الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حذار من الإفراط في التفاؤل

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 11 / 1
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


نحن كبرنا على كون تجارب التاريخ تؤكد أن مواجهة الاستعمار هي الثابت الوحيد، وأنّ تبدّل حمَلة الرايات لا يلغي أن القضية الاساس تبقى إزالة الاستعمار باعتباره مصدر الشرور التي تصيب الشعوب.
ستبقى هذه الأفكار فينا إلى آخر يوم في حياتنا. ففلسطين لم تكن بنظري مجرد قضية شعب شرّد من أرضه من قبل استعمار استيطاني إحلالي، بل هي الساحة المركزية وعنوان التحرير في صراع شعوب المنطقة العربية والإسلامية ضد الهيمنة الإمبريالية، وهي جزء لا يتجزأ من نضال شعوب العالم الثالث ضد هذه الهيمنة.. وستبقى نصب أعين الأحرار والقوى الحيّة في هذه الأمة حتى تحققها. ولأن فلسطين جزء من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية. فعلاقتنا بالقضية كعلاقة الكبد بالجسد.
كل هذه الأمور في باب. وفهم ما يجري اليوم باب آخر. فنحن اليوم إزاء حرب طاحنة. وفي الحروب الطاحنة يظل الجواب الوحيد الحقيقي في فوهات المدافع، حتى يتبلور حلّ سياسي يُتفق عليه وفق موازين القوى وقياسًا لِنتائج المعارك.
على هذا لا أريد أن أكون لا متفائلا ولا متشائما، لأن قراءة الحروب في وجهها العسكري السافر، وما يحيط بها من صراع استراتيجيات أوسع من المعركة في حد ذاتها، يغيب فيه الوجدان، ولا يبقى في العقل سوى جفاف الرصاص. وبسبب هذه القناعة، لست من الذين يرفعون سقف الآمال، حين قرّروا انتصار المقاومة قبل بدء المعركة. بل أحاول أن أفهم ما يحيط بالمعركة، قبل فهم مجريات الاشتباك على الأرض. وأعتقد أن الانتصار بالمعنى الرمزي، ومن جهة سقوط أسطورة الجيش الصهيوني، ومن جهة البدء في مراكمة الإضعاف المعنوي الجدي، قد تحقق إلى حد الآن. ولكن يجب على الشعوب أن تمرّ إلى القيام بأعمال مؤلمة بحيث لا تترك لدولها خيارا آخر غير وقف الحرب على غزة. أما إذا استمرت الاحتجاجات خطابية، واستمر القتل والإبادة، فإن النتيجة ستكون كارثية بجميع المقاييس، وستنتهي بسحق المقاومة سحقا لا سابق له. وحينئذ يُصبح الإحباط مُعادلا لعملية التعاطي مع الأحداث بالاستسلام لٍعواطفنا وآمالنا. نحن الذين لطالما جربنا الهزائم والخيبات.

كما أني لا أعتبر تضامن الدول الغربية غير مسبوق، بل أراه أمرا طبيعيا ومسبوقا جدا بما يشبهه. وبصفة خاصة رأيت استياءٍ كبيرًا من الموقف الفرنسي تحديدا، خصوصا من العرب المقيمين بفرنسا. ومن هنا ارتأيت أن أشرح عدم وجاهة هذا الاستياء.

بداية، فليكن واضحا للجميع أن تأييد جرائم الإبادة والاحتلال والفصل العنصري، جزء من العقيدة السياسة الغربية. والتاريخ حافل بالشواهد. هذا إضافة إلى أن التمسّك ب"إسرائيل" قوية ومتفوقة هو تمسك بقدرة الغرب على التحكم بمصير المنطقة العربية، خاصة وأن هذا الكيان هو آخر قلاع الاستعمار.

بعد أربعة وعشربن يوما على بدء مذبحة غزّة، أضحت الحرب محكومة بمجموعة من الضوابط، لعل الأهم فيها هو إنضواء جميع الدول الإقليمية المؤثّرة تحت سقف معادلة التّهديد الأمريكي. التي أنتجت ثلاثة حقائق:
الأولى، تتمثل في وضوح التنصل الإيراني من كل ما جرى يوم 7 أكتوبر وما قبله. وحين نتكلم عن إيران، فنحن نتكلم عن حزب الله وإلى حد كبير عن سوريا.
الثانية، هي الارتباك العربي والتباس موقف المحايد الشريك بطريقة غير مُعلنة.
والثالثة، هي الدعم الأوروبي المطلق، وتأكيد اسرائيل تحت الشعار المغشوش "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"

معادلة الإنضباط هذه فرضتها القواعد العسكرية الأمريكية وحاملات الطائرات والبوارج الحربية المنتشرة في البحر المتوسط والبحر الأحمر. وهذ يعني أن الغرب مصمم على أن تكون هذه الحرب آخر فصول المواجهة المسلّحة للقضاء نهائيا على المقاومة الفلسطينية، وفرض التسليم بنتائجها الجذرية، ليس فقط على "محور المقاومة"، بل على المنطقة بأسرها، ضمن ما سيرافق نتائج الحرب من إعادة ضبط الرهانات تحت رُعب البوارج الاأميركية.

لا يمكنني أن أتفاءل كثيرا بالنظر لتشابك مصالح مكونات الصراع وتعقيدات الوضع في عموم الإقليم. ففي حين تُصر إيران بشكل يومي على النأي بنفسها عما يجري. ويتأخر حزب الله ليترك مكانه لقوات للجماعة الإسلامية وكتائب القسّام بتوجيه ضربات صاروخية محدودة من جنوب لبنان نحو الأراضي المحتلة، تؤكد إيران في الوقت نفسه على موقعها في المشهد الفلسطيني تمهيداً للإستثمار السياسي وافتكاك مقعد في التفاهم على ترتيب الوضع النهائي بعد نهاية الحرب.

من الجانب الصهيوني، تُصرّ إسرائيل على استعادة مكانة جيشها وفرض شروطها من خلال عملية عسكرية، دون تقديم أي تنازلات سياسية تتعلق بتنفيذ القرارات الدولية والسير إلى "حل الدولتين".

من الجانب العربي تقف دول الخليج ومصر عاجزة على وقف التدمير المستمر لغزة، من جهة وقوعها تحت التهديد الامريكي، ومن جهة عدم وضوح أهداف عملية طوفان الأقصى. فحتى الوساطة التي تقودها مصر وقطر لتبادل الأسرى فشلت، وهذا ما يفسر ازدياد وتيرة الضغط العسكري وإطلاق العملية البرية منذ يومين. وتزامنا مع التدمير الرهيب والتطهير العرقي الجاري في فلسطين، يُصر الحزب الديمقراطي على الفوز بالإنتخابات الرئاسية في العام المقبل للبقاء في البيت الأبيض. ويُصرّ نتانياهو على إنقاذ نفسه بمزيد التعنت حتى يطيل أمد الحرب ويرفع حدود المغامرة.

هكذا تدخل حرب الإبادة أسبوعها الرابع دون بلورة أي تسوية سياسية، تفرض وقف القتل. وكل يوم تزداد ضراوة القصف والإمعان في تدمير أبسط مقومات الحياة في القطاع. ولقد ناهز عدد الشهداء العشرة آلاف خلال أربعة وعشرين يوما، وهو ضعف عدد شهدا الانتفاضة الاولى خلال ثلاثة سنوات.
من الواضح أن قادة الاحتلال الاكثر تطرّفا ماضين في سياسة إفراغ قطاع غزة من الفلسطينيين. وما أطروحة "القضاء على حماس" إلا ذريعة لتبرير تحويل غزة إلى مقبرة جماعية بمباركة دولية وغطاء عربي.
وما يشجع الكيان الصهيوني على المُضي في نهج الإبادة، هو اقتناعه بفشل العنف في تغيير الوضع الميداني. واستحالة قبوله بحل يجعل من المقاومة نِدُّا له. لأنّ خروج المقاومة بمكاسب مُشرّفة، سيجعل الكيان الصهيوني بلا قيمة في نظر الحاكم العربي المشدود له باتفاقيات التطبيع والتعاون والدفاع المشترك. وهذا ما يجعل على أكتاف هؤلاء الحكام مسؤولية تحمل تجاوبهم مع طروحات العدو، وما سيترتب عنها من تداعيات على الوضع العربي وستتحمّل ثقلها الاجيال القادمة.

كيف يمكننا بناء إجابة عقلانية على نتائج الحرب؟
لو نطرح جميع نقاط القوّة والضعف، وبأقصى درجات الموضوعية. سنجد أن
المقاومة تتفوق تفوّقا نوعيا في عدد كبير من المعطيات الميدانية:
1- يجهل الجيش الصهيوني ما ينتظره في غزة. فهو يدرك المخاطر، ولكنه يجهل أوجهها العسكرية!.
2- التفاوت بين مقاتلي حماس والجيش الإسرائيلي في الخوف من الموت. فمقاتلو حماس يملكون ثقافة استشهادية ترفع من مستوى شجاعتهم وإقدامهم الميداني.
3- تفوّق في المعنويات لحماس على الجيش الإسرائيلي بعد مفاجأة 7 أكتوبر.
4- استعداد أهل غزة للاستمرار بتقديم آلاف الضحايا، بعكس الجانب الصهيوني.
5- خيار المواجهة الذي لا مفر منه لدى المقاومة.
7- خلال الأيام الأولى اعتمد الغزو الصهيوني لغزة على رد فعل غاضب أكثر من اعتماده على خطة واضحة.
8- استعجال نتنياهو لتبييض ولو جزء بسيط من صفحاته السوداء أمام رأي عام داخلي غاضب جداً.
9- عدم وجود هدف واضح لعملية الغزو البري. إن كان الهدف هو القضاء الكلي على حماس بجذورها؟
هل هو تهجير؟ الى أين؟ سيناء مثلا، مع رفض قاطع لذلك من الجانب المصري؟
هل الهدف ضم غزة بالكامل الى الأراضي المُحتلّة؟
10- بدء تحوّل في الرأي العام الدولي ضد إسرائيل بعد قصف المستشفى المعمداني وقتل حوالى 500 شخص.
11- الرأي العام الإسرائيلي ضاغط جداً في الزمان وفي النتائج على الجيش الإسرائيلي وعلى نتنياهو وحكومته. فإطالة الحرب ليست لمصلحة الجيش.
12- مستوى عالٍ من التجهيزات في الصواريخ والمسيّرات لدى المقاومة. يصعب تقدير حجمها.2
13- مستوى التدريب العالي لمقاتلي المقاومة.
.14- الأنفاق، وهي جغرافية يجهل الجيش الإسرائيلي تفاصيل خريطتها ومدى تجهيزها.
.15- عدم جاهزية احتياط الجيش الإسرائيلي لخوض الحرب.
16- إمكانية فتح أكثر من جبهة. أبرزها الجبهة الشمالية.
17- وجود أكثر من 200 أسير إسرائيلي لدى المقاومة.7
18- عدم جهوزية لوجستية إسرائيلية بسبب عنصر المفاجأة، لتزويد الجيش والاحتياط معاً بالعتاد والذخيرة واللوازم، كما بوجبات الطعام اليومية...
19- صعوبة تحرك الدبابات الإسرائيلية في شوارع غزة.

في المقابل، نجد أن الجيش الصهيوني يتفوق على المقاومة تفوّقا نوعيا لا وجه للمقارنة فيه:
1- في مستوى قوة النيران. فهو أسقط أحيانا بقصفه لغزة حوالى 250 ضحية في ساعتين.
2- أصعب ما تتعرض له المقاومة، هو الحصار الاستشفائي واللوجستي وقطع المياه، والتكلفة الكارثية في الأرواح لأهل القطاع.
3- اعتماد الجيش الإسرائيلي ميدانياً على غزارة النيران وعنف التدمير والترهيب والقتل الجماعي، والتزوّد اللوجستي المفتوح بالقذائف والصواريخ والذخيرة ودفاعات القبة الحديدية المتطورة.
4- اعتماده على الأعداد البشرية المقاتلة التي تفوق نصف مليون جندي بحساب جيش الاحتياط.
5- وقبل هذا وبعده يعتمد على حلفاء الكيان الصهيوني الغربيين فيما لو طالت الحرب.

وهنا تحديدا، لا يوجد مجال للتفاؤل بنتائج إيجابية. وخلافا لموجة التفاؤل التي تغص بها وسائل التواصل الاجتماعي، أعتقد أنه من باب الأمانة وضع الأمور في نصابها، وعدم الاستهانة بإمكانيات العدو. فما يُقرأ خلال الأيام الثلاثة الفائتة على أنه فشل ذريع وعجز تام على التقدم داخل القطاع بسبب نيران المقاومة، هو نوع من العاطفة المشروعة، ولكنها تحمل نظرة مجتزئة لما يجري. وحقيقة الأمر هي أن جيش الاحتلال يحاول منذ أيام توفير جاهزية قواته المكونة بغالبيتها من الاحتياط لحرب شوارع شرسة لم يسبق له خوضها من قبل. فالثلاثمئة وسبعين ألف جندي احتياط الذين استدعوا إلى هذه الحرب، لم يحملوا السلاح منذ سنة على الأقل. وبالتالي يحتاجون إلى دورات تذكير. ولقد سمعنا عدد من الصحافيين الموجودين قرب غلاف غزة، يتحدثون عن إطلاق نار وقذائف من أماكن تجمع بعض القوات الإسرائيلية، مما يشير إلى عمليات تدريب لهذه الوحدات التي تم حشدها استعداداً للهجوم البري. وفي نفس الوقت يحاول الصهاينة جمع أكبر كم من المعلومات الاستخباريه عن جاهزية المقاومة، عن عدد المقاتلين وأماكن وجود الأنفاق وكيفية انتشار المدافعين. فهي بذلك تأخذ ما يكفي من الوقت للتقليل من المفاجآت التي أعدّتها المقاومة للجنود المترجلين كالقنص، وللمدرعات من قذائف مصادة ومن كمائن. ولذلك تدخل المدرعات ثم تنسحب. وستتكرر هذه العملية لعدة أيام لأن حركة المدرعات لها أهداف تمهيدية محددة ولابد منها. فلا شك أن 7 أكتوبر أجبر جنرالات العدو على إعادة النظر في تقدير الأجهزة الأمنية للكفاءة وللجاهزية الميدانية التي يتمتع بها رجال المقاومة. وهم لم يعودوا يستهينون بهم كالسابق.
من جهة أخرى يشكل موضوع الأسرى العسكريين والمستوطنين والأجانب عامل ضغط كبير على حكومة نتنياهو من الداخل والخارج. فالحكومات الغربية، وتحديداً تلك التي لها أسرى لدى المقاومة، أو مقيمون في غزة، تريد إخراج رعاياها قبل بدء الهجوم البري الذي من المرجح أن يؤدي إلى مقتل الأسرى وكذلك عدد من الأجانب المقيمين. وفي هذا الإطار، تجري مفاوضات برعاية قطرية ومصر بين إسرائيل وحركة حماس للإفراج عن الأسرى المدنيين والسماح بخروج الأجانب، مقابل إدخال كميات كبيرة من المساعدات، وبخاصة الوقود إلى غزة. ولكن لم يتوصلوا إلى حل لأن نتنياهو يُصر على الإفراج عن جميع الرهائن، فيما تريد حماس الاحتفاظ بالأسرى العسكريين، لمبادلتهم مستقبلاً بفلسطينيين في سجون الاحتلال. على أن إطلاق سراح غالبية الأسرى وخروج المقيمين الأجانب سيخفف الضغوط الدولية والمحلية على نتنياهو وحكومته. وهذا أمر ليس في صالح المقاومة
ميدانيا، أهم شيء تحاول إسرائيل الاستعداد له هو إمكان فتح الجبهة الشمالية من قبل حزب الله وإيران. وبما أن تقييمات القيادتين الإسرائيلية والأميركية تأخذ بالحسبان إمكان اتساع رقعة الحرب لتشمل جبهات أخرى لمحور الممانعة الذي تقوده إيران، فإن واشنطن تريد أن تكون أكثر استعداداً ميدانياً. ففتح الجبهات لا يعني فقط دخول “حزب الله” المعركة من جنوب لبنان، بل يعني أيضاً دخول المجموعات التابعة لإيران من جنوب سوريا، بالإضافة إلى مهاجمة هذه الجماعات للقوات الأميركية في قاعدة التنف. كما أن مجموعات من الحشد الشعبي العراقي بدأت مهاجمة القواعد الأميركية في العراق. حتى الميليشيات الحوثية في اليمن شنت هجوماً بصواريخ جوالة ومسيرات انتحارية يعتقد أنها كانت تستهدف ميناء إيلات الإسرائيلي. إلا أن مدمرة أميركية في البحر الأحمر اعترضتها ودمرتها جميعها. وتحسّبا لأي طارئ، تنتشر القوات الأميركية في المنطقة اليوم وكأنها تستعد لحرب واقعة لا محالة. فهي نشرت أسراباً من مقاتلات إف-15 وإف-16 وإف-35 وآ-10 في قواعدها في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى حاملتي طائرات ونحو عشرين بارجة ومدمرة أمام سواحل فلسطين المختلة. كما بدأت في نشر بطاريات باتريوت للدفاع الجوي ضد الصواريخ البالستية والجوالة، في فلسطين وفي جميع قواعدها في المنطقة. ووصلت إلى المنطقة وحدات وفرق لقوات المارينز والقوات الخاصة الأميركية. ورغم أن الهدف المعلن لهذه القوات هو ردع إيران وحزب الله عن فتح الجبهة الشمالية، إلا أن تقديرات غالبية الخبراء والمسؤولين في الغرب تؤكد أن واشنطن ستتدخل بالفعل عسكرياً لمساعدة إسرائيل في الدفاع عن جبهتها الشمالية إذا ما فُتحت.
كذلك تخشى أميركا أن تقوم القيادة العسكرية الإسرائيلية بفتح هذه الجبهة فور شعورها بالسيطرة على الوضع في غزة بعد الهجوم البري من أجل الاستفادة من الوجود العسكري الأميركي في توجيه ضربة قوية إلى حزب الله. فإسرائيل تستطيع أن تستغل الاشتباكات اليومية على الحدود مع لبنان لتبرير تصعيد مفاجئ بحجة سقوط عدد كبير من القتلى . والأيام الأخيرة أظهرت أن إسرائيل تتأخر بالإعلان عن خسائرها لأسباب إعلامية وللسيطرة على قواعد الاشتباك . لكن هذا الواقع يمكن أن يتغير في لحظة ما، وتعلن إسرائيل عن عدد كبير من القتلى لتبرر رد فعل كبيراً يدفع حزب الله إلى فتح الجبهة، مما سيجبر الأميركي للتدخل. ولقد أخذت إسرائيل خطوات استباقية استعداداً للحرب عبر إجلاء سكان كل مستوطناتها على الحدود مع لبنان وحشد ما يقارب مئتي ألف جندي من الاحتياط لهذه الجبهة.
تجدر الإشارة إلى أن وسائل إعلام قريبة من القوى المحافظة الأميركية الحليفة للصهاينة تتحدث بشكل ملحوظ ومتزايد عن ثأر قديم لأميركا ضد حزب الله، يتمثل بالهجوم الانتحاري على قاعدة المارينز عام 1983 والذي أدى إلى مقتل 223 جندياً أمريكيا. ورغم اتهام أميركا لإيران وحزب الله بالوقوف وراء الهجوم، فهي ترُد عليه حتى اليوم. وتركز وسائل الإعلام ذاتها أيضاً على دور إيران في هجوم 7 أكتوبر. ويحاول الكيان الصهيوني منذ سنوات استدراج أميركا إلى حرب ضد إيران وحزب الله،، وقد يشكل الواقع الحالي المتفجر بحرب في غزة واشتباكات على الحدود اللبنانية ووجود عسكري أميركي كبير، فرصة ثمينة لا تعوّض للقيادة الإسرائيلية بتوجيه ضربة حاسمة لإيران وحزب الله. ولعل استمرار حديث الصهاينه حرب طويلة قد تدوم أشهراً هو أمر لا يطمئن، ويفتح الباب على احتمالات عديدة. واستمرار الولايات المتحدة في نشر المزيد من القوات، يعكس وجود قلق جدي من اندلاع حرب إقليمية، لا تريدها القيادة الأمريكية بالضرورة، لكن قد لا تستطيع تجنبها. وهي بدأت بالتحضير لسيناريو إخراج الآلاف من مواطنيها من بعض دول المنطقة منعاً لهجمات قد يتعرضون لها كرد فعل على دخولها حرب إقليمية إلى جانب إسرائيل.
من جهة ثانية، تسعى واشنطن اليوم إلى إقناع نتنياهو بالاكتفاء بهجوم بري محدود عبر إرسال قادة عسكريين، لتحذيره من مخاطر الحرب البرية للسيطرة على غزة وتدمير قدرات حماس العسكرية. لكن يبقى القرار الصهيوني أساسياً في تحديد شكل الهجوم البري، وحجمه، وتاريخ انطلاقه ولحظة انتهائه. ومن هنا إلى ذلك الحين، ستستمر الغارات الجوية على قطاع غزة وستزداد وتيرتها وحدتها مع قرب ساعة الصفر. وعليه فإن أعداد القتلى المدنيين ستستمر في الارتفاع، والأوضاع على الجبهة مع لبنان ستزداد حدة بانتظار معرفة خطوة حزب الله وإيران يوم الجمعة القادم.

مثلما أشرت في البداية إلى عدم وجاهة الاستغراب من الموقف الغربي، والموقف الفرنسي على وجه الخصوص سأحاول الإضاءة على بعض الحقائق المركزية التي لا يمكنني أن أبني الإجابة عن نتائج المعركة دون أخذها بعين الاعتبار. أهمّ هذه الحقائق هو أن النفوذ اليهودي في فرنسا يعود إلى أفريل 1799 ، عندما نشرت "الصحيفة الرسمية الفرنسية" نداء من نابليون، امبراطور فرنسا انذاك، يدعو فيه اليهود الى الانضمام لجيشه المتوجه الى مصر، ليدخلوا معه القدس. وبموجب ذلك القرار سيظهر أول تتظيم يهودي في فرنسا في 6 جويلية 1806 اذ انعقد مؤتمر لليهود الفرنسيين بمشاركة 75 من زعمائهم ووُجهائهم الأكثر ثراء، منهم 45 حاخامًا، أين تم انتخاب "ابراهام فرونارو" رئيسا للجمعية اليهودية التي انبثقت عن ذلك المؤتمر . وأصدر نابليون سنة 1808 مرسوما بتشكيل منظمة "الجمعية المركزية الاسرائيلية". ومنذ ذلك الوقت أصبح لهم نفوذهم الكبير في مشهد السلطة والحكم. وعلى سبيل المثال، أمس القريب، في عام 1981 لما احتدمت معركة الرئاسة في فرنسا عقدت الجمعية العمومية للجمعيات اليهودية برئاسة "دون روتشيلد" اجتماعا أعلنت فيه شروطها مقابل تأييد المرشح المنتظر. وكان أول هذه الشروط ادخال مادة "تاريخ الشعب اليهودي" في برنامج التعليم الفرنسي.

المقصود من هذا التذكير، هو أنه على الرغم مما شهده النظام الدولي من تبدّلات عدة مرات. وبالرغم من تراجع بعض القوى السياسية واندثار بعضها الآخر، وولادة قوى جديدة بأفكار مختلفة، ما تزال إسرائيل تحظى بمكانة مهمة في الإدراك السياسي الاوروبي، نظرا لتداخل المصالح والروابط. ولقد سعى الكيان الصهيوني دائما وبشكل استراتيجي إلى ضبط التحرك الفرنسي ضمن استراتيجية السياسة الخارجية الأميركية وفي نطاقها. وتُعتبر فرنسا راعية لدولة إسرائيل من الصف الأول، بل أنها تتفوق على بريطانيا والولايات المتحدة في هذه الرعاية وهذه الحماية المزمنة، لأسباب يطول شرحها، ولكن يمكن تلخيص أهمها بعُجالة.
بناء على اتفاقية سايكس بيكو السرية لسنة 1916 أوائل عام 1920 نزلت القوات الفرنسية على ساحل بيروت. ومن بيروت ارسل الجنرال غورو الإنذار الشهير إلى الملك فيصل في خمسة شروط. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف كفاح السوريين ضد الوجود الفرنسي. وبعد عدة معارك تمكنت فرنسا من بسط سيطرتها الكاملة على سوريا
وأعلنت عام 1923 بداية الانتداب على سوريا بتفويض من عصبة الأمم.

استمر الكفاح من أجل الاستقلال
وتمكن الفرنسيون في النهاية من قمع الثورة، إلا أن المقاومة استمرت بشكلها السياسي.
في سنة 1936 تمت الموافقة على منح سوريا استقلالاً جزئياً، ووقّعت معاهدة بين البلدين تنصُّ على منح سوريا استقلالاً منقوصاً ، إلا أن فرنسا تنصلت من بنود المعاهدة بسرعة، وبقيت قواتها على الأرض السورية وظلت فرنسا الحاكم الفعلي للبلاد.

انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وتنصل الفرنسيون من وعودهم مجدداً. فقاوم السوريون؛ وفي 29 ماي 1945 ردت فرنسا بوحشية من جديد، إذ قصفت مبنى البرلمان السوري في دمشق، مما أثار المزيد من الاحتجاجات في سوريا والعالم العربي، وانتقلت الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي الذي طالب بجلاء القوات الفرنسية عن البلاد في 17 نيسان 1946

شكل خروج فرنسا من سوريا بداية انهيار الامبراطورية الاستعمارية. وتتالى فقدانها للنفوذ في المشرق. حيث كانت الحركات الوطنية تتجذر في المغرب الأقصى إذ اندلعت المواجهات بعد أحداث 7 أفريل 1947، بالدار البيضاء، ودعوة محمد الخامس للاضراب العام في ما صار يُعرف ب"خطاب الاستقلال". وفي تونس تأسست جبهة وطنية في مؤتمر ليلة القدر 1946، تلتها إضرابات التجار وأحداث صفاقس 1947، وأصبح مطلب الاستقلال مطلبا إجماعيا. وفي الجزائر أدّت مذابح سطيف وقالمة التي استشهد فيها خمسة وأربعين ألف جزائريا خلال ثلاثة أيام إلى فرار آلاف العسكريين من صفوف الجيش الفرنسي، وانضمامهم إلى حركة انتصار الحريات. وهو السبب المباشر لولادة المنظمة الخاصة إثر مؤتمر 1947..

في تلك السنوات السّود على الاستعمار الفرنسي التي كانت تنبؤ بنهاية نفوذه في البلاد العربية، تم إنشاء دولة "إسرائيل" بقرار من مجلس الامن في 14 ماي 1948، فكانت فرنسا أول دولة تُسلح الكيان الصهيوني وترعاه وتجعل منه إحدى قلاعها في المنطقة.
قبل ذلك بسنتين، وتحدىدا في العام 1946 منحت باريس حق اللجوء لزعيم حزب العمل ورئيس الوزراء الأسبق ديفد بن غوريون وغيره من أعضاء تنظيم "هاغناه" بعد أن طردتهم السلطات البريطانية من فلسطين. وتنظيم "هاغناه" هو الذراع العسكرية الرئيسية للحركة الصهيونية. واستطاع بن غوريون أثناء وجوده في فرنسا إرسال كميات من السلاح إلى فلسطين دون أي عرقلة من السلطات الفرنسية. وبعد ذلك صوتت فرنسا في الأمم المتحدة عام 1947 في تصويت تاريخي لصالح قرار يقضي بإنشاء إسرائيل.
لاحقا، وبعد بضع سنوات، وفي الوقت الذي حصلت فيه مصر على صفقة السلاح الشهيرة عام 1955 من تشيكوسلوفاكيا، كان بن غوريون وشمعون بيريز يفاوضان باريس من أجل شراء أسلحة فرنسية، حيث انتهى التفاوض ببيع فرنسا طائرات عسكرية من نوع "ميستير 4" (Mystère IV) لإسرائيل. وفي نفس السنة تم توقيع اتفاق سرّي، يسمح بنقل تكنولوجيا الطاقة النووية الفرنسية إلى فلسطين المحتلة، إذ أشرف الخبراء الفرنسيون على إقامة مفاعل ديمونة في صحراء النقب. فكانت فرنسا أول من فتح أمام دولة الاحتلال باب امتلاك الطاقة النووية. كما خاضت فرنسا الحرب على مصر في العدوان الثلاثي 1956 إلى جانب بريطانيا والصهاينة، بتعلة أن الرئيس جمال عبد الناصر أبرز مساند للثورة الجزائرية. وقد ساهمت فرنسا عام 1958 في تشييد البنية التحتية الإسرائيلية كبناء طريق بئر السبع إيلات، وتطوير ميناء حيفا. وفضلا عن ذلك ساهمت في برنامج إسرائيل الصاروخي، إذ إن الصاروخ "شافيت" كان ثمرة تعاون فرنسي إسرائيلي. وكما هو معلوم زودت فرنسا تل أبيب بطائرات "ميراج 3" التي استعملتها بكثافة في حرب جوان 1967.

مثلما أتينا على دواعي المساندة الفرنسية المطلقة للكيان الصهيوني في حرب الإبادة على الفلسطينيين، توجد دواعي مماثلة لبقية الدول الغربية، تتصل كلها، من حيث الجوهر، بأهمية الشرق الأوسط كرقعة مصغرة لاستراتيجيات القوى الكبرى الإقليمية والدولية، وبمختلفَ القضايا التي تفور بها منطقة بأنشط المجالات الاستراتيجية التي يتضافر فيها العمق التاريخي والحضاري المحفز لمرجعيات قومية ودينية، مع أهمية جيو-اقتصادية، يجسِّد النفط أهم مكوناتها، وتُؤجِّج استقطابًا دوليًّا وإقليميًّا مزمنًا، ناهيك عن ديناميات تحوُّل مجتمعي سياسي عسيرة تتصارع فيها قوى التحرر مع السلطوية، والحداثة مع الأصولية... الخ

باختصارحتى أستطيع فهم ما يجري حول إبادة للفلسطينيين بدعم غربي مفضوع وصمت عربي فاضح. وحتى أُقارب المآلات بأقصى درجات الموضوعية، أحاول قراءة الخارطة الدولية ومكوناتها وتناقضاتها، والتمعّن في حركة التَّمَوْقُع الإقليمي في سياسات إيران وتركيا سعيًا إلى الزعامة، منذ بداية الألفية الجديدة.
ففي إطار استثمار هذين البلدين المحورييْن لتدمير العراق وتدهور الوضع العربي إلى أقصى الحدود، خاصة ابتداء من هجمات 11 سبتمبر 2001، التي وضعت الدول الخليجية تحت ضغط الإدارة الأميركية. وفي إطار تعاظم التهديد الذي يُشَكِّلُه البرنامج النووي الإيراني. وفي إطار أُفُق مسار التحوُّلٍ السياسيٍّ الجديد في المنطقة والذي بدأ مع حلول 2011، وحركة الثورة والتغيير التي رافقته، وكيف نظرت إليها دول الخليج والغرب بريبة، وما انجر على تلك النظرة من تسليح وتعفين واحتواء وهدم وتمزيق... في ضوء كل هذا، كان لتركيا وإيران أدوار وتطلعات متعلقة بالمصالح الوطنية العليا للدولتين.

بالنسبة لإيران، كان غزو العراق، عام 2003، هدية مزدوجة لها، وذلك بتخليصها من صدام حسين عدوها اللدود من جهة، ومن جهة أخرى بمنحها السلطة لأنصارها الشيعة. وهذا ما سيسمح لها بعد ذلك، في 2011، بوضع قَدَمَيها في سوريا دعمًا للجيش السوري في مواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة. وهو ما سهّل عليها دعم الحوثيين في 2014 ، وسهّل عليها مدّ يدها إلى قطر عام 2017 في مواجهة الحصار. وهو ما سمح للحاج قاسم سليماني بدخول غزة وتهيئة ميدان المعركة الجارية اليوم. علاوة على علاقة التبني الاستراتيجي لحزب الله اللبناني.
هذا كله يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار لفهم الحركية الاستراتيجية النشطة لإيران دفاعًا عن مواقعها ومنعا لتفوق قوى منافسة من اختطاف أوراق تفاوضية مهمة كالقضية الفلسطينية. ذلك أن النفوذ الإيراني يبقى محدودًا بسبب محدودية الإمكانيات المالية والعسكرية لتحقيق هذه الطموحات الإقليمية. فهي تزاحم قوى دولية كبرى على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائل من جهة، وتزاحم تركيا من جهة أخرى. ومن جهة ثالثه تنافس المملكة العربية السعودية على تمثيل الاسلام في العالم.

أما تركيا فلقد وجدت في الاسلام السياسي ورقة لتوسيع مجال حضورها الإقليمي، فأصبحت القاعدة الخلفية للإرهاب ضد سوريا. واقتربت كثيرا من مصر وتونس في فترة حكم الاخوان، ودعمت حكومة السراج في ليبيا، وتعاونت على نحو وثيق مع قطر. وكان كل هذا يندرج ضمن سياسة زعامة العالم السُّنِّي، كرصيد معنوي يحاول تعويض تركيا فشلها في الانتماء للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك ورغم جميع محاولاتها اصطدمت بصخور الذاكرة العثمانية السوداء وإرثها الإرهابي الثقيل في الضمير العربي.

ونحن نرصد تطورات المشهد والتفاعلات الاستراتيجية سواء داخل الإقليم أو خارجه، تحضرنا اللحظة النفطية ودورها في النظام الدولي منذ خمسينات القرن العشرين، هذا النفط الذي يشكل عامل استقطاب مزمن، وبؤرة رئيسة للتنافس الإقليمي والدولي. وهو ما يفسر مرحلة الإنزال استراتيجي للقوى الغربية، وخصوصًا أميركا التي احتلت الخليج احتلالا عسكريا ثقيلا جدا من أجل السيطرة على منابع الطاقة، خاصة بعد صدمة التأميم في مصر ثم في العراق، والتي مهدت لفاجعة الغرب الكبرى المتمثلة في عملية ادخال البترول في المعركة سنة 1973. ولذلك كان هاجس النفط حاضرا تجاه الساحة السورية في 2011 أيضا. فلقد لُدِغت الدول الغربية من تطلع دمشق وطهران وبغداد إلى بناء أنبوب لنقل الغاز نحو الفضاء المتوسطي، بمساعدة قوية من روسيا. وفي نفس السياق لم يكن التمكين الأمريكي لداعش من الموصل في مرحلة أولى، ثم التدخل لاحقا للظهور بمظهر الشريك في استعادة المدينة ببعيد عن الثروات التي يزخر بها الإقليم. غير أن تكرر الهجمات على السفن الأمريكية التي تزامنت مع جائحة الكوفيد، زد على ذلك الصعود الصيني والأثار المترتبة على نزاعات بحر الصين الجنوبي، وتزايد التوتر بين الصين والدول الحليفة لأمريكا في جنوب شرقي آسيا حول المياه المتنازع عليها، جعل هذه القضية واحدة من أکبر أولويات الامن بالنسبة للولايات المتحدة. وهو ما عجّل بانسحابها من العراق وأفغانستان.

في المقابل أدى هذا الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي من منطقة غنية بالطاقة، لا تتحمل الفراغ، إلى اجتذاب شركات النفط الروسية والصينية. وبسبب ذلك فقدت الولايات المتحدة، أو لنقل هي بصدد فقدان أهم استثمار في الجرح المتعفن بين ايران والسعودية. حيث سارعت الصين بوصفها أكبر مستورد للطاقة من الدولتين إلى محاولة رتق الجرح وإبرام اتفاق مبدئي للتعاون بين طهران والرياض.

بالمحصّلة، منذ قررت الولايات المتحدة انسحابها من أهم منطقة في العالم، ومنذ سقوط امتحان الغطرسة الغربية بصمود سوريا، دخل العالم مرحلة جديدة لخصتها صورتان تحملان دلالات تحول استراتيجي عميق في النظام الدولي:
الصورة الأولى:
صورة قمة طهران سبتمبر 2018 وهي الثالثة التي جمعت بوتين مع نظيريه التركي رجب طيب أردوغان، والإيراني إبراهيم رئيسي.
أما الصورة الثانية فتلك التي جمعت وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ونظيره الإيراني حسين عبد اللهيان، يمسكان اليد باليد، وثالثهما وزير الخارجية الصيني تشين قانغ.

تكتسي صورة قادة إيران وتركيا وروسيا، دلالة رمزية على التَّحكُّم في دفة المفاوضات حول ترتيبات المنطقة. حيث يمتد نفوذ إيران من أفغانستان حتى المتوسط (عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين). أما تركيا فتتدخل عسكريًّا في سوريا. وتُلقِي بثقلها في ليبيا، وفي شمال العراق. أما روسيا، فهي الامبراطورية العائدة بقوّة الثّأر بعد أن ضمدت ما خلفه فيها الغرب من جراح غائرة.
وتكتسي الصورة الثانية، التحلل الايديولوجي للمحافظين الجدد العنصريين الذين خرّبوا مقدرات المنطقة عبر إشعال الحرائق والفِتن. وعلى وجه الخصوص من خلال الاستثمار الشامت في الصراع بين ايران ودول الخليج العربي، في مقابل ظهور الصين كقوة سلام موثوق في شراكتها.

ماذا بقي للغرب من نفوذ حقيقي ثابت لا يتغير؟
بقي الكيان الصهيوني. ولا يوجد بلد آخر مضمون وقادر على ضمان المصالح الغربية سواه. ومن هنا حاولت الولايات المتحدة بكل أساليب الضغط والتهديد. ونجحت إلى حد بعيد في تعويض الفراغ، بدفع بعض الانظمة العربية العشائرية المنفصلة عن شعوبها إلى التطبيع مع الاحتلال، ريثما تستفيد إسرائيل من تقاربها مع هذه الأنظمة في مواجهة إيران، مع الدعم الغربي اللامحدود طبعا. ولعل هذا ما يُفسّر هذه الهبّة الامبريالية العاتية لحماية قلعتها الأولى.

من هذا المنظور الشامل، تصبح حرب إبادة الشعب الفلسطيني أكبر من حرب غزة وتداعياتها. إنها حرب معقدة ومتشابكة جدا، بحيث لا يمكن الموافقة على التفاؤل المفرط. وربما هذا ما يدفع للتذكير بجملة من الحقائق القائمة أمام أعيننا:

1/ الأمم المتحدة واقعة تحت رحمة القوى الكبرى، وما دامت كذلك، ستظل نشاطاتها محصورة، بالكاد، في التخفيف من الأوضاع الإنسانية المتدهورة التي تخلفها الحروب والازمات، وما دامت القوى المكوِّنة لمجلس الأمن متباينة الرؤى بشأن قواعد القانون الدولي ودوره.


2/ عمق الهشاشة الاقتصادية في البلدان العربية وانعكاساتها الاجتماعية والسياسية الوخيمة وتأجيجها للتوترات، التي اتخذت طابع الانتفاضات الاجتماعية. ومع ذلك، لو راجعنا مسار الثورات العربية بنوع من الموضوعية، للاحظنا، مع استثناءات قليلة جدا، أن مطالب التغيير أدت بالنهاية إلى الانحدار إلى أهوال حروب أهلية. وبأن الانتفاضات أُجهضت بسبب ضُعف النّخب وانعدام إيمانها بالديمقراطية ولا بشعوبها، إلى درجة إحباطها للكتلة الاجتماعية المساهمة في الانتفاضات وتقسيمها وردّها على أعقابها، حتى ارتدّت من أشكال الاحتجاجات الطبقية المدنية إلى انحطاطات القبلية والطائفية والمناطقية، ممّا عقّد مسار التغيير في البداية، ثم قضى عليه نهائيا.

3/ في مقابل الأوضاع العربية المريضة، جنحت الولايات المتحدة منذ زمن حكم دونالد ترامب، لإطلاق يد الكيان الصهيوني في مخططاته التوسعية بما فيها الاعتراف بالقدس عاصمة دائمة له، وضم الجولان، فضلًا عن الضغط السياسي والاقتصادي لفرض "صفقة القرن". ولقد رأينا كيف دفع نتنياهو أميركا للمواجهة مع إيران وفرض عقوبات مشددة عليها، والانسحاب من الاتفاق النووي.

4/ في إطار لُعبة المصالح لا توجد حقيقة ثابتة. بل أن كل الحقائق متحركة. فمثلا التحالف الصهيوني مع دونالد ترامب، لم يمنع إسرائيل من تعزيز الصلة بالرئيس بوتين الي يريد بلاده رأس الزعامة في المنطقة. وبالإضافة إلى روسيا، يحاول بنيامين نتنياهو ابتزاز الاتحاد الأوروبي والالتفاف على ما قد يراه من صعوبات غير مناسبة لتوسيع الاستيطان، عبر الارتباط الوثيق ببعض دول وسط وشرق أوروبا، التي يحكمها قادة من اليمين الشعبوي مثل بولندا، المجر، التشيك..


5/ تنظر الصين للمنطقة على أنها "مجال حيويّ ضروريّ وحاسم". فهي المنطقة التي تلبي احتياجاتها الطاقية وتُشكِّل أسواقًا جديدة لمنتجاتها، فضلًا عن دورها المنشود في تحقيق تطلعاتها الجيو-اقتصادية من خلال مشروع "الحزام والطريق". ومن خلال نجاحها في استغلال أخطاء الغرب لنسج شراكات استراتيجية مع دول شرق أوسطية تُعَدُّ حليفًا تقليديًّا لأميركا. ولكنها، وربما لهذا السبب، لن تسعى للتموقع في النزاعات والاختلافات البينية. بحيث تبني مشاريع تعاون وشراكات مرِنة ومفتوحة مع السعودية السُّنِّية، ومع إيران الشيعية، ومع إسرائيل اليهودية، ومع تركيا العثمانية، ومع مصر الفرعونية... ومع الجزائر ومع فرنسا ومع الولايات المتحدة نفسها. وستظل الصين لسنوات عديدة مُحايدة، في علاقة بالمجال العربي، مُنشغلة بالرهانات الأمنية على البحر الأحمر وبحر عُمان من حيث تداعياتها على أمن شبكة المبادلات، لا غير.


6/ حتى ونحن على يقين بأن العالم تغيّر، وكذلك البشر نفسه. علينا أن نتذكر بأن هذا العالم لا يعترف بالضعيف. ولا يمكن للحق أن ينتصر دون قوّة. فهذا العالم بشعوبه وحكوماته، ومنذ سبعة عقود من الزمن، لم يُفْلِح في فرض أي عقوبة ضد الاستيطان غير الشرعي، ولا ضد المجازر والتشريد، ولا ضد الجدار العازل الذي أدانته محكمة العدل الدولية، ولا ضد حصار غزة وقمع مسيرات العودة، ولا ضد هدم المنشآت في الضفة الغربية، ومنها منشآت أوروبية.

7/ مازالت الدول الغربية مؤمنة جدّا ومتأهّبة جدّا، وبكل ما أوتيت من قوة للدفاع عن أسس سياساتها تجاه المنطقة العربية، المغلقة بالمخاتلة الديبلوماسية. وهي ثلاثة أسس نوعية وحصرية: النفط، وإسرائيل، ومنع بروز قوة إقليمية مهيمنة. مع الرئيس الأمريكي الأسبق ترمب، تأسَّس منعطف جديد في السياسة الأميركية وسارت خلفها الدول الأروبية، إذ تخلت عن عناصر الحذر وخيار تفضيل المفاوضات الخادعة، لصالح انخراط كلي صريح ووقح وراء إسرائيل، وفرض الصمت على باقي دول العالم.

8/ رغم وجود مقاومة لبنانية تتبنى قضية فلسطين، لا يوجد أفق لبناني عابر للانتماءات الطائفية، يضمن وحدة اللبنانيين حتى على كيفية خروجهم من أزمة البلد الاقتصادية والمالية والسياسة، فما بالك بوحدتهم في مواجهة حرب تّهدّدهم بالدمار والخراب فيما لو انخرطوا فيها. ثم إن قرار الحرب في لبنان يندرج في لعبة التوازنات والتحالفات الإقليمية والدولية ومن خلال شبكة التحالفات والولاءات.

9/ مثلما رَشَتْ فرنسا تركيا خلال الحرب العالمية فأعطتها قطعة من سوريا لتحييدِها، أطلقت الولايات المتحدة يد تركيا اليوم في شمال سوريا لتقضم ما تعتبره حقًّا تاريخيا عثمانيا.

10/ روسيا في الوقت الحالي، أولويتها منحصرة في الإبقاء على الأسد فقط. وقطع الطريق على أيّ قوّة بديلة على النظام، قد تجرّ سوريا إلى المعسكر الغربي. فالصراع على الشرق الأوسط بالنسبة للرّوس والكبار الباحثين في العالم هو الصراع على سوريا.

11/ علاقة إيران بالمقاومة ليست معزولة عن إدارتها للُّعبة الإقليمية في إطار اللعبة الدولية. وعلى وجه الخصوص منذ خروج واشنطن من الاتفاق النووي في ماي 2018، انخرطت طهران كما لم تنخرط من قبل في الجوار، لدفع ميدان المعارك خارج حدودها. رأينا ذلك من خلال تدخلها في الحرب على سوريا، والتدخل ضد داعش في العراق، ودعم الحوثيين في اليمن. وهذا التغلغل في مناطق التوتر، هو نوع من إظهار سياسة القوة تجاه واشنطن، تنبني على تعويض انعدام التوازن العسكري المباشر، بامتلاك القدرة على توسيع نطاق النزاع ليشمل المنطقة برمتها حيث للولايات المتحدة مصالح استراتيجية وحيوية.

12/ ما دامت الدولة العراقية لم تبن نفسها بعد على أُسُس المواطنة، سيبقى العراق دائمًا ضعيفا وتحت رحمة غيوم العنف الطائفي. هو غير مؤهل لخوض المعارك بقدر ما هو مؤهّل فقط ليكون ميدان حروب قوى أخرى إقليمية ودولية

13/ اليمن أيضًا ليس أكثر من مجرد ميدان احتكاك قوى محلية واقليمية ودولية، يقف في مهبّ العنف. والحرب فيه صراع بالوكالة، وهو بلد مملوء بالتناقضات والصراعات المُفتعلة من الخارج. ففي حين تعترف دول وازنة بحكومة بلا دعم شعبي، تقيم دول أخرى وازنة أيضا علاقات متينة ومعمقة مع المجلس الانتقالي الذي يسعى إلى الانفصال.

14/ مصر نظامها غارق بكل أنواع القيود والاتفاقيات المُكبّلة للبلد. وهو نظام ضئيل. بمعنى أصغر كثيرا من مصر، التي بحكم موقعها الجغرافي وثقلها البشري ومكانتها المعنوية، إما أن تكون قوية بقيادة نظام قومي عروبي، أو هي بطن رخو مملوء بالعاهات والأمراض المزمنة.

إذن غزة تقف هنا. تقف في مواجهة جحيم النيران الصهيونية المدعومة من جميع الدول الغربية، وحولها منطقة ضعيفة ممزقة، تُخيِّم عليها سياسات نزاعية، ويسودها الانكسار والخوف والتوجس، وسباق الاستراتيجيات.

لا بد لي من العودة على ثوابت السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة، بعد الحرب الباردة وقبلها: النفط، وإسرائيل، ومنع بروز قوة إقليمية مهيمنة. حتى نرى أن هذا الدعم، هو دعم مسبوق عكس ما يُردّد الكثيرون. ففي أكتوبر 1973 أيقنت الولايات المتحدة أن إسرائيل لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فكان لا بد من وقف فوري لإطلاق النار تحت وصاية واشنطن وموسكو، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 338 بتاريخ 26 أكتوبر 1973. بعد حرب أكتوبر كان لا بد من إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني، وطمأنة إسرئيل. فكان توقيع إتّفاق كامب دايفيد في 17 سبتمبر 1978 كإطار معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أُبرمت في العام الموالي.

اليوم بعد طوفان الأقصى تيقّنت الولايات المتحدة للمرة الثانية أن إسرائيل أعجز من أن تحمي نفسها. وأن اجتياح قطاع غزة، حتى على افتراض نجاحه، لن يفضي إلا إلى بداية الإنهيار أمام حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا. وبأن إخضاع المقاومة قضية أكثر تعقيدا من تلخيصها في التفوق العسكري وحده.
لقد فقد الكيان الصهيوني يوم 7 أكتوبر توازنه في ظرف ساعات قليلة. وأُصيب جنرالاته بالذهول، تمامٍا مثلما حدث لهم يوم سقوط خط بارليف عام 1973. ومرة أخرى يتبيّن للأمريكي أن مقولة "الجيش الذي لا يُقهر" هي مجرد أسطورة بلا محتوى. وهنا تدخل بحميّة وقوة كبيرة لترميم معنويات الصهيوني المُحَطَّمَة، وتزويده بالمعدات والذخائر، على أمل إعادة التوازن للجيش. ومثلما هددت بالتدخل العسكري في حرب أكتوبرهددت صبيحة 7 أكتوبر ب"التدخل لإنقاذ إسرائيل".

دائما في نفس اتجاه الكشف عن حقائق محيط المعركة وإطارها، لم يقف المجتمع الدَّولي بمؤسَّساته ودوله، ولو يوما واحدا، موقفاً موضوعيًّا متجرِّداً متوازناً وعادلاً تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة. بل تعامى عن الانتهاكات الإسرائيليَّة، التي انطوت على مختلف أنواع إجرام الدَّولة من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعيَّة وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إرهابيَّة. وفي المقابل لم يغفل أي عمل مقاوم للاحتلال مهما صغر، أقدم عليه حتى طفل أو إمرأة فلسطينية ولو رمية حجر. وقد كان للإعلام دور شنيع في تشويه الحقيقة حتى ترسّخ في وعي المواطن في الغرب بأن إسرائيل دولة معتدى عليها، وأن الفلسطينيين إرهابيون. وهكذا انقلب الغاصب المُحتلّ بريئا محلّ تعاطف ومُستفز للضمير الإنساني. وانقلب المظلوم مسلوب الحق إلى إرهابي خطير يهدد الاستقرار والسلام والأمن العالميين.

أخيرا، المُخيف في سرعة إرسال الأساطيل البحريَّة وحاملات الطائرات، وإقامة جسور جويَّة لشحن أحدث الأسلحة والذخائر الحربيَّة وأكثرها فتكاً، والإعراب عن استعداد تلك الدُّول للإنخراط عمليًّا في الحرب؛ والدَّعم المعنوي غير المحدود، هو أن يكون حرصا على تنفيذ مخطط متفق عليه، يفترض توفير الأجواء الملائمة لتحقيق نوايا الكيان الغاصب المبيتة الهادفة إلى إخلاء قطاع غزة من سكانها، وتهجيرهم إلى دول أخرى، خاصة بعد إرسال موفديهم وعرّابيهم للتسويق لهذه المؤامرة، ولو رغماً عن الدُّول العربيَّة التي ينوون تهجير الفلسطينيين إليها. والمكيف أيضا هو الدفع بالأوصاع إلى حد من التدمير تستجيب لعمليّة مُشابه لعمليَّة إخراج مقاتلي مُنظمة التحرير الفلسطينيَّة من بيروت عام 1982، برعاية أمريكية يقضي بإخراج مقاتلي حماس من غزة.

1 نوفمبر 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. ماذا حمل المقترح المصري؟ | #مراس


.. جنود أميركيون وسفينة بريطانية لبناء رصيف المساعدات في غزة




.. زيلينسكي يجدد دعوته للغرب لتزويد كييف بأنظمة دفاع جوي | #مرا


.. إسرائيليون غاضبون يغلقون بالنيران الطريق الرئيسي السريع في ت




.. المظاهرات المنددة بحرب غزة تمتد لأكثر من 40 جامعة أميركية |