوع جرمي، كما يحاول التيار الرئيسي من الإعلام الغربي تصويره. وفي الضفة الغربية ظهرت في السنوات القليلة الماضية جماعات مسلحة مثل "كتيبة جنين" ومجموعات "عرين الأسود" للتأكيد على البندقية، وهذا تعبير عن فشل اتفاق أوسلو، وعن اليأس من الحلول التفاوضية المجردة من قوة السلاح. الدرس الذي يحشر نفسه حشراً في رأس كل فلسطيني، هو أن المقاومة سبيل التحرر. "بشرف عرضكم لا تتركوا البارودة"، هذه وصية سريعة بأنفاس لاهثة قالها، قبل حوالي سنة، أحد المقاتلين الفلسطينيين وسط اشتباكه مع قوات الاحتلال، قبل استشهاده بقليل.
إدارة الظهر لحق منتهك تولد عند صاحب الحق، دوافع قتالية، ويمكن له أن يتجاوز في اندفاعه ويأسه أخلاقيات القتال وحتى القيم الإنسانية. نرى هذا ضمن المجتمعات الديموقراطية نفسها. حين تدير الحكومات ظهرها لمطالب المحتجين مراهنة على تعبهم وتخامد قواهم، يميل بعض المحتجين إلى تخريب الممتلكات العامة والخاصة بالحرق والتكسير، كي يرغموا الحكومة على معالجة مطالبهم. وقد حمل هذا السلوك التخريبي هناك اسم "بلاك بلوك" وبات له منظرون وأتباع.
لا يختلف الأمر كثيراً هنا، لا غرابة في أن يخرج من الشعب المظلوم والمنتهكة حقوقه دون أمل باستعادة هذه الحقوق بالسياسة، مجموعات "انتحارية" لا تبالي بحياتها، كما لا تبالي بالعالم وحساسياته. المفارقة، أن هذه المجموعات التي يدينها أصحاب القوة العالمية بأشد العبارات، هي وحدها التي تجعل العالم يعيد التفكير في سلوكه تجاه الشعب الذي خرجت منه هذه المجموعات. العالم الحالي المنحاز للأقوياء والضعيف الحساسية تجاه حقوق الضعفاء، إنما يحرض، في تواطئه مع مغتصبي الحقوق، بروز الجماعات العنفية التي لا يكف عن ادانتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله