الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان دموع رينيت طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 11 / 1
الادب والفن


أبطال الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ريكو

2 ـ الأم

3 ـ رينيت

4 ـ الإلهة ـ الأم










" 1 "
ــــــــــــــــــــــ

في منامه ، رأى غزالة ، وأي غزالة .
هذا ما قاله ريكو لأمه ، وهو يتناول طعام الفطور ، قبل أن يركب حصانه ، ويخرج إلى الغابة ، باحثاً عن .. غزالة الحلم .
وقدمت له أمه ، قطعة من الخبز الساخن ، مطلية بالزبدة ، وابتسمت متماكرة ، وقالت : أبوك أيضاً كان مثلك ، يحب الغزلان .
وأخذ ريكو قطعة الخبز مبتسماً ، وقال : لكن غزالة واحدة فقط أسرته طول حياته .
وعند الباب ، قالت له أمه : بنيّ ريكو ، حذار من الغزلان ، فأنت ملكي وحدي .
وركب ريكو حصانه الفتيّ ، وقال : ليتني أرى غزالة ، كالتي أسرت أبي .
ولوحت له مبتسمة ، وهو يمضي مبتعداً ، وقالت : عد إليّ بسرعة ، يا ريكو ، إنني أنتظرك .
وقبل أن تغلق الأم الباب ، لاحظت أن الدخان ، المنبعث من قمة الجبل ، قد ازداد عما كان عليه منذ أيام ، وتذكرت ما قالته أمها عن جدتها العجوز : الويل لنا ، سيثور البركان قريباً ، ويدمر كلّ شيء .
وطوال طريقه إلى الغابة ، التي لا تبعد كثيراً عن القرية ، لم تغب غزالة الحلم عن بال ريكو ، وحث حصانه ، وكأن الغزالة تنتظره في مكان ما ، ويريد أن يصل إليها ، قبل فوات الأوان .
وتراءت له غزالة الحلم ، صحيح إنه يحب الغزلان ، يحب رقتها ، ورشاقتها ، وعيونها الواسعة السوداء ، لكن تلك الغزالة ، غزالة الحلم ، شيء آخر .
وتمنى بينه وبين نفسه ، أن يراها ، أن يرى غزالة الحلم تلك ، بل وأن يحصل عليها ، ويحتفظ بها إلى جانبه ، مدى الحياة .
أفاق من غيابه عما حوله ، وإذا هو بين أشجار الغابة ، ولمح غزالة مذعورة ، تمرق كالبرق على مسافة قريبة منه ، يتبعها كالرعد ذئب أزرق اللون ، بالغ الضخامة ، وقد كشر عن أنيابه الخناجر القاتلة .
وعلى الفور ، رفع قوسه ، وأطلق منه سهماً كالبرق ، اخترق عميقاً كتف الذئب الأزرق الضخم ، وتعثر الذئب صارخاً ، وكاد أن يتداعى على الأرض ، لكنه تماسك وتوقف لحظة ، ثم لاذ بالفرار .
وترجل ريكو عن حصانه الفتيّ ، وأسرع إلى الغزالة ، وهو يقول : اللعين ، كاد أن يفتك بكِ .
وذهل حين سمع الغزالة تقول : لولاكَ ..
وحدق في الغزالة ، وقد اشتد ذهوله ، فرفعت الغزالة رأسها ، وقالت : أشكركَ .
فقال ريكو ومازال مذهولاً : أنتِ تتكلمين .
فقالت الغزالة : هذا لأني لستُ غزالة ..
ثم ابتسمت ، وقالت : نعم ، لستُ غزالة .
ففغر فاه متمتماً : ماذا !
وأمام عينيه المذهولتين ، تحولت الغزالة إلى فتاة شابة جميلة ، وهي تقول : انظر .
ونظر إليها مذهولاً ، فقالت : اسمي رينيت .
ولاذ ريكو بالصمت ، فقالت رينيت : وأنت اسمك .. ريكو .
اتسعت عينا ريكو دهشة ، وفتح فمه ليتكلم ، لكن رينيت رفعت رأسها منصتة ، ثم قالت : ماما تناديني .
وأصغى لحظة مندهشاً ، ثم نظر إليها ، وقال : لم أسمع أحداً ينادي .
فقالت مبتسمة : لم تسمعها ، ولن تسمعها ، إنها .. إنها ماما .
ولاذ ريكو بالصمت ثانية ، فقالت الفتاة : ستعرف السبب ، حين تلقاها بعد قليل .
وسارت الفتاة عبر أشجار الغابة ، وهي تقول : تعال معي ، يا ريكو .
ودون تردد ، ودون أن يعرف لماذا ، وجد ريكو نفسه يسير وراءها ، تاركاً حصانه يرعى العشب بين أشجار الغابة .



" 2 "
ـــــــــــــــــــــ

توقفت رينيت ، ومعها توقف ريكو ، وعبر الأشجار رآها تتطلع إلى كوخ ، لاح من بعيد ، تقف على مقربة منه امرأة في أواسط العمر .
والتفتت رينيت إليه ، وقالت : ماما تنتظرنا بالباب .
ومن دون أن ينظر إليها ، أو يرفع عينيه عن الكوخ ، قال ريكو : لقد جبتُ الغابة مراراً ، لكني لم أنتبه إلى وجود كوخكم ، في هذا المكان .
لم تلتفت رينيت إليه ، بل قالت : ماما ستكون ممتنة لك ، فهي تعرف أنك أنقذتني من الذئب الأزرق .
ونظر ريكو إليها مندهشاً ، فاستطردت رينيت قائلة : وستكرمك ، فهي تحبني جداً ، وقد تعطيك فضة أو ذهباً ، أو أحجاراً كريمة ، فلا تأخذها .
ولاذ ريكو بالصمت ، فاستطردت رينيت قائلة : لديها تميمة ، على هيئة قلادة ، من يضعها حول عنقه ، يفهم ما تقوله الكائنات الأخرى ، مهما كانت لغتها .
استأنفت رينيت سيرها ، متجهة نحو الكوخ ، وقالت : هيا ، ماما تستعجلنا ، ويجب أن نذهب إليها .
وعلى أعقابها سار ريكو ، فقالت رينيت : أطلب منها تلك القلادة التمية ، وستعطيك إياها ، رغم اعتزازها بها ، فأنت أنقذتني من الذئب الأزرق .
وتقدما من الأم ، التي كانت تتطلع إلى ريكو ، وقالت رينيت : ماما ، أقدم لكِ ضيفنا . .
وقالت الإلهة ـ الأم : أهلاً ريكو .
وبدت الدهشة على ملامح ريكو ، لكنه أجاب قائلاً : أهلاً بكِ ، سيدتي .
وقالت الإلهة ـ الأم : أنت شاب قويّ ، وشجاع .
ورمقت ابنتها رينيت بنظرة سريعة ، وقالت : أشكرك ، لقد أنقذت ابنتي من الذئب الأزرق .
ورد ريكو قائلاً ، مغالباً دهشته : عفواً ، ما كنت لأترك الذئب الأزرق يؤذيها .
واستدارت الإلهة ـ الأم ، متجهة نحو الداخل ، وقالت : تفضل ، الأفضل أن نرتاح قليلاً داخل الكوخ .
ونظرت رينيت إلى ريكو ، وقالت : ادخل .
ونظر ريكو إلى حيث ترك حصانه ، وقال : حصاني وحده حيث كنا ، أخاف أن يهاجمه حيوان ضار ٍ .
وقالت الإلهة ـ الأم ، دون أن تتوقف : تعال ، لا تخف ، سيبقى حصانك سالماً في مكانه ، حتى تعود إليه .
وقالت رينيت : اطمئن ، هيا ندخل .
وتبع ريكو الإلهة ـ الأم إلى الداخل ، ورينيت تسير في أثره ، وتوقف داخل الكوخ مذهولاً ، وبدا له وكأنه جناح فخم في قصر من قصور الأمراء .
ونظرت رينيت إليه مبتسمة ، وقالت الإلهة ـ الأم : يبدو أن الكوخ قد أعجبك .
فقال ريكو : لا يوحي من الخارج ، بأنه في هذه الفخامة والروعة من الداخل .
واتسعت ابتسامة رينيت ، وقالت : هذه ماما ، إنها ساحرة .
ورمقتها الإلهة ـ الأم بنظرة خاطفة ، وقالت : فرخة الإوزة عوامة .
ورمقت رينيت أمها بنظرة ذات معنى ، ثم قالت : لابد أن ضيفنا جائع الآن ، يا ماما .
وعلى الفور قالت الإلهة ـ الأم : ليطلب ما يشاء .
فسارع ريكو إلى القول : لدي بعض الطعام في ..
وقاطعته رينيت قائلة : تذوق طعام ماما ، ولن تندم ، هيا يا ماما ، طعامك .
واستدارت الإلهة ـ الأم قائلة : لحظات ويجهز الطعام .
فتراجع ريكو إلى الوراء ، وقال : إذن سأطمئن على حصاني ، وأعود سريعاً .
فقالت الأم ، دون أن تلتفت إليه : قلت لك اطمئن ، حصنك سيبقى في انتظارك ، متى ما ذهبت إليه .
وقالت رينيت : تغدّ أولا، ثم اذهب إلى حصانك .
وتوقف ريكو ، وقد لاذ بالصمت ، فقالت الإلهة ـ الأم ، وهي تتهيأ لإعداد الطعام : اذهبا ، وتجولا في الجوار ، وسأناديكما حالما يجهز الطعام .
وقالت رينيت : هذا جيد .
ثم نظرت إلى ريكو ، وقالت : هيا ، يا ريكو .
وخرجت من الكوخ ، فمضى ريكو في أثرها ، ليتجولا في الجوار ، ريثما يجهز الطعام .


" 3 "
ــــــــــــــــــــ

بعد أن فرغوا من تناول طعام الغداء ، الذي أعدته الإلهة ـ الأم ، نهض ريكو ، وقال : اسمحا لي ، سأذهب للاطمئنان على حصاني .
وهمت رينيت بالنهوض هي الأخرى ، وفمها مازال مملوءاً بالطعام ، وقالت : مهلاً ، يا ريكو ، سآتي معكَ حيث الحصان .
وعلى الفور ، مدّت الإلهة ـ الأم يدها ، وأطبقت على يد رينيت ، وقالت : بنيتي ، أبقي أنتِ .
ثم نظرت إلى ريكو ، وأضافت قائلة : ستتأخر في العودة ، إذا رافقتك رينيت .
وصمتت برهة ، ثم قالت : لقد أنقذت ابنتي من الذئب الأزرق ، وعليّ أن أكافئك ، وسأكافئك مكافأة لم أكافئها لأحد حتى الآن .
وأسرع ريكو إلى الخارج ، وهو يقول : لن أتأخر ، يا سيدتي ، سأعود حالاً .
ونظرت الإلهة ـ الأم إلى رينيت ، وقالت بنبرة موحية : أيتها العوامة .
وردت رينيت بنفس النبرة الموحية : إنني ابنتك ، أيتها الإوزة .
وابتسمت الإلهة ـ الأم ، وقالت : أعرف أن كلّ ما حدث في الغابة ، هو من صنعكِ .
ولاذت رينيت بالصمت ، فتابعت الإلهة الأم قائلة : لقد رأيتِ ريكو قبل اليوم .
وهزت رينيت رأها ، ثم نهضت ، فقالت الإلهة الأم : ولأكثر من مرة .
وتوقفت رينيت قرب النافذة ، المطلع على أشجار الغابة ، وقالت : رأيته مرات ، وفي أكثر من مكان في هذه الغابة ، على مدى أشهر عديدة .
وابتسمت الإلهة ـ الأم ، وقالت : وحتى حادثة الذئب الأزرق ، الذي لا وجود له في الغابة ، كانت من صنعكِ أنتِ ، يا عوامتي .
وقالت رينيت مبتسمة : أردته أن يكون بطلي المغوار ، ومنقذي من موت محقق .
وقالت الإلهة ـ الأم : وهاهو ، كما أردته ، بطل مغوار .. ومنقذ .
وقالت رينيت بنبرة معاتبة : ماما .
ونهضت الإلهة ـ الأم ، وهي تقول : بنيتي رينيت ، أنت تلعبين بالنار .
وتطلعت رينيت عبر النافذة ، إلى أعماق الغابة ، وقالت : حتى في هذا ، يا ماما ، فأنا عوامة .
والتفتت إلى أمها ، وأضافت قائلة : أنتِ أيضاً أحببتِ صياداً ، عندما كنتِ شابة في عمري .
فقالت الإلهة ـ الأم : لكن أمي نبهتني إلى أنني إلهة ، وعليّ أن أبقى إلهة ، وقد أصغيت إلى ما قالته لي أمي ، وعملت بما نبهتني إليه ، وبقيت إلهة .
ولاذت رينيت بالصمت ، فاقتربت الإلهة ـ الأم منها ، وقالت : إنني أمكِ ، أرجو أن تصغي إليّ ، أبقي إلهة حتى النهاية .
وتراجعت رينيت ، ثم مضت إلى الخارج ، وهي تقول : سأنتظر ريكو في الخارج .
وأقبل ريكو ، بعد حين ، على حصانه ، وتوقف على مقربة من رينيت ، وقال : أراكِ هنا .
فردت رينيت قائلة : إنني أنتظركَ .
وترجل ريكو عن حصانه ، واقتربت من رينيت ، وقال : ربما عليّ أن أغادر قبل المساء .
فقالت رينيت : لن تدعك ماما تغادر .
وقال ريكو : جئت لأصطاد .
ورفعت رينيت عينيها السوداوين الواسعتين إليه ، وقالت : القمر الليلة سيبزغ بدراً ، ابقَ يا ريكو ، أريد أن أجلس معك هنا ، على ضوء القمر .
وصمتت رينيت لحظة ، ثم قالت بصوت عذب : أرجوك ، لا تقل .. لا .
وتطلع ريكو إليها ، ولم يقل .. لا .




" 4 "
ـــــــــــــــــــــ

جنباً إلى جنب ، جلس ريكو ورينيت صامتين ، تحت ضوء القمر ، فبعد أن تناولا طعام العشاء ، مع الإلهة ـ الأم طبعاً ، خرجا من الكوخ كما اتفقا سابقاً ، وجلسا تحت ضوء القمر .
وظلا هكذا صامتين ، لا يريمان ، ولا ينظر أحدهما إلى الآخر ، لفترة ليست قصيرة ، وكأن الليل والصمت وضوء القمر قد سحرهما .
وبصورة لا إرادية ، مدّ ريكو يده ، وتحسس القلادة التميمة ، التي وضعتها الإلهة ـ الأم حول رقبته ، بعد أن فرغوا من تناول طعام العشاء .
وحينها نظر ريكو إلى الإلهة ـ الأم ، وقال ممتناً : أشكركِ ، يا سيدتي .
ولمست الإلهة ـ الأم القلادة التميمة ، وهي حول رقبته ، وقالت : هناك نصيحة مهمة ، يا ريكو ، سأدع رينيت تقدمها لك نيابة عني ، حين تجلسان بعد قليل ، في الخارج ، تحت ضوء القمر .
وتململ ريكو وكأنه انتبه من غفوة عميقة ، ونظر إلى رينيت ، وهما يجلسان تحت ضوء القمر ، وقال : قالت أمك أنك ستقدمين لي نصيحة حول القلادة التميمة ، نيابة عنها .
فقالت رينيت : آه ، نعم ، فالقلادة التميمة مفيدة ، لكنها أيضاً خطرة ، خطرة جداً .
ولاذ ريكو بالصمت ، فتابعت رينيت قائلة : ستفهم بفضلها ما تقوله الكائنات الحية ، وربما سيكون بعض ما ستقوله تلك الكائنات ، محرجاً بل وحتى خطراً ..
وصمتت رينيت ، ثم قالت محذرة : إياك أن تتدخل أو تفشي بما تسمعه وإلا ..
وتساءل ريكو متوجساً : وإلا .. ؟
وحدقت رينيت فيه ، وقالت : تصير حجراً .
وخفق قلب ريكو بما يشبه الخوف ، ثم قال : لا أريد أن أصير حجراً ، فأنا مازلت شاباً .
وتطلعت رينيت إليه ، وقالت : ولابد أن هناك من ينتظر عودتك على أحرّ من الجمر .
فقال ريكو : نعم ، هناك من ينتظر عودتي . .
وصمت لحظة ، وعينا رينيت المتلهفتان المتوجستان متعلقتين بعينيه ، فقال : أمي .
وتساءلت رينيت : فقط ؟
فردّ ريكو قائلاً : فقط .
ولاذت رينيت بالصمت لحظة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لو كنتُ فتاة ، يا ريكو ، لانتظرتك حتى آخر العمر .
ونظر ريكو إليها مندهشاً ، فنهضت رينيت وهي تقول : تأخر الوقت ، من الأفضل أن تأوي إلى فراشك ، فأمامك غداً جولات صيد متعبة .
ونهض ريكو بدوره ، ومدّ يده ، وأمسك يدها ، وقال بصوت هامس متأثر : رينيت ..
ونظرت رينيت إليه ، بعينين يغرقهما الحزن ، فتساءل ريكو : ما الأمر ، يا رينيت ؟
وارتمت رينيت على صدره ، وهي تتنهد بحزن ، فقال ريكو : تعالي معي .
فقالت رينيت بصوت يغرقه الحزن : ليتني أستطيع ذلك ، ليتني أستطيع ، يا ريكو .
ومدّ ريكو يديه ، ورفع وجهها الغارق بالحزن ، وقال متحيراً : لا أفهم ما تعنين .
وهمت ريميت أن تتكلم ، وربما لتبوح إليه ما نهتها أمها عنه ، لكن تناهى إليها وقع أقدام ، فتراجعت قليلاً ، وقالت : ماما قادمة .
ووقف ريكو محرجاً ، فتقدمت الإلهة ـ الأم منهما ، وقالت : لقد برد الجو .
فقال ريكو : نعم ، لقد برد بعض الشيء .
وتراجعت رينيت ، ثم مضت نحو الداخل ، وهي تقول : إنني نعسانة ، سأنام .
ونظرت الإلهة ـ الأم إلى ريكو ، وقالت : الأفضل أن تنام أنت أيضاً ، يا ريكو .
فقال ريكو : سأبقى هنا قليلاً ، ثم آوي إلى فراشي .
فقالت الإلهة ـ الأم : كما تشاء .
ولبثت في مكانها برهة ، ثم استدارت ، ومضت إلى داخل الكوخ ، وهي تقول : أتمنى لك التوفيق ، يا ريكو ، تصبح على خير .
فرد ريكو بصوت خافت : أشكركِ ، يا سيدتي ، تصبحين على خير .


" 5 "
ــــــــــــــــــــــ
فز ريكو قلقاً ، على حمحمة حصانه ، الذي ربطه ليلة البارحة ، إلى شجرة قريبة من كوخ الإلهة ـ الأم وابنتها رينيت .
وفتح عينيه اللتين كان النعاس مازال يغشاهما ، وفوجىء بأنه يرقد في العراء ، على مقربة من الشجرة ، التي ربط إليها الحصان .
وفوجئ أكثر حين لم ير الفراش الذي نام عليه ليلة البارحة ، بل ولم ير الكوخ نفسه ، الذي أوى إليه مع رينيت والإلهة ـ الأم .
وتلفت حوله مذهولاً ، يبحث دون جدوى عن رينيت وأمها الإلهة ـ الأم ، اللتين استضافتاه يوم أمس ، ترى أين اختفتا ؟
وحمحم حصانه ثانية ، كأنه يريد أن ينبهه إلى وجوده ، فالتفت إليه متسائلاً ، وصعق حين سمعه يغمغم بلغته الخاصة : الأفعى اللعينة ، لو لم اقتلها بحافريّ الأماميين ، للدغت فارسي ريكو ، وربما قتلته .
وعلى الفور نظر ريكو إلى حافري الحصان ، ورأى على مقربة منهما جسد أفعى مدماة ، فهب واقفا ، ورفع الأفعى القتيلة برمحه ، ثم رماها بعيدا ، والتفت إلى الحصان ، وقال : أشكرك ، يا صاحبي .
ورمقه الحصان بنظرة متفهمة ، لكنه لم يرد عليه ، فتقدم ريكو منه ، وربت على عنقه ، وقال محدثاً نفسه : من يدري ، ربما فهمني .
ورغم ما جابهه مع الحصان والأفعى الضخمة ، لم تغب رينيت وأمها الإلهة ـ الأم عن باله ، فليس من السهل أن ينسى لقاءه البارحة معهما ، و ..
وتذكر القلادة التميمة ، فمد يده إلى عنقه ، وإذا هي موجودة ، حيث وضعتها الإلهة ـ الم ، هذا يعني أن رينيت والإلهة ـ الأم كانتا حقيقة وليس وهما ، لكن .. أين هما ؟
وعلى الفور ، أسرع يدور بين الأشجار ، لعله يقع على اثر لهما ، لكن دون جدوى ، فلم يكن لهما أي اثر ، في أي مكان .
وتوقف حائرا ، فاقترب حصانه منه ، وكان يتبعه عن بعد ، فقال ريكو : إنها فكرة ، فلأبحث عنهما على ظهر الحصان .
وركب ريكو الحصان ، وانطلق به على مهل ، يسير بين الشجار ، ويتلفت يمينا ويسارا ، لعله يلمح رينيت أو الإلهة ـ الأم ، لكن دون جدوى .
وتناهى إليه رفرفة أجنحة صغيرة ، فرفع رأسه إلى الأعلى ، ورأى الطائر الصغير ، الذي يعيش على صيد الأسماك الصغيرة ، يقترب من نسر ضخم يقف على شجرة قريبة ، وهو يقول : أيها النسر ..
ورمقه النسر بنظرة حادة غاضبة ، فقال : رأيت سمكة كبيرة تسبح قرب الشاطىء ، وهي اكبر من أن اصطادها ، اذهب إليها واصطدها .
وتطلع النسر بعينيه حادتي النظر باتجاه النهر القريب ، وقال : ستدفع الثمن إذا كنت تكذب .
فرد الطائر الصغير قائلاً : اذهب ، وسترى أنني صادق في قولي ، بل وستشكرني .
وعلى الفور فتح النسر جناحيه ، وطار متجهاً نحو النهر ، لعله يصطاد السمكة الكبيرة ، التي حدثه عنها الطائر الصغير .
وهز ريكو رأسه ، السمك لذيذ ، وهو نفسه يحب أكل السمك ، ومن يدري ، فقد تكون السمكة قد ابتعدت ، فلا يجدها النسر ، وحث ريكو حصانه مبتعدا ، ليت السمكة قد ابتعدت ، فلا يجدها النسر .
وتوقف ريكو بحصانه منصتا ، فقد بدا له أنه يسمع دبيب أقدام ، وتلفت وقلبه يخفق بشدة ، لعلها رينيت ، وهدأ قلبه ، لم تكن رينيت بل ثعلبين فتيين ، ربما ذكر وأنثى يتهامسان ، ورغم خفوت صوتهما ، سمع احدهما يقول للآخر : صدقيني ، بيتها هنا .
تساءلت الثعلبة : الأرنبة !
فقال الثعلب ، وهو يخطو أمامها بحذر : نعم ، وصغارها الخمسة ، تعالي ، ستشبعين اليوم .
الأرنبة المسكينة ، قد يكون بيتها هنا فعلاً ، وقد يصطادها هذان الثعلبان اللعينان ، و .. هل يحذرها ، وهز رأسه ، سيصير حجرا إن حذرها ، ثم إنه هو نفسه يأكل السمك والطيور والأرانب و ..
وحث حصانه مبتعدا ، وراح يدور بين الأشجار ، وقد ارتفعت الشمس فوق الغابة ، ومع زقزقة العصافير ، أحس بزقزقة بطنه ، آه انه جائع ، لم يأكل منذ ليلة البارحة ، وأمامه تجوال طويل ، فليتوقف ويأكل .
وتوقف ريكو بحصانه قرب شجرة ضخمة ، وترجل عنه ، وتركه يرعى ، بينما جلس هو في ظل الشجرة ، يتناول من الطعام الذي أعدته له أمه ، قبل أن يبدأ البارحة رحلته إلى الغابة .


" 6 "
ــــــــــــــــــــــ

ﻻ يدري ريكو كيف أغفى ، تحت ظل الشجرة ، التي جلس تحتها ليتناول طعامه ، فهو لم يكن متعبا ، والنهار لم ينتصف بعد ، وحتى طعامه لم يأكل منه سوى لقيمات قليلة .
وفي منامه ، رأى غزالة تقبل من بين الأشجار ، وهي تتلفت حولها ، وتوقفت على مقربة منه ، دون أن يبدو عليها أنها انتبهت إلى وجوده .
وسرعان ما رفعت رأسها ، وهتفت : خشفي .
وانتظرت قليلا ، ولما لم يرد عليها احد هتفت ثانية بصوت أعلى : خشفي ، أنا هنا .
ولم يطل انتظارها هذه المرة ، فقد اقبل خشف صغير من بين الأشجار ، وهو يهتف : ماما .. ماما .
وأسرعت الغزالة إليه ، وقالت : تعال ، يا صغيري ، ﻻ تخف .
وتوقف الخشف لصقها ، وقال : ماما ، رأيت النمر ، يتسلل بين الأشجار .
وحضنت الغزالة خشفها ، وقالت : قلت لك أن ﻻ تبتعد عني ، يا بني .
وقال الخشف ، ومازال في صوته شيء من الخوف : إنه مرعب ، يا ماما .
فقالت الغزالة : النمر حيوان مفترس ، تخافه كائنات الغابة كلها .
فتراجع الخشف قليلا ، وقال بشيء من الانفعال : سأقتله حين اكبر .
ابتسمت أمه ، وقالت : لو كان بإمكاني أنا أن اقتله لما حاولت قتله .
ونظر الخشف إلى أمه ، وتساءل قائلا : لماذا !
ونظرت الغزالة عبر أشجار الغابة إلى الجبل ، الذي ترتفع خيوط الدخان من أعلاه ، وقالت : يقال أن النمر هو ابن الجبل ، وإذا قتله احد ، فسيدفع هو ومن معه الثمن غاليا .
وهنا تناهت عبر حفيف أغصان أشجار الغابة دمدمة غامضة مخيفة ، فأنصتت الغزالة مليا ، ثم دفعت خشفها برفق ، وقالت : أخشى أن يكون هذا هو النمر ، هيا نبتعد وإلا ..
وقبل أن تختفي الغزالة وخشفها ، بين أشجار الغابة ، سمعها ريكو تقول ، وكأنها تخاطبه : حذار ، النمر المفترس في الجوار .
وأفاق ريكو ، وقلبه يخفق بشدة ، وخيل إليه انه يسمع مع حفيف أغصان أشجار الغابة ، دمدمة غامضة مخيفة ، ونهض واقفاً ، وراح يتلفت حوله قلقاً ، اهو النمر حقاً ؟
وهدأ قليلاً ، عندما رأى حصانه يرعى العشب باطمئنان ، على مسافة قريبة منه ، لكنه مع ذلك ، جمع بقية الطعام في صرته ، وأعادها إلى الخرج ، ثم امتطى حصانه ، وحثه عل السير .
سار الحصان ببطء بين الأشجار ، وريكو يتلفت حوله منصتاً ، ورغم الهدوء الظاهر ، أحس ريكو بشيء مريب ومقلق يدور حوله في الخفاء ، وتوقف بحصانه حين رأى حمامتين تقبلان من بعيد ، وقد بدا القلق عليهما .
وحطت إحدى الحمامتين على شجرة قريبة ، وسمعها ريكو تقول للحمامة الثانية : بنيتي ، تعالي ، وقفي معي فوق هذه الشجرة .
وحامت الحمامة الثانية حولها ، وهي تقول : النمر المفترس في الجوار .
وقالت الحمامة الأولى : هذا ما كنت أخشاه ، وجعلني اتبع الفتاة ، حال خروجها من الكوخ .
وحطت الحمامة الثانية على مقربة من أمها ، وقالت : يفترض بأمها أن تمنعها من الخروج ، مهما كان الثمن ، فهي فتاة صغيرة .
فردت الحمامة الأولى قائلة : أمها مريضة ، وقد حاولت ذلك ، لكنها أصرت على الخروج ، لتأتيها بأزهار البابنج ، لعلها تشفى من المرض .
وهبت الحمامة من مكانها، وهي تقول : اتبعيني ، عسى أن نبعد النمر عن الفتاة الصغيرة .
وحلقت الحمامتان مبتعدتين ، وسرعان ما اختفتا وراء الأشجار الكثيفة العالية ، وعلى الفور امتطى ريكو حصانه ، وانطلق به في أثر الحمامتين .




" 7 "
ـــــــــــــــــــــ

تابع ريكو الحمامتين من بعيد ، وحاول أن يبقيهما في مدى نظره ، لكنهما ورغم سرعته المتزايدة ، راحتا تبتعدان عنه ، حتى اختفتا تماما وراء أشجار الغابة الكثيفة العالية .
لم يتوقف ، وظل منطلقا على حصانه ، بالاتجاه الذي اختفت فيه الحمامتان ، لكنه توقف أخيرا ، إذ لم يكن هناك اثر للحمامتين في أي مكان .
وتلفت حوله ، وقلقه يزداد حدة ، فتلك الفتاة الصغيرة معرضة للخطر ، وقد يهاجمها النمر في أية لحظة ، ويفتك بها ، وهي تحاول أن تأتي بأزهار البابنج لامها المريضة ، الراقدة في الكوخ .
وهبت الريح ، وارتفع حفيف أغصان الأشجار ، ومعه تناهت إليه دمدمة غامضة مخيفة ، واتسعت عينا ريكو قلقا ، انه النمر ، ﻻبد انه عرف مكان الفتاة الصغيرة ، وسيسرع نحوها و ..
ولكز حصانه بقدميه ، وانطلق به نحو كوخ الحطاب ، إن الحمامتين اختفتا ، وربما حاولتا أن تبعدا النمر المفترس عن الفتاة الصغيرة ، وهذا محال ، وﻻبد أن الفتاة الصغيرة تجمع الآن أزهار البابنج على مسافة ليست بعيدة عن الكوخ .
وصدق حدسه ، ففي مرج مشمس بين الأشجار ، وعلى مسافة ليست بعيدة من الكوخ ، لمح فتاة صغيرة تسير ، وفي يدها سلة صغيرة ، ﻻبد أنها كانت تجمع فيها أزهار البابنج ، لتأخذها إلى أمها المريضة ، التي ترقد الآن في الكوخ ، في انتظر صغيرتها .
والآن ما العمل ؟
وتوقف ريكو على مرتفع معشب ، بين الأشجار المرتفعة ، يطل على المرج ، الذي تتجول فيه الفتاة الصغيرة ، وهي تجمع أزهار البابنج ، وتضعها في سلتها الصغيرة .
وفكر أن يسرع على حصانه إلى الفتاة الصغيرة ، وينذرها من خطر النمر المفترس ، ويطلب منها أن تعود مسرعة إلى الكوخ .
وتراءت له رينيت ، تقول له ، وهما يجلسان تحت ضوء القمر : إذا أفشيت لأحد ، ما تسمعه من الكائنات الحية ، ستصير حجراً .
ترجل عن حصانه ، ووقف إلى جانب شجرة ضخمة ، راح يراقب من ورائها ما حوله ، دون أن تغيب الفتاة الصغيرة عنه ، فليبقَ هنا ، فقد ﻻ يأتي النمر ، وقد يجد له فريسة ينشغل بها ، حتى تملأ الفتاة الصغيرة سلتها بأزهار البابنج ، وتعود إلى الكوخ .
وتطلع ريكو إلى الفتاة الصغيرة ، ورغم البعد ، رأى بشرتها الحنطية الصافية ، وشعرها البني الذي تطايره الريح ، الويل للنمر ، سيمنعه من الاقتراب منها ، مهما كلفه هذه الأمر .
ثم أين أبوها الحطاب ؟ كيف يسمح لنفسه بان يغفل عن فتاة صغيرة مثل هذه الفتاة ، خاصة وان أمها مريضة طريح الفراش في الكوخ ؟
وانتبه ريكو إلى الحمامتين ، تقبلان مسرعتين من بعيد ، وتتجهان نحو الفتاة الصغيرة ، ترى هل نجحتا في إبعاد النمر ، أم أن ..
وتناهت إليه حركة مريبة من بين الأشجار ، ربما هو النمر يتسلل نحو الفتاة الصغيرة ، و ..
وعلى الفور شد ريكو يده على قوسه ، ومضى يتسلل بحذر نحو الفتاة ، وكمن وراء شجرة ليست بعيدة عنها ، وراح يراقبها ، والحمامتان تحومان قلقتين حولها ، وسمع الأولى تقول للثانية : يا للويل ، النمر المفترس اللعين ، انه يقترب .
وقالت الثانية : لو كان بإمكاني أن اقتله لقتلته .
وقالت الأولى : لكن قتله يسبب كارثة ، أنسيت انه ابن الجبل الغضوب .
وصاحت الثانية : ليكن هذا النمر من يكون ، .. يا إلهي
.. هاهو قادم .
وعلى الفور ، وربما بصورة ﻻ واعية ، امسك ريكو سهما من سهامه القاتلة ، وشده بيده إلى القوس ، لن يدع النمر يلمس شعرة من هذه الفتاة الصغيرة ، مهما كان الثمن .
وأعولت الريح ، وعصفت بالأشجار ، والتمع برق أعقبه رعد هز الغابة ، وهنا برز النمر ، وعيناه تتقادحان ، ويبدو انه أبصر الفتاة الصغيرة ، التي أرعبها البرق والرعد ، فانطلق نحوها مزمجرا، وقد كشر عن أنيابه القاتلة .
وبرز ريكو من وراء الشجرة ، ورغم انه تناهى إليه مع الريح العاصفة صوت رينيت تحذره : حذار ، يا ريكو ، لا تقتل النمر وإلا ..
لكنه أطلق سهمه نحوه ، وأصابه إصابة قاتلة .


" 8 "
ــــــــــــــــــــ
اهتز الجبل غاضبا ، وارتفعت دمدمته ، حتى كأن الرعود اجتاحت العالم كله ، وتزايد تدفق الدخان الكثيف من فوهة البركان ، وراح يزحف على وجه السماء الزرقاء ، ويغطيها شيئا فشيئا .
وتلفت ريكو حوله قلقا مذهولاً ، بينما راحت الأرانب والغزﻻن والثعالب تتراكض من مكان إلى مكان ، وهي تتصايح وتولول مذعورة .
صاح أرنب : اهربوا .. اهربوا .
وصاح أرنب آخر : الجبل غاضب .
وصاح ثعلب : ولن يهدا غضبه حتى يدمر كلّ ما يقف في طريقه .
وقالت غزالة ، وهي تدفع خشفها أمامها : اهرب .. ، يا بنيّ ، أهرب .
وتساءل الخشف ، وهو يركض أمام أمه : ماما ، ماذا يجري ؟ أخبريني .
ودفعته أمه ثانية ، وقالت : سينفجر الجبل ، ويثور البركان ، اهرب بسرعة ، اهرب .
لكن الخشف بدل أن يسرع أبطأ ، وقال : ماذا يجري ؟ ماذا يجري ؟
فقالت الغزالة ، وهي تدفعه بقوة : أحدهم ، على ما يبدو ، قتل ابن الجبل المدلل ، النمر ، اهرب .
وقال الخشف ، وهو يركض أمام أمه : لو انتظر حتى أكبر ، لقتله بنفسي ، وخلصت كائنات الغابة المسالمة كلها منه ، ومن شروره .
والتفت ريكو إلى حصانه ، حين سمعه يصيح : يا ويلي ، ستغرق حمم البركان الملتهبة القرية كلها ، وتقتل كل ما فيها من الأحياء .
وعلى الفور ، أسرع ريكو إلى حصانه ، وقفز على ظهره ، وصاح : هيا إلى القرية ، هيا بسرعة ، قبل أن ينفجر البركان ، وتتدفق الحمم .
وانطلق الحصان يسابق الريح ، متجها بريكو نحو القرية ، والجبل يتفجر غاضبا ، وينفث دخانه المتزايد ، الكثيف نحو السماء ، وراح ينسدل كما الليل على الجبل والقرية والغابة كلها .
وتراءت القرية لريكو من بعيد ، ببيوتها الصغيرة الجميلة ، وطرقها وحدائقها ، وسكانه الآمنين ، فحث حصانه صائحا : هيا .. هيا .. يجب أن ننذر أهل القرية ليتركوا بيوتهم ، ويعتصموا بالتلال القريبة وإلا غمرتهم حمم البركان .
وهنا تراءت له رينيت ، وهي تحذره قائلة ، وهما يجلسان جنباً إلى جنب ، تحت ضوء القمر : حذار أن تشي لأحد بما تسمعه من الكائنات الأخرى ، وإلا صرت حجراً .
لم يتوقف ريكو ، وتراءت له أمه تناديه هذه المرة ، وهي تتطلع إليه ، وتهتف : ريكو ..
فحث ريكو حصانه ، وكأنه يريد أن يبعد عنه تحذير رينيت ، وهتاف أمه المؤثر ملأ كيانه ، فصاح ثانية ، والرعود تقصف حوله : هيا ، هيا أسرع ، يجب أن نصل قبل انفجار البركان ، وتدفق حممه .
ومرة أخرى تراءت له رينيت ، وفي نفس الوقت تراءت له أمه ..
صاحت رينيت: ريكو ..
وهتفت أمه : ريكو ..
ورغم أن رينيت لم تغب عن مخيلته ، إلا انه اندفع داخل القرية ، وراح يصيح : أيها الناس اسمعوني .. اسمعوني ..
ورغم اضطراب الناس ، وركضهم حائرين مضطربين في جميع الاتجاهات ، إلا أن بعضهم توقف ، وراحوا ينصتون له ، فتابع صائحا : البركان سينفجر .. وتغرق الحمم القرية كلها .
وترجل ريكو عن حصانه ، الذي مضى مبتعداً على الفور ، ومضى يركض مضطرباً كالمجنون ، وفتح ريكو فمه ، وهمّ أن يصيح ، لكنه لم يستطع ، فقد بدأ يتحول إلى تمثال من حجر ، وهل يستطيع تمثال من الحجر أن يصيح ؟


" 9 "
ــــــــــــــــــــ
كما شاءت الإلهة ـ الأم ، ظلت رينيت إلى جانبها ، ومثلما ابتعدت هي عن صيادها الشاب ، عندما كانت شابة ، واختارت أن تبقى إلهة ، اختارت رينيت أيضاً ، أن تبتعد عن ريكو .
وتركته يذهب وحده ، لكنها وربما مثل أمها ـ الإلهة ، لم يغب صيادها ريكو عن بالها لحظة واحدة ، كما لم تغب هي عن باله .
وظلت تتحين الفرص ، فتغيب عن أمها بحجة أو أخرى ، فتتابعه من بعيد ، وهو يتنقل في الغابة ، من مكان إلى مكان آخر ، بحثاً عنها ، لكن دون جدوى .
وينتابها القلق والخوف ، كلما أصغى ريكو إلى كائن ، وسمع سرا من الأسرار ، فقد كانت تخشى أن يضعف ، ويحاول إنذاره ، فيصير حجرا .
وعندما رأته من بعيد ، يصغي إلى الحمامتين ، انقبض قلبها ، فهي تعرف انه عاطفي ، وانه قد يضعف أمام تلك الفتاة الصغيرة ، وهذا ما حدث .
ورغم تحذير أمها ـ الإلهة لها ، أسرعت رينيت لتبقى على مسافة من ريكو ، وازداد قلقها عندما رأته يقتل النمر ، ويثير بذلك غضب الجبل ، ويتسبب بثورة البركان وجنونه القاتل .
وتابعته من بعيد ، وهو يعدو على حصانه إلى القرية ، ويرتكب الخطأ الذي خشيت أن يرتكبه ، فقد انذر أهل القرية ، بأن البركان سيثور ، وأن عليهم أن يلجأوا إلى التلال القريبة .
وأمام عينيها العاشقتين ، رأته يتحول شيئا فشيئا إلى تمثال من حجر ، وتوقفت في مواجهته ، مغالبة بكاءها ، دون أن تلتفت إلى البروق والرعود ، وحمم البركان وصراخ أهل القرية وهم يتراكضون تاركين بيوتهم ، ليفروا بأرواحهم وصغارهم إلى التلال القريبة .
ومدت رينيت يديها المحبتين ، وعانقت ريكو ، عانقته حجراً بارداً ، وتمنت في أعماقها لو أنها عانقته حياً دافئا ، تلك الليلة ، عندما جلسا جنباً إلى جنب ، تحت ضوء القمر ، وهنا انبثقت الدموع مم عينيها ، وراحت تسيل فوق التمثال ، وتساقطت فوق الأرض .
هدأت البروق والرعود ، وهدا غضب الجبل المجنون ، فخمد ثوران البركان ، ولم يعد ينفث الحمم الساخنة، وكف تماما عن الدمدمة ، وعاد إلى صمته المعهود ، ولكن بعد أن احدث خرابا كبيرا فيما حوله .
صحيح إن الحمم لم تصل البيوت والبساتين ، لكنها غمرت بعض أشجار الجبل ، وقتلت بعض الكائنات الحية التي لم تستطع أن تهرب في الوقت المناسب ، كما غمر الرماد الذي نفثه البركان مع الدخان ، دروب القرية وبيوتها وحدائقها الجميلة .
ومن بعيد ، من أعلى التلال ، راح أهل القرية يراقبون متألمين ما يُلحق البركان بقريتهم الجميلة ، ويتساءلون عما جنوه ليغضب الجبل منهم ، ويجن جنون البركان ، الذي طالما كان هادئا ، ويكتفي أحيانا بالدمدمة ، أو نفث بعض الدخان والرماد .
وفي غمرة ثوران البركان ، وتدفق الحمم الملتهبة ، اقترح بعض أهالي القرية ، أن يتركوا قريتهم المنكوبة ، ويهاجروا إلى القرى المجاورة .
وهذا ما فعله البعض منهم ، لكن اغلب الأهالي فضلوا الانتظار ، لعل البركان يهدا ، فيعودوا إلى بيوتهم ، والى حياتهم الهانئة التي تعودوا عليها .
وهدأ الجبل فعلاً ، وكف البركان عن قذف حممه اللاهبة ، وشيئا فشيئا اطمأن أهالي القرية ، وراحوا ينسلون الواحد بعد الآخر ، من التلال التي لجأوا إليها ، ويعودون إلى قريتهم .
نعم ، إنهم لا يستطيعون الابتعاد عن قريتهم ، التي ولدوا وعاشوا فيها ، كما عاش فيها آباؤهم وأجدادهم ، صحيح إن القرية لم تعد كما كانت ، قبل أن يجن الجبل ، ويثور البركان ، فالرماد يغطي الدروب والحدائق والبيوت ، لكن هذا أمر يمكن إصلاحه ، وسيصلحونه لتعود قريتهم كما عهدوها نظيفة جميلة مريحة .
وفوجئ أهالي القرية بوجود تمثال من الحجر وسط المدينة ، وعلى مقربة منه ، ومن باطن الأرض ، يسيل نبع ماؤه صاف كدموع الأطفال والعشاق ، من يدري ربما كانت هذه .. دموع رينيت .
وهنا تقدمت طفلة من التمثال ، وأشارت إليه بيده الصغيرة ، وصاحت : انظروا ، إنة ريكو .


23 / 11 / 2015


البراق

براق الإبداع والتفرد و .. الجوائز

يعود الفضل في تعرفي على عالم " البراق " الرائع ، إلى الفنافنة التشكيلية ، رسامة الأطفال المبدعة ، انطلاق محمد علي ، التي فازت بالعديد من الجوائز العربية والعالمية ، منها جائزة " نوما " اليابانية .
وقبل أن تعرفني انطلاق على " البراق " عرفتني على دار " كندة " في عمان ، وصاحبتها الأديبة المبدعة الأردنية ـ الفلسطينية روضة الهدهد ، وكان من حصيلة هذا التعرف ، أن نشرت لي العديد من قصص الأطفال ، حول القضية الفلسطينية ، في زاويتها للأطفال ، في جريدة الدستور الأردنية .
وقد جمعت هذه القصص ، فيما بعد ، وأصدرتها في كتاب جميل ، عن دار " كندة " بعنوان " حكايات ليث " ، وصدر الكتاب بمناسبة مرور " 50 " عاماً على نكبة الشعب الفلسطيني على أيدي الصهيونية ، المدعومة من قبل الامبريالية العالمية .
وتواصلتُ مع " دار البراق " ، وطلبوا مني بعض النصوص ، فأرسلتُ لهم أربع روايات للفتيان ، وافقوا على ثلاث روايات منها ، ثم أرسلت رواية أخرى ، فوافقوا عليها ، وضموها إلى الروايات الثلاث السابقة ، واتفقوا معي على نشرها ، في وقت لاحق .
وفي عام " 2013 " وبمناسبة مؤتمر للأطفال أقامته دار ثقافة الأطفال في بغداد ، التقيت بأحد مسؤولي الدار ، هو الأخ علي القاسمي ، وقال لي إنهم سيصدرون الروايات الأربع ، لكنهم يفضلون الآن قصصاً قصيرة ، ولتكن قصصاً قصيرة جداً .
وأخبرته بأن لديّ قصصاً عديدة ، بطلتها طفلة صغيرة ، في حدود الرابعة من العمر ، تعيش مع أمها ، في انتظار أبيها الذي غيبته الحرب ، فطلب مني أن أرسلها لهم على جناح السرعة .
وبالفعل وما أن عدت إلى الموصل ، حتى أرسلت لهم تلك القصص ، وعددها " 89 " قصة ، وقد أعجبتهم جداً تلك القصص ، وقد اختاروا منها " 34 " قصة على ما أعتقد ، على أمل أن يصدروها في " 6 " أجزاء ، كما تعودوا أن يصدروا كتبي ، التي ينشرونا لي في دار " البراق " .
لكنهم طلبوا مني ، أن أكتب قصة جديدة ، أنهي بها تلك المجموعة ، على أن تكون قصة متفائلة ، فمعظم قصص المجموعة ، كانت رغم طرافتها ، يغشاها شيء من الحزن الشفاف ، وهذا ما فعلت ، فقد كتبت القصة رقم " 90 " ، ذكرت فيها عودة الأب سالماً إلى عائلته ، وإلى طفلته الصغيرة " توتو " .
ومما له دلالة ، أن هذه الدار أنشأها ويديرها ثلة من الشباب المتحمسين لثقافة الأطفال ، استطاعوا بجهودهم ، وايمانهم ، أن يجمعوا حولهم ، وحول براقهم ، أعداداً طيبة من المبدعين العراقيين والعرب ، من كتاب وفنانين ، على مختلف الصعد .
وقد أصدرت دار " البراق " خلال عمرها القصير ، العديد من الكتب الإبداعية ، كانت نموذجاً رائعاً ، على صعيد التأليف والرسم والتصميم والطباعة ، ويكفي أن أثنين من الكتب التي أصدرتها عام " 2015 " حظيا باهتمام كبير على صعيد الوطن العربي كله ، فقد رشح كتاب " قصتنة صارت مثل " لجائزة الشيخ زايد لكتب الأطفال ، وظهر في القائمة الطويلة للجائزة ، أي أنه كان واحداً من أفضل " 8 " كتب صدرت للأطفال خلال هذا العام ، بينما فاز كتاب " بغلة القاضي " من تأليف الكاتب العراقي المعروف شفيق مهدي بجائزة اتصالات لكتاب الطفل في الامارات العربية ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع